كتاب الأحكام السلطانية للماوردي
الْبَابُ الْخَامِسَ عَشَرَ : فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَاسْتِخْرَاجِ الْمِيَاهِ .
مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا مَلَكَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام : { لَيْسَ لِأَحَدٍ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ } . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ } : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَوَاتِ مُعْتَبَرٌ بِالْإِحْيَاءِ دُونَ إذْنِ الْإِمَامِ . وَالْمَوَاتُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ عَامِرًا وَلَا حَرِيمًا لِعَامِرٍ فَهُوَ مَوَاتٌ , وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِعَامِرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمَوَاتُ مَا بَعُدَ مِنْ الْعَامِرِ , وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْمَاءُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْمَوَاتُ كُلُّ أَرْضٍ إذَا وَقَفَ عَلَى أَدْنَاهَا مِنْ الْعَامِرِ مُنَادٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَمْ يَسْمَعْ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهَا فِي الْعَامِرِ , وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَخْرُجَانِ عَنْ الْمَعْهُودِ فِي اتِّصَالِ الْعِمَارَاتِ وَيَسْتَوِي فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ جِيرَانُهُ وَالْأَبَاعِدُ . وَقَالَ مَالِكٌ : جِيرَانُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَامِرِ أَحَقُّ بِإِحْيَائِهِ مِنْ الْأَبَاعِدِ ; وَصِفَةُ الْإِحْيَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْعُرْفِ فِيمَا يُرَادُ لَهُ الْإِحْيَاءُ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْلَقَ ذِكْرَهُ إحَالَةً عَلَى الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِيهِ ; فَإِنْ أَرَادَ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ لِلسُّكْنَى كَانَ إحْيَاؤُهُ بِالْبِنَاءِ وَالتَّسْقِيفِ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ كَمَالِ الْعِمَارَةِ الَّتِي يُمْكِنُ سُكْنَاهَا . وَإِنْ أَرَادَ إحْيَاءَهَا لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ اُعْتُبِرَ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا جَمْعُ التُّرَابِ الْمُحِيطِ بِهَا حَتَّى يَصِيرَ حَاجِزًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا . وَالثَّانِي سَوْقُ الْمَاءِ إلَيْهَا إنْ كَانَتْ يَبِسًا , وَحَبْسُهُ عَنْهَا إنْ كَانَتْ بَطَائِحَ ; لِأَنَّ إحْيَاءَ الْيَبِسِ بِسَوْقِ الْمَاءِ إلَيْهِ , وَإِحْيَاءَ الْبَطَائِحِ بِحَبْسِ الْمَاءِ عَنْهَا حَتَّى يُمْكِنَ زَرْعُهَا وَغَرْسُهَا فِي الْحَالَيْنِ . وَالثَّالِثُ : حَرْثُهَا : وَالْحَرْثُ يَجْمَعُ إثَارَةَ الْمُعْتَدِلِ وَكَسْحَ الْمُسْتَعْلِي , وَطَمَّ الْمُنْخَفِضِ , فَإِذَا اُسْتُكْمِلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ كَمُلَ الْإِحْيَاءُ وَمَلَكَ الْمُحْيِي , وَغَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ : لَا يَمْلِكُهُ حَتَّى يَزْرَعَهُ أَوْ يَغْرِسَهُ , وَهَذَا فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السُّكْنَى الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي تَمَلُّكِ الْمَسْكُونِ , فَإِنْ زَارَعَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِحْيَاءِ مَنْ قَامَ بِحَرْثِهَا وَزِرَاعَتِهَا كَانَ الْمُحْيِي مَالِكًا لِلْأَرْضِ وَالْمُثِيرُ مَالِكًا لِلْعِمَارَةِ , فَإِنْ أَرَادَ مَالِكُ الْأَرْضِ بَيْعَهَا جَازَ , وَإِنْ أَرَادَ مَالِكُ الْعِمَارَةِ بَيْعَهَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ لَهُ إثَارَةٌ جَازَ لَهُ بَيْعُهَا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إثَارَةٌ لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْعِمَارَةِ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَيَجْعَلُ الْأَكَّارَ شَرِيكًا فِي الْأَرْضِ بِعِمَارَتِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْعِمَارَةِ بِحَالٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ كَشَجَرٍ أَوْ زَرْعٍ فَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْأَعْيَانِ دُونَ الْإِثَارَةِ , وَإِذَا تَحَجَّرَ عَلَى مَوَاتٍ كَانَ أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ , فَإِنْ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ مَنْ أَحْيَاهُ كَانَ الْمُحْيِي أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُتَحَجِّرِ , فَإِنْ أَرَادَ الْمُتَحَجِّرُ عَلَى الْأَرْضِ بَيْعَهَا قَبْلَ إحْيَائِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَجَوَّزَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِالتَّحْجِيرِ عَلَيْهَا أَحَقَّ بِهَا جَازَ لَهُ بَيْعُهَا كَالْأَمْلَاكِ , فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَهَا فَتَغَلَّبْ عَلَيْهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَنْ أَحْيَاهَا فَقَدْ زَعَمَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ثَمَنَهَا لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي لِتَلَفِ ذَلِكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ قَبْضِهِ . وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ بَيْعِهِ : إنَّ الثَّمَنَ يَسْقُطُ عَنْهُ ; لِأَنَّ قَبْضَهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ , فَأَمَّا إذَا تَحَجَّرَ وَسَاقَ الْمَاءَ وَلَمْ يَحْرُثْ فَقَدْ مَلَكَ الْمَاءَ , وَمَا جَرَى فِيهِ مِنْ الْمَوَاتِ , وَحَرِيمَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ مَا سِوَاهُ وَإِنْ كَانَ بِهِ أَحَقَّ , وَجَازَ لَهُ بَيْعُ مَا جَرَى فِيهِ الْمَاءُ . وَفِي جَوَازِ بَيْعِ مَا سِوَاهُ مِنْ الْمَحْجُورِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ . وَمَا أُحْيِيَ مِنْ الْمَوَاتِ مَعْشُورٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِ خَرَاجٌ سَوَاءٌ سُقِيَ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَوْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : إنْ سَاقَ إلَى مَا أَحْيَاهُ مَاءَ الْعُشْرِ كَانَتْ أَرْضَ عُشْرٍ , وَإِنْ سَاقَ إلَيْهَا مَاءَ الْخَرَاجِ كَانَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ الْمُحْيَاةُ عَلَى أَنْهَارٍ حَفَرَتْهَا الْأَعَاجِمُ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ , وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنْهَارٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ , وَقَدْ أَجْمَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ مَا أُحْيِيَ مِنْ مَوَاتِ الْبَصْرَةِ وَسِبَاخِهَا أَرْضُ عُشْرٍ . أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَلِأَنَّ دِجْلَةَ الْبَصْرَةَ مِمَّا أَجْرَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ الْأَنْهَارِ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الْأَنْهَارِ الْمُحْدَثَةِ فَهِيَ مُحْيَاةٌ احْتَفَرَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَوَاتِ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ مَاءَ الْخَرَاجِ يَفِيضُ فِي دِجْلَةِ الْبَصْرَةِ وَفِي جُزُرِهَا وَأَرْضُ الْبَصْرَةِ تَشْرَبُ مِنْ مَدِّهَا , وَالْمَدُّ مِنْ الْبَحْرِ , وَلَيْسَ مِنْ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ , وَهَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ ; لِأَنَّ الْمَدَّ يُفِيدُ الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنْ الْبَحْرِ , وَلَا يَمْتَزِجُ بِمَائِهِ وَلَا تُشْرَبُ , وَإِنْ كَانَ الْمَدُّ شَرِبَهَا إلَّا مَاءَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ . وَقَالَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ طَلْحَةُ بْنُ آدَمَ بَلْ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ مَاءَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ يَسْتَقِرُّ فِي الْبَطَائِحِ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُهُ وَيَزُولُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى دِجْلَةِ الْبَصْرَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَاءِ الْخَرَاجِ ; لِأَنَّ الْبَطَائِحَ لَيْسَتْ مِنْ أَنْهَارِ الْخَرَاجِ , وَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَطَائِحَ بِالْعِرَاقِ انْبَطَحَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَتَغَيَّرَ حُكْمُ الْأَرْضِ حَتَّى صَارَتْ مَوَاتًا وَلَمْ يُعْتَبَرْ حُكْمُ الْمَاءِ . وَسَبَبُهُ مَا حَكَاهُ صَاحِبُ السِّيَرِ أَنَّ مَاءَ دِجْلَةَ كَانَ مَاضِيًا فِي الدِّجْلَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْغَوْرِ الَّذِي يَنْتَهِي إلَى الْبَصْرَةِ مِنْ الْمَدَائِنِ فِي مَنَافِذَ مُسْتَقِيمَةِ الْمَسَالِكِ مَحْفُوظَةِ الْجَوَانِبِ وَكَانَ مَوْضِعُ الْبَطَائِحِ الْآنَ أَرْضَ مَزَارِعَ وَقُرًى ذَاتِ مَنَازِلَ فَلَمَّا كَانَ الْمَلِكُ قَبَاءُ بْنُ فَيْرُوزَ انْفَتَحَ فِي أَسَافِلَ كَسُكَّرِ بَثْقٍ عَظِيمٍ أَغْفَلَ أَمْرَهُ حَتَّى غَلَبَ مَاؤُهُ وَغَرِقَ مِنْ الْعِمَارَاتِ مَا عَلَاهُ فَلَمَّا وَلِيَ أَنُوشِرْوَانَ ابْنُهُ أَمَرَ بِذَلِكَ الْمَاءِ فَتَزَحَّمَ بِالْمُسْنَيَاتِ حَتَّى عَادَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَرْضِ إلَى عِمَارَتِهَا , وَكَانَتْ عَلَى ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ , وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ إلَى كِسْرَى رَسُولًا , وَهُوَ كِسْرَى أَبْرِوِيزُ فَزَادَتْ دِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فَانْبَثَقَتْ بُثُوقًا عِظَامًا اجْتَهَدَ أَبْرِوِيزُ فِي سُكْرِهَا حَتَّى صَلَبَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعِينَ سُكَارَى وَبَسَطَ الْأَمْوَالَ عَلَى الْأَنْطَاعِ فَلَمْ يَقْدِرْ لِلْمَاءِ عَلَى حِيلَةٍ ثُمَّ وَرَدَ الْمُسْلِمُونَ الْعِرَاقَ وَتَشَاغَلَتْ الْفُرْسُ بِالْحُرُوبِ فَكَانَتْ الْبُثُوقُ تَنْفَجِرُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا وَيَعْجَزُ الدَّهَاقِينُ عَنْ سَدِّهَا فَاتَّسَعَتْ الْبَطِيحَةُ وَعَظُمَتْ , فَلَمَّا وُلِّيَ , مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه وَلَّى مَوْلَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَرَّاجٍ خَرَاجَ الْعِرَاقِ فَاسْتَخْرَجَ لَهُ مِنْ أَرْضِ الْبَطَائِحِ مَا بَلَغَتْ غَلَّتُهُ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ , وَاسْتَخْرَجَ بَعْدَهُ حَسَّانُ النَّبَطِيُّ لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ثُمَّ لِهِشَامٍ مِنْ بَعْدِهِ كَثِيرًا مِنْ أَرْضِ الْبَطَائِحِ , ثُمَّ جَرَى النَّاسُ عَلَى هَذَا إلَى وَقْتِنَا حَتَّى صَارَتْ جَوَامِدُهَا مِثْلَ بَطَائِحِهَا وَأَكْثَرَ , وَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ مَا شَرَحْنَاهُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَطَائِحِ عُذْرًا دَعَاهُمْ إلَيْهِ مَا شَاهَدُوا الصَّحَابَةَ عَلَيْهِ مِنْ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا أُحْيِيَ مِنْ مَوَاتِ الْبَصْرَةِ أَرْضُ عُشْرٍ وَمَا ذَاكَ لِعِلَّةٍ غَيْرِ الْإِحْيَاءِ . وَأَمَّا حَرِيمُ مَا أَحْيَاهُ مِنْ الْمَوَاتِ لِسُكْنَى أَوْ زَرْعٍ فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُعْتَبَرٌ بِمَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ تِلْكَ الْأَرْضُ مِنْ طَرِيقِهَا وَفِنَائِهَا وَمَجَارِي مَائِهَا وَمَغِيضِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حَرِيمُ أَرْضِ الزَّرْعِ مَا بَعُدَ مِنْهَا وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَاؤُهَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : حَرِيمُهَا مَا انْتَهَى إلَيْهِ صَوْتُ الْمُنَادِي مِنْ حُدُودِهَا , وَلَوْ كَانَ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ لَمَا اتَّصَلَتْ عِمَارَتَانِ وَلَا تَلَاصَقَتْ دَارَانِ وَقَدْ مَصَّرَتْ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم الْبَصْرَةَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه وَجَعَلُوهَا خُطَطًا لِقَبَائِلِ أَهْلِهَا فَجَعَلُوا عَرْضَ شَارِعِهَا الْأَعْظَمِ وَهُوَ مِرْبَدُهَا سِتِّينَ ذِرَاعًا , وَجَعَلُوا عَرْضَ مَا سِوَاهُ مِنْ الشَّوَارِعِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا , وَجَعَلُوا عَرْضَ كُلِّ زُقَاقٍ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ , وَجَعَلُوا وَسَطَ كُلِّ خُطَّةٍ رَحْبَةً فَسِيحَةً لِمَرَابِطِ خَيْلِهِمْ وَقُبُورِ مَوْتَاهُمْ وَتَلَاصَقُوا فِي الْمَنَازِلِ , وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إلَّا عَنْ رَأْيٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَنَصٍّ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ . وَقَدْ رَوَى بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إذَا تَدَارَأَ الْقَوْمُ فِي طَرِيقٍ فَلْيَجْعَلْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ } .
************************
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْمِيَاهُ الْمُسْتَخْرَجَةُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مِيَاهُ أَنْهَارٍ وَمِيَاهُ آبَارٍ وَمِيَاهُ عُيُونٍ فَأَمَّا الْأَنْهَارُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا أَجْرَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ كِبَارِ الْأَنْهَارِ الَّتِي لَا يَحْتَفِرُهَا الْآدَمِيُّونَ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَيُسَمَّيَانِ الرَّافِدَيْنِ فَمَاؤُهُمَا يَتَّسِعُ لِلزَّرْعِ وَلِلشَّارِبَةِ , وَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ قُصُورٌ عَنْ كِفَايَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو فِيهِ إلَى تَنَازُعٍ أَوْ مُشَاحَنَةٍ , فَيَجُوزُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا لِضَيْعَتِهِ شُرْبًا وَيَجْعَلَ مِنْ ضَيْعَتِهِ إلَيْهَا مَغِيضًا , وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَخْذِ شُرْبٍ وَلَا يُعَارَضُ فِي إحْدَاثِ مَغِيضٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ صِغَارِ الْأَنْهَارِ . وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْلُوَ مَاؤُهَا , وَإِنْ لَمْ يُحْبَسْ وَيَكْفِيَ جَمِيعَ أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ , فَيَجُوزُ لِكُلِّ ذِي أَرْضٍ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شُرْبَ أَرْضِهِ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ وَلَا يُعَارِضُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , فَإِنْ أَرَادَ قَوْمٌ أَنْ يَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ نَهَرًا يُسَاقُ إلَى أَرْضٍ أُخْرَى أَوْ يَجْعَلُوا إلَيْهِ مَغِيضَ نَهَرٍ آخَرَ نُظِرَ , فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُضِرًّا بِأَهْلِ هَذَا النَّهَرِ مُنِعَ مِنْهُ , وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِمْ لَمْ يُمْنَعْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَسْتَقِلَّ مَاءُ هَذَا النَّهَرِ وَلَا يَعْلُوَ لِلشُّرْبِ إلَّا بِحَبْسِهِ فَلِلْأَوَّلِ مِنْ أَهْلِ النَّهَرِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِحَبْسِهِ لِيَسْقِيَ أَرْضَهُ حَتَّى تَكْتَفِيَ مِنْهُ وَتَرْتَوِيَ ثُمَّ يَحْبِسَهُ مَنْ يَلِيهِ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ أَرْضًا آخِرَهُمْ حَبْسًا . رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي شُرْبِ النَّخْلِ مِنْ السَّيْلِ أَنَّ لِلْأَعْلَى أَنْ يَشْرَبَ قَبْلَ الْأَسْفَلِ , ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ إلَى الْأَسْفَلِ الَّذِي يَلِيهِ كَذَلِكَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَرْضُونَ } . وَأَمَّا قَدْرُ مَا يَحْبِسُهُ مِنْ الْمَاءِ فِي أَرْضِهِ , فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَنْ أَبِيهِ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي وَادِي مَهْزُورٍ أَنْ يَحْبِسَ الْمَاءَ فِي الْأَرْضِ إلَى الْكَعْبَيْنِ , فَإِذَا بَلَغَ إلَى الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَ إلَى الْأُخْرَى } . وَقَالَ مَالِكٌ : وَقَضَى فِي سَيْلِ بَطْحَانَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقَدَّرَهُ بِالْكَعْبَيْنِ , وَلَيْسَ هَذَا الْقَضَاءُ مِنْهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ ; لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ . وَقَدْ يَخْتَلِفُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ بِاخْتِلَافِ الْأَرْضِينَ , فَمِنْهَا مَا يَرْتَوِي بِالْيَسِيرِ , وَمِنْهَا مَا لَا يَرْتَوِي إلَّا بِالْكَثِيرِ . وَالثَّانِي بِاخْتِلَافِ مَا فِيهَا , فَإِنَّ لِلزَّرْعِ مِنْ الشُّرْبِ قَدْرًا وَلِلنَّخْلِ وَالْأَشْجَارِ قَدْرًا . وَالثَّالِثُ بِاخْتِلَافِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ , فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّمَانَيْنِ قَدْرًا . وَالرَّابِعُ : بِاخْتِلَافِهَا فِي وَقْتِ الزَّرْعِ وَقَبْلِهِ , فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْتَيْنِ قَدْرًا . وَالْخَامِسُ : بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَاءِ فِي بَقَائِهِ وَانْقِطَاعِهِ , فَإِنَّ الْمُنْقَطِعَ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يَدَّخِرُ , وَالدَّائِمُ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يُسْتَعْمَلُ ; فَلِاخْتِلَافِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ لَمْ يَكُنْ تَحْدِيدُهُ بِمَا قَضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَحَدِهَا , وَكَانَ مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ . فَلَوْ سَقَى رَجُلٌ أَرْضَهُ أَوْ فَجَّرَهَا فَسَالَ مِنْ مَائِهَا إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَغَرَّقَهَا لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ بِمُبَاحٍ , فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ سَمَكٌ كَانَ الثَّانِي أَحَقَّ بِصَيْدِهِ مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مِنْ مِلْكِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مِنْ الْأَنْهَارِ مَا احْتَفَرَهُ الْآدَمِيُّونَ لِمَا أَحْيَوْهُ مِنْ الْأَرْضِينَ فَيَكُونُ النَّهَرُ بَيْنَهُمْ مِلْكًا مُشْتَرَكًا كَالزُّقَاقِ الْمَرْفُوعِ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمْ بِمِلْكِهِ . فَإِنْ كَانَ هَذَا النَّهَرُ بِالْبَصْرَةِ يَدْخُلُهُ مَاءُ الْمَدِّ فَهُوَ يَعُمُّ جَمِيعَ أَهْلِهِ لَا يَتَشَاحُّونَ فِيهِ لِاتِّسَاعِ مَائِهِ وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى حَبْسِهِ لِعُلُوِّهِ بِالْمَدِّ إلَى الْحَدِّ الَّذِي تَرْتَوِي مِنْهُ جَمِيعُ الْأَرْضِينَ ثُمَّ يَقْبِضُ بَعْدَ الِارْتِوَاءِ فِي الْجَزْرِ ; وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْبَصْرَةِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي لَا مَدَّ فِيهَا , وَلَا جَزْرَ فَالنَّهَرُ مَمْلُوكٌ لِمَنْ احْتَفَرَهُ مِنْ أَرْبَابِ الْأَرْضِينَ لَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِ فِي شُرْبٍ مِنْهُ , وَلَا مَغِيضَ , وَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَصْبِ عِبَارَةٍ عَلَيْهِ وَلَا بِرَفْعِ مَائِهِ وَلَا إدَارَةِ رَحًى فِيهِ إلَّا عَنْ مُرَاضَاةِ جَمِيعِ أَهْلِهِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّفَرُّدِ بِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الزُّقَاقِ الْمَرْفُوعِ أَنْ يَفْتَحَ إلَيْهِ بَابًا , وَلَا أَنْ يُخْرِجَ عَلَيْهِ جَنَاحًا وَلَا يَمُدَّ عَلَيْهِ سَابَاطًا إلَّا بِمُرَاضَاةِ جَمِيعِهِمْ . ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ شُرْبِهِمْ مِنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَتَنَاوَبُوا عَلَيْهِ بِالْأَيَّامِ إنْ قَلُّوا وَبِالسَّاعَاتِ إنْ كَثُرُوا , وَيَقْتَرِعُوا إنْ تَنَازَعُوا فِي التَّرْتِيبِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ لَهُمْ تَرْتِيبُ الْأَوَّلِ وَمَنْ يَلِيهِ وَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَوْبَتِهِ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا , ثُمَّ هُوَ مِنْ بَعْدِهَا عَلَى مَا تَرَتَّبُوا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَقْتَسِمُوا فِي النَّهَرِ عَرْضًا بِخَشَبَةٍ تَأْخُذُ جَانِبَيْ النَّهَرِ , وَيُقْسَمُ فِيهَا حُفُورٌ مُقَدَّرَةٌ بِحُقُوقِهِمْ مِنْ الْمَاءِ فِي كُلِّ حُفْرَةٍ مِنْهَا قَدْرُ مَا اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُهَا مِنْ خُمُسٍ أَوْ عُشْرٍ وَبِأَخْذِهِ إلَى أَرْضِهِ عَلَى الْأَدْوَارِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَحْفِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي وَجْهِ أَرْضِهِ شَرَابًا مُقَدَّرًا لَهُمْ بِاتِّفَاقِهِمْ أَوْ عَلَى مِسَاحَةِ أَمْلَاكِهِمْ لِيَأْخُذَ مِنْ مَاءِ النَّهَرِ قَدْرَ حَقِّهِ وَيُسَاوِي جَمِيعَ شُرَكَائِهِ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ وَلَا لَهُمْ أَنْ يَنْقُصُوهُ وَلَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤَخِّرَ شُرْبًا مُقَدَّمًا , كَمَا لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الزُّقَاقِ الْمَرْفُوعِ أَنْ يُؤَخِّرَ بَابًا مُقَدَّمًا , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ شُرْبًا مُؤَخَّرًا وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَدِّمَ بَابًا مُؤَخَّرًا ; لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْبَابِ الْمُؤَخَّرِ اقْتِصَارًا عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ . وَفِي تَقْدِيمِ الشُّرْبِ الْمُؤَخَّرِ عَلَى الْحَقِّ . فَأَمَّا حَرِيمُ هَذَا النَّهَرِ الْمَحْفُورِ فِي الْمَوَاتِ فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِ النَّاسِ فِي مِثْلِهِ , وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْقَنَاةِ لِأَنَّ الْقَنَاةَ نَهَرُ بَاطِنٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حَرِيمُ النَّهَرِ مَلْقَى طِينِهِ . قَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَحَرِيمُ الْقَنَاةِ مَا لَمْ يَسِحْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَكَانَ جَامِعًا لِلْمَاءِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ مُسْتَحْسَنٌ .
******************************
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْآبَارُ فَلِحَافِرِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَحْفِرَهَا لِسَابِلَةٍ فَيَكُونُ مَاؤُهَا مُشْتَرَكًا وَحَافِرُهَا فِيهِ كَأَحَدِهِمْ . قَدْ وَقَفَ عُثْمَانُ رضي الله عنه بِئْرَ رُومَةَ فَكَانَ يَضْرِبُ بِدَلْوِهِ مَعَ النَّاسِ , وَيَشْتَرِكُ فِي مَائِهَا إذَا اتَّسَعَ شُرْبَ الْحَيَوَانِ وَسَقْيَ الزَّرْعِ , فَإِنْ ضَاقَ مَاؤُهَا عَنْهُمَا كَانَ شُرْبُ الْحَيَوَانِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الزَّرْعِ وَيَشْتَرِكُ فِيهَا الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ , فَإِنْ ضَاقَ عَنْهُمَا كَانَ الْآدَمِيُّونَ بِمَائِهَا أَحَقَّ مِنْ الْبَهَائِمِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَحْتَفِرَهَا لِارْتِفَاقِهِ بِمَائِهَا كَالْبَادِيَةِ إذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا وَحَفَرُوا فِيهَا بِئْرًا لِشُرْبِهِمْ وَشُرْبِ مَوَاشِيهِمْ كَانُوا أَحَقَّ بِمَائِهَا مَا أَقَامُوا عَلَيْهَا فِي نُجْعَتِهِمْ وَعَلَيْهِمْ بَذْلُ الْفَضْلِ مِنْ مَائِهَا لِلشَّارِبِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ فَإِذَا ارْتَحَلُوا عَنْهَا صَارَتْ الْبِئْرُ سَابِلَةً فَتَكُونُ خَاصَّةَ الِابْتِدَاءِ وَعَامَّةَ الِانْتِهَاءِ , فَإِنْ عَادُوا إلَيْهَا بَعْدَ الِارْتِحَالِ عَنْهَا كَانُوا هُمْ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءً فِيهَا , وَيَكُونُ السَّابِقُ إلَيْهَا أَحَقَّ بِهَا . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَحْتَفِرَهَا لِنَفْسِهِ مِلْكًا فَمَا لَمْ يَبْلُغْ الْحَفْرُ إلَى اسْتِنْبَاطِ مَائِهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا , وَإِذَا اسْتَنْبَطَ مَاءَهَا اسْتَقَرَّ مِلْكًا بِكَمَالِ الْإِحْيَاءِ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى طَيٍّ فَيَكُونُ طَيُّهَا مِنْ كَمَالِ الْإِحْيَاءِ وَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ ثُمَّ يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا وَلِحَرِيمِهَا . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ حَرِيمِهَا ; فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إلَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي مِثْلِهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حَرِيمُ الْبِئْرِ لِلنَّاضِحِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : حَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا إلَّا أَنْ يَكُونَ رِشَاؤُهَا أَبْعَدَ فَيَكُونُ لَهَا مُنْتَهَى رِشَائِهَا . قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا , وَهَذِهِ مَقَادِيرُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ , فَإِنْ جَاءَهَا نَصٌّ كَانَ مُتَّبَعًا , وَإِلَّا فَهُوَ مَعْلُولٌ وَلِلتَّقْدِيرِ بِمُنْتَهَى الرِّشَاءِ وَجْهٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ وَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْعُرْفِ الْمُعْتَبَرِ , فَإِذَا اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى الْبِئْرِ وَحَرِيمِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِمَائِهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَصِيرُ مَالِكًا لَهُ قَبْلَ اسْتِقَائِهِ وَحِيَازَتِهِ , فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى مِلْكِهِ فِي قَرَارِهِ قَبْلَ حِيَازَتِهِ ; كَمَا إذَا مَلَكَ مَعْدِنًا مَلَكَ مَا فِيهِ قَبْلَ أَخْذِهِ , وَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ اسْتِقَائِهِ , وَمَنْ اتَّقَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ . وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بَعْدَ الْحِيَازَةِ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ , وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِاسْتِقَائِهِ , فَإِنْ غَلَبَهُ مِنْ اسْتِقَاءٍ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ شَيْئًا , فَإِذَا اسْتَقَرَّ حُكْمُ هَذِهِ الْبِئْرِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِمِلْكِهَا وَاسْتِحْقَاقِهِ لِمَائِهَا فَلَهُ سَقْيُ مَوَاشِيهِ وَزَرْعِهِ وَنَخِيلِهِ وَأَشْجَارِهِ , فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ كِفَايَتِهِ فَضْلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا لِمُضْطَرٍّ عَلَى نَفْسٍ . وَرَوَى الْحَسَنُ رحمه الله أَنَّ رَجُلًا أَتَى أَهْلَ مَاءٍ فَاسْتَسْقَاهُمْ فَلَمْ يَسْقُوهُ حَتَّى مَاتَ فَأَغْرَمَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه الدِّيَةَ , وَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ بَعْدَ كِفَايَتِهِ فَضْلٌ لَزِمَهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَبْذُلَ فَضْلَ مَائِهِ لِلشَّارِبَةِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي وَالْحَيَوَانِ دُونَ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ . وَقَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ جُرْثُومَةَ لَا يَلْزَمْهُ بَذْلُ الْفَضْلِ مِنْهُ لِحَيَوَانٍ وَلَا زَرْعٍ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ لِلْحَيَوَانِ دُونَ الزَّرْعِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ وُجُوبِ بَذْلِهِ لِلْحَيَوَانِ دُونَ الزَّرْعِ هُوَ الْمَشْرُوعُ . رَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ فَضْلَ الْكَلَأِ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَبَذْلُ هَذَا الْفَضْلِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ فِي قَرَارِ الْبِئْرِ , فَإِنْ اسْتَقَاهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِكَلَأٍ يَرْعَى , فَإِنْ لَمْ يَقْرُبْ مِنْ الْكَلَأِ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا تَجِدَ الْمَوَاشِي غَيْرَهُ , فَإِنْ وَجَدَتْ مُبَاحًا غَيْرَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ وَعَدَلَتْ الْمَوَاشِي إلَى الْمَاءِ الْمُبَاحِ , فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ الْمَوْجُودِ مَمْلُوكًا لَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَالِكِي الْمَاءَيْنِ أَنْ يَبْذُلَ فَضْلَ مَائِهِ لِمَنْ وَرَدَ إلَيْهِ , فَإِذَا اكْتَفَتْ الْمَوَاشِي بِفَضْلِ أَحَدِ الْمَاءَيْنِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْآخَرِ . الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ فِي وِرْدِ الْمَوَاشِي إلَى مَائِهِ ضَرَرٌ يَلْحَقُهُ فِي زَرْعٍ وَلَا مَاشِيَةٍ فَإِنْ لَحِقَهُ بِوُرُودِهَا ضَرَرٌ مُنِعَتْ وَجَازَ لِلرُّعَاةِ اسْتِقَاءُ فَضْلِ الْمَاءِ لَهَا , فَإِذَا كَمُلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ لَزِمَهُ بَذْلُ الْفَضْلِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ ثَمَنًا , وَيَجُوزُ مَعَ الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ أَنْ يَأْخُذَ ثَمَنَهُ إذَا بَاعَهُ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ جُزَافًا وَلَا مُقَدَّرًا بِرَيِّ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ . وَإِذَا احْتَفَرَ بِئْرًا أَوْ مَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا ثُمَّ احْتَفَرَ آخَرُ بَعْدَ حَرِيمِهَا بِئْرًا فَنَضَبَ مَاءُ الْأَوَّلِ إلَيْهَا وَغَار فِيهَا أَقَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا , وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَهَا لِطَهُورٍ فَتَغَيَّرَ بِهَا مَاءُ الْأَوَّلِ أَقَرَّتْ . وَقَالَ مَالِكٌ إذَا نَضَبَ مَاءُ الْأَوَّلِ إلَيْهَا أَوْ تَغَيَّرَ بِهَا مُنِعَ مِنْهَا وَطُمَّتْ .
