الباب الحادي عشر
في الغرض الذي لأجله أوجد الإنسان ومنازلهم
في الغرض الذي لأجله أوجد الإنسان ومنازلهم
من كتاب : تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين
الراغب الأصفهاني
الراغب الأصفهاني
إن الغرض من خلق الإنسان ووجوده في الحياة أن يعبد الله ويخلفه وينصره ويعمر أرضه كما نبه الله تعالى بآيات في مواضع مختلفة حسب ما اقتضت الحكمة ذكره وذلك قوله تعالى: )وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلا ليعبدون( وقوله: )إني جاعل في الأرض خليفة( وقوله: )ليستخلفنهم في الأرض( وقوله: )ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب( وقوله: )يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله( وقوله: واستعمركم فيها. وكل ذلك إشارة إلى توليتهم أموراً لم يستصلح لها الإنسان، كما نبه الله تعالى عليه بقوله للملائكة: )إني أعلم ما لا تعلمون(. وذلك أن الله تعالى ما كان موجداً لما هو موجده وفاعلاً لما هو فاعله إلا على أربعة أوجه:
الأول أفعال تولاَّها بذاته، وهي الإبداع ومعنى الإبداع هو إيجاد الشيء من العدم وإليه الإشارة بقوله تعالى: )بديع السموات والأرض(.
والثاني أفعالٌ استعبد فيها ملائكته وسماه قوم التكوينات، وذلك إخراج الشيء من النقص إلأى الكمال إخراجاً غير محسوس فاعله، وبذلك وصفهم الله تعالى بقوله: )فالمدبرات أمراً( وهم ثلاثة أضرب: ضرب إليهم القيام بالأجرام السماوية، وقد قيل هم إسرافيل وميكائيل ورضوان والمحتفُّون بالعرش الموصوفون بقوله تعالى: )وترى الملائكة حافّين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين( وقوله تعالى: )الذين يحملون العرش ومن حوله.. الآية(. وضرب إليهم تدبير الأركان الهوائية كالملائكة الباعثة للرياح والمزجية للسحاب الموصوفين بقوله تعالى: )والمرسلات عُرْفاً( وقوله عز وجل: )والنازعات غرقاً( وضرب إليهم تدبير الأرض كالموصوفين بقوله تعالى: )له معقّبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله(. وكمن وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الجنين أنه يبعث ملكاً فينفخ فيه الروح وكالحفيظ والرقيب والعتيد وكمن وصفهم الله بقوله: )ألن يكفيكم أن يمدَّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين(.
والثالث أفعالٌ سخر الله تعالى لها الأركان وموجودات العالم كالإحراق والإذابة للنار والترطيب للماء، وفي الجملة ما قد سخر تعالى له شيئاً فشيئاً من لجمادات والناميات وغير ذلك، ونبه عليه بقوله تعالى: )وسخر لكم الشمس والقمر(. وغير ذلك من الآيات المذكورة.
والرابع الصناعات والمهن المحسوسة التي استعبد الإنسان فيها واستخلفه، وهي الأشياءُ التي يحتاج صناعة أكثرها إلى ستة أشياء، إلى عنصر تعمل منه، وإلى مكان وإلى زمان وإلى حركة وإلى أعضاء وإلى آلة، وهذا الضرب خص الإنسان به ولم يستصلح له الملائكة، وجعل لكم من الملَك مقاماً معلوماً كما نبه عليه تعالى بقوله: )وما منا إلاّ له مقام معلوم(. وكذلك جعل لكل نوع من الناس مقاماً معلوماً كما نبه عليه بقوله: )قل كلٌّ يعمل على شاكلته( وقوله: )انظر كيف فضَّلنا بعضهم على بعض(. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلٌّ مُيَسَّرٌّ لما خُلق له". ولكن عامة الملائكة لم يعصوا الله فيما أمرهم كما وصفهم تعالى بقوله: )لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون( والناس فيما أُمروا به وكلفوه بين مطيع وعاصٍ فهم على القول المجمل ثلاثة أضرب:
ضرب اخلُّوا بأمره، وانسلخوا عما خُلقوا لأجله، واتبعوا خطوات الشيطان وعبدوا الطاغوت. وضرب وقفوا بغاية جهدهم حيث ما وقفوا كالموصوفين بقوله تعالى: )وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً( وضرب ترددوا بين الطريقين كما قال الله تعالى: )خلطوا عملاً صالحاً وأ?آخر سيئاً( فمن رجح حسناته على سيئاته فموعود بالإحسان إليه.
