الغزو الفكري
الشيخ أحمد الزومان
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه
ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله
فلا مضلَّ له، ومَن يُضللْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
أمَّا بعد:
فإنَّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهُدَى هُدَى محمد، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالة.
يقول ربنا - تبارك وتعالى - عن الكفَّار عمومًا: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، ويقول عن كفرة أهل الكتاب خصوصًا: {وَلَن
تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم
بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ
وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 120]، فأخبر الله - سبحانه - أنَّ سُنته
القدرية الباقية التي لا تتخلَّف إلى قيام الساعة عداوةُ الكفار لهذا
الدِّين ولأتباعه، ولن تزول هذه العداوةُ حتى ينسلخ المسلمون من دِينهم،
فالكفَّار على اختلاف مشاربهم جادُّون في العمل على طَمْس هذا الدِّين لو
استطاعوا؛ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
وقد جرَّبوا غزوَ بلاد المسلمين بالجيوش الجرَّارة، فأدركوا أنها لا تُحقِّق لهم ما يريدون،
حتى لو احتلُّوا بلادَ المسلمين فترة من الزمن طُرِدوا منها شرَّ طردة في
نهاية المطاف، حتى حينما يجازف قائدٌ أرعن من قادة الصليبية باحتلال بلاد
المسلمين تكون خسائرُه أكثرَ من مكاسبه، فدمَّر بمجازفته قوةَ بلاده
الاقتصادية والسياسية، ومكانتها العالمية.
أمام هذه الحقيقة، وهي:
أنَّ الجيوش الجرَّارة لا يمكن أن تغيِّر معتقداتِ المسلمين، أو تصرفَهم
عن دِينهم وتحوِّلَ ولاءهم للغرب النصراني، في ظلِّ هذا الوضع لجأ الغربُ
إلى غزو آخرَ أقلَّ تكلفةً، وأكثر تأثيرًا، ألاَ وهو الغزو الفكري لبلاد
المسلمين، فعمل جاهدًا على تغيير قناعات بعض المسلمين بطرق متعدِّدة، عن
طريق الكلمة والمؤتمر، والكتاب والصحيفة، والقناة والفيلم، وعن طريق
التعليم عبرَ البعثات الدراسيَّة لبلاد الغرْب، أو فتْح مدارس وجامعات في
بعض البلاد الإسلامية لتخرِّج طلاَّبًا وطالبات يحملون أفكارَه.
وأهم وسيلة للغزو الفكري في عصْرنا وسائلُ الإعلام، وسيكون الكلام منصبًّا
عليها، فجعل الغرب النصراني مَيْدانَ المعركة بعضَ وسائل الإعلام، فنقل
المعركة من الاعتداء على الأموال والأبدان وقتْلها إلى محاولة تغيير العقول
وغزوها، وتحويل ولائها، فأعظم غزوٍ يمارسه عبرَ وسائل الإعلام المختلفة من
صحف ومجلاَّت، وقنوات ومواقع إنترنت.
فقام الغربُ النصراني
بإنشاء قنواتٍ ومواقعَ إلكترونية، وجعل مسؤولين عنها من بني جِلْدتنا،
ممَّن يتسمَّوْن بأسمائنا، فهم في الظاهر منَّا، لكنهم أُشرِبوا حبَّ الغرب
وثقافته، فهم مبشِّرون بثقافة الغرب وقيمه، يروِّجون لأفكارهم بواسطة بعض
مَن ينسب إلى الخير، لا سيَّما ممن أقام أو يُقيم في بلاد الغرب، وتأثَّر
بهم، وضَعُف عنده الولاء والبراء، إضافةً إلى جهلهم بعلوم الشريعة، فأغلبُ
مَن يقدّمون في قنواتهم ووسائل إعلامهم أُناسٌ غير متخصِّصين في أيِّ فرْع
من فروع الشريعة، ولا يُعلم عنهم طلبُ العِلم، والتتلمذُ على العلماء،
يُقدِّمون هؤلاء على أنهم يمثِّلون علماءَ الشريعة ودعاتها، وهم أبعدُ
الناس عن ذلك في حالهم ومقالهم.
