كتاب الأحكام السلطانية للماوردي
الْبَابُ الثَّالِثَ عَشَرَ : فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ , فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى تَصْنِيفِهِمْ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ : أَغْنِيَاءُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا , وَأَوْسَاطُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا , وَفُقَرَاءُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا ; فَجَعَلَهَا مُقَدَّرَةَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَمَنَعَ مِنْ اجْتِهَادِ الْوُلَاةِ فِيهَا وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُقَدَّرُ أَقَلُّهَا وَلَا أَكْثَرُهَا وَهِيَ مَوْكُولَةٌ لِاجْتِهَادِ الْوُلَاةِ فِي الطَّرَفَيْنِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهَا مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ بِدِينَارٍ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ وَعِنْدَهُ غَيْرُ مُقَدَّرَةِ الْأَكْثَرِ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْوُلَاةِ وَيَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ أَوْ التَّفْضِيلِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ , فَإِذَا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ مَعَهَا عَلَى مُرَاضَاةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ صَارَتْ لَازِمَةً لِجَمِيعِهِمْ وَلِأَعْقَابِهِمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ , وَلَا يَجُوزُ لِوَالٍ بَعْدَهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ إلَى نُقْصَانٍ مِنْهُ أَوْ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ .
فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ ضُوعِفَتْ كَمَا ضَاعَفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَعَ تَنُوخِ وَبَهْرَاءَ وَبَنِي تَغْلِب بِالشَّامِ , وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ لِأَنَّهَا جِزْيَةٌ تُصْرَفُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ فَخَالَفَتْ الزَّكَاةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ , فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْجِزْيَةِ أُخِذَتَا مَعًا , وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَحْدَهَا كَانَتْ جِزْيَةً إذَا لَمْ تَنْقُصْ فِي السَّنَةِ عَنْ دِينَارٍ
وَإِذَا صُولِحُوا عَلَى ضِيَافَةِ مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قُدِّرَتْ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأُخِذُوا بِهَا لَا يُزَادُونَ عَلَيْهَا كَمَا صَالَحَ عُمَرُ نَصَارَى الشَّامِ عَلَى ضِيَافَةِ مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِمَّا يَأْكُلُونَ , وَلَا يُكَلِّفُهُمْ ذَبْحَ شَاةٍ وَلَا دَجَاجَةٍ وَتَبْيِيتِ دَوَابِّهِمْ مِنْ غَيْرِ شَعِيرٍ وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ دُونَ الْمُدُنِ , فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ الضِّيَافَةَ وَمُضَاعَفَةَ الصَّدَقَةِ فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِمْ فِي زَرْعٍ وَلَا ثَمَرَةٍ , وَلَا يَلْزَمُهُمْ إضَافَةُ سَائِلٍ وَلَا سَابِلٍ
وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ شَرْطَانِ : مُسْتَحَقٌّ وَمُسْتَحَبٌّ
أَمَّا الْمُسْتَحَقُّ فَسِتَّةُ شُرُوطٍ
أَحَدُهَا أَنْ لَا يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَعْنٍ فِيهِ وَلَا تَحْرِيفٍ لَهُ
وَالثَّانِي أَنْ لَا يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَكْذِيبٍ لَهُ وَلَا ازْدِرَاءٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَذْكُرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ بِذَمٍّ لَهُ وَلَا قَدْحٍ فِيهِ
وَالرَّابِعُ أَنْ لَا يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًا وَلَا بِاسْمِ نِكَاحٍ
وَالْخَامِسُ أَنْ لَا يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِمَالِهِ وَلَا دِينِهِ
وَالسَّادِسُ أَنْ لَا يُعِينُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَلَا يَوَدُّوا أَغْنِيَاءَهُمْ . فَهَذِهِ السِّتَّةُ حُقُوقٌ مُلْتَزَمَةٌ فَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ , وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ إشْعَارًا لَهُمْ وَتَأْكِيدًا لِتَغْلِيظِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ .
وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَسِتَّةُ أَشْيَاءَ :
أَحَدُهَا تَغْيِيرُ هَيْئَاتِهِمْ بِلُبْسِ الْغِيَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ .
وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَعْلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَبْنِيَةِ وَيَكُونُوا إنْ لَمْ يَنْقُصُوا مُسَاوِينَ لَهُمْ وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يُسْمِعُوهُمْ أَصْوَاتَ نَوَاقِيسِهِمْ وَلَا تِلَاوَةَ كُتُبِهِمْ وَلَا قَوْلِهِمْ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ
وَالرَّابِعُ أَنْ لَا يُجَاهِرُوهُمْ بِشُرْبِ خُمُورِهِمْ وَلَا بِإِظْهَارِ صُلْبَانِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ
وَالْخَامِسُ أَنْ يُخْفُوا دَفْنَ مَوْتَاهُمْ وَلَا يُجَاهِرُوا بِنَدْبٍ عَلَيْهِمْ وَلَا نِيَاحَةٍ
وَالسَّادِسُ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ عِنَاقًا وَهِجَانًا وَلَا يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ; وَهَذِهِ السِّتَّةُ الْمُسْتَحَبَّةُ لَا تَلْزَمُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ حَتَّى تُشْتَرَطَ فَتَصِيرَ بِالشَّرْطِ مُلْتَزَمَةً وَلَا يَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ , وَلَكِنْ يُؤْخَذْنَ بِهَا إجْبَارًا وَيُؤَدَّبُونَ عَلَيْهَا زَجْرًا , وَلَا يُؤَدَّبُونَ إنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَيُثْبِتُ الْإِمَامُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُمْ فِي دَوَاوِينَ الْأَمْصَارِ لِيُؤْخَذُوا بِهِ إذَا تَرَكُوهُ ; فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ صُلْحًا رُبَّمَا خَالَفَ مَا سِوَاهُ
, وَلَا تَجِبُ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِشُهُورٍ هِلَالِيَّةٍ , وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِيهَا أُخِذَ مِنْ تَرِكَتِهِ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنْهَا وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَانَ مَا لَزِمَ مِنْ جِزْيَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يُؤْخَذُ بِهَا , وَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِإِسْلَامِهِ وَمَوْتِهِ وَمَنْ بَلَغَ مِنْ صِغَارِهِمْ أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَجَانِينِهِمْ اُسْتُقْبِلَ بِهِ حَوْلٌ ثُمَّ أُخِذَ بِالْجِزْيَةِ , وَيُؤْخَذُ الْفَقِيرُ بِهَا إذَا أَيْسَرَ وَيُنْظَرُ بِهَا إذَا أَعْسَرَ , وَلَا تَسْقُطُ عَنْ شَيْخٍ وَلَا زَمِنٍ , وَقِيلَ تَسْقُطُ عَنْهُمَا وَعَنْ الْفَقِيرِ وَإِذَا تَشَاجَرُوا فِي دِينِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِي مُعْتَقَدِهِمْ لَمْ يُعَارَضُوا فِيهِ وَلَمْ يَكْشِفُوا عَنْهُ , وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي حَقٍّ وَتَرَافَعُوا فِيهِ إلَى حَاكِمِهِمْ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ , فَإِنْ تَرَافَعُوا فِيهِ إلَى حَاكِمِنَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا يُوجِبُهُ دِينُ الْإِسْلَامِ وَتُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ إذَا أَتَوْهَا .
