الباب الثاني
في ذكر أجناس الموجودات وموضع الإنسان منها
إعلم أن الله تعالى هو الواجب الوجود الذي لا سبب لوجوده بل هو سبب كل موجود. وكلُّ موجود فمنه وبه تعالى وجوده. والموجودات ضربان: المعقولات العلوية والمحسوسات السفلية، وإيجاده تعالى للمعقولات العلوية قبل إيجاده للمحسوسات السفلية، كما رُوي أنه أول ما خلق الله تعالى القلم ثم اللوح، وقال: اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة. وروي أنه أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل. فأقبل ثم قال له: أدبر. فأدبر فقال: بعزتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً أكرمَ عليَّ منك بك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب وليس المراد بالعقل ههنا العقول البشرية بل الإشارة به إلى جوهر شريف عنه تنبعث العقول البشرية. وقال قوم: "العقل ههنا عبارة عن القلم المذكور في الخبر الآخر" والله أعلم.
ثم أوجد الله تعالى الروحانيات الذين لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، وإيجاد هذه الأشياء على سبيل الإبداع. والإبداع هو إيجاد الشيء لا عن شيءٍ موجود من قبل. ثم خلق الأركان الأربعة والجمادات والناميات والحيوانات، وختم بالصورة الإنسانية كما دل عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "خلق الله تعالى يوم الأحد كذا ويوم الاثنين كذا إلى أن قال خلق الإنسان يوم الجمعة آخر نهار". والخلق في أكثر الأحوال يقال في إيجاد الشيءِ من الشيءِ قبله كخلق الإنسان من التراب، ويقتضي تركيباً ولذلك قال اله تعالى: )ومن كل شيءٍ خَلَقنا زوجين لعلكم تذكَّرون(. وإلى الأشياء المركَّبة أشار بقوله تعالى: )أو لم يروا إلى الأَرضِ كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم(. واعلم أن كل شيءٍ من المبدعات فتامٌّ لا نقص فيه، ولو كان فيه نقص لدل ذلك على نقصان مبدعه وصانعه، فأَما المخلوق الذي هو مركب من شيء فقد يحتمل أن يكون فيه نقص ويكون نقصه عارضاً من جهة ما تركب منه لا من جهة مركِبه وفاعله، فلهذا صارت المبدعات من الأشياء العلوية معرّاة عن اعتراض الفساد فيها حالاً فحالاً، بل تبقى على حالتها إلى أن يشاء الله تعالى أن يرفع العالم.
والإنسان إنسانان: أحدهما آدم الذي هو أبو البشر، ويجري هو من سائر الناس مجرى البَذر الذي منه أنشئ غيره، والباري تعالى قد تولى بنفسه إيجاده وتربيته وتعليمه كما نبَّه عليه بقوله تعالى: )ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديَّ(. وقوله تعالى: )وَعلَّم آدم الأسماءَ كلَّها( والثاني بنوه وموجدهم أيضاً الباري تعالى، ولكن جعل انشاءَهم وتربيتهم وتعليمهم بوسائط جسمانية وروحانية، فالجسماني كالأبوين والروحاني كالملائكة المدّبرات والمقسّمات الذين يتولون انشاءَه وتربيته، كما روي في الخبر: الولد يكون أربعين يوماً نطفةً، ثم يصير علقة، ثم يصير مضغة، ثم يبعث الله ملكاً فينفخ فيه الروح، إلى غير ذلك من الأخبار. ولكون الأبوين سبباً في وجود الولد عظَّم الله تعالى حقهما وألزم بعد شكره شكرهما فقال: )اشكر لي ولوالديك(. ويسمى الولد ابناً وهو مشتق من بنيتُ البنية تنبيهاً على أنه جار للأب مجرى البناءِ للباني.
في ذكر أجناس الموجودات وموضع الإنسان منها
إعلم أن الله تعالى هو الواجب الوجود الذي لا سبب لوجوده بل هو سبب كل موجود. وكلُّ موجود فمنه وبه تعالى وجوده. والموجودات ضربان: المعقولات العلوية والمحسوسات السفلية، وإيجاده تعالى للمعقولات العلوية قبل إيجاده للمحسوسات السفلية، كما رُوي أنه أول ما خلق الله تعالى القلم ثم اللوح، وقال: اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة. وروي أنه أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل. فأقبل ثم قال له: أدبر. فأدبر فقال: بعزتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً أكرمَ عليَّ منك بك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب وليس المراد بالعقل ههنا العقول البشرية بل الإشارة به إلى جوهر شريف عنه تنبعث العقول البشرية. وقال قوم: "العقل ههنا عبارة عن القلم المذكور في الخبر الآخر" والله أعلم.
ثم أوجد الله تعالى الروحانيات الذين لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، وإيجاد هذه الأشياء على سبيل الإبداع. والإبداع هو إيجاد الشيء لا عن شيءٍ موجود من قبل. ثم خلق الأركان الأربعة والجمادات والناميات والحيوانات، وختم بالصورة الإنسانية كما دل عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "خلق الله تعالى يوم الأحد كذا ويوم الاثنين كذا إلى أن قال خلق الإنسان يوم الجمعة آخر نهار". والخلق في أكثر الأحوال يقال في إيجاد الشيءِ من الشيءِ قبله كخلق الإنسان من التراب، ويقتضي تركيباً ولذلك قال اله تعالى: )ومن كل شيءٍ خَلَقنا زوجين لعلكم تذكَّرون(. وإلى الأشياء المركَّبة أشار بقوله تعالى: )أو لم يروا إلى الأَرضِ كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم(. واعلم أن كل شيءٍ من المبدعات فتامٌّ لا نقص فيه، ولو كان فيه نقص لدل ذلك على نقصان مبدعه وصانعه، فأَما المخلوق الذي هو مركب من شيء فقد يحتمل أن يكون فيه نقص ويكون نقصه عارضاً من جهة ما تركب منه لا من جهة مركِبه وفاعله، فلهذا صارت المبدعات من الأشياء العلوية معرّاة عن اعتراض الفساد فيها حالاً فحالاً، بل تبقى على حالتها إلى أن يشاء الله تعالى أن يرفع العالم.
والإنسان إنسانان: أحدهما آدم الذي هو أبو البشر، ويجري هو من سائر الناس مجرى البَذر الذي منه أنشئ غيره، والباري تعالى قد تولى بنفسه إيجاده وتربيته وتعليمه كما نبَّه عليه بقوله تعالى: )ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديَّ(. وقوله تعالى: )وَعلَّم آدم الأسماءَ كلَّها( والثاني بنوه وموجدهم أيضاً الباري تعالى، ولكن جعل انشاءَهم وتربيتهم وتعليمهم بوسائط جسمانية وروحانية، فالجسماني كالأبوين والروحاني كالملائكة المدّبرات والمقسّمات الذين يتولون انشاءَه وتربيته، كما روي في الخبر: الولد يكون أربعين يوماً نطفةً، ثم يصير علقة، ثم يصير مضغة، ثم يبعث الله ملكاً فينفخ فيه الروح، إلى غير ذلك من الأخبار. ولكون الأبوين سبباً في وجود الولد عظَّم الله تعالى حقهما وألزم بعد شكره شكرهما فقال: )اشكر لي ولوالديك(. ويسمى الولد ابناً وهو مشتق من بنيتُ البنية تنبيهاً على أنه جار للأب مجرى البناءِ للباني.