من أساليبهم في غزوهم الفكري: العملُ على إفساد الأخلاق،
ونشْر الرذيلة بين المسلمين عبرَ الأفلام والمناظر التي تصوِّر الفاحشة،
يعملون على تهوين أمر الفواحش في النفوس، وتسميتها بغير اسمها، فيسمُّون
ال*** بالمثلية الجنسية، يسعون جادِّين لإخراج المرأة مِن عفتها وحجابها
باسم الحريَّة؛ لأنهم يعلمون أنَّ المرأة هي السدُّ المنيع، فإذا فسدتِ
المرأة فسدتِ الأجيال، وانغمسوا في الشهوات، فكانوا أبعدَ الخَلْق عن
الاهتمام بدِين أو خلق.
يقومون بشراء بعض الإعلاميِّين ممَّن لا
يعملون في وسائل إعلامهم، فيدعمونهم ويمكِّنون لهم للترويج لأفكارهم،
والتبشير بمدنيتهم الزائفة، يعملون جاهدين للتشكيك بثوابتِ الإسلام،
يُلقُون الشُّبه؛ لزَرْع الشكِّ فيمَن لا علم عنده من المسلمين، إذا استحال
عليهم الأمر سعَوْا جاهدين للَي النص، بل لكَسْر عنقه؛ ليوافقَ توجُّهات
الغرْب، يبحثون عن أي قول من الأقوال ليوافقَ هواهم، مهما كان شاذًّا أو
مهجورًا، أو قائله من المبتدعة الذين لا يدخلون في عداد أهل السُّنَّة.
يستضيفون في وسائلهم مَن عُرِف بأقواله المخالِفة للدليل، وبشذوذه
وتقلُّبه، يُطلقون عليه ألفاظَ التبجيل والتعظيم؛ ليضلَّ، وليضلوا به عن
سبيل الله، فإذا سَقَط من أعين الناس بكثرة أخطائه ومخالفاته، استبدلوه
بغيره، فخَسِر الدنيا والآخرة.
يحاولون جاهدين أن يُوجِدوا عند
الناس قناعةً بأنه لا فرقَ بين عالِم وعالِم، بل ربما عَرَضوا مسألة كبيرة
من مسائل الأمَّة على طالب علم مبتدئ، وقارنوا قوله - إذا وافق توجهاتِهم -
بقول مَن ضرب بسهم في العلم والعمل، بل هم أنفسهم يُبيِحون لأنفسهم
الاجتهادَ والنظر، مع عدم ملكية أدوات الاجتهاد، ويقول قائلهم عن الأئمَّة
الأربعة وغيرهم من علماء الأمَّة: "هم رجال ونحن رجال"!
في معرِض غزوهم
لأفكار الأمَّة يُبرزون مَن ضلَّ وانتكس، ويفسحون لهم المجالَ في وسائل
إعلامهم، يتعاملون مع فئة قليلة، بل هي أقلُّ من القليل من أهل الغُلوِّ
الذين استبدلوا الغلوَّ بالتفريط، يحاولون أن يربطوا بين هذه الفئة
الشاذَّة وبين طائفة كبيرة من الصالحين، وأنهم على هذا المنهج الغالي،
لظنِّهم أنهم يصدُّون الناس عن دِينهم بذلك، وتناسَوْا أنه لم يضرَّ
الإسلام مَن ارتد من العرب في حياة الصِّدِّيق.
من أساليبهم في غزو الأفكار: محاولة تشويهِ صورة العلماء الصادقين والتشنيع عليهم؛ لمخالفتهم توجهاتِهم الغربيَّةَ، فيشنُّون
الغارة بين فترة وأخرى على علماء قد ماتوا من قرون، كتلاميذِ مدرسة ابن
تيمية، ويستغلُّون بعض الأحداث وبعض الفتاوى للنيْل من بعض كبار علمائنا
المعاصرين، يظنُّون أنهم إذا أَسقطوا هذه الرموز ونالوا منها، نالوا من
الدِّين الذي يدعون الناس إليه.
يخادعون البسطاء من الناس بأنَّهم
يمثِّلون الإسلام الوسط المعتدل، والاعتدال الذي ينسبونه إلى الإسلام،
والإسلام منه بريء، فالاعتدال عندَهم نبذُ الولاء والبراء، فالناس كلُّهم
إخوة في الإنسانية، إسلامهم المعتدل عدمُ إنكار المنكر بشبهة "لا إنكار في مسائل الخلاف" التي يصرفونها عن معناها.
يُبيحون الفسقَ والفجور والاختلاطَ المحرَّم، والخروج عن القِيَم، بل
يسوغون الرِّدة باسم الحريَّة الشخصية، فالإسلام المعتدل عندَهم هو الإسلام
الذي يجعل العَلاقة محصورة بين العبد وبين ربِّه، فهو محصور في المسجد،
وبجملة من الآداب العامَّة التي تنظِّم عَلاقةَ الناس بعضهم ببعض.
من أساليبهم في غزو أفكار المسلمين عبر مَن يعملون لهم بالوكالة:
إبعادُ ناشئة المسلمين عن دِينهم عبرَ ما يسمُّونه بتجفيف المنابع، وذلك
بإلغاء دروس التربية الإسلاميَّة، أو تفريغها من محتواها، بحيث تكون
مجرَّدَ توجيهات للآداب العامَّة، التي يتَّفق الناس على استحسانها؛
مسلمُهم وكافرُهم.
الخطبة الثانية
أيُّها الإخوة:
أمامَ هذا الغزو الفكري، ومحاولة التأثير على الأفكار، وتغيير بعض
القناعات الشرعيَّة، والتشويش على بعض الناس، ما الذي يجب علينا معاشرَ
الحاضرين فِعلُه؟ فلنهتم دائمًا بما يجب علينا، لا بما يجب على غيرنا.
فمِن مدافعة هذا الغزو:
البُعدُ عن وسائلهم المختلفة، التي ينشرون فيها أفكارَهم، والساحة لا تخلو
من البديل النافع، ومَن رأى المصلحة في الوقوف على هذه الوسائل، فليكنْ له
دور في الإنكار وتبصير الناس، كلّ بحسبه.
ومِن ذلك: التأكيد
على عداوة الكفَّار والمبتدعة، وأنَّ العداء باقٍ إلى قيام الساعة،
فيتعامل معهم في ظلِّ هذه الحقيقة الشرعية، مع عدم بخسهم حقَّهم وظلمهم.
ومن ذلك: التوعيةُ بأساليب القوم وبمكرهم، وتدرُّجِهم في التحلُّل من الأحكام الشرعية شيئًا فشيئًا.
ومن ذلك:
ألاَّ نأخذ دِينَنا، ولا نستفتي، ولا نقتدي إلاَّ بِمَن عرفتْه الأمَّة
بعلمه ودينه، وعلمت إخلاصَه ونُصْحَه للعباد، وترفعه عن الحظوظ الدنيوية،
والمكاسب الخاصة.
ومع ذلك: علينا الاعتدال في
محبَّة الرِّجال، وإنزالهم منازِلَهم، فالقدوة مهما يكن من الخير والعلم
والصلاح فهو بشرٌ، عُرْضة للصواب والخطأ، عرضة للتغيير والتبديل، فلا
يُعرَف الحق بالرجال، بل الرجال يُعرَفون بالحق، فمن مقولة السلف: "إن كنتم لا بدَّ مُقْتدِين، فاقتدُوا بالميِّت؛ فإنَّ الحيَّ لا تُؤمن عليه الفتنة".
في مواطن الغزو والتلبيس على الناس، والتشكيك بالثوابت، ما أحوَجَنا إلى
اللجوء إلى ربِّنا! نطلب منه العلم النافع، الذي يُنير لنا الطريق: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}
[طـه: 114]، وقد كان مِن هَدْي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه يدعو
ربَّه بالهداية للحق؛ فعن عائشة - رضي الله عنها – قالت: كان نبيُّ الله -
صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا قام من الليل افتتح صلاتَه: ((اللهمَّ ربَّ
جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة،
أنت تَحْكُم بين عبادك فيما كانوا فيه يَختلفون، اهدِني لِمَا اختُلِف فيه
من الحق بإذنك، إنك تَهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم))؛ رواه مسلم (770).
في ظلِّ الغزو الفكري ما أحوَجَنا إلى التقوى! فهي من أسباب الثبات ومعرفة الحق؛ {يِا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ
فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
فمَن اتَّقى ربَّه بفِعْل ما استطاع من الأوامر، وتَرْك المناهي، أنار الله بصيرتَه، وعَرَف الحقَّ مِن الباطل.
