الانفتاح الفكري.. حقيقته وضوابطه
الملخَّص
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعدُ:
فقد ناقش هذا البحث مسألة "الانفتاح الفكري"، وهو مصطلح جديد، يحمل مفاهيم متعدِّدة، وقد تَمَّ بيان هذه المسألة المعاصرة من وجوهٍ عدَّة، وهي:
أولاً: بيان "حقيقة مصطلح الانفتاح"،
مِنْ خلال تتبُّع جذور المصطلح واستعمالاته في المعجم العربي والغربي،
وتَوْضيح الغموض الذي يلفُّ هذا المصطلح، والإيحاءات السلبية له، والمنهجية
العلمية في التعامُل معه.
ثانيا: توضيح "موقف الشريعة الإسلامية من العلم والمعرفة"،
وحث الشريعة على العلم والتعلم، والأمر بالنظر والتدبر والاعتبار، وبيان
أهمية عمارة الأرض بالمنهج الرباني، والموقف الشرعي من علوم غير المسلمين
الدِّينية والدنيوية، ومدى الحاجة للانفتاح على الفكر الآخر، وتحقيق امتلاك
الأمَّة الإسلامية للحقيقة المطلقة، وكل ما تقدَّم يدل على الانفتاح
الواعي لدى المنهج الإسلامي وأهله.
ثالثًا: "ضوابط الانفتاح"
بمعنى الضوابط الموجهة للانفتاح على العلوم والأفكار والمناهج والفلسفات
الأخرى، مثل: أن يكون الانفتاح بعد العلم الشرعي، وأن يكون هذا الانفتاح مع
الالتزام بالإسلام، وكذلك يكون دون انبهار بثقافة الآخر وفكره، وهذه
الضوابط هي الحدُّ الفاصل بين الانفتاح النافع والضار، والمفيد وغير
المفيد.
رابعًا:
تتبع تجارب الانفتاح التطبيقية، فالانفتاح المحمود وهو الوعي والإبداع
الفكري ذكرت له نماذج تمثيلية، وهي: ضبط العلوم وتدوينها بمنهجية علمية
واعية، واستعمال الأدلة العقلية على أصول الاعتقاد، وسعة الاطلاع والابتكار
وحرية التفكير.
أما الانفتاح المذموم وهو التبعية والانهزام،
فكان التمثيل له من خلال تجارب متعددة في الفكر الإسلامي القديم والمعاصر؛
مثل: تجربة الفلاسفة الإسلاميين، والمتكلِّمين، ودعاة التنوير والعصرانية.
وختمت البحث بأهم النتائج والتوصيات حول الموضوع، والله ولي التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مقدمة
لقد خلق الله - سبحانه وتعالى - الإنسانَ،
وأنزله إلى الأرض لإقامة الحق والعدل والعبودية لله تعالى، ولتظهر معاني
أسمائه وصفاته في خلقه، وأنزل له من الدين ما يكون موافقًا لطبيعته وفطرته
التي خلقه الله تعالى عليها، وأرسل الرسل الكرام للقيام بتذكير الإنسان
بحقيقة وُجُودِه وحكمته، وتذكيره بأن الدِّين الذي أنزله الله تعالى له هو
أساس سعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
﴾ [الرعد: 28]، والقيام - كذلك - بالإنذار له مِنْ ترك ما أنزله الله
تعالى، وبيان ما يتَرتَّب على ذلك من خرابِ حياته وشقاء نفسه وعذابه في
معاده، يقول تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124].
هذه الحقيقة الكبرى لها أهميةٌ عظيمة في
بناء الإنسان والمجتمع، والتعامل مع كل ما حوله من الأفكار والمناهج
والآراء والفلسفات، ومِنْ رحمة الله تعالى بالإنسان أنه لَم يدعْه يصنع
تصوره الاعتقادي ومنْهجه التشريعي بنفسه؛ لأنَّ الإنسان يعْتريه الهوى
والجهْل، فهو أعجز وأضعف من عمل ذلك، ولذا كان الدين بعقائده وتشريعاته
منحة إلهية من العليم الخبير، لَم يسندها إلى الإنسان العاجز، يقول أبو
الحسن الندوي - رحمه الله تعالى -: "وقد كان الأنبياء - عليهم السلام -
أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله، وعن بداية العالم ومصيره، وما
يهجم عليه الإنسان بعد موته، وأتاهم علم ذلك كله بواسطتهم عفوًا دون تعب،
وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها، ولا مقدماتها، التي
يبنون عليها بحثهم، ليتوصلوا إلى مجهول؛ لأنَّ هذه العلوم وراء الحس
والطبيعة، ولا تعمل فيها حواسهم، ولا يؤدي إليها نظرهم وليست عندهم
معلوماتها الأولية، لكن الناس لَم يشكروا هذه النِّعمة، وأعادوا الأمر
جذعًا، وبدؤوا البحث آنفًا، وبدؤوا رحلتهم في مناطق مجهولة لا يجدون فيها
مُرشدًا ولا خريتًا، وكانوا في ذلك أكثر ضلالاً، وأشد تعبًا، وأعظم
اشتغالاً[1].
وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴾ [الكهف: 51].
وفي هذا الزمان بالذات تطورت الإنسانية تطورًا مُذهلاً في الجوانب المادية، والقدرة على استعمال السُّنن الكونية واكتشافها وتوظيفها توظيفًا قويًّا في المخترعات والمكتشفات الحديثة.
وقد قدَّرَ الله تعالى أن يكونَ هذا
التطوُّر على يد أمةٍ ذات دين مبدل ومحرَّف، حارب العلم المادي، وألزم
الناس بالخرافات ونسَبَها إلى الله، فانتفضتْ عليه وحطمتْه وخرجتْ عليه،
وقد تكون معْذورة في تحطيم الخرافة، إلا أنها ليستْ معذورة في ترْك البحْث
عن الدين الصحيح والاتجاه إلى الإلحاد، وبناء الحياة فكريًّا وتشريعيًّا
ونظمًا على مقتضى (العقل) المجرد من الوحي، وتعظيم الإنسان وتأليهه، والإعلان عن موت الإله.
هذا الوضْع غرس في شُعُور كثيرٍ من الأمم أن التطور لا يتم إلا عن طريق تحطيم الدين والخروج عليه، دون النظر إلى نوع الدِّين: هل هو حق أو باطل؟ لقد قدَّس الغربيون (العقل)
في بداية الأمر، وجعلوه مناط النجاح في بناء الحياة، ثم ظهرتْ فيهم - بعد
ذلك - فلسفات متناقضة غريبة؛ بسبب الهروب من الله، والاعتماد على الإنسان
وحده.
وقد أصبح الالتزامُ بالدِّين علامة على الانغلاق والجمود، وتحطيمه والهروب منه علامةٌ على (الانفتاح الفكري) والعقلي؛ لأن العقل - في نظرهم - هو المصدر الوحيد في صحة القضايا، ولهذا سُمّي ذلك العصر الذي حطموا فيه الدين (عصر التنوير)،
وقد انتقلت هذه العدوى للعالم الإسلامي، وظهر في المسلمين مَن يُطالب
باقتفاء أثر الغرب في كل شيء، معتبرًا ذلك من التنْوير والتطوير.
ولأسباب كثيرةٍ لا مجال للتفْصيل فيها، سرتْ هذه الحمى (الانفتاح) في العالَم الإسلامي بشكلٍ كبير، على درجات متفاوتة، وتحت شعارات متعدِّدة.
فمسألة الانفتاح كقضيَّة فكريَّة أصبحتْ
موضع إشكال علمي قديم وجديد، وأصبح لها آثار عقديَّة خطيرة قديمًا في
الفرَق الضالة، وحديثًا في المذاهب الفكرية المعاصِرة، وقد استدعى ذلك
تتبُّع هذه القضية من الناحية النظرية والتطبيقيَّة، وبيان موقف أهل
السُّنَّة والجماعة من الانفتاح كمصطلح، وكقضية عامة تدلُّ على معنى العلْم
والإبداع الفكري.
وسوف أنطلق في بحْث هذه القضيَّة من تصوير موقف الشريعة الإسلامية من العلم والفكر، وبيان ما في هذا المصطلح (الانفتاح الفكري)
من النقود والإشكالات، وأن أساس المصطلح مأخوذ من المعجم الغربي، ولعل
السبب الأساسي هو نشأة هذا المصطلح في بيئة معينةٍ، فجاء به دُعاة التغريب
للعالَم الإسلامي، ولم يراعوا اختلاف الدِّين بين المسلمين والنصارى.
وكلمة (الانفتاح)
كلمة عائمة، لا يُمكن أن يتحدَّد من خلالها صورة معينة، بحيث يمكن الحكم
عليها، ولهذا لا بُدَّ من الاستفصال عن نوع الانفتاح وخصائصه قبل تقويمه
ونقْده.
وقد قسَّمْتُ البحث إلى مقدِّمة وخمسة مباحث وخاتمة، وقد جاءتْ مباحثُه على النحو التالي:
المبحث الأول: حقيقة مصطلح الانفتاح.
المبحث الثاني: موقف الشريعة الإسلامية من العلم والمعرفة.
المبحث الثالث: ضوابط الانفتاح الفكري.
المبحث الرابع: الانفتاح المحمود (الوعي والاستقلال الفكري).
المبحث الخامس: الانفتاح المذْموم (التبَعيَّة والانهزام).
ثم ختمت البحث بخاتمةٍ تضمنتْ أهم النتائج والتوصيات التي توصلتُ إليها من خلال بحث هذا الموضوع الذي زلتْ فيه أقدام قديمًا وحديثًا، أعاذنا الله تعالى من الزلل والانحراف عن الحق.
وإنني أسأل الله تعالى بمنِّه وكرَمِه
التوفيق والهداية للحق، والالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة قولاً وعملاً
واعتقادًا؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله
وصحْبِه.
المبحث الأول
حقيقة مصطلح (الانفتاح)
مصطلح (الانفتاح)
ليس مُصطلحًا شرعيًّا، فلم تردْ هذه المادة في القرآن ولا في السُّنَّة،
ولَم يستعمله العلماء الراسخون في العلم، بل هو مصطلح عرفي تتداوله الكتب
العصرية، والنشرات الصحفيَّة دون تحديد دقيقٍ لمعناه، فقد يطلقه البعضُ
ويريد به الاطِّلاع وسعة الإدراك، وعدم قصر الفكر على مجال محدَّد، وقد
يطلقه آخرون ويريدون به مفهومًا اصطلاحيًّا خاصًّا، وبهذا يكونُ الانفتاح
من المصطلحات المجمَلة التي تحتاج إلى الاستفصال عند دراستها، ولكن إضافة
الانفتاح إلى العقل والفكر لَم يُعرَف في اللسان العربي وتركيباته، بينما
نجده موْجودًا في النسَق اللغوي الغربي، وهذا ما سنبينه في هذا المبحث.
وإضافة الانفتاح إلى الفِكْر في القاموس
اللساني الغربي يدلُّ على تأثُّره بالأوضاع الفكرية والثقافية التي سادت
المجتمعَ الغربي، وصراع الكنيسة مع العلم، ودورها السلبي في التعامل مع
المجتمع، وهو بهذا المعنى يتضمَّن معانٍ غير صحيحة، وله إيحاءات ودلالات
سيئة، ويتبَيَّن ذلك من خلال ما يلي:
1 - جُذُور المصطلح:
جذور هذا المصطلح تعود إلى الفِكْر الغربي، فأصلُ مادة (فتح) في اللغة الإنجليزية هي (Open)، وهي تأتي لأكثر من عشرين معنى، بحسب تصريفاتها المتعدِّدة، ومن المعاني الداخلة في مجال البحث ما يلي:
منفتح:
راغب في الاستماع لكلِّ ما يعرض عليه، وفي تفهمه بروح سمحة - بنور العقل،
ويجعله منفتحًا للمعرفة - يصبح العقل متنورًا أو منفتحًا - يُعَبِّر عن
أفكاره ومشاعره.
ومن المعاني الاصطلاحيَّة للمادة (Open door)
- أي: الباب المفتوح - وهي: "سياسة قوامها حرية التجارة، وإلغاء التعريفات
الجمركية، والسماح لمختلف الدول بالمتاجرة مع بلدٍ ما، على قدم المساواة".
(Opening) معناه (تفتح)، و(Minded - Open)؛ أي: منفتح العقل، أو ذو عقل متفتح، وتأتي بمعنى: "منفتح للحجج والأفكار الجديدة"[2].
