الباب الثالث
في ذكر العناصر التي منها أُوجد الإنسان
ذكر الله تعالى العناصر التي خلق منها آدم عليه السلام، ونبَّه على أنه جعله إنساناً في سبع درجات. وأشار إلى ذلك في مواضع مختلفة حسب ما اقتضته الحكمة، فقال في موضعٍ خَلَقَه من تراب إشارةً إلى المبدأ الأول. وفي آخر من طين إشارة إلى الجمع بين التراب والماء. وفي آخر من حمإٍ مسنون إشارة إلى الطين المتغير بالهواء أدنى تغير. وفي آخر من طين لازب إشارة إلى الطين المستقر على حالة من الاعتدال يصلح لقبول الصورة. وفي آخر من صلصال من حمإٍ مسنون إشارة إلى يبسه وسماع صلصلة منه، وفي آخر من صلصال كالفخار، وهو الذي قد أُصلح بأَثر من النار فصار كالزخرف، وبهذه القوة النارية حصل في الإنسان أثر من الشيطنة وعلى هذا المعنى دلَّ بقوله: )خلق الإنسان من صلصال كالفخَّار وخلق الجانَّ من مارج من نار(. فنبه على أن الإنسان فيه من القوة الشيطانية بقدر ما في الفخار من أثر النار وأن الشيطان ذاته من المارج الذي لا استقرار له. ثم نبه الله على تكميل الإنسان بنفخ الروح فيه فقال: )إني خالق بشراً من طين فإذا سوَّيتُه ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين(. فهذه سبع درجات نبه عليها كما ترى. ثم دلَّ على تكميل نفسه بالعلوم والآداب بقوله تعالى: )وعلَّم آدم الأسماءَ كلَّها( ثم ذكر خلق بني آدم وعناصرهم التي أوجدها حالةً بعد حالة، فنبه على أنه جعلهم أناساً في سبع درجات حسب ما جعل آدم عليه السلام فقال تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأْناه خَلْقاً آخرَ أشار به إلى ما جعل من له من قوة العقل والفكر والنطق. فإن قيل فلم قال فكسونا العظام لحماً ولم يقل فخلقنا منه لحماً كما قال في الأول. قيل إشارة منه تعالى إلى لطيفة من صنعه وهو أن النطفة انتهت إلى صورة العظم، ثم أنشأ الله اللحم إنشاءاً آخر لا من النطفة، وأجراها مجرى الكسوة التي قد يخلعها الإنسان ويجدّدُها، ولذلك إذا قطع من الحيوان لحمٌ عاد ولم يكن كالعظم الذي لا يعود بعد قطعه فإن قيل كيف حكُم على جميع الناس أنه خلقهم من سلالة من طين والمخلوق منها هو آدم دون أولاده. قيل أن ذلك على وجهين: أحدهما أنه لما خلق آدم من دون أولاده. قيل أن ذلك على وجهين: أجدهما أنه لما خلق آدم من سلالة من طين فأولاده الذين منه هو أيضاً منها. والثاني أن الإنسان يتكوَّن من النطفة ويتربى بدم الطمث، وهما يتكوَّنان من الغذاءِ والغذاءُ يتكوَّن من الحيوان، والحيوان من النبات، والنبات من سلالة من طين، فإذاً الإنسان على الحقيقة من سلالة من طين، وعلى هذا نبَّه الله تعالى بقوله: )إِنا صببنا الماءَ صبّاً ثم شققنا الأرض شقّاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً(. وقوله: )خلقكم من تراب ثم من نطفة(. فجعله الله تعالى من تراب على هذا الوجه. وقال: )ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشرٌ تنتشرون(.في ذكر العناصر التي منها أُوجد الإنسان
وفي آخر: )خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماءٍ مهين(. وعني بالإنسان ههنا آدم ولذلك قال: ثم جعل نسله. فاقتصر ههنا على النطفة دون المبدأ الأول الذي هو التراب. وإنما ذكر هذه المبادئ متفرقةً لحكمةٍ اقتضت تخصيص ذكر كل واحد من ذلك في موضعه مما يليق بهذا الكتاب.