******************************
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْعُيُونُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَنَبَعَ اللَّهُ تَعَالَى مَاءَهَا وَلَمْ يَسْتَنْبِطْهُ الْآدَمِيُّونَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأَنْهَارِ , وَلِمَنْ أَحْيَا أَرْضًا بِمَائِهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ , فَإِنْ تَشَاحُّوا فِيهِ لِضِيقِهِ رُوعِيَ مَا أُحْيِيَ بِمَائِهَا مِنْ الْمَوَاتِ , فَإِنْ تَقَدَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَ لِأَسْبَقِهِمْ إحْيَاءً أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا شُرْبَ أَرْضِهِ ثُمَّ لِمَنْ يَلِيهِ , فَإِنْ قَصُرَ الشُّرْبُ عَنْ بَعْضِهِمْ كَانَ نُقْصَانُهُ فِي حَقِّ الْأَخِيرِ , وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِحْيَاءِ عَلَى سَوَاءٍ وَلَمْ يَسْبِقْ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا تَحَاصُّوا فِيهِ إمَّا بِقِسْمَةِ الْمَاءِ وَإِمَّا بِالْمُهَايَأَةِ عَلَيْهِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَنْبِطَهَا الْآدَمِيُّونَ فَتَكُونَ مِلْكًا لِمَنْ اسْتَنْبَطَهَا وَيَمْلِكَ مَعَهَا حَرِيمَهَا وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي مِثْلِهَا وَمُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَلِمُسْتَنْبِطِ هَذِهِ الْعَيْنِ سَوْقُ مَائِهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ وَكَانَ مَا جَرَى فِيهِ مَاؤُهَا مِلْكًا لَهُ وَحَرِيمُهُ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَنْبِطَهَا الرَّجُلُ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونَ أَحَقَّ بِمَائِهَا لِشُرْبِ أَرْضِهِ ; فَإِنْ كَانَ قَدْرَ كِفَايَتِهَا فَلَا حَقَّ عَلَيْهِ فِيهِ إلَّا لِشَارِبٍ مُضْطَرٍّ , وَإِنْ فَضَلَ عَنْ كِفَايَتِهِ , وَأَرَادَ أَنْ يُحْيِيَ بِفَضْلِهِ أَرْضًا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِشُرْبِ مَا أَحْيَاهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ لِمَوَاتٍ أَحْيَاهُ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِأَرْبَابِ الْمَوَاشِي دُونَ الزَّرْعِ كَفَضْلِ مَاءِ الْبِئْرِ , فَإِنْ اعْتَاضَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَابِ الزَّرْعِ جَازَ , وَإِنْ اعْتَاضَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي لَمْ يَجُزْ . وَيَجُوزُ لِمَنْ احْتَفَرَ فِي الْبَادِيَةِ بِئْرًا فَمَلَكَهَا أَوْ عَيْنًا اسْتَنْبَطَهَا أَنْ يَبِيعَهَا , وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ثَمَنُهَا . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَيَحْرُمُ ثَمَنُهَا . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو الزِّنَادِ إنْ بَاعَهَا لِرَغْبَةٍ جَازَ , وَإِنْ بَاعَهَا لِخَلَاءٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْمَالِكِ أَحَقَّ بِهَا بِغَيْرِ ثَمَنٍ , فَإِنْ رَجَعَ الْخَالِي فَهُوَ أَمْلَكُ لَهَا .