ومن خلال ما تقدم نلاحظ أن هذا المصطلح مأخوذ من بيئة معينة، لها ظروفها العقديَّة، وصراعاتها الفكرية.
ويبدو أن هذا المصطلح جاء بسبب الصراع بين الكنيسة والعلم، عندما
ظهرت الأفكار العلمية الجديدة، ورفضها رجالُ الدِّين، ولذا فاعتبر الفكر
الكنسي منغلقًا، والفكر اللا ديني منفتحًا لاعتماده الكلي على العقل.
2 - غُمُوض المصطلح:
يُلاحَظ في هذا المصطلح الغُمُوض
والضبابيَّة، فالانفتاح - في الاستعمال التداولي العام - يُطلق على أنواع
متعددة مما يصدق عليه هذا الاسم مع كونها مختلفة في الموضوع.
وهذا الغموض أدى إلى استعمال هذا المصطلح من اتجاهات متعددة لا تتفق فكريًّا فيما بينها في كثيرٍ من القضايا.
فنجد من يستعمل الانفتاح الفكري ليصل إلى
الإلحاد، ويصف الدين بأنه انغلاق وتحجير على العقل، كما نجد من ينقد
الانفتاح بالصُّورة السابقة، ويطلقه على الاستفادة من كل الثقافات بما لا
يناقض الإسلام، ثم يختلف أصحاب هذا الاتجاه في تحديد ما يناقض الإسلام وما
لا يناقضه، وفي حدود الاستفادة وضوابطها.
ولهذا لا بُدَّ منْ تحديد نوع الانفتاح
الفكري المعين بذكر خصائصه ومكوناته، ثم الحكم عليها بالصواب أو الخطأ
بميزان الكتاب والسنة، وهذا الغُمُوض يدل على أن استعمال هذا المصطلح دون
ضبط خطأ منهجي؛ لأنه لا يكفي مجرد اسمه في تحديد المراد منه.
ولا بأس أن أشبّه هذا المصطلح بمصطلحات علم الكلام والتصوُّف،
التي قد يراد بها حق، وقد يراد بها باطل، وقد حذَّر علماء أهل السُّنَّة
من قبولها مطلقًا؛ لاشتمالها على بعض الباطل، كما حذروا من إنكارها وردها
جملة؛ لأنها قد يراد بها معنى صحيحًا، فيكون ردًّا لشيء من الحق، ومثل هذا
النوع من الكلام المحتمل لا يصح استعماله؛ لأن فيه لبسًا للحق بالباطل،
وعلماء أهلِ السُّنَّة والجماعة لَم يُنكروا المصطلحات لأنَّها مصطلحات
جديدة - كما يظن البعض - بل لكونها تشتمل على معانٍ باطلة مناقضة للقرآن
والسنة.
3 - الإيحاءات السلبية للمصطلح:
هذا المصطلح يحمل إيحاءً انهزاميًّا سلبيًّا في تصور الشريعة الإسلامية؛ فالانفتاح: مصدر الفعل الخماسي المزيد (انفتح)، وكل فعل جاء على وزن (انفعل)، فمصدره على وزن (انفعال)، وزيادة همزة الوصل والنون في أوله ترد لمعنى واحد هو المطاوعة، "انفتح انفتاحًا، وانكسر انكسارًا، وانطلق انطلاقًا"[3].
ودلالة كلمة (الانفتاح) توحي بوُجُود انغلاق قبله، ولهذا فمعناها "إزالة الانغلاق"، فهو ضدُّه[4].
فإذا استعمل هذا المصطلح فإنه يقتضي وجود
انغلاق، ثم حصل الانفتاح فمثلاً: من كان على منهج التقليد الأعمى، ثم صار
إلى الدليل؛ فإنه يستعمل معه هذا المصطلح، أما من كان معتبرًا للدليل فلا
يليق استعمال هذا المصطلح معه؛ لأنه ليس بمنغلق حتى نطالبه بالانفتاح، ومن
يحرِّم ما أحلَّ الله تعالى من الطيبات كرهبانية الصوفية، يطالب بالانفتاح
بمعنى الخروج من انغلاق الرهبانية إلى سعة السنة التي تبيح الطيبات بإباحة
الله تعالى.
أما من يستعمل هذا المصطلح لمطالبة عموم
المسلمين به، أو اعتبار الإسلاميين الذين يطالبون بالإسلام في الحكم
والاقتصاد وكل شؤون الحياة منغلقين؛ لأنهم لم يتشربوا الفكر الغربي، فهو
سوء ظن بالشريعة الإسلامية واتهام لها بالانغلاق، وهو كذلك انهزام أمام
الفكر الغربي، واعتباره انفتاحًا من الانغلاق، والحقيقة أنه خرج من انغلاق
إلى انغلاق آخر.
ومن هنا تظهر الإيحاءات السلبية في استعمال هذا المصطلح فيما يتعلق بدين الإسلام وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضوان عليهم - وعلماء المسلمين.
المبحث الثاني
موقف الشريعة الإسلاميَّة من العلْم والمعرفة
كل مَن ينظر في القرآن والسنة يعلم يقينًا
حثَّ الشريعة على العلم والمعرفة، والثناء على أهلها، والأمر بالنظر
والتدبُّر، والثناء على العقل والعُقَلاء، والأمر بعمارة الأرض وبنائها على
منهج الله تعالى، وهذه الخصيصة للشريعة الإسلامية حاصلة لها بسبب كونها (شريعة ربانيَّة)،
ليس للإنسان أثرٌ فيها، فهي منَ العليم الخبير لإصلاح الإنسان في كل جوانب
حياته، فالإنسان بعقْلِه وعواطفه من خلْق الله تعالى، والأرض وسُننها
وقوانينها وما فيها من الخزائن من خلْقِه تعالى، والإسلام وعقائده وشرائعه
منَ الله تعالى.
فمصْدرُ الجميع واحد، وهو الله تعالى؛ يقول تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54].
ولهذا جاءتْ متناسقة ومتوافقة؛ يقول تعالى: ﴿ أَلَا يعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].
ويظهر موقفُ الشريعة من العلم والمعرفة من خلال ما يلي:
1 - الحث على العلم والتعلُّم:
فقد رغَّب الإسلامُ في العلْم والتعلُّم، وأثْنى على أهله ومدحهم؛ يقول تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾[المجادلة: 11]، ويقول تعالى: ﴿ هَلْ يسْتَوِي الَّذِينَ يعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((طلَبُ العلم فريضة على كل مسلم))[5]، ويقول أيضًا: ((مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّلَ الله له به طريقًا إلى الجنة))[6].
والعلم الممدوح نوعان:
1 - العلم الشرعي: إذا كان بإخلاصٍ، وغايته العمل.
2 - العلم الدنيوي: إذا أُريد به عمارة الأرض وإقامة العبودية لله تعالى.
ولكن الممدوح في الشرع بالأصالة هو العلم الشرعي، والعلم الدنيوي مدحه لغيره لا لذاته، ولهذا ذم الله تعالى من تعلَّم علم الدنيا، ونسي علم الآخرة؛ فقال تعالى: ﴿ يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7].
فليس العلم بصورة عامة ممدوحًا حتى تتحقق فيه الشروط التالية:
1 - الإخلاص فيه، وابتغاء وجه الله تعالى.
2 - ألا يكونَ العلمُ في ذاته محرَّمًا؛ كعلم السحر، أو علمًا فاسدًا؛ كعلم الفلسفة، والكلام ونحوها.
3 - العلم بالعلْم الشَّرْعي.
4 - أن يقصد بالعلم الدنيوي كونه وسيلة لعبودية الله تعالى.
5 - ألا يكون وسيلة إلى محظور؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
وبهذا يَتَبَيَّن أنَّ العلاقة بين العلم
والدين علاقة توافُق وانسجام، فالدِّين في ذاته يتضمَّن العلم ويأمر به،
ويجعله منطلقًا لبناء الحياة وفْق منهج الله تعالى، ولكن يُستثنى من ذلك ما
يلي:
1 - العلْم المشتمل على معلومات وتصوُّرات غير الصحيح.
2 - العلم المحرَّم، وهو ما يكون فيه من المفسدة ما تفوق المصلحة، وقد تكون مصلحة وهميَّة.
3 - الإرادة السيئة من العلْم في غاياته وأهدافه.
أما ما سوى ذلك فإن الشريعة تحثُّ عليه وتمدحه، وتطالب به، وتذم تاركه،
ويعتبر تاركُه مذمومًا في الدِّين، ولهذا اتَّفق السلفُ الصالح على ذمِّ
دراويش الصوفية الذين أعرضوا عن علم الدنيا والدين، والتفريط في علْم
الدِّين أو الدنيا يكون بحسب نوع العلم المفرَّط فيه، فمَن فرط في تعلُّم
العلم الشرعي الواجب؛ كمعرفة الله، وأصول الإيمان، وأركان الإسلام
والواجبات، فهذا مذموم، وكذلك تفريط الأمة في علم الدنيا الواجب؛ مثل:
صناعة السلاح للجهاد في سبيل الله، فهذا مذموم.
وعلى العموم فالعلم الصحيح ممدوح، سواء
كان واجبًا أو مستحبًّا، وهو ممدوح عقلاً وفطرةً وشرعًا، حتى لو كان
مباحًا، فإنه يكون مستحبًّا بالنِّيَّة الصالحة فيه.
2 - الأمر بالنظَر والتدبُّر والاعتبار:
لقد أثنى الله تعالى على العقل، وأمر
بالنظر والتدبر والاعتبار لما فيه من تحرُّر الفكر من الأوهام والخرافات
والأساطير؛ يقول تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾ [العنكبوت: 20]، ويقول - جلَّ ذِكْرُه -: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101].
وقد مدح الله تعالى العقل وإعماله في
التفكُّر والتدبر، ومدح مرادفاته؛ كالألباب، والأحلام، والتفكُّر، والتذكر،
والاعتبار، والفقه، والعلم، ونحوها، وقد حرر الإسلام العقل من الأوهام
والخرافات، ونهى عن كل ما يقدح فيه؛ مثل: الخمر، والتقليد الأعمى، والهوى،
والجهل، والتعصُّب لغير الحق.
ولهذا لا يوجد في الإسلام سلطة كهنوتية بأي شكل من الأشكال،
بل هو مبنيّ على التوحيد الخالص المحرِّر للعباد من عبودية العباد إلى
عبادة الله وحده، فليس هناك واسطة بين العباد وبين ربهم، إلا الرسل على
سبيل البلاغ، لا على سبيل العبادة، وهذا لا يعني أن العقل والنظر مطلق له
العنان، بحيث يدخل في كل أمر، حتى لو كان لا يحسنه، بل له ضوابط تضبط
مسيرته؛ منها:
1 - أن العقل يدرك الأشياء بوجْه جملي دون الإحاطة التامة والمعرفة التفصيليَّة.
2 -
أن منزلة العقل من النَّقل بمنزلة الخادم من سيِّده، وهو بمنزلة البصر
والنقل بمنزلة النور، فإذا فقد النقل عجز العقل، كعجز العين عند فقْد
النور.
3 - أن حقائق الأمور الغيبية لا يدركها العقل إلا من جهة إثباتها ومعرفة ما تدلُّ عليه الألفاظ المعبرة عنها من ألفاظ الشرْع فقط.
3 - بيان أهمية عمارة الأرض:
لقد خلَق الله تعالى الإنسان في الأرض ليقوم بالعبودية له فيها، ويعمرها وفْق ما شرعه الله تعالى وأمر به، يقول تعالى: ﴿ وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].
لقد خلَق الله تعالى الإنسان وهو متحرك
حركة دائمة، إما في الخير، وإما في الشر، وأمره تعالى أن تكونَ حركتُه في
الخير، وهو تحقيق ما أمَر الله به، وترك ما نهى عنه، وهذا أعظم ما تعمر به
الأرض، "إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم
والإفساد، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر، وقدرة
على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد
والجماعة إلى مدارج الحيوان"[7].
وعمارة الأرض تكون بما يلي:
1 - عمارتها بإقامة دين الله تعالى فيها، وتطبيق شرعه، وتنفيذ أمره وإرادته في حياة الناس.
2 - إقامة العدل، ورفع الظلم، وإظهار التوحيد والعقائد الربانيَّة الحقَّة التي لم يخالطْها خرافة ولا غبش فكْري.
3 -
بناء الحياة وأنماطها وجميع جوانبها في العقائد والأحكام والأخلاق، وفي
المال والحكم، وفي الرجال والنساء، وفي العلم والفكر، وفي كل شيء على هدْي
الله ووحْيِه.
