كتاب الأحكام السلطانية للماوردي
الْبَابُ السَّابِعَ عَشَرَ : فِي أَحْكَامِ الْإِقْطَاعِ .
وَإِقْطَاعُ السُّلْطَانِ مُخْتَصٌّ بِمَا جَازَ فِيهِ تَصَرُّفُهُ وَنَفَذَتْ فِيهِ أَوَامِرُهُ , وَلَا يَصِحُّ فِيمَا تَعَيَّنَ فِيهِ مَالِكُهُ وَتَمَيَّزَ مُسْتَحِقُّهُ . وَهُوَ ضَرْبَانِ : إقْطَاعُ تَمْلِيكٍ . وَإِقْطَاعُ اسْتِغْلَالٍ . فَأَمَّا إقْطَاعُ التَّمْلِيكِ فَتَنْقَسِمُ فِيهِ الْأَرْضُ الْمُقْطَعَةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : مَوَاتٌ وَعَامِرٌ وَمَعَادِنُ , فَأَمَّا الْمَوَاتُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا عَلَى قَدِيمِ الدَّهْرِ فَلَمْ تَجُزْ فِيهِ عِمَارَةٌ وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ مِلْكٌ فَهَذَا الَّذِي يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقْطَعَهُ مَنْ يُحْيِيهِ وَمَنْ يُعَمِّرُهُ , وَيَكُونُ الْإِقْطَاعُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْإِحْيَاءِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ , وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِقْطَاعَ يَجْعَلُهُ أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي جَوَازِهِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ إحْيَاءُ الْمَوَاتِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ , وَعَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ يَكُونُ الْمُقْطَعُ أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ . { قَدْ أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَكْضَ فَرَسِهِ مِنْ مَوَاتِ النَّقِيعِ فَأَجْرَاهُ ثُمَّ رَمَى بِسَوْطِهِ رَغْبَةً فِي الزِّيَادَةِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَعْطُوهُ مُنْتَهَى سَوْطِهِ } . وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْمَوَاتِ مَا كَانَ عَامِرًا فَخَرِبَ فَصَارَ مَوَاتًا عَاطِلًا وَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا كَانَ جَاهِلِيًّا كَأَرْضِ عَادٍ وَثَمُودَ فَهِيَ كَالْمَوَاتِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِمَارَةٌ , وَيَجُوزُ إقْطَاعُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { عَادِيُّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي } . يَعْنِي أَرْضَ عَادٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ إسْلَامِيًّا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ خَرِبَ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا عَاطِلًا , فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إحْيَائِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ إلَى أَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ سَوَاءٌ عَرَفَ أَرْبَابُهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا : وَقَالَ مَالِكٌ : يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ سَوَاءٌ عَرَفَ أَرْبَابُهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله : إنْ عَرَفَ أَرْبَابُهُ لَمْ يُمْلَكْ بِالْإِحْيَاءِ , وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا مُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ . وَإِنْ لَمْ يَجُزْ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ مِنْ غَيْرِ إقْطَاعٍ , فَإِنْ عَرَفَ أَرْبَابُهُ لَمْ يَجُزْ إقْطَاعُهُ وَكَانُوا أَحَقَّ بِبَيْعِهِ وَإِحْيَائِهِ , وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا جَازَ إقْطَاعُهُ وَكَانَ الْإِقْطَاعُ شَرْطًا فِي جَوَازِ إحْيَائِهِ , فَإِذَا صَارَ الْمَوَاتُ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ إقْطَاعًا , فَمَنْ خَصَّهُ الْإِمَامُ بِهِ وَصَارَ بِالْإِقْطَاعِ أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ فَإِنْ شَرَعَ فِي إحْيَائِهِ صَارَ بِكَمَالِ الْإِحْيَاءِ مَالِكًا لَهُ , وَإِنْ أَمْسَكَ عَنْ إحْيَائِهِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ يَدًا , وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا ثُمَّ رُوعِيَ إمْسَاكُهُ عَنْ إحْيَائِهِ , فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فِيهِ , وَأَقَرَّ فِي يَدِهِ إلَى زَوَالِ عُذْرِهِ , وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُعَارِضُ فِيهِ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ , فَإِنْ أَحْيَاهُ فِيهَا , وَإِلَّا بَطَلَ حُكْمُ إقْطَاعِهِ بَعْدَهَا احْتِجَاجًا بِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جَعَلَ أَجَلَ الْإِقْطَاعِ ثَلَاثَ سِنِينَ . وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَأْجِيلَهُ لَا يَلْزَمُ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى إحْيَائِهِ , فَإِذَا مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ يَقْدِرُ عَلَى إحْيَائِهِ فِيهِ قِيلَ لَهُ إمَّا تُحْيِيهِ فَيُقَرَّ فِي يَدِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ يَدَكَ عَنْهُ لِيَعُودَ إلَى حَالِهِ قَبْلَ إقْطَاعِهِ . وَأَمَّا تَأْجِيلُ عُمَرَ رضي الله عنه فَهُوَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ اقْتَضَاهُ أَوْ لِاسْتِحْسَانٍ رَآهُ . فَلَوْ تَغَلَّبَ عَلَى هَذَا الْمَوَاتِ الْمُسْتَقْطَعِ مُتَغَلِّبٌ فَأَحْيَاهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلَاثِ مَذَاهِبَ : مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مُحْيِيَهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ مُسْتَقْطِعِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ أَحْيَاهُ قَبْلَ ثَلَاثِ سِنِينَ كَانَ مِلْكًا لِلْمُقْطَعِ , وَإِنْ أَحْيَاهُ بَعْدَهَا كَانَ مِلْكًا لِلْمُحْيِي . وَقَالَ مَالِكٌ إنْ أَحْيَاهُ عَالِمًا بِالْإِقْطَاعِ كَانَ مِلْكًا لِلْمُقْطَعِ , وَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْإِقْطَاعِ خُيِّرَ الْمُقْطَعُ بَيْنَ أَخْذِهِ وَإِعْطَاءِ الْمُحْيِي نَفَقَةَ عِمَارَتِهِ , وَبَيْنَ تَرْكِهِ لِلْمُحْيِي وَالرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْمَوَاتِ قَبْلَ إحْيَائِهِ .
*******************************
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْعَامِرُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا تَعَيَّنَ مَالِكُهُ فَلَا نَظَرَ لِلسُّلْطَانِ فِيهِ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ إذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ , فَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا يَدٌ فَأَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُقْطِعَهَا لِيَمْلِكَهَا الْمُقْطَعَ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهَا جَازَ . { وَقَدْ سَأَلَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَهُ عُيُونَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِالشَّامِ قَبْلَ فَتْحِهِ فَفَعَلَ . وَسَأَلَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ أَنْ يُقْطِعَهُ أَرْضًا كَانَتْ بِيَدِ الرُّومِ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ , وَقَالَ : أَلَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ ؟ فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَيُفْتَحَنَّ عَلَيْكَ . فَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ كِتَابًا } . وَهَكَذَا لَوْ اُسْتُوْهِبَ مِنْ الْإِمَامِ مَالٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ أَهْلِهَا أَوْ اسْتَوْهَبَ أَحَدٌ مِنْ سَبْيِهَا وَذَرَارِيِّهَا لِيَكُونَ أَحَقَّ بِهِ إذَا فَتَحَهَا جَازَ وَصَحَّتْ الْعَطِيَّةُ فِيهِ مَعَ الْجَهَالَةِ بِهَا لِتَعَلُّقِهَا بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ . رَوَى الشَّعْبِيُّ : { أَنَّ حُرَيْمَ بْنَ أَوْسِ بْنَ حَارِثَةَ الطَّائِيَّ . قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْحِيرَةَ فَأَعْطِنِي بِنْتَ نُفَيْلَةَ } . فَلَمَّا أَرَادَ خَالِدٌ صُلْحَ أَهْلِ الْحِيرَةِ قَالَ لَهُ حُرَيْمٌ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِي بِنْتَ نُفَيْلَةَ فَلَا تُدْخِلْهَا فِي صُلْحِكَ وَشَهِدَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَاسْتَثْنَاهَا مِنْ الصُّلْحِ وَدَفَعَهَا إلَى حُرَيْمٍ فَاشْتُرِيَتْ مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَانَتْ عَجُوزًا قَدْ حَالَتْ عَنْ عَهْدِهِ فَقِيلَ لَهُ وَيْحَكَ لَقَدْ أَرْخَصْتَهَا كَانَ أَهْلُهَا يَدْفَعُونَ إلَيْكَ ضِعْفَ مَا سَأَلْتَ بِهَا فَقَالَ : مَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّ عَدَدًا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ . وَإِذَا صَحَّ الْإِقْطَاعُ وَالتَّمْلِيكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ نُظِرَ حَالَ الْفَتْحِ , فَإِنْ كَانَ صُلْحًا خَلَصَتْ الْأَرْضُ لِمُقْطِعِهَا , وَكَانَتْ خَارِجَةً عَنْ حُكْمِ الصُّلْحِ بِالْإِقْطَاعِ السَّابِقِ , وَإِنْ كَانَ الْفَتْحُ عَنْوَةً كَانَ الْمُسْتَقْطِعُ وَالْمُسْتَوْهِبُ أَحَقَّ بِمَا اسْتَقْطَعَهُ وَاسْتَوْهَبَهُ مِنْ الْغَانِمِينَ وَنُظِرَ فِي الْغَانِمِينَ , فَإِنْ عَلِمُوا بِالْإِقْطَاعِ وَالْهِبَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ فَلَيْسَ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِعِوَضِ مَا اُسْتُقْطِعَ وَوُهِبَ ; وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى فُتِحُوا عَاوَضَهُمْ الْإِمَامُ عَنْهُ بِمَا يَسْتَطِيبُ بِهِ نُفُوسَهُمْ كَمَا يَسْتَطِيبُ نُفُوسَهُمْ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْغَنَائِمِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَلْزَمُهُ اسْتِطَابَةُ نُفُوسِهِمْ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْغَنَائِمِ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَخْذِهَا مِنْهُمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْعَامِرِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُوهُ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ مُسْتَحِقُّوهُ , وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا مَا اصْطَفَاهُ الْإِمَامُ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ فُتُوحِ الْبِلَادِ , إمَّا بِحَقِّ الْخُمُسِ فَيَأْخُذُهُ بِاسْتِحْقَاقِ أَهْلِهِ لَهُ , وَإِمَّا بِأَنْ يَصْطَفِيَهُ بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ عَنْهُ فَقَدْ اصْطَفَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ أَمْوَالَ كِسْرَى وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَمَا هَرَبَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ أَوْ هَلَكُوا فَكَانَ مَبْلَغُ غَلَّتِهَا تِسْعَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا مِنْهَا , ثُمَّ إنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَقْطَعَهَا ; لِأَنَّهُ رَأَى إقْطَاعَهَا أَوْفَرَ لِغَلَّتِهَا مِنْ تَعْطِيلِهَا وَشَرَطَ عَلَى مَنْ أَقْطَعَهَا إيَّاهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ حَقَّ الْفَيْءِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إقْطَاعَ إجَارَةٍ لَا إقْطَاعَ تَمْلِيكٍ فَتَوَفَّرَتْ غَلَّتُهَا حَتَّى بَلَغَتْ عَلَى مَا قِيلَ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَكَانَ مِنْهَا صَلَاتُهُ وَعَطَايَاهُ ثُمَّ تَنَاقَلَهَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْجَمَاجِمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ أَحْرَقَ الدِّيوَانَ وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مَا يَلِيهِمْ , فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَامِرِ لَا يَجُوزُ إقْطَاعُ رَقَبَتِهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِاصْطِفَائِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ مِلْكًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَجَرَى عَلَى رَقَبَتِهِ حُكْمُ الْوُقُوفِ الْمُؤَبَّدَةِ , وَصَارَ اسْتِغْلَالُهُ هُوَ الْمَالَ الْمَوْضُوعَ فِي حُقُوقِهِ . وَالسُّلْطَانُ فِيهِ بِالْخِيَارِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ فِي الْأَصْلَحِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَغِلَّهُ لِبَيْتِ الْمَالِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه وَبَيْنَ أَنْ يَتَخَيَّرَ لَهُ مِنْ ذَوِي الْمُكْنَةِ وَالْعَمَلِ مَنْ يَقُومُ بِعِمَارَةِ رَقَبَتِهِ بِخَرَاجٍ يُوضَعُ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ بِوُفُورِ الِاسْتِغْلَالِ وَنَقْصِهِ كَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَيَكُونُ الْخَرَاجُ أُجْرَةَ تَصَرُّفِ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا بِالْخُمُسِ فَيُصْرَفُ فِي أَهْلِ الْخُمُسِ , فَإِنْ كَانَ مَا وَضَعَهُ مِنْ الْخَرَاجِ مُقَاسَمَةً عَلَى الشَّطْرِ مِنْ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ جَازَ فِي النَّخْلِ كَمَا { سَاقَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ثِمَارِ النَّخْلِ } , وَجَوَازُهَا فِي الزَّرْعِ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْمُخَابَرَةِ , فَمَنْ أَجَازَهَا أَجَازَ الْخَرَاجَ بِهَا , وَمَنْ مَنَعَ مِنْهَا مَنَعَ مِنْ الْخَرَاجِ بِهَا , وَقِيلَ بَلْ يَجُوزُ الْخَرَاجُ بِهَا , وَإِنْ مَنَعَ الْمُخَابَرَةَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يَتَّسِعُ حُكْمُهَا عَنْ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ , وَيَكُونُ الْعُشْرُ وَاجِبًا فِي الزَّرْعِ دُونَ الثَّمَرِ ; لِأَنَّ الزَّرْعَ مِلْكٌ لِزَارِعِيهِ , وَالثَّمَرَةُ مِلْكٌ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَصْرُوفَةٌ فِي مَصَالِحِهِمْ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْعَامِرِ : أَرْضُ الْخَرَاجِ فَلَا يَجُوزُ إقْطَاعُ رِقَابِهِمْ تَمْلِيكًا لِأَنَّهَا تَنْقَسِمُ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ يَكُونُ رِقَابُهُمْ وَقْفًا وَخَرَاجُهَا أُجْرَةً , فَتَمْلِيكُ الْوَقْفِ لَا يَصِحُّ بِإِقْطَاعٍ وَلَا بَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ . وَضَرْبٌ يَكُونُ رِقَابُهَا مِلْكًا , وَخَرَاجُهَا جِزْيَةً فَلَا يَصِحُّ إقْطَاعُ مَمْلُوكٍ تَعَيَّنَ مَالِكُوهُ , فَأَمَّا إقْطَاعُ خَرَاجِهَا فَنَذْكُرُهُ بَعْدُ فِي إقْطَاعِ الِاسْتِغْلَالِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَارِثُهُ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ فَيَنْتَقِلُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَصْرُوفًا فِي مَصَالِحِهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مِيرَاثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ مَصْرُوفٌ فِي الْفُقَرَاءِ خَاصَّةً صَدَقَةً عَنْ الْمَيِّتِ , وَمَصْرِفُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ أَعَمُّ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ الْأَمْلَاكِ الْخَاصَّةِ وَصَارَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْأَمْلَاكِ الْعَامَّةِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا انْتَقَلَ إلَى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ رِقَابِ الْأَمْوَالِ هَلْ يَصِيرُ وَقْفًا عَلَيْهِ بِنَفْسِ الِانْتِقَالِ إلَيْهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا لِعُمُومِ مَصْرِفِهَا الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِجِهَةٍ , فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا إقْطَاعُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي لَا تَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يَقِفَهَا الْإِمَامُ , فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا إذَا رَأَى بَيْعَهَا أَصْلَحَ لِبَيْتِ الْمَالِ وَيَكُونُ ثَمَنُهَا مَصْرُوفًا فِي عُمُومِ الْمَصَالِحِ , وَفِي ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَأَهْلِ الصَّدَقَاتِ , وَأَمَّا إقْطَاعُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ قِيلَ بِجَوَازِهِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا إلَى مَنْ يَرَاهُ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَأَرْبَابِ الْمَصَالِحِ جَازَ إقْطَاعُهَا لَهُ , وَيَكُونُ تَمْلِيكُ رَقَبَتِهَا كَتَمْلِيكِ ثَمَنِهَا وَقِيلَ : إنَّ إقْطَاعَهَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ وَهَذَا الْإِقْطَاعُ صِلَةٌ وَالْأَثْمَانُ إذَا صَارَتْ نَاضَّةً لَهَا حُكْمٌ يُخَالِفُ فِي الْعَطَايَا حُكْمَ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ فَافْتَرَقَا ; وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ضَعِيفًا , وَهَذَا الْكَلَامُ فِي إقْطَاعِ التَّمْلِيكِ .