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه
ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله
فلا مضلَّ له، ومَن يُضللْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
أمَّا بعد:
فإنَّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهُدَى هُدَى محمد، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالة.
يقول ربنا - تبارك وتعالى - عن الكفَّار عمومًا: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، ويقول عن كفرة أهل الكتاب خصوصًا: {وَلَن
تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم
بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ
وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 120]، فأخبر الله - سبحانه - أنَّ سُنته
القدرية الباقية التي لا تتخلَّف إلى قيام الساعة عداوةُ الكفار لهذا
الدِّين ولأتباعه، ولن تزول هذه العداوةُ حتى ينسلخ المسلمون من دِينهم،
فالكفَّار على اختلاف مشاربهم جادُّون في العمل على طَمْس هذا الدِّين لو
استطاعوا؛ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
وقد جرَّبوا غزوَ بلاد المسلمين بالجيوش الجرَّارة، فأدركوا أنها لا تُحقِّق لهم ما يريدون،
حتى لو احتلُّوا بلادَ المسلمين فترة من الزمن طُرِدوا منها شرَّ طردة في
نهاية المطاف، حتى حينما يجازف قائدٌ أرعن من قادة الصليبية باحتلال بلاد
المسلمين تكون خسائرُه أكثرَ من مكاسبه، فدمَّر بمجازفته قوةَ بلاده
الاقتصادية والسياسية، ومكانتها العالمية.
أمام هذه الحقيقة، وهي:
أنَّ الجيوش الجرَّارة لا يمكن أن تغيِّر معتقداتِ المسلمين، أو تصرفَهم
عن دِينهم وتحوِّلَ ولاءهم للغرب النصراني، في ظلِّ هذا الوضع لجأ الغربُ
إلى غزو آخرَ أقلَّ تكلفةً، وأكثر تأثيرًا، ألاَ وهو الغزو الفكري لبلاد
المسلمين، فعمل جاهدًا على تغيير قناعات بعض المسلمين بطرق متعدِّدة، عن
طريق الكلمة والمؤتمر، والكتاب والصحيفة، والقناة والفيلم، وعن طريق
التعليم عبرَ البعثات الدراسيَّة لبلاد الغرْب، أو فتْح مدارس وجامعات في
بعض البلاد الإسلامية لتخرِّج طلاَّبًا وطالبات يحملون أفكارَه.
وأهم وسيلة للغزو الفكري في عصْرنا وسائلُ الإعلام، وسيكون الكلام منصبًّا
عليها، فجعل الغرب النصراني مَيْدانَ المعركة بعضَ وسائل الإعلام، فنقل
المعركة من الاعتداء على الأموال والأبدان وقتْلها إلى محاولة تغيير العقول
وغزوها، وتحويل ولائها، فأعظم غزوٍ يمارسه عبرَ وسائل الإعلام المختلفة من
صحف ومجلاَّت، وقنوات ومواقع إنترنت.
فقام الغربُ النصراني
بإنشاء قنواتٍ ومواقعَ إلكترونية، وجعل مسؤولين عنها من بني جِلْدتنا،
ممَّن يتسمَّوْن بأسمائنا، فهم في الظاهر منَّا، لكنهم أُشرِبوا حبَّ الغرب
وثقافته، فهم مبشِّرون بثقافة الغرب وقيمه، يروِّجون لأفكارهم بواسطة بعض
مَن ينسب إلى الخير، لا سيَّما ممن أقام أو يُقيم في بلاد الغرب، وتأثَّر
بهم، وضَعُف عنده الولاء والبراء، إضافةً إلى جهلهم بعلوم الشريعة، فأغلبُ
مَن يقدّمون في قنواتهم ووسائل إعلامهم أُناسٌ غير متخصِّصين في أيِّ فرْع
من فروع الشريعة، ولا يُعلم عنهم طلبُ العِلم، والتتلمذُ على العلماء،
يُقدِّمون هؤلاء على أنهم يمثِّلون علماءَ الشريعة ودعاتها، وهم أبعدُ
الناس عن ذلك في حالهم ومقالهم.