ولهذا لو نظرنا نظرةً فاحصة في خسارة
الدنيا، عندما استولى الكفار على كثير من البلاد، لعرفنا الحاجة الماسة إلى
عمارتها وفْق منهج الله تعالى، فإنَّ ظهور الكفر والفُجُور، ومحاربة الله
تعالى مؤذن بفساد العالم وخرابه؛ يقول تعالى: ﴿ ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِي النَّاسِ
لِيذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
ويقول تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا
﴾ [الأنبياء: 22]، وينتج عن تفوُّق الكفار في عمارة الأرض، إعلاء أهواء
العباد في قضايا الفكر والسلوك، وإخفاء كلمة الله تعالى، وحينئذٍ يشقَى
الناس بالحيرة والتِّيه والاضطراب والأمراض والتحلُّل الأخلاقي، وتفَكُّك
عرى المجتمع، وانقسامه إلى طبقات متصارعة، واضمحلال روح الإخاء الاجتماعي،
وبروز الأنانية، وسيْطَرة الروح الفرديَّة، إلى غير ذلك مما يطالعه من
يراقب حال العالَم اليوم الذي سيطر عليه الغربيون، وامتلكوا زمام التوجيه
فيه.
وينتج أيضًا عن ذلك هلاكُ الحرْث والنسل؛ بسبب غياب العدل والرحمة، ولعل
الحروب العالمية شاهدة على ما عانتْه الدنيا؛ بسبب سيطرة الكفَّار عليها،
ولهذا تظهر أهمية عمارة الأرض من قبل أهل الإسلام، وإقامة الدِّين فيها،
وبنائها بناءً ماديًّا يخدم الإنسانيَّة، كما يدلُّ على ذلك الحديث
المشهور: ((إن قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها))[8].
ومن خلال ما تقدَّم يظهر لنا حثُّ الشريعة
على العلم الصحيح الديني والدنيوي، وبيانها لأهمية استعمال العقل في مجاله
الصحيح، وحثها على النظر والتفكر وعمارة الأرض، وهذا يدل على أن التزام
الشريعة نفسها والعمل بها يدعو للعلم والمعرفة والإبداع، وبناءً على ذلك
فليس هناك مجال للقول بضرورة (الانفتاح)؛
لأنه إذا أريد بالانفتاح الاطلاع والعلم والمعرفة والإبداع والاختراع،
فهذا ما تأمر به الشريعة وتحث عليه عندما يكون صحيحًا نافعًا، وعلامة صحته
أن يكون صحيحًا في ذاته، وألا يعارض قطعيًّا من قطعيَّات الشريعة، ومعارضته
للقطعي فيها دليل على عدم صحته، وعلامة نفْعه أن يكون له حقيقة وفائدة
واقعية في حياة الإنسان، أما إذا كان أمر لا نفع فيه، فإنه ضياع للعمر
وللوقت، والإنسان سوف يُسأل عن عمره فيمَ أفناه؟ واشتغال الإنسان فيما لا
يعنيه علامة على إعراض الله تعالى عنه.
وفيما يتعلَّق بموقف الشريعة الإسلاميَّة من العلم والمعرفة، هناك عدة مسائل لا بُدَّ من الوقوف عندها:
المسألة الأولى: الموقف الشرعي من عُلُوم غير المسلمين ومخلفات حضارتهم:
علوم غير المسلمين نوعان:
النوع الأول: علوم دينية، سواءً كانت تتحدث عن أديانهم، أو عن دين الإسلام:
والموقف الشرعي من هذا النوع فيه تفصيل كالتالي:
أ - العلوم الدينية التي ينقلونها عن أهل ملتِهم، فالموقف الشرعي منها يختلف بحسب نوع التعامل معها:
1 -
فإنْ كان النقلُ منها لمعرفة دين أصحابها دون اعتقاد مضمونه، فهذا لا بأس
به، إذا كان النقل عن مأمونٍ خبير فيما يتحدث فيه، وقد أمَرَ النبيُّ - صلى
الله عليه وسلم - زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن يتعلم التوراة فتعلمها
في خمسة عشر يومًا[9]،
ولا يزال العلماء ينقلون عن أهلِ الأديان مِنْ واقع مُصنفاتهم لِمَعْرفة
حقيقة دينهم لبيان ما فيه من الباطل والتناقُض، وهذا منهج علْمي صحيح أن
تنقل عن صاحب الشأن لا عن من نقل عنه، وهو من العدل الذي أمرنا به في قوله
تعالى:﴿ وَلَا يجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾
[المائدة: 8]، ولكن لا ينبغي الاشتغال بهذا لمن لَم ينضج في فَهم دين
الإسلام وذلك سدًّا للذريعة، وسيأتي الإشارة لهذا في ضوابط الانفتاح.
2 - وإن
كان النقل عنها للاستدلال بها والاعتماد عليها أو ترجمتها للانتفاع بها،
فهذا لا يجوز؛ لأنَّ في دين الإسلام غنية وكفاية في الدلائل والمسائل وفي
العقائد والأعمال، وسيأتي الإشارةُ لهذا في الانفتاح الفِكْري المذْمُوم.
ب - العلوم
الدِّينية التي ينقلونها عن الإسلام، سواءً في العقيدة أو الفقه أو العلوم
المساعدة لها كاللغة والأُصُول والتاريخ ونحوها، وهذا مثل كُتُب
المستشرقين في العلوم الإسلامية، فالموقف الشرعي عدم الاعتماد عليها لِمَا
يلي:
1 -
أن فيما كتبه علماء الإسلام غنية وكفاية في فَهم قضايا الإسلام ولُغته
وتاريخه، وهم أعلم به من الدُّخلاء الذين يكتبون عنه وهم خارجه.
2 - أن مِن أصول الرواية عدم قبول رواية ونقل الفاسق المسلم، كما في قوله تعالى: ﴿ يا
أَيهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَينُوا
أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]؛ فكيف برواية الكافر؟!
3 - أنه
ثبت من واقع كُتُب المستشرقين أن لهم أغراضًا خبيثة، وأهدافًا سيئة،
يريدون نشرها من خلال كتبهم، ويلوون أعناق النصوص ويبترونها ويُفَسِّرونها
تفسيرًا غريبًا على التصوُّر الإسلامي، ويُحَرِّفون الكلم عن مواضعه، فلا
شك أن من كانت هذا حاله لا ينقل عنه، فكيف وروايته مجروحة، وعندنا غنية
وكفاية؟!
النوع الثاني: عُلُوم دنيويَّة بحْتة؛ مثل: الصناعات والاختراعات العمَليَّة:
فهذا لا بأس مِنْ أخْذه وقَبُوله، ويكون
ذلك بعد إخْضاعِه لقوانين النقْد العِلْمي، وظهور صحته وصدقه، وهو إرثٌ
إنساني يمكن لأي أمة أن تُطَوِّره وتزيد فيه، وهو علْمٌ تراكمي شارَكَ فيه
عناصر من أديان متعدِّدة، لكن ينبغي التنبُّه لِما يلي:
أ -
التفريق بين الحقيقة العلمية الضرورية، وبين النظرية الظنية، والتفريق بين
العلوم المادية والعلوم الإنسانية؛ لأن للأخيرة ارتباطًا بالتوجُّه
والدِّين والأخلاق.
ب -
تصْفية بعض المخترعات من المخزون الثقافي الذي تتضمنه، فكلُّ تقنية لها
ضلال ثقافي لا بُدَّ من تصْفيته منها قبل نقلها، وتكييفها لتناسب الأمة
المسلمة ذات الرسالة الربانية.
ج - عدم الوقوف عند الأخذ والتلقي، وتجاوز ذلك إلى التفكير والإبداع والتطوير.
د -
كل الأمور المادية تدخل في باب الإباحة والجواز، سواءً كانت من الصناعات
المادية، أو غيرها؛ مثل: الفنون الإدارية والعسكرية، مع أهمية تصفية ذلك
مما يعلق به من المضامين الفكريَّة.
هذا ما يتعلَّق بعُلُوم غير المسلمين، أما الآثار والمخلفات الحضارية للأمم البائدة، فهي متنوعة، ويتنوع الحكمُ عليها بحسب نوعها[10]:
1 -
ما فيه فائدة علميَّة أو ماديَّة؛ مثل: الوثائق والنقوش وقطع النقود
والجسور والآبار والعيون والسدود والقناطر والطرق ونحوه، فهذه يستفاد منها،
وقيمتها بقدر الخدمة التي تؤديها للناس، وليس لها فائدة أكثر من ذلك، فلا
يجوز الاهتمام بها باعتبارها أثرًا لا يقدم خدمة عمليَّة، ولا يجوز
تعْظيمُها أو تقديسُها.
2 -
ما في وجوده منافاة للعقيدة الصحيحة؛ مثل: التماثيل والصور والأصنام وبيوت
العبادة لغير الله، والمشاهد المبنيَّة على القبور والمزارات ونحوها، فهذه
يجب تحطيمُها وإزالتها؛ لأنَّه ذريعة إلى الشِّرْك.
3 -
ما لا نفْع فيه ولا ضرر منه لذاته؛ مثل: المباني الخربة، وبقايا الأسوار
والحصون، والبنايات الكبيرة؛ كالأهرامات، وإيوان كسرى، وحدائق بابل،
ونحوها، فهذا يهمل كما أهمله الصحابة، ولا يعنى به؛ لأنه إرث لأمة جاهلية،
فلا يهتم به، فالاهتمام به نوع تعظيم له ولِمَنْ خلَّفه.
وقد أرشدَنا القرآنُ للمنهج الصحيح في دراسة الآثار، وعرفنا القيمة الحقيقة لها، وهو أخذ العبرة والعظة من مصارع الذين هلكوا وظلموا أنفسهم؛ يقول تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [النمل: 69]، ويقول جلَّ ذكْرُه: ﴿ وَكَمْ
أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ
لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ
الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 58].
المسألة الثانية: مدى الحاجة إلى (الانفتاح) على الفكر الآخر:
"إنَّ الإسلام تصوُّر مستَقلٌّ للوجود
والحياة، تصور كامل ذو خصائص متميزة، ومِنْ ثَمَّ ينبثق منه منهجٌ ذاتي
مستقل للحياة كلها، بكل مقوماتها وارتباطاتها، ويقوم عليه نظام ذو خصائص
معينة، هذا التصوُّر يُخالف مخالفة أساسية سائر التصوُّرات الجاهلية قديمًا
وحديثًا"[11].
وليس له حاجة في الانفتاح على أي فكرٍ
آخر؛ لأنَّ هذا الفكر الآخر إنساني، والإسلام منهج رباني كامل، وإذا كان لا
يستوي الخالق مع المخلوق، فكذلك لا تستوي شريعة الخالق مع أوهام المخلوق،
وكلمة (الفكر الآخر) كلمة فضفاضة، يُراد بها أنواعًا متعدِّدة من الأفكار والأهواء، لكنها جميعًا تجتمع في خصيصة واحدة، وهي أن مصدرها (بشري) أرضي.
فإذا كان المقصود بالفكر: نتاج المعرفة الإنسانية فيما فيه منفعة دنيوية، فهذا أمر مشترك بين سائر البشر، يستفيد
فيه بعضُهم من بعض دون نكير، وإذا أريد بالفكر ما يكون موافقًا لمعنى
الدين؛ مثل: التفسير الفكري للكون والإنسان والحياة والغيب ونحو ذلك، ففي
الإسلام غنية كافية وصادقة، وهذا ما نريد بمنع الانفتاح عليه؛ لما فيه من
الضرر والشك في الدين الحق.
إذا عرفنا ذلك، وعرفنا منزلة العلم والنظر
وعمارة الأرض في هذا الدين، وأدركنا إدراكًا جازمًا بالفرق بين الخالق
والمخلوق، ندرك حينها أنه ليس هناك أي حاجة للانفتاح على الفكر الآخر -
فيما يتعلق بالأمور الدِّينية والقيم الأخلاقية الثقافية - إلا في دعوته
إلى الحق، وترْك الضلال بالأدلة البرهانية المقنَّعة.