********************
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا إقْطَاعُ الِاسْتِغْلَالِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : عُشْرٌ , وَخَرَاجٌ . فَأَمَّا الْعُشْرُ : فَإِقْطَاعُهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ زَكَاةٌ لِأَصْنَافٍ يُعْتَبَرُ وَصْفُ اسْتِحْقَاقِهَا عِنْدَ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ , وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا وَقْتَ اسْتِحْقَاقِهَا ; لِأَنَّهَا تَجِبُ بِشُرُوطٍ يَجُوزُ أَنْ لَا تُوجَدَ فَلَا تَجِبُ , فَإِنْ وَجَبَتْ وَكَانَ مُقْطِعُهَا وَقْتَ الدَّفْعِ مُسْتَحِقًّا كَانَتْ حَوَالَةً بِعُشْرٍ قَدْ وَجَبَ عَلَى رَبِّهِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ صَحَّ وَجَازَ دَفْعُهُ إلَيْهِ وَلَا يَصِيرُ دَيْنًا لَهُ مُسْتَحَقًّا حَتَّى يَقْبِضَهُ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ , فَإِنْ مُنِعَ مِنْ الْعُشْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَصْمًا فِيهِ وَكَانَ عَامِلُ الْعُشْرِ بِالْمُطَالَبَةِ أَحَقَّ . وَأَمَّا الْخَرَاجُ : فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ إقْطَاعِهِ بِاخْتِلَافِ حَالِ مُقْطِعِهِ , وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطِعَ مَالَ الْخَرَاجِ ; لِأَنَّ الْخَرَاجَ فَيْءٌ لَا يَسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الصَّدَقَةِ كَمَا لَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ أَهْلُ الْفَيْءِ , وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الْفَيْءِ فِي أَهْلِ الصَّدَقَةِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَصَالِحِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ رِزْقٌ مَفْرُوضٌ , فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقْطَعَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَإِنْ جَازَ أَنْ يُعْطَاهُ مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ ; لِأَنَّهُ مِنْ نَفْلِ أَهْلِ الْفَيْءِ لَا مِنْ فَرْضِهِ , وَمَا يُعْطَى لَهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ صِلَاتِ الْمَصَالِحِ , فَإِنْ جُعِلَ لَهُ مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ شَيْءٌ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْحَوَالَةِ , وَالتَّسَبُّبُ لَا حُكْمُ الْإِقْطَاعِ فَيُعْتَبَرُ فِي جَوَازِهِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ قَدْ وَجَدَ سَبَبَ اسْتِبَاحَتِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَالُ الْخَرَاجِ قَدْ حَلَّ وَوَجَبَ لِيَصِحَّ التَّسَبُّبُ عَلَيْهِ وَالْحَوَالَةُ بِهِ فَخَرَجَ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ عَنْ حُكْمِ الْإِقْطَاعِ . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ مُرْتَزِقَةِ أَهْلِ الْفَيْءِ وَفَرْضِيَّةِ الدِّيوَانِ , وَهُمْ أَهْلُ الْجَيْشِ , وَهُوَ أَخَصُّ النَّاسِ بِجَوَازِ الْإِقْطَاعِ ; لِأَنَّ لَهُمْ أَرْزَاقًا مُقَدَّرَةً تُصْرَفُ إلَيْهِمْ مَصْرِفَ الِاسْتِحْقَاقِ ; لِأَنَّهَا تَعْوِيضٌ عَمَّا أَرْصَدُوا نُفُوسَهُمْ لَهُ مِنْ حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ , فَإِذَا صَحَّ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْإِقْطَاعِ رُوعِيَ حِينَئِذٍ مَالُ الْخَرَاجِ , فَإِنَّ لَهُ حَالَيْنِ : حَالٌ يَكُونُ جِزْيَةً وَحَالٌ يَكُونُ أُجْرَةً , فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ جِزْيَةً فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ عَلَى التَّأْبِيدِ ; لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مَعَ بَقَاءِ الْكُفْرِ وَزَائِلٌ مَعَ حُدُوثِ الْإِسْلَامِ , فَلَا يَجُوزُ إقْطَاعُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِاسْتِحْقَاقِهِ بَعْدَهَا , فَإِنْ أَقْطَعَهُ سَنَةً بَعْدَ حُلُولِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ صَحَّ , وَإِنْ أَقْطَعَهُ فِي السَّنَةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ إذَا قِيلَ : إنَّ حَوْلَ الْجِزْيَةِ مَضْرُوبٌ لِلْأَدَاءِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ إذَا قِيلَ إنَّ حَوْلَ الْجِزْيَةِ مَضْرُوبٌ لِلْوُجُوبِ , وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْخَرَاجِ أُجْرَةً فَهُوَ مُسْتَقِرُّ الْوُجُوبِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَصِحُّ إقْطَاعُهُ سَنَتَيْنِ , وَلَا يَلْزَمُ الِاقْتِصَارُ مِنْهُ عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ , بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ إقْطَاعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَدِّرَ سِنِينَ مَعْلُومَةً كَإِقْطَاعِهِ عَشْرَ سِنِينَ , فَيَصِحُّ إذَا رُوعِيَ فِيهِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ رِزْقُ الْمُقْطَعِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ عِنْدَ بَاذِلِ الْإِقْطَاعِ ; فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَهُ لَمْ يَصِحَّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْخَرَاجِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُقْطَعِ وَعِنْدَ بَاذِلِ الْإِقْطَاعِ , فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَهُمَا أَوْ عِنْدَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْخَرَاجِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَاسَمَةً أَوْ مِسَاحَةً , فَإِنْ كَانَ مُقَاسَمَةً , فَمَنْ جَوَّزَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَضْعَ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُقَاسَمَةِ جَعَلَهُ مِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي يَجُوزُ إقْطَاعُهُ , وَمَنْ مَنَعَ مِنْ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُقَاسَمَةِ جَعَلَهُ مِنْ الْمَجْهُولِ . وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ مِسَاحَةً فَهُوَ ضَرْبَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الزُّرُوعِ فَهَذَا مَعْلُومٌ يَصِحُّ إقْطَاعُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الزُّرُوعِ فَيُنْظَرُ رِزْقُ مُقْطَعِهِ , فَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ أَعْلَى الْخَرَاجَيْنِ صَحَّ إقْطَاعُهُ ; لِأَنَّهُ رَاضٍ بِنَقْصٍ إنْ دَخَلَ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ أَقَلِّ الْخَرَاجَيْنِ لَمْ يَصِحَّ إقْطَاعُهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِيهِ زِيَادَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا , ثُمَّ يُرَاعِي بَعْدَ صِحَّةِ الْإِقْطَاعِ فِي هَذَا الْقِسْمِ حَالَ الْمُقْطَعِ فِي مُدَّةِ الْإِقْطَاعِ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَبْقَى إلَى انْقِضَائِهَا عَلَى حَالِ السَّلَامَةِ فَهُوَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِقْطَاعِ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَيُبْطِلَ الْإِقْطَاعَ فِي الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَعُودَ إلَى بَيْتِ الْمَالِ , فَإِنْ كَانَتْ لَهُ ذُرِّيَّةٌ دَخَلُوا فِي إعْطَاءِ الذَّرَارِيِّ لَا فِي أَرْزَاقِ الْجُنْدِ فَكَانَ مَا يُعْطُونَهُ سَبَبًا لَا إقْطَاعًا . وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُحْدِثَ بِهِ زَمَانَةً فَيَكُونَ بَاقِي الْحَيَاةِ مَفْقُودَ الصِّحَّةِ فَفِي بَقَاءِ إقْطَاعِهِ بَعْدَ زَمَانَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاقٍ عَلَيْهِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ إذَا قِيلَ : إنَّ رِزْقَهُ بِالزَّمَانَةِ قَدْ سَقَطَ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إذَا قُدِّرَ الْإِقْطَاعُ فِيهِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مِنْ أَقْسَامِهِ أَنْ يَسْتَقْطِعَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ لِعَقِبِهِ وَوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهَذَا إقْطَاعٌ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِهَذَا الْإِقْطَاعِ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ إلَى الْأَمْلَاكِ الْمَوْرُوثَةِ . وَإِذَا بَطَلَ كَانَ مَا اجْتَبَاهُ مِنْهُ مَأْذُونًا فِيهِ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَبْرَأُ أَهْلُ الْخَرَاجِ بِقَبْضِهِ وَحُسِبَ مِنْ جُمْلَةِ رِزْقِهِ , فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ رَدَّ الزِّيَادَةَ , وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ رَجَعَ بِالْبَاقِي , وَأَظْهَرَ السُّلْطَانُ فَسَادَ الْإِطْلَاعِ حَتَّى يُمْنَعَ مِنْ الْقَبْضِ وَيُمْنَعَ أَهْلُ الْخَرَاجِ مِنْ الدَّفْعِ ; فَإِنْ دَفَعُوهُ بَعْدَ إظْهَارِ ذَلِكَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتَقْطِعَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَفِي صِحَّةِ الْإِقْطَاعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ صَحِيحٌ إذْ قِيلَ إنَّ حُدُوثَ زَمَانَتِهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ رِزْقِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ بَاطِلٌ إذْ قِيلَ : إنَّ حُدُوثَ زَمَانَتِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ رِزْقِهِ . وَإِذَا صَحَّ الْإِقْطَاعُ فَأَرَادَ السُّلْطَانُ اسْتِرْجَاعَهُ مِنْ مَقْطَعِهِ جَازَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَ السَّنَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَيَعُودُ رِزْقُهُ إلَى دِيوَانِ الْعَطَايَا , فَأَمَّا فِي السَّنَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَيَنْظُرُ , فَإِنْ حَلَّ رِزْقُهُ فِيهَا قَبْلَ حُلُولِ خَرَاجِهَا لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ فِي سَنَتِهِ لِاسْتِحْقَاقِ خَرَاجِهَا فِي رِزْقِهِ , وَإِنْ حَلَّ خَرَاجُهَا قَبْلَ حُلُولِ رِزْقِهِ جَازَ اسْتِرْجَاعُهُ مِنْهُ لِأَنَّ تَعْجِيلَ الْمُؤَجَّلِ , وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَيْسَ بِلَازِمٍ . وَأَمَّا أَرْزَاقُ مَا عَدَا الْجَيْشَ إذَا أَقْطَعُوا بِهَا مَالَ الْخَرَاجِ فَيُقْسَمُونَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : مَنْ يُرْتَزَقُ عَلَى عَمَلٍ غَيْرِ مُسْتَدِيمٍ كَعُمَّالِ الْمَصَالِحِ وَجُبَاةِ الْخَرَاجِ فَالْإِقْطَاعُ بِأَرْزَاقِهِمْ لَا يَصِحُّ , وَيَكُونُ مَا حَصَلَ لَهُمْ بِهَا مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ تَسَبُّبًا وَحَوَالَةً بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الرِّزْقِ وَحُلُولِ الْخَرَاجِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَنْ يُرْزَقُ عَلَى عَمَلٍ مُسْتَدِيمٍ وَيَجْرِي رِزْقُهُ مَجْرَى الْجَعَالَةِ وَهُمْ النَّاظِرُونَ فِي أَعْمَاقِ الْبِرِّ الَّتِي يَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِهَا إذَا ارْتَزَقُوا عَلَيْهَا كَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْأَئِمَّةِ فَيَكُونُ جَعْلُ الْخَرَاجِ لَهُمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ تَسَبُّبًا بِهِ وَحَوَالَةً عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ إقْطَاعًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَنْ يُرْتَزَقُ عَلَى عَمَلٍ مُسْتَدِيمٍ وَيَجْرِي رِزْقُهُ مَجْرَى الْإِجَارَةِ , وَهُوَ مَنْ لَا يَصِحُّ نَظَرُهُ إلَّا بِوِلَايَةٍ وَتَقْلِيدٍ مِثْلُ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ وَكُتَّابِ الدَّوَاوِينِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقْطَعُوا بِأَرْزَاقِهِمْ خَرَاجَ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ , وَيَحْتَمِلُ جَوَازُ إقْطَاعِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَالْجَيْشِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ لِمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ مِنْ الْعَزْلِ وَالِاسْتِبْدَالِ .
************************
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا إقْطَاعُ الْمَعَادِنِ وَهِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - جَوَاهِرَ الْأَرْضِ فَهِيَ ضَرْبَانِ :
ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ .
فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَهِيَ مَا كَانَ جَوْهَرُهَا الْمُسْتَوْدَعُ فِيهَا بَارِزًا كَمَعَادِنِ الْكُحْلِ وَالْمِلْحِ وَالْقَارِ وَالنِّفْطِ , وَهُوَ كَالْمَاءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ إقْطَاعُهُ وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ يَأْخُذُهُ مَنْ وَرَدَ إلَيْهِ , رَوَى ثَابِتُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ . { أَنَّ الْأَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ اسْتَقْطَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِلْحَ مَأْرَبٍ فَأَقْطَعَهُ , فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي وَرَدْتُ هَذَا الْمِلْحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا غَيْرُهُ مَنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ بِالْأَرْضِ فَاسْتَقَالَ الْأَبْيَضُ فِي قَطِيعَةِ الْمِلْحِ . فَقَالَ قَدْ أَقَلْتُكَ عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنِّي صَدَقَةً . فَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام : هُوَ مِنْكَ صَدَقَةٌ , وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ مَنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ } . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْمَاءُ الْعِدُّ هُوَ الَّذِي لَهُ مَوَادُّ تَمُدُّهُ مِثْلُ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ . فَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ الْمَاءُ الْمُتَجَمِّعُ الْمُعَدُّ فَإِنْ أَقُطِعَتْ هَذِهِ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ لَمْ يَكُنْ لِإِقْطَاعِهَا حُكْمٌ وَكَانَ الْمُقْطَعُ وَغَيْرُهُ فِيهَا سَوَاءٌ , وَجَمِيعُ مَنْ وَرَدَ إلَيْهَا أُسْوَةٌ مُشْتَرِكُونَ فِيهَا , فَإِنْ مَنَعَهُمْ الْمُقْطِعُ مِنْهَا كَانَ بِالْمَنْعِ مُتَعَدِّيًا وَكَانَ لِمَا أَخَذَهُ مَالِكًا لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْمَنْعِ لَا بِالْأَخْذِ فَكُفَّ عَنْ الْمَنْعِ وَصُرِفَ عَنْ مُدَاوَمَةِ الْعَمَلِ لِئَلَّا يُثْبِتَهُ إقْطَاعًا بِالصِّحَّةِ أَوْ يَصِيرَ مَعَهُ كَالْأَمْلَاكِ الْمُسْتَقِرِّ . وَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ فَهِيَ مَا كَانَ جَوْهَرُهَا مُسْتَكِنًا فِيهَا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْعَمَلِ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ , فَهَذِهِ وَمَا أَشْبَهَهَا مَعَادِنُ بَاطِنَةٌ سَوَاءٌ احْتَاجَ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا إلَى سَبْكٍ وَتَخْلِيصٍ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ . وَفِي جَوَازِ إقْطَاعِهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ كَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَكُلُّ النَّاسِ فِيهَا شَرْعٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ إقْطَاعُهُ لِرِوَايَةِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَقْطَعَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةَ جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا , وَحَيْثُ يَصْلُحُ الزَّرْعُ مِنْ قَدَسٍ وَلَمْ يُقْطِعْهُ حَقَّ مُسْلِمٍ } . وَفِي الْجَلْسِيِّ وَالْغَوْرَى تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلُهَا , وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجِلْسِيَّ بِلَادُ نَجْدٍ وَالْغَوْرَى بِلَادُ تِهَامَةَ , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ ( مِنْ الطَّوِيلِ ) : فَمَرَّتْ عَلَى مَاءِ الْعُذَيْبِ وَعَيْنُهَا كَوَقْبِ الْحَصَى جَلْسِيُّهَا قَدْ تَغَوَّرَا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُقْطَعُ أَحَقَّ بِهَا وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهَا . وَفِي حُكْمِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إقْطَاعُ تَمْلِيكٍ يَصِيرُ بِهِ الْمُقْطَعُ مَالِكًا لِرَقَبَةِ الْمَعْدِنِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ فِي حَالِ عَمَلِهِ وَبَعْدَ قَطْعِهِ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ فِي حَيَاتِهِ وَيَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ إقْطَاعُ إرْفَاقٍ لَا يَمْلِكُ بِهِ رَقَبَةَ الْمَعْدِنِ وَيَمْلِكُ بِهِ الِارْتِفَاقَ بِالْعَمَلِ فِيهِ مُدَّةَ مَقَامِهِ عَلَيْهِ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنَازِعَهُ فِيهِ مَا أَقَامَ عَلَى الْعَمَلِ , فَإِذَا تَرَكَهُ زَالَ حُكْمُ الْإِقْطَاعِ عَنْهُ وَعَادَ إلَى حَالِ الْإِبَاحَةِ ; فَإِذَا أَحْيَا مَوَاتًا بِإِقْطَاعٍ أَوْ غَيْرِ إقْطَاعٍ فَظَهَرَ فِيهِ بِالْإِحْيَاءِ مَعْدِنٌ ظَاهِرٌ أَوْ بَاطِنٌ مَلَكَهُ الْمُحْيِي عَلَى التَّأْبِيدِ كَمَا يَمْلِكُ مَا اسْتَنْبَطَهُ مِنْ الْعُيُونِ وَاحْتَفَرَهُ مِنْ الْآبَارِ