من أساليبهم في غزوهم الفكري: العملُ على إفساد الأخلاق،
ونشْر الرذيلة بين المسلمين عبرَ الأفلام والمناظر التي تصوِّر الفاحشة،
يعملون على تهوين أمر الفواحش في النفوس، وتسميتها بغير اسمها، فيسمُّون
ال*** بالمثلية الجنسية، يسعون جادِّين لإخراج المرأة مِن عفتها وحجابها
باسم الحريَّة؛ لأنهم يعلمون أنَّ المرأة هي السدُّ المنيع، فإذا فسدتِ
المرأة فسدتِ الأجيال، وانغمسوا في الشهوات، فكانوا أبعدَ الخَلْق عن
الاهتمام بدِين أو خلق.
يقومون بشراء بعض الإعلاميِّين ممَّن لا
يعملون في وسائل إعلامهم، فيدعمونهم ويمكِّنون لهم للترويج لأفكارهم،
والتبشير بمدنيتهم الزائفة، يعملون جاهدين للتشكيك بثوابتِ الإسلام،
يُلقُون الشُّبه؛ لزَرْع الشكِّ فيمَن لا علم عنده من المسلمين، إذا استحال
عليهم الأمر سعَوْا جاهدين للَي النص، بل لكَسْر عنقه؛ ليوافقَ توجُّهات
الغرْب، يبحثون عن أي قول من الأقوال ليوافقَ هواهم، مهما كان شاذًّا أو
مهجورًا، أو قائله من المبتدعة الذين لا يدخلون في عداد أهل السُّنَّة.
يستضيفون في وسائلهم مَن عُرِف بأقواله المخالِفة للدليل، وبشذوذه
وتقلُّبه، يُطلقون عليه ألفاظَ التبجيل والتعظيم؛ ليضلَّ، وليضلوا به عن
سبيل الله، فإذا سَقَط من أعين الناس بكثرة أخطائه ومخالفاته، استبدلوه
بغيره، فخَسِر الدنيا والآخرة.
يحاولون جاهدين أن يُوجِدوا عند
الناس قناعةً بأنه لا فرقَ بين عالِم وعالِم، بل ربما عَرَضوا مسألة كبيرة
من مسائل الأمَّة على طالب علم مبتدئ، وقارنوا قوله - إذا وافق توجهاتِهم -
بقول مَن ضرب بسهم في العلم والعمل، بل هم أنفسهم يُبيِحون لأنفسهم
الاجتهادَ والنظر، مع عدم ملكية أدوات الاجتهاد، ويقول قائلهم عن الأئمَّة
الأربعة وغيرهم من علماء الأمَّة: "هم رجال ونحن رجال"!
في معرِض غزوهم
لأفكار الأمَّة يُبرزون مَن ضلَّ وانتكس، ويفسحون لهم المجالَ في وسائل
إعلامهم، يتعاملون مع فئة قليلة، بل هي أقلُّ من القليل من أهل الغُلوِّ
الذين استبدلوا الغلوَّ بالتفريط، يحاولون أن يربطوا بين هذه الفئة
الشاذَّة وبين طائفة كبيرة من الصالحين، وأنهم على هذا المنهج الغالي،
لظنِّهم أنهم يصدُّون الناس عن دِينهم بذلك، وتناسَوْا أنه لم يضرَّ
الإسلام مَن ارتد من العرب في حياة الصِّدِّيق.
من أساليبهم في غزو الأفكار: محاولة تشويهِ صورة العلماء الصادقين والتشنيع عليهم؛ لمخالفتهم توجهاتِهم الغربيَّةَ، فيشنُّون
الغارة بين فترة وأخرى على علماء قد ماتوا من قرون، كتلاميذِ مدرسة ابن
تيمية، ويستغلُّون بعض الأحداث وبعض الفتاوى للنيْل من بعض كبار علمائنا
المعاصرين، يظنُّون أنهم إذا أَسقطوا هذه الرموز ونالوا منها، نالوا من
الدِّين الذي يدعون الناس إليه.
يخادعون البسطاء من الناس بأنَّهم
يمثِّلون الإسلام الوسط المعتدل، والاعتدال الذي ينسبونه إلى الإسلام،
والإسلام منه بريء، فالاعتدال عندَهم نبذُ الولاء والبراء، فالناس كلُّهم
إخوة في الإنسانية، إسلامهم المعتدل عدمُ إنكار المنكر بشبهة "لا إنكار في مسائل الخلاف" التي يصرفونها عن معناها.
يُبيحون الفسقَ والفجور والاختلاطَ المحرَّم، والخروج عن القِيَم، بل
يسوغون الرِّدة باسم الحريَّة الشخصية، فالإسلام المعتدل عندَهم هو الإسلام
الذي يجعل العَلاقة محصورة بين العبد وبين ربِّه، فهو محصور في المسجد،
وبجملة من الآداب العامَّة التي تنظِّم عَلاقةَ الناس بعضهم ببعض.
من أساليبهم في غزو أفكار المسلمين عبر مَن يعملون لهم بالوكالة:
إبعادُ ناشئة المسلمين عن دِينهم عبرَ ما يسمُّونه بتجفيف المنابع، وذلك
بإلغاء دروس التربية الإسلاميَّة، أو تفريغها من محتواها، بحيث تكون
مجرَّدَ توجيهات للآداب العامَّة، التي يتَّفق الناس على استحسانها؛
مسلمُهم وكافرُهم.
الخطبة الثانية
أيُّها الإخوة:
أمامَ هذا الغزو الفكري، ومحاولة التأثير على الأفكار، وتغيير بعض
القناعات الشرعيَّة، والتشويش على بعض الناس، ما الذي يجب علينا معاشرَ
الحاضرين فِعلُه؟ فلنهتم دائمًا بما يجب علينا، لا بما يجب على غيرنا.
فمِن مدافعة هذا الغزو:
البُعدُ عن وسائلهم المختلفة، التي ينشرون فيها أفكارَهم، والساحة لا تخلو
من البديل النافع، ومَن رأى المصلحة في الوقوف على هذه الوسائل، فليكنْ له
دور في الإنكار وتبصير الناس، كلّ بحسبه.
ومِن ذلك: التأكيد
على عداوة الكفَّار والمبتدعة، وأنَّ العداء باقٍ إلى قيام الساعة،
فيتعامل معهم في ظلِّ هذه الحقيقة الشرعية، مع عدم بخسهم حقَّهم وظلمهم.
ومن ذلك: التوعيةُ بأساليب القوم وبمكرهم، وتدرُّجِهم في التحلُّل من الأحكام الشرعية شيئًا فشيئًا.
ومن ذلك:
ألاَّ نأخذ دِينَنا، ولا نستفتي، ولا نقتدي إلاَّ بِمَن عرفتْه الأمَّة
بعلمه ودينه، وعلمت إخلاصَه ونُصْحَه للعباد، وترفعه عن الحظوظ الدنيوية،
والمكاسب الخاصة.
ومع ذلك: علينا الاعتدال في
محبَّة الرِّجال، وإنزالهم منازِلَهم، فالقدوة مهما يكن من الخير والعلم
والصلاح فهو بشرٌ، عُرْضة للصواب والخطأ، عرضة للتغيير والتبديل، فلا
يُعرَف الحق بالرجال، بل الرجال يُعرَفون بالحق، فمن مقولة السلف: "إن كنتم لا بدَّ مُقْتدِين، فاقتدُوا بالميِّت؛ فإنَّ الحيَّ لا تُؤمن عليه الفتنة".
في مواطن الغزو والتلبيس على الناس، والتشكيك بالثوابت، ما أحوَجَنا إلى
اللجوء إلى ربِّنا! نطلب منه العلم النافع، الذي يُنير لنا الطريق: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}
[طـه: 114]، وقد كان مِن هَدْي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه يدعو
ربَّه بالهداية للحق؛ فعن عائشة - رضي الله عنها – قالت: كان نبيُّ الله -
صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا قام من الليل افتتح صلاتَه: ((اللهمَّ ربَّ
جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة،
أنت تَحْكُم بين عبادك فيما كانوا فيه يَختلفون، اهدِني لِمَا اختُلِف فيه
من الحق بإذنك، إنك تَهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم))؛ رواه مسلم (770).
في ظلِّ الغزو الفكري ما أحوَجَنا إلى التقوى! فهي من أسباب الثبات ومعرفة الحق؛ {يِا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ
فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
فمَن اتَّقى ربَّه بفِعْل ما استطاع من الأوامر، وتَرْك المناهي، أنار الله بصيرتَه، وعَرَف الحقَّ مِن الباطل.