فكل خصائص الكمال والتمام موجودة في
الإسلام؛ لأنه منهج رباني ومصدره إلهي، "فهو وحده مناط الثقة في أنه
التصوُّر المُبَرَّأ من النقص، والمُبَرَّأ من الجهل، والمُبَرَّأ من
الهوى، وهذه الخصائص المصاحبة لكل عمل بشري، والتي نراها مجسمة في جميع
التصوُّرات التي صاغها البشر ابتداءً من وثنيات وفلسفات، أو التي تدخل فيها
البشر من العقائد السماوية السابقة، وهو كذلك مناط الضمان في أنه التصوُّر
الموافق للفطرة الإنسانية، الملبِّي لكل جوانبها، المحقق لكل حاجاتها، ومن
ثَمَّ فهو التصوُّر الذي يمكن أن ينبثقَ منه، ويقوم عليه، أقوم منهج
للحياة وأشمله"[12].
إن القولَ بحاجة الفكر الإسلامي - بمعنى
حقائق الإسلام العقَديَّة المتَّفق عليها - إلى أي فكر بشري آخر هو كالقول
بحاجة الله تعالى للإنسان، ولكنّ المنهزمين فكريًّا ونفسيًّا لَم
يتصوَّرُوا أولاً: طبيعة هذا الدين وخصائصه ومميزاته ومصدره، ثم لم يعرفوا -
ثانيًا - الخلل الكبير الذي وقَع فيه الفكر الإنساني المبتعد عن الله
تعالى في تصوُّره وقيمه وأدبياته، ونحن هنا لا نقصد أفكار آحاد المسلمين
التي هي قابلة للأخْذ والرد، ولكن نريد الفكر الإسلامي المجمع عليه
والمستند بقطيعة ووضوح إلى الوحْي الرَّبَّاني.
المسألة الثالثة: امتلاك الحقيقة المطلقة:
لا شك أن الإسلام يملك الحقيقة المطلقة في
معرفة الله تعالى والنبوات والتوحيد والغيبيات والتشريعات؛ لأنَّها هي
الحق، وغيرها المخالف لها هو الباطل: ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32].
هذا فيما يتعلَّق بالأمور الواضحة في
النُّصوص الشرعية، أما فيما يتعلق بالأمور الخفية التي يختلف فيها
المجتهدون من المسلمين في القضايا الشرعية، فهذا لا يمكن فيه القول بامتلاك
الحقيقة المطلقة لأحد من المجتهدين دون الآخر، مع وجود الحقيقة في ذاتها
ثابتة.
وللمجتهد أن يُخَطِّئ مخالفه، ويعتقد بصواب قوله، أما الادِّعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة في أمر خفي، فهذا غير صحيح؛ لأنه
يوحي بعدم إعذار المخالف له المنضبط في نظره واجتهاده، وهذا لا يعني أن
الحق في قضايا الاجتهاد نسبي لا يوجد فيه حقيقة في نفس الأمر، بل الحقيقة
ثابتة، والحق يمكن الوصول إليه في قضايا الاجتهاد، ولهذا كان المصيب من
المجتهدين واحدًا، والآخر مخطئًا، وهذا هو الصواب، خلافًا لمن زعم أن كل
مجتهد مصيب، ففي الحديث: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإن أخطأ
فله أجر))[13].
وشعار "امتلاك الحقيقة المطلقة" تهمة يرفعها أصحاب الملل المنحرفة والمذاهب الزائفة في وجوه أهل السنة؛ ليقولوا لهم: إنكم قد حكمتهم على المخالف قبل الحوار، فما هي فائدته؟
والحقيقة أنه ليس هناك حوار ديني بين أهل
الإسلام وأهل الأديان غير حوار الدعوة، وإقامة الأدلة العقلية المقنعة على
صحة الحق، وأما الحوارات في القضايا الدنيوية المشتركة؛ مثل: محاربة الفقر،
وحماية البيئة، وغيرها، فالأصل فيهما الجواز؛ لأن التعاون مع الكفار على
أمور نافعة ومباحة جائز، كما يظهر ذلك في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -
ولكن (الحوار بين الأديان) في صورته
المعاصرة غير مقتصر على ذلك، فهو مشتمل على أبعاد سياسية تحقق مقاصد الدول
الكبرى، ويتخذ الحوار مطيَّة لذلك، يتضمن - أحيانًا - المطالبة بإيقاف
الدعوة بين الطرفين، أو الاعتراف بالأديان المحرَّفة؛ ونحو ذلك من الشروط
الإضافية على الحوار في القضايا المشتركة.
وربط هذا الحوار بالدين ودعوة العلماء
والقساوسة وغيرهم لا مبرر له؛ لأنهم ليسوا أهل اختصاص في الأمور الدنيوية
التخصُّصيَّة، وارتباطها بالجانب السياسي ودعوة أهل الاختصاص هو الأجدر،
ولهذا وقف أهلُ العلم موقف الارتياب من هذه الحوارات، ولا يعني هذا الحكم
على كلِّ حوار بين أهل الأديان بحكم واحد، فالأصل في الحوار الدنيوي
الجواز، أما إذا كان هناك مفاهيم إضافية على الحوار الدنيوي، فلكل مفهوم
حكمه.
المبحث الثالث
ضوابط الانفتاح الفِكْرِي
سبق أن بَيَّنْتُ أن مصطلح (الانفتاح)
فيه غُمُوض وضبابية، ويتضمن معانٍ سلبية في فهم طبيعة الدين ومقوماته،
ولكن سأستعمل هذا المصطلح بمعناه العام الذي يدل على معنى الاطِّلاع،
والاستفادة مما عند الآخرين، وترك الانكفاء على الذات والانغلاق عليها،
وهذا المعنى العام يُمكن تطبيقه بشكل صحيح إذا روعي فيه الضوابط الآتية،
ويمكن أن يطبق بشكل خاطئ عند عدم مراعاة الضوابط.
ومن حيث المبدأ، فإن الانفتاح على العالم فكريًّا وثقافيًّا له آثاره المفيدة في العلوم الدنيوية، إذا كان ممن التزم بدينه وعقيدته، ولا يخاف عليه الضلال.
أما المطالبة بشكل عام بالانفتاح على
الآخر، دون تحديد لنوعية القضايا التي يتم فيها الانفتاح، ونوعية المطالب
به، فليس كل أحد يقدر على أخذ المفيد وترْك الزغل؛ فهذا لا شك في خطئه
وبُعده عن الصواب، ومنافاته للمحافظة على الخصوصية التي تميز بها المسلمون
عن غيرهم، ولذا فلا بُدَّ مِنْ وُجُود ضوابط أثناء الانفتاح على الثقافات
والمعارف بشكل عام، ولعلنا نوجزها في ما يلي:
أولاً: أن يكونَ الانفتاحُ بعد العلْم الشَّرْعي:
فإن العلم بالشريعة الإسلامية ضرورة
لمعرفة دين الإسلام وتطبيقها والعمل بها، وهو أيضًا ضرورة للانفتاح الفكري
على الثقافات والآداب غير الإسلامية، فالانفتاح المفيد يكون بعد تصور عقيدة
الإسلام وأحكامه تصورًا صحيحًا والثقة بها، ورد كل ما يخالفها من عقيدة أو
عمل، أما الانفتاح قبل العلم فإنه مزلق خطير يجعل صاحبه يتخبط في الأفكار
والمناهج والفلسفات، ويقع فيما يخالف ويناقض أصول دينه، ومن أقل آثاره الشك
في صحة دينه، والشعور بالنقص نحوه.
وهذا هو أحد أسباب نَهْي النبي - صلى الله
عليه وسلم - عمرَ بن الخطاب، والإنكار عليه، عندما رأى في يده صحائف من
التوراة؛ فقال له: ((أَمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها
بيضاء نقية، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن
يتبعني))[14]
- ومعنى مُتَهَوِّكون أي: مُتَحَيِّرون - فيكون هذا النهي عن قراءة كُتُب
الأديان وعموم المعارف، دون علم بالشريعة، أو قراءتها للاهتداء بها، ويدل
على ذلك رواية البيهقي وفيها: ((لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن
يهدوكم وقد ضلوا))[15]، ويوضح ذلك قول عمر - رضي الله عنه - كما في رواية البيهقي: ((إنا نسمع أحاديث من اليهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟)).
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "فلم كان هذا
الاشتداد في الإنكار؟ ما ذلك إلاّ لأنه كان في مرحلة التأسيس والتكوين
للعقيدة والملَّة، ولا ينبغي أن يشوش عليها في هذه المرحلة الخطيرة حتى
ترسخ أسسها، ويقوم بنيانها، ويخرج زرعها شطأه، وليستغلظ ويستوي على سوقه،
ثم بعد ذلك تنفتح على ما شاءت من الديانات والثقافات والحضارات"[16].
ولا ريب أنّ ما ذكره الدكتور أمر معتبر، لكن ينبغي أن يضافَ إلى ذلك العلم الكافي المانع من الانسياق وراء الشبهات،
كما أن مما يضاف إلى أسباب نَهْيه عن الاطلاع على التوراة قصد الاهتداء
والانتفاع بما فيها، فالإسلام كان مغنيًّا في باب الهداية إلى الصراط
المستقيم، أما الاطلاع على التوراة للرد على الباطل ونحو ذلك مما لا يقصد
به الاهتداء بها، فهذا أمرٌ مباحٌ في الأصل، وقد يكون مستحبًّا أو واجبًا
بحسب الحاجة لذلك، ودفع الشبهة.
ثانيًا: أن يكونَ الانفتاح مع الالتزام بالإسلام:
الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة
الإنسانية: الروحية والمادية، الفردية والجماعية، العلمية والعملية، وهو
دين ثابت في قواعده وعقائده، وقد صور الأستاذ سيد قطب كيفية ثبات الإسلام
مع تطوُّر الحياة وأنماطها المختلفة؛ فقال: "إنه تصور رباني، جاء من عند
الله بكل خصائصه، وبكلِّ مقوماته، وتلقَّاه الإنسان كاملاً بخصائصه هذه
ومقوماته؛ لا ليزيد عليه من عنده شيئًا، ولا لينقص كذلك منه شيئًا، ولكن
ليتكيف هو به وليطبق مقتضياته في حياته.
وهو - مِن ثَمَّ - تصور غير متطور في
ذاته، إنما تتطور البشرية في إطاره وترتقي في إدراكه، وفي الاستجابة له،
وتظل تتطور وتترقى، وتنمو وتتقدم، وهذا الإطار يسعها دائمًا، وهذا التصوُّر
يقودها دائمًا، لأنه المصدر الذي أنشأ هذا التصور هو نفسه المصدر الذي خلق
الإنسان، هو الخالق المدبر، الذي يعلم طبيعة هذا الإنسان، وحاجات حياته
المتطورة على مدى الزمان، وهو الذي جعل في هذا التصوُّر من الخصائص ما يلبي
هذه الحاجات المتطورة في داخل هذا الإطار"[17].
فالانفتاح والتطوُّر والتجديد والعقل
والإبداع ونحو ذلك، لا يمكن أن تصادم هذا الدين إذا كانتْ صحيحة وحقًّا،
أما إذا كانتْ باطلاً فمن الطبيعي أن يعارضَ الباطل الحق، والخطأ الصواب،
وكل ما سبقت الإشارة إليه يعود إلى (العقل)،
وقد قرَّر العلماءُ استحالة وُرُود العقل الصريح مُناقضًا للنقْل الصحيح،
فإما أن تكونَ دلالة العقل غير صحيحة فهي غير مقبولة أصلاً، وإما أن يكون
النصُّ غير صحيح أو غير صريح في دلالته، وحينئذٍ فالدِّين موافق للعقل؛
لأنَّ الجميع من عند الله تعالى[18].
لقد فطن شيخُ الإسلام ابن تيميَّة لأساس المشكلة عند دُعاة الانفتاح والتطوير والتجديد، وهو (تعظيم العقل)،
وسوء الظن بالنقل، ولهذا ردوه أو أوَّلُوه وحرفوه، فبَيَّن التوافُق
والانسجام للعقل مع النَّقل، وبيَّن عظمة النقل واتِّساقه مع حاجات الإنسان
النفسية والعقلية والاجتماعية، وهذا ما لَم يتصوره هؤلاء، ولم يكلفوا
أنفسهم عناء البحث فيه وإدراكه.
وما زالت المشكلة قائمةً إلى اليوم، وإن
اختلفت العبارات فكان الأقدمون يسمونها "تعارض العقل والنقل"، أما
المعاصرون فقد يغيرون كلمة (العقل والنقل) إلى: (العلم والدين)، أو (الدين والمدنية)، أو (الدين والتطوُّر)، أ
د. عبدالرحيم بن صمايل السلمي
المصدر: مجلة الأصول والنوازل، السنة الأولى، العدد الأول، محرم 1430هـ/ يناير 2009
المصدر: مجلة الأصول والنوازل، السنة الأولى، العدد الأول، محرم 1430هـ/ يناير 2009
الملخَّص
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعدُ:
فقد ناقش هذا البحث مسألة "الانفتاح الفكري"، وهو مصطلح جديد، يحمل مفاهيم متعدِّدة، وقد تَمَّ بيان هذه المسألة المعاصرة من وجوهٍ عدَّة، وهي:
أولاً: بيان "حقيقة مصطلح الانفتاح"،
مِنْ خلال تتبُّع جذور المصطلح واستعمالاته في المعجم العربي والغربي،
وتَوْضيح الغموض الذي يلفُّ هذا المصطلح، والإيحاءات السلبية له، والمنهجية
العلمية في التعامُل معه.
ثانيا: توضيح "موقف الشريعة الإسلامية من العلم والمعرفة"،
وحث الشريعة على العلم والتعلم، والأمر بالنظر والتدبر والاعتبار، وبيان
أهمية عمارة الأرض بالمنهج الرباني، والموقف الشرعي من علوم غير المسلمين
الدِّينية والدنيوية، ومدى الحاجة للانفتاح على الفكر الآخر، وتحقيق امتلاك
الأمَّة الإسلامية للحقيقة المطلقة، وكل ما تقدَّم يدل على الانفتاح
الواعي لدى المنهج الإسلامي وأهله.
ثالثًا: "ضوابط الانفتاح"
بمعنى الضوابط الموجهة للانفتاح على العلوم والأفكار والمناهج والفلسفات
الأخرى، مثل: أن يكون الانفتاح بعد العلم الشرعي، وأن يكون هذا الانفتاح مع
الالتزام بالإسلام، وكذلك يكون دون انبهار بثقافة الآخر وفكره، وهذه
الضوابط هي الحدُّ الفاصل بين الانفتاح النافع والضار، والمفيد وغير
المفيد.
رابعًا:
تتبع تجارب الانفتاح التطبيقية، فالانفتاح المحمود وهو الوعي والإبداع
الفكري ذكرت له نماذج تمثيلية، وهي: ضبط العلوم وتدوينها بمنهجية علمية
واعية، واستعمال الأدلة العقلية على أصول الاعتقاد، وسعة الاطلاع والابتكار
وحرية التفكير.
أما الانفتاح المذموم وهو التبعية والانهزام،
فكان التمثيل له من خلال تجارب متعددة في الفكر الإسلامي القديم والمعاصر؛
مثل: تجربة الفلاسفة الإسلاميين، والمتكلِّمين، ودعاة التنوير والعصرانية.
وختمت البحث بأهم النتائج والتوصيات حول الموضوع، والله ولي التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مقدمة
لقد خلق الله - سبحانه وتعالى - الإنسانَ،
وأنزله إلى الأرض لإقامة الحق والعدل والعبودية لله تعالى، ولتظهر معاني
أسمائه وصفاته في خلقه، وأنزل له من الدين ما يكون موافقًا لطبيعته وفطرته
التي خلقه الله تعالى عليها، وأرسل الرسل الكرام للقيام بتذكير الإنسان
بحقيقة وُجُودِه وحكمته، وتذكيره بأن الدِّين الذي أنزله الله تعالى له هو
أساس سعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
﴾ [الرعد: 28]، والقيام - كذلك - بالإنذار له مِنْ ترك ما أنزله الله
تعالى، وبيان ما يتَرتَّب على ذلك من خرابِ حياته وشقاء نفسه وعذابه في
معاده، يقول تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124].
هذه الحقيقة الكبرى لها أهميةٌ عظيمة في
بناء الإنسان والمجتمع، والتعامل مع كل ما حوله من الأفكار والمناهج
والآراء والفلسفات، ومِنْ رحمة الله تعالى بالإنسان أنه لَم يدعْه يصنع
تصوره الاعتقادي ومنْهجه التشريعي بنفسه؛ لأنَّ الإنسان يعْتريه الهوى
والجهْل، فهو أعجز وأضعف من عمل ذلك، ولذا كان الدين بعقائده وتشريعاته
منحة إلهية من العليم الخبير، لَم يسندها إلى الإنسان العاجز، يقول أبو
الحسن الندوي - رحمه الله تعالى -: "وقد كان الأنبياء - عليهم السلام -
أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله، وعن بداية العالم ومصيره، وما
يهجم عليه الإنسان بعد موته، وأتاهم علم ذلك كله بواسطتهم عفوًا دون تعب،
وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها، ولا مقدماتها، التي
يبنون عليها بحثهم، ليتوصلوا إلى مجهول؛ لأنَّ هذه العلوم وراء الحس
والطبيعة، ولا تعمل فيها حواسهم، ولا يؤدي إليها نظرهم وليست عندهم
معلوماتها الأولية، لكن الناس لَم يشكروا هذه النِّعمة، وأعادوا الأمر
جذعًا، وبدؤوا البحث آنفًا، وبدؤوا رحلتهم في مناطق مجهولة لا يجدون فيها
مُرشدًا ولا خريتًا، وكانوا في ذلك أكثر ضلالاً، وأشد تعبًا، وأعظم
اشتغالاً[1].
وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴾ [الكهف: 51].
وفي هذا الزمان بالذات تطورت الإنسانية تطورًا مُذهلاً في الجوانب المادية، والقدرة على استعمال السُّنن الكونية واكتشافها وتوظيفها توظيفًا قويًّا في المخترعات والمكتشفات الحديثة.
وقد قدَّرَ الله تعالى أن يكونَ هذا
التطوُّر على يد أمةٍ ذات دين مبدل ومحرَّف، حارب العلم المادي، وألزم
الناس بالخرافات ونسَبَها إلى الله، فانتفضتْ عليه وحطمتْه وخرجتْ عليه،
وقد تكون معْذورة في تحطيم الخرافة، إلا أنها ليستْ معذورة في ترْك البحْث
عن الدين الصحيح والاتجاه إلى الإلحاد، وبناء الحياة فكريًّا وتشريعيًّا
ونظمًا على مقتضى (العقل) المجرد من الوحي، وتعظيم الإنسان وتأليهه، والإعلان عن موت الإله.
هذا الوضْع غرس في شُعُور كثيرٍ من الأمم أن التطور لا يتم إلا عن طريق تحطيم الدين والخروج عليه، دون النظر إلى نوع الدِّين: هل هو حق أو باطل؟ لقد قدَّس الغربيون (العقل)
في بداية الأمر، وجعلوه مناط النجاح في بناء الحياة، ثم ظهرتْ فيهم - بعد
ذلك - فلسفات متناقضة غريبة؛ بسبب الهروب من الله، والاعتماد على الإنسان
وحده.
وقد أصبح الالتزامُ بالدِّين علامة على الانغلاق والجمود، وتحطيمه والهروب منه علامةٌ على (الانفتاح الفكري) والعقلي؛ لأن العقل - في نظرهم - هو المصدر الوحيد في صحة القضايا، ولهذا سُمّي ذلك العصر الذي حطموا فيه الدين (عصر التنوير)،
وقد انتقلت هذه العدوى للعالم الإسلامي، وظهر في المسلمين مَن يُطالب
باقتفاء أثر الغرب في كل شيء، معتبرًا ذلك من التنْوير والتطوير.
ولأسباب كثيرةٍ لا مجال للتفْصيل فيها، سرتْ هذه الحمى (الانفتاح) في العالَم الإسلامي بشكلٍ كبير، على درجات متفاوتة، وتحت شعارات متعدِّدة.
فمسألة الانفتاح كقضيَّة فكريَّة أصبحتْ
موضع إشكال علمي قديم وجديد، وأصبح لها آثار عقديَّة خطيرة قديمًا في
الفرَق الضالة، وحديثًا في المذاهب الفكرية المعاصِرة، وقد استدعى ذلك
تتبُّع هذه القضية من الناحية النظرية والتطبيقيَّة، وبيان موقف أهل
السُّنَّة والجماعة من الانفتاح كمصطلح، وكقضية عامة تدلُّ على معنى العلْم
والإبداع الفكري.
وسوف أنطلق في بحْث هذه القضيَّة من تصوير موقف الشريعة الإسلامية من العلم والفكر، وبيان ما في هذا المصطلح (الانفتاح الفكري)
من النقود والإشكالات، وأن أساس المصطلح مأخوذ من المعجم الغربي، ولعل
السبب الأساسي هو نشأة هذا المصطلح في بيئة معينةٍ، فجاء به دُعاة التغريب
للعالَم الإسلامي، ولم يراعوا اختلاف الدِّين بين المسلمين والنصارى.
وكلمة (الانفتاح)
كلمة عائمة، لا يُمكن أن يتحدَّد من خلالها صورة معينة، بحيث يمكن الحكم
عليها، ولهذا لا بُدَّ من الاستفصال عن نوع الانفتاح وخصائصه قبل تقويمه
ونقْده.
وقد قسَّمْتُ البحث إلى مقدِّمة وخمسة مباحث وخاتمة، وقد جاءتْ مباحثُه على النحو التالي:
المبحث الأول: حقيقة مصطلح الانفتاح.
المبحث الثاني: موقف الشريعة الإسلامية من العلم والمعرفة.
المبحث الثالث: ضوابط الانفتاح الفكري.
المبحث الرابع: الانفتاح المحمود (الوعي والاستقلال الفكري).
المبحث الخامس: الانفتاح المذْموم (التبَعيَّة والانهزام).
ثم ختمت البحث بخاتمةٍ تضمنتْ أهم النتائج والتوصيات التي توصلتُ إليها من خلال بحث هذا الموضوع الذي زلتْ فيه أقدام قديمًا وحديثًا، أعاذنا الله تعالى من الزلل والانحراف عن الحق.
وإنني أسأل الله تعالى بمنِّه وكرَمِه
التوفيق والهداية للحق، والالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة قولاً وعملاً
واعتقادًا؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله
وصحْبِه.
المبحث الأول
حقيقة مصطلح (الانفتاح)
مصطلح (الانفتاح)
ليس مُصطلحًا شرعيًّا، فلم تردْ هذه المادة في القرآن ولا في السُّنَّة،
ولَم يستعمله العلماء الراسخون في العلم، بل هو مصطلح عرفي تتداوله الكتب
العصرية، والنشرات الصحفيَّة دون تحديد دقيقٍ لمعناه، فقد يطلقه البعضُ
ويريد به الاطِّلاع وسعة الإدراك، وعدم قصر الفكر على مجال محدَّد، وقد
يطلقه آخرون ويريدون به مفهومًا اصطلاحيًّا خاصًّا، وبهذا يكونُ الانفتاح
من المصطلحات المجمَلة التي تحتاج إلى الاستفصال عند دراستها، ولكن إضافة
الانفتاح إلى العقل والفكر لَم يُعرَف في اللسان العربي وتركيباته، بينما
نجده موْجودًا في النسَق اللغوي الغربي، وهذا ما سنبينه في هذا المبحث.
وإضافة الانفتاح إلى الفِكْر في القاموس
اللساني الغربي يدلُّ على تأثُّره بالأوضاع الفكرية والثقافية التي سادت
المجتمعَ الغربي، وصراع الكنيسة مع العلم، ودورها السلبي في التعامل مع
المجتمع، وهو بهذا المعنى يتضمَّن معانٍ غير صحيحة، وله إيحاءات ودلالات
سيئة، ويتبَيَّن ذلك من خلال ما يلي:
1 - جُذُور المصطلح:
جذور هذا المصطلح تعود إلى الفِكْر الغربي، فأصلُ مادة (فتح) في اللغة الإنجليزية هي (Open)، وهي تأتي لأكثر من عشرين معنى، بحسب تصريفاتها المتعدِّدة، ومن المعاني الداخلة في مجال البحث ما يلي:
منفتح:
راغب في الاستماع لكلِّ ما يعرض عليه، وفي تفهمه بروح سمحة - بنور العقل،
ويجعله منفتحًا للمعرفة - يصبح العقل متنورًا أو منفتحًا - يُعَبِّر عن
أفكاره ومشاعره.
ومن المعاني الاصطلاحيَّة للمادة (Open door)
- أي: الباب المفتوح - وهي: "سياسة قوامها حرية التجارة، وإلغاء التعريفات
الجمركية، والسماح لمختلف الدول بالمتاجرة مع بلدٍ ما، على قدم المساواة".
(Opening) معناه (تفتح)، و(Minded - Open)؛ أي: منفتح العقل، أو ذو عقل متفتح، وتأتي بمعنى: "منفتح للحجج والأفكار الجديدة"[2].
ومن خلال ما تقدم نلاحظ أن هذا المصطلح مأخوذ من بيئة معينة، لها ظروفها العقديَّة، وصراعاتها الفكرية.
ويبدو أن هذا المصطلح جاء بسبب الصراع بين الكنيسة والعلم، عندما
ظهرت الأفكار العلمية الجديدة، ورفضها رجالُ الدِّين، ولذا فاعتبر الفكر
الكنسي منغلقًا، والفكر اللا ديني منفتحًا لاعتماده الكلي على العقل.
2 - غُمُوض المصطلح:
يُلاحَظ في هذا المصطلح الغُمُوض
والضبابيَّة، فالانفتاح - في الاستعمال التداولي العام - يُطلق على أنواع
متعددة مما يصدق عليه هذا الاسم مع كونها مختلفة في الموضوع.
وهذا الغموض أدى إلى استعمال هذا المصطلح من اتجاهات متعددة لا تتفق فكريًّا فيما بينها في كثيرٍ من القضايا.
فنجد من يستعمل الانفتاح الفكري ليصل إلى
الإلحاد، ويصف الدين بأنه انغلاق وتحجير على العقل، كما نجد من ينقد
الانفتاح بالصُّورة السابقة، ويطلقه على الاستفادة من كل الثقافات بما لا
يناقض الإسلام، ثم يختلف أصحاب هذا الاتجاه في تحديد ما يناقض الإسلام وما
لا يناقضه، وفي حدود الاستفادة وضوابطها.
ولهذا لا بُدَّ منْ تحديد نوع الانفتاح
الفكري المعين بذكر خصائصه ومكوناته، ثم الحكم عليها بالصواب أو الخطأ
بميزان الكتاب والسنة، وهذا الغُمُوض يدل على أن استعمال هذا المصطلح دون
ضبط خطأ منهجي؛ لأنه لا يكفي مجرد اسمه في تحديد المراد منه.
ولا بأس أن أشبّه هذا المصطلح بمصطلحات علم الكلام والتصوُّف،
التي قد يراد بها حق، وقد يراد بها باطل، وقد حذَّر علماء أهل السُّنَّة
من قبولها مطلقًا؛ لاشتمالها على بعض الباطل، كما حذروا من إنكارها وردها
جملة؛ لأنها قد يراد بها معنى صحيحًا، فيكون ردًّا لشيء من الحق، ومثل هذا
النوع من الكلام المحتمل لا يصح استعماله؛ لأن فيه لبسًا للحق بالباطل،
وعلماء أهلِ السُّنَّة والجماعة لَم يُنكروا المصطلحات لأنَّها مصطلحات
جديدة - كما يظن البعض - بل لكونها تشتمل على معانٍ باطلة مناقضة للقرآن
والسنة.
3 - الإيحاءات السلبية للمصطلح:
هذا المصطلح يحمل إيحاءً انهزاميًّا سلبيًّا في تصور الشريعة الإسلامية؛ فالانفتاح: مصدر الفعل الخماسي المزيد (انفتح)، وكل فعل جاء على وزن (انفعل)، فمصدره على وزن (انفعال)، وزيادة همزة الوصل والنون في أوله ترد لمعنى واحد هو المطاوعة، "انفتح انفتاحًا، وانكسر انكسارًا، وانطلق انطلاقًا"[3].
ودلالة كلمة (الانفتاح) توحي بوُجُود انغلاق قبله، ولهذا فمعناها "إزالة الانغلاق"، فهو ضدُّه[4].
فإذا استعمل هذا المصطلح فإنه يقتضي وجود
انغلاق، ثم حصل الانفتاح فمثلاً: من كان على منهج التقليد الأعمى، ثم صار
إلى الدليل؛ فإنه يستعمل معه هذا المصطلح، أما من كان معتبرًا للدليل فلا
يليق استعمال هذا المصطلح معه؛ لأنه ليس بمنغلق حتى نطالبه بالانفتاح، ومن
يحرِّم ما أحلَّ الله تعالى من الطيبات كرهبانية الصوفية، يطالب بالانفتاح
بمعنى الخروج من انغلاق الرهبانية إلى سعة السنة التي تبيح الطيبات بإباحة
الله تعالى.
أما من يستعمل هذا المصطلح لمطالبة عموم
المسلمين به، أو اعتبار الإسلاميين الذين يطالبون بالإسلام في الحكم
والاقتصاد وكل شؤون الحياة منغلقين؛ لأنهم لم يتشربوا الفكر الغربي، فهو
سوء ظن بالشريعة الإسلامية واتهام لها بالانغلاق، وهو كذلك انهزام أمام
الفكر الغربي، واعتباره انفتاحًا من الانغلاق، والحقيقة أنه خرج من انغلاق
إلى انغلاق آخر.
ومن هنا تظهر الإيحاءات السلبية في استعمال هذا المصطلح فيما يتعلق بدين الإسلام وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضوان عليهم - وعلماء المسلمين.
المبحث الثاني
موقف الشريعة الإسلاميَّة من العلْم والمعرفة
كل مَن ينظر في القرآن والسنة يعلم يقينًا
حثَّ الشريعة على العلم والمعرفة، والثناء على أهلها، والأمر بالنظر
والتدبُّر، والثناء على العقل والعُقَلاء، والأمر بعمارة الأرض وبنائها على
منهج الله تعالى، وهذه الخصيصة للشريعة الإسلامية حاصلة لها بسبب كونها (شريعة ربانيَّة)،
ليس للإنسان أثرٌ فيها، فهي منَ العليم الخبير لإصلاح الإنسان في كل جوانب
حياته، فالإنسان بعقْلِه وعواطفه من خلْق الله تعالى، والأرض وسُننها
وقوانينها وما فيها من الخزائن من خلْقِه تعالى، والإسلام وعقائده وشرائعه
منَ الله تعالى.
فمصْدرُ الجميع واحد، وهو الله تعالى؛ يقول تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54].
ولهذا جاءتْ متناسقة ومتوافقة؛ يقول تعالى: ﴿ أَلَا يعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].
ويظهر موقفُ الشريعة من العلم والمعرفة من خلال ما يلي:
1 - الحث على العلم والتعلُّم:
فقد رغَّب الإسلامُ في العلْم والتعلُّم، وأثْنى على أهله ومدحهم؛ يقول تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾[المجادلة: 11]، ويقول تعالى: ﴿ هَلْ يسْتَوِي الَّذِينَ يعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((طلَبُ العلم فريضة على كل مسلم))[5]، ويقول أيضًا: ((مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّلَ الله له به طريقًا إلى الجنة))[6].
والعلم الممدوح نوعان:
1 - العلم الشرعي: إذا كان بإخلاصٍ، وغايته العمل.
2 - العلم الدنيوي: إذا أُريد به عمارة الأرض وإقامة العبودية لله تعالى.
ولكن الممدوح في الشرع بالأصالة هو العلم الشرعي، والعلم الدنيوي مدحه لغيره لا لذاته، ولهذا ذم الله تعالى من تعلَّم علم الدنيا، ونسي علم الآخرة؛ فقال تعالى: ﴿ يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7].
فليس العلم بصورة عامة ممدوحًا حتى تتحقق فيه الشروط التالية:
1 - الإخلاص فيه، وابتغاء وجه الله تعالى.
2 - ألا يكونَ العلمُ في ذاته محرَّمًا؛ كعلم السحر، أو علمًا فاسدًا؛ كعلم الفلسفة، والكلام ونحوها.
3 - العلم بالعلْم الشَّرْعي.
4 - أن يقصد بالعلم الدنيوي كونه وسيلة لعبودية الله تعالى.
5 - ألا يكون وسيلة إلى محظور؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
وبهذا يَتَبَيَّن أنَّ العلاقة بين العلم
والدين علاقة توافُق وانسجام، فالدِّين في ذاته يتضمَّن العلم ويأمر به،
ويجعله منطلقًا لبناء الحياة وفْق منهج الله تعالى، ولكن يُستثنى من ذلك ما
يلي:
1 - العلْم المشتمل على معلومات وتصوُّرات غير الصحيح.
2 - العلم المحرَّم، وهو ما يكون فيه من المفسدة ما تفوق المصلحة، وقد تكون مصلحة وهميَّة.
3 - الإرادة السيئة من العلْم في غاياته وأهدافه.
أما ما سوى ذلك فإن الشريعة تحثُّ عليه وتمدحه، وتطالب به، وتذم تاركه،
ويعتبر تاركُه مذمومًا في الدِّين، ولهذا اتَّفق السلفُ الصالح على ذمِّ
دراويش الصوفية الذين أعرضوا عن علم الدنيا والدين، والتفريط في علْم
الدِّين أو الدنيا يكون بحسب نوع العلم المفرَّط فيه، فمَن فرط في تعلُّم
العلم الشرعي الواجب؛ كمعرفة الله، وأصول الإيمان، وأركان الإسلام
والواجبات، فهذا مذموم، وكذلك تفريط الأمة في علم الدنيا الواجب؛ مثل:
صناعة السلاح للجهاد في سبيل الله، فهذا مذموم.
وعلى العموم فالعلم الصحيح ممدوح، سواء
كان واجبًا أو مستحبًّا، وهو ممدوح عقلاً وفطرةً وشرعًا، حتى لو كان
مباحًا، فإنه يكون مستحبًّا بالنِّيَّة الصالحة فيه.
2 - الأمر بالنظَر والتدبُّر والاعتبار:
لقد أثنى الله تعالى على العقل، وأمر
بالنظر والتدبر والاعتبار لما فيه من تحرُّر الفكر من الأوهام والخرافات
والأساطير؛ يقول تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾ [العنكبوت: 20]، ويقول - جلَّ ذِكْرُه -: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101].
وقد مدح الله تعالى العقل وإعماله في
التفكُّر والتدبر، ومدح مرادفاته؛ كالألباب، والأحلام، والتفكُّر، والتذكر،
والاعتبار، والفقه، والعلم، ونحوها، وقد حرر الإسلام العقل من الأوهام
والخرافات، ونهى عن كل ما يقدح فيه؛ مثل: الخمر، والتقليد الأعمى، والهوى،
والجهل، والتعصُّب لغير الحق.
ولهذا لا يوجد في الإسلام سلطة كهنوتية بأي شكل من الأشكال،
بل هو مبنيّ على التوحيد الخالص المحرِّر للعباد من عبودية العباد إلى
عبادة الله وحده، فليس هناك واسطة بين العباد وبين ربهم، إلا الرسل على
سبيل البلاغ، لا على سبيل العبادة، وهذا لا يعني أن العقل والنظر مطلق له
العنان، بحيث يدخل في كل أمر، حتى لو كان لا يحسنه، بل له ضوابط تضبط
مسيرته؛ منها:
1 - أن العقل يدرك الأشياء بوجْه جملي دون الإحاطة التامة والمعرفة التفصيليَّة.
2 -
أن منزلة العقل من النَّقل بمنزلة الخادم من سيِّده، وهو بمنزلة البصر
والنقل بمنزلة النور، فإذا فقد النقل عجز العقل، كعجز العين عند فقْد
النور.
3 - أن حقائق الأمور الغيبية لا يدركها العقل إلا من جهة إثباتها ومعرفة ما تدلُّ عليه الألفاظ المعبرة عنها من ألفاظ الشرْع فقط.
3 - بيان أهمية عمارة الأرض:
لقد خلَق الله تعالى الإنسان في الأرض ليقوم بالعبودية له فيها، ويعمرها وفْق ما شرعه الله تعالى وأمر به، يقول تعالى: ﴿ وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].
لقد خلَق الله تعالى الإنسان وهو متحرك
حركة دائمة، إما في الخير، وإما في الشر، وأمره تعالى أن تكونَ حركتُه في
الخير، وهو تحقيق ما أمَر الله به، وترك ما نهى عنه، وهذا أعظم ما تعمر به
الأرض، "إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم
والإفساد، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر، وقدرة
على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد
والجماعة إلى مدارج الحيوان"[7].
وعمارة الأرض تكون بما يلي:
1 - عمارتها بإقامة دين الله تعالى فيها، وتطبيق شرعه، وتنفيذ أمره وإرادته في حياة الناس.
2 - إقامة العدل، ورفع الظلم، وإظهار التوحيد والعقائد الربانيَّة الحقَّة التي لم يخالطْها خرافة ولا غبش فكْري.
