الباب الرابع
في ذكر قوى الأشياء التي جمعت في الإنسان
الإنسان قد جمع فيه قوى العالم، وأوجد بعد وجود الأشياء التي جمعت فيه، وعلى هذا نبه الله تعالى بقوله: )الذي أحسن كل شيءٍ خَلْقَه وبدأَ خَلق الإنسان من طين(. وقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي تقدم ذكره. وقد جمع الله تعالى في الإنسان قوى بسائط العالم ومركباته وروحانياته وجسمانياته ومبدعاته ومكوّناته. فالإنسان من حيث أنه بوساطة العالم حصل ومن أركانه وقواه أوجد هو العالم. ومن حيث أنه صغُر شكله وجمع فيه قواه كالمختصر من العالم فإن المختصر من الكتاب هو الذي قُلّل لفظه، وأستوفي معناه. والإنسان هكذا هو إذا اعتبر بالعالم. ومن حيث أنه جعل من صفوة العالم ولبابه وخلاصته وثمرته، فهو كالزُبْد من المخيض والدهن من السمسم، فما من شيءٍ إلا والإنسان يشبهه من وجه، فإنه كالأركان من حيث ما فيه من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وكالمعادن من حيث ما هو جسم، وكالنبات من حيث ما يتغذى ويتربى، وكالبهيمة من حيث ما يحس ويتوهم ويتخيل ويلتذ ويتألم، وكالسبع من حيث ما يحرض ويغضب، وكالشيطان من حيث ما يغوي ويضل، وكالملائكة من حيث ما يعرف الله تعالى ويعبده ويخلفه، وكاللوح المحفوظ من حيث قد جعله الله مجمع الحكم التي كتبها فيه على الاختصار- فقد ذكر بعض الحكماء في بدن الإنسان أربعة آلاف حكمة، وفي نفسه قريباً من ذلك. وكالقلم من حيث ما يثبت بكلامه صور الأشياء في قلوب الناس كما أن القلم يثبت الحكم في اللوح المحفوظ. ولكون الإنسان من قوى مختلفة قال الله تعالى: )اناّ خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج( أي مختلطة من قوى أشياء مختلفة. ولكون العالم والإنسان متشابهين إذا اعتبر قيل الإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير ولذلك قال الله تعالى: )ما خَلْقكم ولا بعثكم الاّ كنفس واحدة(. فأشار بالنفس الواحدة إلى ذات العالم. ولما كان كل مركب من أشياء مختلفة يحصل باجتماعهنَّ معنى ليس بموجود فيهن على انفرادهن كالمركبّات من الأدوية والأطعمة، كذلك في نفس الإنسان حصل معنى ليس فس شيءٍ من موجودات العالم، وذلك المعنى هو ما يختص به من خصائصه التي بها تميَّز عن غيره من هيئات له، كانتصاب القامة وعرض الظُّفر، وانفعالات له كالضحك والحياء، وأفعال كتصور المعقولات وتعلم الصناعات واكتساب الأخلاق.في ذكر قوى الأشياء التي جمعت في الإنسان