وعلى الأنواع الثلاثة دل الله تعالى بقوله: )وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحابُ الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك المقرَّبون( وعلى هذا أقسم الله تعالى في آخر السورة فقال: )فأما إن كان من المقرَّبين فرَوْحٌ وريحانٌ وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذّبِين الضالين فنزُلٌ من حميم وتصلية جحيم(. وكثيرٌ من الناس يعصون الله، ولا يأتمرون له. فقيضهم الله تعالى بغير إرادة منهم للسعي في نصرته من حيث لا يشعرون كفرعون في أخذ موسى وتربيته. وكجمعه السحرة ليكون سبباً في إيمانهم. وأخوة يوسف في فعلهم ما أفضى به إلى ملك مصر وتمكنه مما تمكن منه، ويكون مثلهم في ذلك كما قيل:
قصدت مساتي فاجتلبتَ مسرَّتي وقد يُحسِنُ الإنسان من حيث لا يدري
وقال آخر:
فعل الجميلَ ولم يكن من قصده فقبلته وقرنـتـه بـذنـوبـه
ولرب َّ فعل جاءَني من فاعل فحمدته وذممتُ من يأتي بـه
فيكون فعلُه محموداً وفاعله مذموماً كما قيل:
رُبَّ امرٍ أتاك لا تحمد ال فُعَّال وتحمد الأفـعـالا
وقد أوجد الله تعالى كل ما ما في العالم للإنسان كما نبه عليه بقوله تعالى: )جعل لكم الأرض فراشاً والسماءَ بناءً وأنزل من السماءِ ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم(. وقال تعالى: )وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض... الآية(. وقال عزَّ وجل: )وسخر لكم ما في الأرض(. وقوله تعالى: )هو الذي أنزل من السماءِ ماءً لكم منه شراب ومنه شجر فيه تُسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار.. الآية(. وأباح جميعها لهم كما نبه الله تعالى عليه بقوله: )قلْ مَنْ حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق(. فللإنسان أن ينتفع بكل ما في العالم على وجهه، أما في غذائه أو في دوائه أو في ملابسه ومشموماته ومركوباته، وزينته والالتذاذ بصورته، أو رؤيته والاعتبار به، وبإستفادة علم منه والافتداءِ بفعله فيما يستحسن منه، والاجتناب عنه فيما يستقبح منه، فقد نبه الله تعالى على منافع جميع الموجودات، واطلع الخلائق عليها أما بألسنة الأنبياء عليهم السلام، أو بإلهام الأولياء رضي الله عنهم، وكما أنَّ حق الإنسان أن يعرف منافع الحيوانات في ذواتها فينتفع بها في المطاعم والملابس والأدوية، فحقه أن يعرف أخلاقها وأفعالها فينتفع بها في اجتناء ما يستحسن واجتناب ما يستقبح منها. فقد أحسن من قال: "تعلمتُ من كل شيءٍ أحسن ما فيه حتى من الكلب حمايته على أهله. ومن الغراب بكورة في حاجته" وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في وصف النحل فقال: )وأَوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات.. الآية( فنبه على أن الإنسان حقه أن يقتدي بالنحل في مراعاته لوحي الله عزَّ وجل، فكما أنها لا تتخطى وحي الله في تحري المصالح طبعاً، كذلك يجب على الإنسان أن لا يتخطى وحي الله اختياراً.
الأول أفعال تولاَّها بذاته، وهي الإبداع ومعنى الإبداع هو إيجاد الشيء من العدم وإليه الإشارة بقوله تعالى: )بديع السموات والأرض(.
والثاني أفعالٌ استعبد فيها ملائكته وسماه قوم التكوينات، وذلك إخراج الشيء من النقص إلأى الكمال إخراجاً غير محسوس فاعله، وبذلك وصفهم الله تعالى بقوله: )فالمدبرات أمراً( وهم ثلاثة أضرب: ضرب إليهم القيام بالأجرام السماوية، وقد قيل هم إسرافيل وميكائيل ورضوان والمحتفُّون بالعرش الموصوفون بقوله تعالى: )وترى الملائكة حافّين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين( وقوله تعالى: )الذين يحملون العرش ومن حوله.. الآية(. وضرب إليهم تدبير الأركان الهوائية كالملائكة الباعثة للرياح والمزجية للسحاب الموصوفين بقوله تعالى: )والمرسلات عُرْفاً( وقوله عز وجل: )والنازعات غرقاً( وضرب إليهم تدبير الأرض كالموصوفين بقوله تعالى: )له معقّبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله(. وكمن وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الجنين أنه يبعث ملكاً فينفخ فيه الروح وكالحفيظ والرقيب والعتيد وكمن وصفهم الله بقوله: )ألن يكفيكم أن يمدَّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين(.
والثالث أفعالٌ سخر الله تعالى لها الأركان وموجودات العالم كالإحراق والإذابة للنار والترطيب للماء، وفي الجملة ما قد سخر تعالى له شيئاً فشيئاً من لجمادات والناميات وغير ذلك، ونبه عليه بقوله تعالى: )وسخر لكم الشمس والقمر(. وغير ذلك من الآيات المذكورة.
والرابع الصناعات والمهن المحسوسة التي استعبد الإنسان فيها واستخلفه، وهي الأشياءُ التي يحتاج صناعة أكثرها إلى ستة أشياء، إلى عنصر تعمل منه، وإلى مكان وإلى زمان وإلى حركة وإلى أعضاء وإلى آلة، وهذا الضرب خص الإنسان به ولم يستصلح له الملائكة، وجعل لكم من الملَك مقاماً معلوماً كما نبه عليه تعالى بقوله: )وما منا إلاّ له مقام معلوم(. وكذلك جعل لكل نوع من الناس مقاماً معلوماً كما نبه عليه بقوله: )قل كلٌّ يعمل على شاكلته( وقوله: )انظر كيف فضَّلنا بعضهم على بعض(. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلٌّ مُيَسَّرٌّ لما خُلق له". ولكن عامة الملائكة لم يعصوا الله فيما أمرهم كما وصفهم تعالى بقوله: )لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون( والناس فيما أُمروا به وكلفوه بين مطيع وعاصٍ فهم على القول المجمل ثلاثة أضرب:
ضرب اخلُّوا بأمره، وانسلخوا عما خُلقوا لأجله، واتبعوا خطوات الشيطان وعبدوا الطاغوت. وضرب وقفوا بغاية جهدهم حيث ما وقفوا كالموصوفين بقوله تعالى: )وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً( وضرب ترددوا بين الطريقين كما قال الله تعالى: )خلطوا عملاً صالحاً وأ?آخر سيئاً( فمن رجح حسناته على سيئاته فموعود بالإحسان إليه.
وعلى الأنواع الثلاثة دل الله تعالى بقوله: )وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحابُ الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك المقرَّبون( وعلى هذا أقسم الله تعالى في آخر السورة فقال: )فأما إن كان من المقرَّبين فرَوْحٌ وريحانٌ وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذّبِين الضالين فنزُلٌ من حميم وتصلية جحيم(. وكثيرٌ من الناس يعصون الله، ولا يأتمرون له. فقيضهم الله تعالى بغير إرادة منهم للسعي في نصرته من حيث لا يشعرون كفرعون في أخذ موسى وتربيته. وكجمعه السحرة ليكون سبباً في إيمانهم. وأخوة يوسف في فعلهم ما أفضى به إلى ملك مصر وتمكنه مما تمكن منه، ويكون مثلهم في ذلك كما قيل:
قصدت مساتي فاجتلبتَ مسرَّتي وقد يُحسِنُ الإنسان من حيث لا يدري
وقال آخر:
فعل الجميلَ ولم يكن من قصده فقبلته وقرنـتـه بـذنـوبـه
ولرب َّ فعل جاءَني من فاعل فحمدته وذممتُ من يأتي بـه
فيكون فعلُه محموداً وفاعله مذموماً كما قيل:
رُبَّ امرٍ أتاك لا تحمد ال فُعَّال وتحمد الأفـعـالا
وقد أوجد الله تعالى كل ما ما في العالم للإنسان كما نبه عليه بقوله تعالى: )جعل لكم الأرض فراشاً والسماءَ بناءً وأنزل من السماءِ ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم(. وقال تعالى: )وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض... الآية(. وقال عزَّ وجل: )وسخر لكم ما في الأرض(. وقوله تعالى: )هو الذي أنزل من السماءِ ماءً لكم منه شراب ومنه شجر فيه تُسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار.. الآية(. وأباح جميعها لهم كما نبه الله تعالى عليه بقوله: )قلْ مَنْ حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق(. فللإنسان أن ينتفع بكل ما في العالم على وجهه، أما في غذائه أو في دوائه أو في ملابسه ومشموماته ومركوباته، وزينته والالتذاذ بصورته، أو رؤيته والاعتبار به، وبإستفادة علم منه والافتداءِ بفعله فيما يستحسن منه، والاجتناب عنه فيما يستقبح منه، فقد نبه الله تعالى على منافع جميع الموجودات، واطلع الخلائق عليها أما بألسنة الأنبياء عليهم السلام، أو بإلهام الأولياء رضي الله عنهم، وكما أنَّ حق الإنسان أن يعرف منافع الحيوانات في ذواتها فينتفع بها في المطاعم والملابس والأدوية، فحقه أن يعرف أخلاقها وأفعالها فينتفع بها في اجتناء ما يستحسن واجتناب ما يستقبح منها. فقد أحسن من قال: "تعلمتُ من كل شيءٍ أحسن ما فيه حتى من الكلب حمايته على أهله. ومن الغراب بكورة في حاجته" وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في وصف النحل فقال: )وأَوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات.. الآية( فنبه على أن الإنسان حقه أن يقتدي بالنحل في مراعاته لوحي الله عزَّ وجل، فكما أنها لا تتخطى وحي الله في تحري المصالح طبعاً، كذلك يجب على الإنسان أن لا يتخطى وحي الله اختياراً.