3 -
بناء الحياة وأنماطها وجميع جوانبها في العقائد والأحكام والأخلاق، وفي
المال والحكم، وفي الرجال والنساء، وفي العلم والفكر، وفي كل شيء على هدْي
الله ووحْيِه.
ولهذا لو نظرنا نظرةً فاحصة في خسارة
الدنيا، عندما استولى الكفار على كثير من البلاد، لعرفنا الحاجة الماسة إلى
عمارتها وفْق منهج الله تعالى، فإنَّ ظهور الكفر والفُجُور، ومحاربة الله
تعالى مؤذن بفساد العالم وخرابه؛ يقول تعالى: ﴿ ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِي النَّاسِ
لِيذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
ويقول تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا
﴾ [الأنبياء: 22]، وينتج عن تفوُّق الكفار في عمارة الأرض، إعلاء أهواء
العباد في قضايا الفكر والسلوك، وإخفاء كلمة الله تعالى، وحينئذٍ يشقَى
الناس بالحيرة والتِّيه والاضطراب والأمراض والتحلُّل الأخلاقي، وتفَكُّك
عرى المجتمع، وانقسامه إلى طبقات متصارعة، واضمحلال روح الإخاء الاجتماعي،
وبروز الأنانية، وسيْطَرة الروح الفرديَّة، إلى غير ذلك مما يطالعه من
يراقب حال العالَم اليوم الذي سيطر عليه الغربيون، وامتلكوا زمام التوجيه
فيه.
وينتج أيضًا عن ذلك هلاكُ الحرْث والنسل؛ بسبب غياب العدل والرحمة، ولعل
الحروب العالمية شاهدة على ما عانتْه الدنيا؛ بسبب سيطرة الكفَّار عليها،
ولهذا تظهر أهمية عمارة الأرض من قبل أهل الإسلام، وإقامة الدِّين فيها،
وبنائها بناءً ماديًّا يخدم الإنسانيَّة، كما يدلُّ على ذلك الحديث
المشهور: ((إن قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها))[8].
ومن خلال ما تقدَّم يظهر لنا حثُّ الشريعة
على العلم الصحيح الديني والدنيوي، وبيانها لأهمية استعمال العقل في مجاله
الصحيح، وحثها على النظر والتفكر وعمارة الأرض، وهذا يدل على أن التزام
الشريعة نفسها والعمل بها يدعو للعلم والمعرفة والإبداع، وبناءً على ذلك
فليس هناك مجال للقول بضرورة (الانفتاح)؛
لأنه إذا أريد بالانفتاح الاطلاع والعلم والمعرفة والإبداع والاختراع،
فهذا ما تأمر به الشريعة وتحث عليه عندما يكون صحيحًا نافعًا، وعلامة صحته
أن يكون صحيحًا في ذاته، وألا يعارض قطعيًّا من قطعيَّات الشريعة، ومعارضته
للقطعي فيها دليل على عدم صحته، وعلامة نفْعه أن يكون له حقيقة وفائدة
واقعية في حياة الإنسان، أما إذا كان أمر لا نفع فيه، فإنه ضياع للعمر
وللوقت، والإنسان سوف يُسأل عن عمره فيمَ أفناه؟ واشتغال الإنسان فيما لا
يعنيه علامة على إعراض الله تعالى عنه.
وفيما يتعلَّق بموقف الشريعة الإسلاميَّة من العلم والمعرفة، هناك عدة مسائل لا بُدَّ من الوقوف عندها:
المسألة الأولى: الموقف الشرعي من عُلُوم غير المسلمين ومخلفات حضارتهم:
علوم غير المسلمين نوعان:
النوع الأول: علوم دينية، سواءً كانت تتحدث عن أديانهم، أو عن دين الإسلام:
والموقف الشرعي من هذا النوع فيه تفصيل كالتالي:
أ - العلوم الدينية التي ينقلونها عن أهل ملتِهم، فالموقف الشرعي منها يختلف بحسب نوع التعامل معها:
1 -
فإنْ كان النقلُ منها لمعرفة دين أصحابها دون اعتقاد مضمونه، فهذا لا بأس
به، إذا كان النقل عن مأمونٍ خبير فيما يتحدث فيه، وقد أمَرَ النبيُّ - صلى
الله عليه وسلم - زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن يتعلم التوراة فتعلمها
في خمسة عشر يومًا[9]،
ولا يزال العلماء ينقلون عن أهلِ الأديان مِنْ واقع مُصنفاتهم لِمَعْرفة
حقيقة دينهم لبيان ما فيه من الباطل والتناقُض، وهذا منهج علْمي صحيح أن
تنقل عن صاحب الشأن لا عن من نقل عنه، وهو من العدل الذي أمرنا به في قوله
تعالى:﴿ وَلَا يجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾
[المائدة: 8]، ولكن لا ينبغي الاشتغال بهذا لمن لَم ينضج في فَهم دين
الإسلام وذلك سدًّا للذريعة، وسيأتي الإشارة لهذا في ضوابط الانفتاح.
2 - وإن
كان النقل عنها للاستدلال بها والاعتماد عليها أو ترجمتها للانتفاع بها،
فهذا لا يجوز؛ لأنَّ في دين الإسلام غنية وكفاية في الدلائل والمسائل وفي
العقائد والأعمال، وسيأتي الإشارةُ لهذا في الانفتاح الفِكْري المذْمُوم.
ب - العلوم
الدِّينية التي ينقلونها عن الإسلام، سواءً في العقيدة أو الفقه أو العلوم
المساعدة لها كاللغة والأُصُول والتاريخ ونحوها، وهذا مثل كُتُب
المستشرقين في العلوم الإسلامية، فالموقف الشرعي عدم الاعتماد عليها لِمَا
يلي:
1 -
أن فيما كتبه علماء الإسلام غنية وكفاية في فَهم قضايا الإسلام ولُغته
وتاريخه، وهم أعلم به من الدُّخلاء الذين يكتبون عنه وهم خارجه.
2 - أن مِن أصول الرواية عدم قبول رواية ونقل الفاسق المسلم، كما في قوله تعالى: ﴿ يا
أَيهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَينُوا
أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]؛ فكيف برواية الكافر؟!
3 - أنه
ثبت من واقع كُتُب المستشرقين أن لهم أغراضًا خبيثة، وأهدافًا سيئة،
يريدون نشرها من خلال كتبهم، ويلوون أعناق النصوص ويبترونها ويُفَسِّرونها
تفسيرًا غريبًا على التصوُّر الإسلامي، ويُحَرِّفون الكلم عن مواضعه، فلا
شك أن من كانت هذا حاله لا ينقل عنه، فكيف وروايته مجروحة، وعندنا غنية
وكفاية؟!
النوع الثاني: عُلُوم دنيويَّة بحْتة؛ مثل: الصناعات والاختراعات العمَليَّة:
فهذا لا بأس مِنْ أخْذه وقَبُوله، ويكون
ذلك بعد إخْضاعِه لقوانين النقْد العِلْمي، وظهور صحته وصدقه، وهو إرثٌ
إنساني يمكن لأي أمة أن تُطَوِّره وتزيد فيه، وهو علْمٌ تراكمي شارَكَ فيه
عناصر من أديان متعدِّدة، لكن ينبغي التنبُّه لِما يلي:
أ -
التفريق بين الحقيقة العلمية الضرورية، وبين النظرية الظنية، والتفريق بين
العلوم المادية والعلوم الإنسانية؛ لأن للأخيرة ارتباطًا بالتوجُّه
والدِّين والأخلاق.
ب -
تصْفية بعض المخترعات من المخزون الثقافي الذي تتضمنه، فكلُّ تقنية لها
ضلال ثقافي لا بُدَّ من تصْفيته منها قبل نقلها، وتكييفها لتناسب الأمة
المسلمة ذات الرسالة الربانية.
ج - عدم الوقوف عند الأخذ والتلقي، وتجاوز ذلك إلى التفكير والإبداع والتطوير.
د -
كل الأمور المادية تدخل في باب الإباحة والجواز، سواءً كانت من الصناعات
المادية، أو غيرها؛ مثل: الفنون الإدارية والعسكرية، مع أهمية تصفية ذلك
مما يعلق به من المضامين الفكريَّة.
هذا ما يتعلَّق بعُلُوم غير المسلمين، أما الآثار والمخلفات الحضارية للأمم البائدة، فهي متنوعة، ويتنوع الحكمُ عليها بحسب نوعها[10]:
1 -
ما فيه فائدة علميَّة أو ماديَّة؛ مثل: الوثائق والنقوش وقطع النقود
والجسور والآبار والعيون والسدود والقناطر والطرق ونحوه، فهذه يستفاد منها،
وقيمتها بقدر الخدمة التي تؤديها للناس، وليس لها فائدة أكثر من ذلك، فلا
يجوز الاهتمام بها باعتبارها أثرًا لا يقدم خدمة عمليَّة، ولا يجوز
تعْظيمُها أو تقديسُها.
2 -
ما في وجوده منافاة للعقيدة الصحيحة؛ مثل: التماثيل والصور والأصنام وبيوت
العبادة لغير الله، والمشاهد المبنيَّة على القبور والمزارات ونحوها، فهذه
يجب تحطيمُها وإزالتها؛ لأنَّه ذريعة إلى الشِّرْك.
3 -
ما لا نفْع فيه ولا ضرر منه لذاته؛ مثل: المباني الخربة، وبقايا الأسوار
والحصون، والبنايات الكبيرة؛ كالأهرامات، وإيوان كسرى، وحدائق بابل،
ونحوها، فهذا يهمل كما أهمله الصحابة، ولا يعنى به؛ لأنه إرث لأمة جاهلية،
فلا يهتم به، فالاهتمام به نوع تعظيم له ولِمَنْ خلَّفه.
وقد أرشدَنا القرآنُ للمنهج الصحيح في دراسة الآثار، وعرفنا القيمة الحقيقة لها، وهو أخذ العبرة والعظة من مصارع الذين هلكوا وظلموا أنفسهم؛ يقول تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [النمل: 69]، ويقول جلَّ ذكْرُه: ﴿ وَكَمْ
أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ
لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ
الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 58].
المسألة الثانية: مدى الحاجة إلى (الانفتاح) على الفكر الآخر:
"إنَّ الإسلام تصوُّر مستَقلٌّ للوجود
والحياة، تصور كامل ذو خصائص متميزة، ومِنْ ثَمَّ ينبثق منه منهجٌ ذاتي
مستقل للحياة كلها، بكل مقوماتها وارتباطاتها، ويقوم عليه نظام ذو خصائص
معينة، هذا التصوُّر يُخالف مخالفة أساسية سائر التصوُّرات الجاهلية قديمًا
وحديثًا"[11].
وليس له حاجة في الانفتاح على أي فكرٍ
آخر؛ لأنَّ هذا الفكر الآخر إنساني، والإسلام منهج رباني كامل، وإذا كان لا
يستوي الخالق مع المخلوق، فكذلك لا تستوي شريعة الخالق مع أوهام المخلوق،
وكلمة (الفكر الآخر) كلمة فضفاضة، يُراد بها أنواعًا متعدِّدة من الأفكار والأهواء، لكنها جميعًا تجتمع في خصيصة واحدة، وهي أن مصدرها (بشري) أرضي.
فإذا كان المقصود بالفكر: نتاج المعرفة الإنسانية فيما فيه منفعة دنيوية، فهذا أمر مشترك بين سائر البشر، يستفيد
فيه بعضُهم من بعض دون نكير، وإذا أريد بالفكر ما يكون موافقًا لمعنى
الدين؛ مثل: التفسير الفكري للكون والإنسان والحياة والغيب ونحو ذلك، ففي
الإسلام غنية كافية وصادقة، وهذا ما نريد بمنع الانفتاح عليه؛ لما فيه من
الضرر والشك في الدين الحق.
إذا عرفنا ذلك، وعرفنا منزلة العلم والنظر
وعمارة الأرض في هذا الدين، وأدركنا إدراكًا جازمًا بالفرق بين الخالق
والمخلوق، ندرك حينها أنه ليس هناك أي حاجة للانفتاح على الفكر الآخر -
فيما يتعلق بالأمور الدِّينية والقيم الأخلاقية الثقافية - إلا في دعوته
إلى الحق، وترْك الضلال بالأدلة البرهانية المقنَّعة.
