كتاب الأحكام السلطانية للماوردي
الْبَابُ الثَّانِي عَشَرَ : فِي قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ .
وَأَمْوَالُ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ : مَا وَصَلَتْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَوْ كَانُوا سَبَبَ وُصُولِهَا وَيَخْتَلِفُ الْمَالَانِ فِي حُكْمِهِمَا وَهُمَا مُخَالِفَانِ لِأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ الصَّدَقَاتِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَطْهِيرًا لَهُمْ , وَالْفَيْءَ وَالْغَنِيمَةَ مَأْخُوذَانِ مِنْ الْكُفَّارِ انْتِقَامًا مِنْهُمْ وَالثَّانِي أَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ لَيْسَ لِلْأَئِمَّةِ اجْتِهَادٌ فِيهِ وَفِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَا يَقِفُ مَصْرِفُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ أَمْوَالَ الصَّدَقَاتِ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ أَرْبَابُهَا بِقِسْمَتِهَا فِي أَهْلِهَا وَلَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ أَنْ يَنْفَرِدُوا بِوَضْعِهِ فِي مُسْتَحِقِّهِ حَتَّى يَتَوَلَّاهُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْوُلَاةِ وَالرَّابِعُ اخْتِلَافُ الْمَصْرِفَيْنِ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُ . أَمَّا الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ فَهُمَا مُتَّفِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَمُخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ : فَأَمَّا وَجْهَا اتِّفَاقِهِمَا فَأَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ وَاصِلٌ بِالْكُفْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَصْرِفَ خُمُسِهِمَا وَاحِدٌ وَأَمَّا وَجْهَا افْتِرَاقِهِمَا فَأَحَدُهُمَا أَنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَأْخُوذٌ عَفْوًا وَمَالَ الْغَنِيمَةِ مَأْخُوذٌ قَهْرًا وَالثَّانِي أَنَّ مَصْرِفَ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مُخَالِفٌ الْغَنِيمَةَ لِمَصْرِفِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ مَا سَنُوَضِّحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَسَنَبْدَأُ بِمَالِ الْفَيْءِ فَنَقُولُ : إنَّ كُلَّ مَالٍ وَصَلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَلَا بِإِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَهُوَ كَمَالِ الْهُدْنَةِ وَالْجِزْيَةِ وَأَعْشَارِ مَتَاجِرِهِمْ أَوْ كَانَ وَاصِلًا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِمْ كَمَالِ الْخَرَاجِ فَفِيهِ إذَا أُخِذَ مِنْهُمْ أَدَاءَ الْخُمُسِ لِأَهْلِ الْخُمُسِ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه : لَا خُمُسَ فِي الْفَيْءِ وَنَصُّ الْكِتَابِ فِي خُمُسِ الْفَيْءِ يَمْنَعُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } . فَيُقْسَمُ الْخُمُسُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ : سَهْمٌ مِنْهَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَيَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ; فَذَهَبَ مَنْ يَقُولُ بِمِيرَاثِ الْأَنْبِيَاءِ إلَى أَنَّهُ مَوْرُوثٌ عَنْهُ مَصْرُوفٌ إلَى وَرَثَتِهِ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يَكُونُ مِلْكًا لِلْإِمَامِ بَعْدَهُ لِقِيَامِهِ بِأُمُورِ الْأُمَّةِ مَقَامَهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ سَقَطَ بِمَوْتِهِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه إلَى أَنَّهُ يَكُونُ مَصْرُوفًا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَأَرْزَاقِ الْجَيْشِ وَإِعْدَادِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَبِنَاءِ الْحُصُونِ وَالْقَنَاطِرِ وَأَرْزَاقِ الْقَضَاءِ وَالْأَئِمَّةِ وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالسَّهْمُ الثَّانِي سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى زَعَمَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُمْ مِنْهُ الْيَوْمَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَقَّهُمْ فِيهِ ثَابِتٌ , وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنَا عَبْدِ مَنَافٍ خَاصَّةً لَا حَقَّ فِيهِ لِمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ كُلِّهَا يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ صِغَارِهِمْ وَكِبَارِهِمْ وَأَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ , وَيُفَضَّلُ فِيهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ , وَلَا حَقَّ فِيهِ لِمَوَالِيهِمْ وَلَا لِأَوْلَادِ بَنَاتِهِمْ وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَقَبْلَ قَسْمِهِ كَانَ سَهْمُهُ مِنْهُ مُسْتَحَقًّا لِوَرَثَتِهِ وَالسَّهْمُ الثَّالِثُ لِلْيَتَامَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ . وَالْيُتْمُ : مَوْتُ الْأَبِ مَعَ الصِّغَرِ , وَيَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ ; فَإِذَا بَلَغَا زَالَ اسْمُ الْيُتْمِ عَنْهُمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ } . وَالسَّهْمُ الرَّابِعُ لِلْمَسَاكِينِ وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ , لِأَنَّ مَسَاكِينَ الْفَيْءِ يَتَمَيَّزُونَ عَنْ مَسَاكِينِ الصَّدَقَاتِ لِاخْتِلَافِ مَصْرِفِهِمَا وَالسَّهْمُ الْخَامِسُ : لِبَنِي السَّبِيلِ , وَهُمْ الْمُسَافِرُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ , وَسَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ ابْتَدَأَ بِالسَّفَرِ أَوْ كَانَ مُجْتَازًا , فَهَذَا حُكْمُ الْخُمُسِ فِي قَسْمِهِ وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ لِيَكُونَ مُعَدًّا لِأَرْزَاقِهِمْ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي مِنْهَا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ وَمَا لَا غِنَى لِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ الْفَيْءُ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ , وَلَا تُصْرَفُ الصَّدَقَاتُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ وَيُصْرَفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ فِي أَهْلِهِ وَأَهْلِ الصَّدَقَةِ مَنْ لَا هِجْرَةَ لَهُ وَلَيْسَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ حُمَاةِ الْبَيْضَةِ وَأَهْلُ الْفَيْءِ هُمْ ذَوُو الْهِجْرَةِ الذَّابُّونَ عَنْ الْبَيْضَةِ وَالْمَانِعُونَ عَنْ الْحَرِيمِ وَالْمُجَاهِدُونَ لِلْعَدُوِّ , وَكَانَ اسْمُ الْهِجْرَةِ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ وَطَنِهِ إلَى الْمَدِينَةِ لِطَلَبِ الْإِسْلَامِ , وَكَانَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ بِأَسْرِهَا تُدْعَى الْبَرَرَةُ , وَكُلُّ قَبِيلَةٍ هَاجَرَ بَعْضُهَا تُدْعَى الْخِيرَةُ , فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ بَرَرَةٌ وَخِيرَةٌ , ثُمَّ سَقَطَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ مُهَاجِرِينَ وَأَعْرَابًا , فَكَانَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ يُسَمَّوْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابًا , وَيُسَمَّى أَهْلُ الْفَيْءِ مُهَاجِرِينَ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ كَمَا قَالَ فِيهِ بَعْضُهُمْ ( مِنْ السَّرِيعِ ) :
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِعَصْلَبِيِّ أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنْ الدَّوِيِّ
مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ
وَلِاخْتِلَافِ الْفَرِيقَيْنِ فِي حُكْمِ الْمَالَيْنِ مَا تَمَيَّزَ وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا وَجَوَّزَ صَرْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ
وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَصِلَ قَوْمًا لِتَعُودَ صِلَاتُهُمْ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَالرُّسُلِ وَالْمُؤَلَّفَةِ جَازَ أَنْ يَصِلَهُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ ; فَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُؤَلَّفَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّ مِائَةَ بَعِيرٍ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ مِائَةَ بَعِيرٍ وَالْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيَّ خَمْسِينَ بَعِيرًا فَتَسَخَّطَهَا وَعَتَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ ( مِنْ الْمُتَقَارِبِ ) :
كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِي الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا إذَا هَجَعَ الْقَوْمُ لَمْ أَهْجَعْ
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ و
َقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا قُدْرَةٍ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعْ
وَإِلَّا أُقَاتِلْ أُعْطِيتُهَا عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ
فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسًا فِي مَجْمَعِ
وَلَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَعْ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : " اذْهَبْ فَاقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ " . فَلَمَّا ذَهَبَ بِهِ قَالَ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْطَعَ لِسَانِي ؟ قَالَ : لَا , وَلَكِنْ أُعْطِيكَ حَتَّى تَرْضَى , فَأَعْطَاهُ فَكَانَ ذَلِكَ قَطْعَ لِسَانِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ صِلَةُ الْإِمَامِ لَا تَعُودُ بِمَصْلَحَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا نَفْعَ الْمُعْطِي خَاصَّةً كَانَتْ صِلَاتُهُمْ مِنْ مَالِهِ . رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ ( مِنْ السَّرِيعِ ) :
يَا عُمَرَ الْخَيْرِ جُزِيتَ الْجَنَّهْ اُكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ
وَكُنْ لَنَا مِنْ الزَّمَانِ جُنَّهْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ
فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : إنْ لَمْ أَفْعَلْ يَكُونُ مَاذَا ؟ فَقَالَ : إذًا أَبَا حَفْصٍ لَأَذْهَبَنَّهْ . فَقَالَ : وَإِذَا ذَهَبْتَ يَكُونُ مَاذَا ؟ فَقَالَ : يَكُونُ عَنْ حَالِي لَتُسْأَلَنَّهْ يَوْمَ تَكُونُ الْأَعْطِيَاتُ هَنَّهْ وَمَوْقِفُ الْمَسْئُولِ بَيْنَهُنَّهْ إمَّا إلَى نَارٍ وَإِمَّا جَنَّهْ قَالَ فَبَكَى عُمَرُ رضي الله عنه حَتَّى خَضَبَتْ لِحْيَتُهُ وَقَالَ يَا غُلَامُ أَعْطِهِ قَمِيصِي هَذَا لِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا لِشِعْرِهِ , أَنَا وَاَللَّهِ لَا أَمْلِكُ غَيْرَهُ . فَجَعَلَ مَا وَصَلَ بِهِ مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ صِلَتَهُ لَا تَعُودُ بِنَفْعٍ عَلَى غَيْرِهِ فَخَرَجَتْ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَمِثْلُ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ , غَيْرَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا إمَّا لِأَجْلِ شِعْرِهِ الَّذِي اسْتَزَلَّهُ فِيهِ , وَإِمَّا لِأَنَّ الصَّدَقَةَ مَصْرُوفَةٌ فِي جِيرَانِهَا وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَكَانَ مِمَّا نَقَمَهُ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنْ جَعَلَ كُلَّ الصِّلَاتِ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَلَمْ يَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ
وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ ذُكُورَ أَوْلَادِهِ مَالَ الْفَيْءِ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهِ , فَإِنْ كَانُوا صِغَارًا كَانُوا فِي إعْطَاءِ الذَّرَارِيِّ مِنْ ذَوِي السَّابِقَةِ وَالتَّقَدُّمِ , وَإِنْ كَانُوا كِبَارًا فَفِي إعْطَاءِ الْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَمْثَالِهِمْ . حَكَى ابْنُ إسْحَاقَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما لَمَّا بَلَغَ أَتَى أَبَاهُ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَسَأَلَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ فَفَرَضَ لَهُ فَيْءَ أَلْفَيْنِ , ثُمَّ جَاءَ غُلَامٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ قَدْ بَلَغَ فَسَأَلَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ فَفَرَضَ لَهُ فَيْءَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَرَضْتَ لِي فَيْءَ أَلْفَيْنِ وَفَرَضْتَ لِهَذَا فَيْءَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَلَمْ يَشْهَدْ أَبُو هَذَا مَا قَدْ شَهِدْتُ قَالَ أَجَلْ لَكِنِّي رَأَيْتُ أَبَا أُمِّكَ يُقَاتِلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأَيْتُ أَبَا أُمِّ هَذَا يُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْأُمِّ أَكْثَرُ مِنْ الْأَلْفِ . وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ أَوْلَادَهُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ ذُرِّيَّتِهِ الدَّاخِلِينَ فِي عَطَائِهِ وَأَمَّا عَبِيدُهُ وَعَبِيدُ غَيْرِهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلَةً فَنَفَقَاتُهُمْ فِي مَالِهِ وَمَالِ سَادَاتِهِمْ , وَإِنْ كَانُوا مُقَاتِلَةً فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَفْرِضُ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يَأْخُذُ فِيهِمْ بِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه , فَلَا يَفْرِضُ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَلَكِنْ تُزَادُ سَادَاتُهُمْ فِي الْعَطَاءِ لِأَجْلِهِمْ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعَطَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الذُّرِّيَّةِ ; فَإِنْ عَتَقُوا جَازَ أَنْ يَفْرِضَ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَفْرِضَ لِنُقَبَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي عَطَايَاهُمْ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْرِضَ لِعُمَّالِهِمْ لِأَنَّ النُّقَبَاءَ مِنْهُمْ وَالْعُمَّالَ يَأْخُذُونَ أَجْرًا عَلَى عَمَلِهِمْ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الْفَيْءِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الصَّدَقَاتِ مِنْهُمَا إذَا أَرَادَ سَهْمَهُ مِنْهَا إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ ; لِأَنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَاتُ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْفَيْءُ وَلَا يَجُوزُ لِعَامِلِ الْفَيْءِ أَنْ يَقْسِمَ مَا جَبَاهُ إلَّا بِإِذْنِ . وَيَجُوزُ لِعَامِلِ الصَّدَقَاتِ أَنْ يَقْسِمَ مَا جَبَاهُ بِغَيْرِ إذْنٍ مَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ , لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ صَرْفِ مَالِ الْفَيْءِ عَنْ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَمَصْرِفِ الصَّدَقَةِ نَصٌّ بِالْكِتَابِ
وَصِفَةُ عَامِلِ الْفَيْءِ مَعَ وُجُودِ أَمَانَتِهِ وَشَهَامَتِهِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ وِلَايَتِهِ فِيهِ : هِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : أَحَدُهَا أَنْ يَتَوَلَّى تَقْدِيرَ أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَتَقْدِيرَ وَضْعِهَا فِي الْجِهَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ مِنْهَا كَوَضْعِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ فَمِنْ شُرُوطِ وِلَايَةِ هَذَا الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا مُسْلِمًا مُجْتَهِدًا فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مُضْطَلِعًا بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَامَّ الْوِلَايَةِ عَلَى جِبَايَةِ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ كُلِّهَا فَالْمُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ شُرُوطُ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاضْطِلَاعِ بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ , وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا لِأَنَّهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ مَا اسْتَقَرَّ بِوَضْعِ غَيْرِهِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ خَاصَّ الْوِلَايَةِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ خَاصٍّ فَيُعْتَبَرُ مَا وَلِيَهُ مِنْهَا , فَإِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ فِيهِ عَنْ اسْتِنَابَةٍ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ مَعَ اضْطِلَاعِهِ بِشُرُوطِ مَا وَلِيَ مِنْ مِسَاحَةٍ أَوْ حِسَابٍ , وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا وَلَا عَبْدًا , لِأَنَّ فِيهَا وِلَايَةً وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ الِاسْتِنَابَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِأَنَّهُ كَالرَّسُولِ الْمَأْمُورِ وَأَمَّا كَوْنُهُ ذِمِّيًّا فَيَنْظُرُ فِيمَا رَدَّ إلَيْهِ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ , فَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ فِيهِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَالْجِزْيَةِ وَأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ; جَازَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا , وَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ فِيهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَالْخَرَاجِ الْمَوْضُوعِ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِينَ إذَا صَارَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَفِي جَوَازِ كَوْنِهِ ذِمِّيًّا وَجْهَانِ . وَإِذَا بَطَلَتْ وِلَايَةُ الْعَامِلِ فَقَبَضَ مَالَ الْفَيْءِ مَعَ فَسَادِ وِلَايَتِهِ بَرِئَ الدَّافِعُ مِمَّا عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْ الْقَبْضِ , لِأَنَّ الْقَابِضَ مِنْهُ مَأْذُونٌ لَهُ وَإِنْ فَسَدَتْ وِلَايَتُهُ وَجَرَى فِي الْقَبْضِ مَجْرَى الرَّسُولِ , وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَفَسَادِهَا أَنَّ لَهُ الْإِجْبَارَ عَلَى الدَّفْعِ مَعَ صِحَّةِ الْوِلَايَةِ وَلَهُ الْإِجْبَارُ مَعَ فَسَادِهَا , فَإِنْ نُهِيَ عَنْ الْقَبْضِ مَعَ فَسَادِ وِلَايَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْقَبْضُ وَلَا الْإِجْبَارُ وَلَمْ يَبْرَأْ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ إذَا عَلِمَ بِنَهْيِهِ وَفِي بَرَاءَتِهِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْيِ وَجْهَانِ كَالْوَكِيلِ .
فَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَهِيَ أَكْثَرُ أَقْسَامًا وَأَحْكَامًا لِأَنَّهَا أَصْلٌ تَفَرَّعَ عَنْهُ الْفَيْءُ فَكَانَ حُكْمُهَا أَعَمَّ وَتَشْتَمِلُ عَلَى أَقْسَامٍ : أَسْرَى , وَسَبْيٌ , وَأَرْضِينَ , وَأَمْوَالٌ .
فَأَمَّا الْأَسْرَى فَهُمْ الْمُقَاتِلُونَ مِنْ الْكُفَّارِ إذَا ظَفَرَ الْمُسْلِمُونَ بِأَسْرِهِمْ أَحْيَاءَ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِمْ ; فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إلَى أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ مَنْ اسْتَنَابَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ إذَا أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فِي الْأَصْلَحِ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : إمَّا الْقَتْلُ , وَإِمَّا الِاسْتِرْقَاقُ , وَإِمَّا الْفِدَاءُ بِمَالٍ أَوْ أَسْرَى , وَإِمَّا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ فِدَاءٍ . فَإِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْهُمْ وَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي أَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَقَالَ مَالِكٌ : يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : الْقَتْلُ أَوْ الِاسْتِرْقَاقُ أَوْ الْمُفَادَاةُ بِالرِّجَالِ دُونَ الْمَالِ , وَلَيْسَ لَهُ الْمَنُّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ الْقَتْلُ أَوْ الِاسْتِرْقَاقُ وَلَيْسَ لَهُ الْمَنُّ وَلَا الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ ; وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ , قَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } . وَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَلَّا يَعُودَ لِقِتَالِهِ فَعَادَ لِقِتَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَأُسِرَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ فَقَالَ اُمْنُنْ عَلَيَّ فَقَالَ : { لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ } . وَلَمَّا قَتَلَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بِالصَّفْرَاءِ بَعْدَ انْكِفَائِهِ مِنْ بَدْرٍ لَمَّا اسْتَوْقَفَتْهُ ابْنَتُهُ قُتَيْلَةُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَنْشَدَتْهُ قَوْلَهَا ( مِنْ الْكَامِلِ ) : يَا رَاكِبًا إنَّ الْأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ عَنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ
أَبْلِغْ بِهِ مَيْتًا فَإِنَّ تَحِيَّةً مَا إنْ تَزَالُ بِهَا الرَّكَائِبُ تَخْفُقُ
مِنِّي إلَيْهِ وَعَبْرَةٌ مَسْفُوحَةٌ جَاءَتْ لِمَائِحِهَا وَأُخْرَى تُخْنَقُ
أَمُحَمَّدٌ يَا خَيْرَ ضِنْءِ كَرِيمَةٍ فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ
النَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ قَتَلْتَ قَرَابَةً وَأَحَقُّهُمْ إنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا مَا قَتَلْتُهُ } . وَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْمَنُّ لَمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ أَقْوَالَهُ أَحْكَامٌ مَشْرُوعَةٌ . وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِدَاءَ أَسْرَى بَدْرٍ وَفَادَى بَعْدَهُمْ رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ , فَإِذَا ثَبَتَ خِيَارُهُ فِيمَنْ لَمْ يُسْلِمْ بَيْنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ تَصَفَّحَ أَحْوَالَهُمْ وَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ فِيهِمْ , فَمَنْ عَلِمَ مِنْهُ قُوَّةَ بَأْسٍ وَشِدَّةَ نِكَايَةٍ وَيَئِسَ مِنْ إسْلَامِهِ وَعَلِمَ مَا فِي قَتْلِهِ مِنْ وَهَنِ قَوْمِهِ قَتَلَهُ صَبْرًا مِنْ غَيْرِ مُثْلَةٍ , وَمَنْ رَآهُ مِنْهُمْ ذَا جَلَدٍ وَقُوَّةٍ عَلَى الْعَمَلِ وَكَانَ مَأْمُونَ الْخِيَانَةِ وَالْخَبَاثَةِ اسْتَرَقَّهُ لِيَكُونَ عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَمَنْ رَآهُ مِنْهُمْ مَرْجُوَّ الْإِسْلَامِ أَوْ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ وَرَجَا بِالْمَنِّ عَلَيْهِ إمَّا إسْلَامَهُ أَوْ تَأْلِيفَ قَوْمِهِ مَنَّ عَلَيْهِ وَأَطْلَقَهُ , وَمَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ ذَا مَالٍ وَجَدَّةٍ وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ خُلَّةٌ وَحَاجَةٌ فَأَدَّاهُ عَلَى مَالٍ وَجَعَلَهُ عُدَّةً لِلْإِسْلَامِ وَقُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ كَانَ فِي أَسْرَى عَشِيرَتِهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رِجَالٍ أَوْ نِسَاءٍ فَأَدَّاهُ عَلَى إطْلَاقِهِمْ فَيَكُونُ خِيَارُهُ فِي الْأَرْبَعَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَحْوَطِ الْأَصْلَحِ وَيَكُونُ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ فِي الْفِدَاءِ غَنِيمَةً تُضَافُ إلَى الْغَنَائِمِ , وَلَا يُخَصُّ بِهَا مَنْ أُسِرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ فِدَاءَ الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ إلَى مَنْ أَسَرَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فِي الْغَانِمِينَ : وَمَنْ أَبَاحَ الْإِمَامُ دَمَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِعِظَمِ نِكَايَتِهِ وَشِدَّةِ أَذِيَّتِهِ ثُمَّ أُسِرَ جَازَ لَهُ الْمَنُّ عَلَيْهِ وَالْعَفْوُ عَنْهُ قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ سِتَّةٍ عَامَ الْفَتْحِ وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ لَهُ اُكْتُبْ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَيَكْتُبُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ فَلَحِقَ بِقُرَيْشٍ وَقَالَ إنِّي أَصْرِفُ مُحَمَّدًا حَيْثُ شِئْتُ فَنَزَلَ فِيهِ قوله تعالى : { وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } . وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ , كَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُفَيْلٍ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِقْيَسُ بْنُ حُبَابَةَ كَانَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ قَتَلَ أَخًا لَهُ خَطَأً فَأَخَذَ دِيَتَهُ ثُمَّ اغْتَالَ الْقَاتِلَ فَقَتَلَهُ وَعَادَ إلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا وَأَنْشَأَ يَقُولُ ( مِنْ الطَّوِيلِ ) : شَفَى النَّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا يُضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الْأَخَادِعِ وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ تُلِمُّ فَتُحْفِي عَنْ وِطَاءِ الْمَضَاجِعِ ثَأَرْتُ بِهِ قَهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ وَأَدْرَكْتُ ثَأْرِي وَاضْطَجَعْتُ مُوَسَّدًا وَكُنْتُ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوَّلَ رَاجِعِ وَسَارَةُ مَوْلَاةٌ لِبَعْضِ بَنِي الْمُطَّلِبِ كَانَتْ تَسُبُّ وَتُؤْذِي وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ كَانَ يُكْثِرُ التَّأْلِيبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَلَبًا لِثَأْرِ أَبِيهِ . فَأَمَّا { عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه اسْتَأْمَنَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ أَعَادَ الِاسْتِئْمَانَ ثَانِيَةً فَلَمَّا وَلَّى قَالَ مَا كَانَ فِيكُمْ مَنْ يَقْتُلُهُ حِينَ أَعْرَضْتُ عَنْهُ , قَالُوا هَلَّا أَوْمَأْتَ إلَيْنَا بِعَيْنِكَ ؟ قَالَ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ } وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ فَقَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَأَمَّا مِقْيَسُ بْنُ صَبَابَةَ فَقَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ وَأَمَّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُفَيْلٍ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَبْرًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , ثُمَّ قَالَ : { لَا يُقْتَلُ قُرَيْشِيٌّ بَعْدَ هَذَا إلَّا بِقَوَدٍ } . وَأَمَّا قَيْنَتَا ابْنِ خَطَلٍ فَقُتِلَتْ إحْدَاهُمَا وَهَرَبَتْ الْأُخْرَى حَتَّى اُسْتُؤْمِنَ لَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّنَهَا وَأَمَّا سَارَةُ فَتَغَيَّبَتْ حَتَّى اُسْتُؤْمِنَ لَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّنَهَا ثُمَّ تَغَيَّبَتْ مِنْ بَعْدُ حَتَّى أَوْطَأَهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرَسًا لَهُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِالْأَبْطَحِ فَقَتَلَهَا { وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَإِنَّهُ سَارَ إلَى نَاحِيَةِ الْبَحْرِ وَقَالَ لَا أَسْكُنُ مَعَ رَجُلٍ قَتَلَ أَبَا الْحَكَمِ يَعْنِي أَبَاهُ فَلَمَّا رَكِبَ الْبَحْرَ قَالَ لَهُ صَاحِبُ السَّفِينَةِ أَخْلِصْ قَالَ : وَلِمَ ؟ قَالَ لَا يَصْلُحُ فِي الْبَحْرِ إلَّا الْإِخْلَاصُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَئِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ فِي الْبَحْرِ إلَّا الْإِخْلَاصُ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ فَرَجَعَ وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ بِنْتُ الْحَارِثِ قَدْ أَسْلَمَتْ وَهِيَ أُمُّ حَلِيمٍ فَأَخَذَتْ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَانًا , وَقِيلَ بَلْ خَرَجَتْ إلَيْهِ بِأَمَانِهِ إلَى الْبَحْرِ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ فَأَسْلَمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَا تَسْأَلُنِي الْيَوْمَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَيْتُكَ . فَقَالَ إنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي كُلَّ نَفَقَةٍ أَنْفَقْتُهَا لِأَصُدَّ بِهَا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُلَّ مَوْقِفٍ وَقَفْتُهُ لِأَصُدَّ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ مَا سَأَلَ . فَقَالَ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَدَعُ دِرْهَمًا أَنْفَقْتُهُ فِي الشِّرْكِ إلَّا أَنْفَقْتُ مَكَانَهُ فِي الْإِسْلَامِ دِرْهَمَيْنِ وَلَا مَوْقِفًا وَقَفْتُهُ فِي الشِّرْكِ إلَّا وَقَفْتُ مَكَانَهُ فِي الْإِسْلَامِ مَوْقِفَيْنِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ رضي الله عنه } . هَذَا الْخَبَرُ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْكَامٌ فَلِذَلِكَ اسْتَوْفَيْنَاهُ .