فكل خصائص الكمال والتمام موجودة في
الإسلام؛ لأنه منهج رباني ومصدره إلهي، "فهو وحده مناط الثقة في أنه
التصوُّر المُبَرَّأ من النقص، والمُبَرَّأ من الجهل، والمُبَرَّأ من
الهوى، وهذه الخصائص المصاحبة لكل عمل بشري، والتي نراها مجسمة في جميع
التصوُّرات التي صاغها البشر ابتداءً من وثنيات وفلسفات، أو التي تدخل فيها
البشر من العقائد السماوية السابقة، وهو كذلك مناط الضمان في أنه التصوُّر
الموافق للفطرة الإنسانية، الملبِّي لكل جوانبها، المحقق لكل حاجاتها، ومن
ثَمَّ فهو التصوُّر الذي يمكن أن ينبثقَ منه، ويقوم عليه، أقوم منهج
للحياة وأشمله"[12].
إن القولَ بحاجة الفكر الإسلامي - بمعنى
حقائق الإسلام العقَديَّة المتَّفق عليها - إلى أي فكر بشري آخر هو كالقول
بحاجة الله تعالى للإنسان، ولكنّ المنهزمين فكريًّا ونفسيًّا لَم
يتصوَّرُوا أولاً: طبيعة هذا الدين وخصائصه ومميزاته ومصدره، ثم لم يعرفوا -
ثانيًا - الخلل الكبير الذي وقَع فيه الفكر الإنساني المبتعد عن الله
تعالى في تصوُّره وقيمه وأدبياته، ونحن هنا لا نقصد أفكار آحاد المسلمين
التي هي قابلة للأخْذ والرد، ولكن نريد الفكر الإسلامي المجمع عليه
والمستند بقطيعة ووضوح إلى الوحْي الرَّبَّاني.
المسألة الثالثة: امتلاك الحقيقة المطلقة:
لا شك أن الإسلام يملك الحقيقة المطلقة في
معرفة الله تعالى والنبوات والتوحيد والغيبيات والتشريعات؛ لأنَّها هي
الحق، وغيرها المخالف لها هو الباطل: ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32].
هذا فيما يتعلَّق بالأمور الواضحة في
النُّصوص الشرعية، أما فيما يتعلق بالأمور الخفية التي يختلف فيها
المجتهدون من المسلمين في القضايا الشرعية، فهذا لا يمكن فيه القول بامتلاك
الحقيقة المطلقة لأحد من المجتهدين دون الآخر، مع وجود الحقيقة في ذاتها
ثابتة.
وللمجتهد أن يُخَطِّئ مخالفه، ويعتقد بصواب قوله، أما الادِّعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة في أمر خفي، فهذا غير صحيح؛ لأنه
يوحي بعدم إعذار المخالف له المنضبط في نظره واجتهاده، وهذا لا يعني أن
الحق في قضايا الاجتهاد نسبي لا يوجد فيه حقيقة في نفس الأمر، بل الحقيقة
ثابتة، والحق يمكن الوصول إليه في قضايا الاجتهاد، ولهذا كان المصيب من
المجتهدين واحدًا، والآخر مخطئًا، وهذا هو الصواب، خلافًا لمن زعم أن كل
مجتهد مصيب، ففي الحديث: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإن أخطأ
فله أجر))[13].
وشعار "امتلاك الحقيقة المطلقة" تهمة يرفعها أصحاب الملل المنحرفة والمذاهب الزائفة في وجوه أهل السنة؛ ليقولوا لهم: إنكم قد حكمتهم على المخالف قبل الحوار، فما هي فائدته؟
والحقيقة أنه ليس هناك حوار ديني بين أهل
الإسلام وأهل الأديان غير حوار الدعوة، وإقامة الأدلة العقلية المقنعة على
صحة الحق، وأما الحوارات في القضايا الدنيوية المشتركة؛ مثل: محاربة الفقر،
وحماية البيئة، وغيرها، فالأصل فيهما الجواز؛ لأن التعاون مع الكفار على
أمور نافعة ومباحة جائز، كما يظهر ذلك في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -
ولكن (الحوار بين الأديان) في صورته
المعاصرة غير مقتصر على ذلك، فهو مشتمل على أبعاد سياسية تحقق مقاصد الدول
الكبرى، ويتخذ الحوار مطيَّة لذلك، يتضمن - أحيانًا - المطالبة بإيقاف
الدعوة بين الطرفين، أو الاعتراف بالأديان المحرَّفة؛ ونحو ذلك من الشروط
الإضافية على الحوار في القضايا المشتركة.
وربط هذا الحوار بالدين ودعوة العلماء
والقساوسة وغيرهم لا مبرر له؛ لأنهم ليسوا أهل اختصاص في الأمور الدنيوية
التخصُّصيَّة، وارتباطها بالجانب السياسي ودعوة أهل الاختصاص هو الأجدر،
ولهذا وقف أهلُ العلم موقف الارتياب من هذه الحوارات، ولا يعني هذا الحكم
على كلِّ حوار بين أهل الأديان بحكم واحد، فالأصل في الحوار الدنيوي
الجواز، أما إذا كان هناك مفاهيم إضافية على الحوار الدنيوي، فلكل مفهوم
حكمه.
المبحث الثالث
ضوابط الانفتاح الفِكْرِي
سبق أن بَيَّنْتُ أن مصطلح (الانفتاح)
فيه غُمُوض وضبابية، ويتضمن معانٍ سلبية في فهم طبيعة الدين ومقوماته،
ولكن سأستعمل هذا المصطلح بمعناه العام الذي يدل على معنى الاطِّلاع،
والاستفادة مما عند الآخرين، وترك الانكفاء على الذات والانغلاق عليها،
وهذا المعنى العام يُمكن تطبيقه بشكل صحيح إذا روعي فيه الضوابط الآتية،
ويمكن أن يطبق بشكل خاطئ عند عدم مراعاة الضوابط.
ومن حيث المبدأ، فإن الانفتاح على العالم فكريًّا وثقافيًّا له آثاره المفيدة في العلوم الدنيوية، إذا كان ممن التزم بدينه وعقيدته، ولا يخاف عليه الضلال.
أما المطالبة بشكل عام بالانفتاح على
الآخر، دون تحديد لنوعية القضايا التي يتم فيها الانفتاح، ونوعية المطالب
به، فليس كل أحد يقدر على أخذ المفيد وترْك الزغل؛ فهذا لا شك في خطئه
وبُعده عن الصواب، ومنافاته للمحافظة على الخصوصية التي تميز بها المسلمون
عن غيرهم، ولذا فلا بُدَّ مِنْ وُجُود ضوابط أثناء الانفتاح على الثقافات
والمعارف بشكل عام، ولعلنا نوجزها في ما يلي:
أولاً: أن يكونَ الانفتاحُ بعد العلْم الشَّرْعي:
فإن العلم بالشريعة الإسلامية ضرورة
لمعرفة دين الإسلام وتطبيقها والعمل بها، وهو أيضًا ضرورة للانفتاح الفكري
على الثقافات والآداب غير الإسلامية، فالانفتاح المفيد يكون بعد تصور عقيدة
الإسلام وأحكامه تصورًا صحيحًا والثقة بها، ورد كل ما يخالفها من عقيدة أو
عمل، أما الانفتاح قبل العلم فإنه مزلق خطير يجعل صاحبه يتخبط في الأفكار
والمناهج والفلسفات، ويقع فيما يخالف ويناقض أصول دينه، ومن أقل آثاره الشك
في صحة دينه، والشعور بالنقص نحوه.
وهذا هو أحد أسباب نَهْي النبي - صلى الله
عليه وسلم - عمرَ بن الخطاب، والإنكار عليه، عندما رأى في يده صحائف من
التوراة؛ فقال له: ((أَمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها
بيضاء نقية، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن
يتبعني))[14]
- ومعنى مُتَهَوِّكون أي: مُتَحَيِّرون - فيكون هذا النهي عن قراءة كُتُب
الأديان وعموم المعارف، دون علم بالشريعة، أو قراءتها للاهتداء بها، ويدل
على ذلك رواية البيهقي وفيها: ((لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن
يهدوكم وقد ضلوا))[15]، ويوضح ذلك قول عمر - رضي الله عنه - كما في رواية البيهقي: ((إنا نسمع أحاديث من اليهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟)).
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "فلم كان هذا
الاشتداد في الإنكار؟ ما ذلك إلاّ لأنه كان في مرحلة التأسيس والتكوين
للعقيدة والملَّة، ولا ينبغي أن يشوش عليها في هذه المرحلة الخطيرة حتى
ترسخ أسسها، ويقوم بنيانها، ويخرج زرعها شطأه، وليستغلظ ويستوي على سوقه،
ثم بعد ذلك تنفتح على ما شاءت من الديانات والثقافات والحضارات"[16].
ولا ريب أنّ ما ذكره الدكتور أمر معتبر، لكن ينبغي أن يضافَ إلى ذلك العلم الكافي المانع من الانسياق وراء الشبهات،
كما أن مما يضاف إلى أسباب نَهْيه عن الاطلاع على التوراة قصد الاهتداء
والانتفاع بما فيها، فالإسلام كان مغنيًّا في باب الهداية إلى الصراط
المستقيم، أما الاطلاع على التوراة للرد على الباطل ونحو ذلك مما لا يقصد
به الاهتداء بها، فهذا أمرٌ مباحٌ في الأصل، وقد يكون مستحبًّا أو واجبًا
بحسب الحاجة لذلك، ودفع الشبهة.
ثانيًا: أن يكونَ الانفتاح مع الالتزام بالإسلام:
الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة
الإنسانية: الروحية والمادية، الفردية والجماعية، العلمية والعملية، وهو
دين ثابت في قواعده وعقائده، وقد صور الأستاذ سيد قطب كيفية ثبات الإسلام
مع تطوُّر الحياة وأنماطها المختلفة؛ فقال: "إنه تصور رباني، جاء من عند
الله بكل خصائصه، وبكلِّ مقوماته، وتلقَّاه الإنسان كاملاً بخصائصه هذه
ومقوماته؛ لا ليزيد عليه من عنده شيئًا، ولا لينقص كذلك منه شيئًا، ولكن
ليتكيف هو به وليطبق مقتضياته في حياته.
وهو - مِن ثَمَّ - تصور غير متطور في
ذاته، إنما تتطور البشرية في إطاره وترتقي في إدراكه، وفي الاستجابة له،
وتظل تتطور وتترقى، وتنمو وتتقدم، وهذا الإطار يسعها دائمًا، وهذا التصوُّر
يقودها دائمًا، لأنه المصدر الذي أنشأ هذا التصور هو نفسه المصدر الذي خلق
الإنسان، هو الخالق المدبر، الذي يعلم طبيعة هذا الإنسان، وحاجات حياته
المتطورة على مدى الزمان، وهو الذي جعل في هذا التصوُّر من الخصائص ما يلبي
هذه الحاجات المتطورة في داخل هذا الإطار"[17].
فالانفتاح والتطوُّر والتجديد والعقل
والإبداع ونحو ذلك، لا يمكن أن تصادم هذا الدين إذا كانتْ صحيحة وحقًّا،
أما إذا كانتْ باطلاً فمن الطبيعي أن يعارضَ الباطل الحق، والخطأ الصواب،
وكل ما سبقت الإشارة إليه يعود إلى (العقل)،
وقد قرَّر العلماءُ استحالة وُرُود العقل الصريح مُناقضًا للنقْل الصحيح،
فإما أن تكونَ دلالة العقل غير صحيحة فهي غير مقبولة أصلاً، وإما أن يكون
النصُّ غير صحيح أو غير صريح في دلالته، وحينئذٍ فالدِّين موافق للعقل؛
لأنَّ الجميع من عند الله تعالى[18].
لقد فطن شيخُ الإسلام ابن تيميَّة لأساس المشكلة عند دُعاة الانفتاح والتطوير والتجديد، وهو (تعظيم العقل)،
وسوء الظن بالنقل، ولهذا ردوه أو أوَّلُوه وحرفوه، فبَيَّن التوافُق
والانسجام للعقل مع النَّقل، وبيَّن عظمة النقل واتِّساقه مع حاجات الإنسان
النفسية والعقلية والاجتماعية، وهذا ما لَم يتصوره هؤلاء، ولم يكلفوا
أنفسهم عناء البحث فيه وإدراكه.
وما زالت المشكلة قائمةً إلى اليوم، وإن
اختلفت العبارات فكان الأقدمون يسمونها "تعارض العقل والنقل"، أما
المعاصرون فقد يغيرون كلمة (العقل والنقل) إلى: (العلم والدين)، أو (الدين والمدنية)، أو (الدين والتطوُّر)، أ