وَمَنْ نَقَضَ مِنْهُمْ عَهْدَهُ بُلِّغَ مَأْمَنَهُ ثُمَّ كَانَ حَرْبِيًّا , وَلِأَهْلِ الْعَهْدِ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ الْأَمَانُ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَلَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا فِيهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ , وَلَا يُقِيمُونَ سَنَةً إلَّا بِجِزْيَةٍ , وَفِيمَا بَيْنَ الزَّمَنَيْنِ خِلَافٌ , وَيَلْزَمُ الْكَفُّ عَنْهُمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ , وَلَا يَلْزَمُ الدَّفْعُ عَنْهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
وَإِذَا أَمَّنَ بَالِغٌ عَاقِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَرْبِيًّا لَزِمَ أَمَانُهُ كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ , وَالْمَرْأَةُ فِي بَذْلِ الْأَمَانِ كَالرَّجُلِ وَالْعَبْدُ فِيهِ كَالْحُرِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ , وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الصَّبِيِّ وَلَا الْمَجْنُونِ , وَمَنْ أَمَّنَاهُ فَهُوَ حَرْبٌ إلَّا إنْ جَهِلَ حُكْمَ أَمَانِهِمْ فَيُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ وَيَكُونُ حَرْبِيًّا
وَإِذَا تَظَاهَرَ أَهْلُ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا حَرْبًا لِوَقْتِهِمْ فَيُقْتَلُ مُقَاتِلُهُمْ وَيُعْتَبَرُ حَالُ مَا عَدَا الْمُقَاتِلَةَ بِالرِّضَى وَالْإِنْكَارِ
وَإِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَيَنْقُضُ بِهِ عَهْدَهُمْ إلَّا أَنْ يَلْحَقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ , وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ جَبْرًا كَالدُّيُونِ
وَإِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَيَنْقُضُ بِهِ عَهْدَهُمْ إلَّا أَنْ يَلْحَقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ , وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ جَبْرًا كَالدُّيُونِ
وَإِذَا نَقَضَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَهْدَهُمْ لَمْ يُسْتَبَحْ بِذَلِكَ قَتْلُهُمْ وَلَا غُنْمُ أَمْوَالِهِمْ وَلَا سَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا وَوَجَبَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ آمِنِينَ حَتَّى يَلْحَقُوا مَأْمَنَهُمْ مِنْ أَدْنَى بِلَادِ الشِّرْكِ , فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا طَوْعًا أُخْرِجُوا كَرْهًا .
************************************
وَأَمَّا الْخَرَاجُ ; فَهُوَ مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا وَفِيهِ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ بَيِّنَةٌ خَالَفَتْ نَصَّ الْجِزْيَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } . وَفِي قَوْلِهِ { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا } وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَجْرًا . وَالثَّانِي نَفْعًا وَفِي قَوْلِهِ { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا فَرِزْقُ رَبِّكَ فِي الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَالثَّانِي فَأَجْرُ رَبِّكَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْهُ , وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا وَقَوْلُهُ فَأَجْرُ رَبِّكَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْهُ ; هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ أَيْضًا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ أَنَّ الْخَرْجَ مِنْ الرِّقَابِ وَالْخَرَاجَ مِنْ الْأَرْضِ , وَالْخَرَاجُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ اسْمٌ لِلْكِرَاءِ وَالْغَلَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } . وَأَرْضُ الْخَرَاجِ تَتَمَيَّزُ عَنْ أَرْضِ الْعُشْرِ فِي الْمِلْكِ وَالْحُكْمِ . وَالْأَرْضُونَ كُلُّهَا تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا مَا اسْتَأْنَفَ الْمُسْلِمُونَ إحْيَاءَهُ فَهُوَ أَرْضُ عُشْرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ ; وَالْكَلَامُ فِيهَا يُذْكَرُ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا أَسْلَمَ عَلَيْهِ أَرْبَابُهُ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ , فَتَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَرْضَ عُشْرٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا خَرَاجًا أَوْ عُشْرًا , فَإِنْ جَعَلَهَا خَرَاجًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُنْقَلَ إلَى الْعُشْرِ , وَإِنْ جَعَلَهَا عُشْرًا جَازَ أَنْ تُنْقَلَ إلَى الْخَرَاجِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا مُلِكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَنْوَةً وَقَهْرًا , فَيَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله غَنِيمَةً تُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَتَكُونُ أَرْضَ عُشْرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ , وَجَعَلَهَا مَالِكٌ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِخَرَاجٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكُونُ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَرْضِهِمْ فَهِيَ الْأَرْضُ الْمُخْتَصَّةُ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا خَلَا عَنْهَا أَهْلُهَا فَحَصَلَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ فَتَصِيرُ وَقْفًا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ وَيَكُونُ أُجْرَةً تُقَرُّ عَلَى الْأَبَدِ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ بِمُدَّةٍ لِمَا فِيهَا مِنْ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِإِسْلَامٍ وَلَا ذِمَّةٍ , وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ رِقَابِهَا اعْتِبَارًا لِحُكْمِ الْوُقُوفِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا أَقَامَ فِيهِ أَهْلُهُ وَصُولِحُوا عَلَى إقْرَارِهِ فِي أَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُضْرَبُ عَلَيْهِمْ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْزِلُوا عَنْ مِلْكِهَا لَنَا عِنْدَ صُلْحِنَا فَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَرْضُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَاَلَّذِي انْجَلَى عَنْهُ أَهْلُهُ , وَيَكُونُ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهِمْ أُجْرَةً لَا تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ رِقَابِهَا , وَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِهَا مَا أَقَامُوا عَلَى صُلْحِهِمْ وَلَا تُنْتَزَعُ مِنْ أَيْدِيهِمْ سَوَاءٌ أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ أَمْ أَسْلَمُوا كَمَا لَا تُنْتَزَعُ الْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ مُسْتَأْجِرِهَا , وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ بِهَذَا الْخَرَاجِ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ إنْ صَارُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ مُسْتَوْطِنِينَ , وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلُوا إلَى الذِّمَّةِ وَأَقَامُوا عَلَى حُكْمِ الْعَهْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرُّوا فِيهَا سَنَةً وَجَازَ إقْرَارُهُمْ فِيهَا دُونَهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْتَبِقُوهَا عَلَى أَمْلَاكِهِمْ وَلَا يَنْزِلُوا عَنْ رِقَابِهَا وَيُصَالِحُوا عَنْهَا بِخَرَاجٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا , فَهَذَا الْخَرَاجُ جِزْيَةٌ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَتَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ , وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ هَذِهِ الْأَرْضِ عَلَى مَنْ شَاءُوا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَإِنْ تَبَايَعُوهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ كَانَتْ عَلَى حُكْمِهَا فِي الْخَرَاجِ وَإِنْ بِيعَتْ عَلَى مُسْلِمٍ سَقَطَ عَنْهُ خَرَاجُهَا وَإِنْ بِيعَتْ عَلَى ذِمِّيٍّ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ خَرَاجُهَا لِبَقَاءِ كُفْرِهِ , وَاحْتَمَلَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ خَرَاجُهَا بِخُرُوجِهِ بِالذِّمَّةِ عَنْ عَقْدِهِ مَنْ صُولِحَ عَلَيْهَا , ثُمَّ يُنْظَرُ فِي هَذَا الْخَرَاجِ الْمَوْضُوعِ عَلَيْهَا , فَإِنْ وُضِعَ عَلَى مَسَائِحِ الْجُرْبَانِ بِأَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ جَرِيبٍ قَدْرٌ مِنْ وَرِقٍ أَوْ حَبٍّ , فَإِنْ سَقَطَ عَنْ بَعْضِهَا بِإِسْلَامِ أَهْلِهِ كَانَ مَا بَقِيَ عَلَى حُكْمِهِ وَلَا يُضَمُّ إلَيْهِ خَرَاجُ مَا سَقَطَ بِالْإِسْلَامِ . وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ الْمَوْضُوعُ عَلَيْهَا صُلْحًا عَلَى مَالٍ مُقَدَّرٍ لَمْ يَسْقُطْ عَلَى مِسَاحَةِ الْجُرْبَانِ , فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحُطُّ عَنْهُمْ مِنْ مَالِ الصُّلْحِ مَا سَقَطَ مِنْهُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكُونُ مَالُ الصُّلْحِ بَاقِيًا بِكَمَالِهِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْ هَذَا الْمُسْلِمِ مَا خَصَّهُ بِإِسْلَامِهِ
فَأَمَّا قَدْرُ الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ فَيُعْتَبَرُ بِمَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ , فَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ ضَرَبَ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهِ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ قَفِيزًا وَدِرْهَمًا وَجَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى مَا اسْتَوْفَقَهُ مِنْ رَأْيِ كِسْرَى بْنِ قُبَاءَ , فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَسَّحَ السَّوَادَ وَوَضَعَ الْخَرَاجَ وَحَدَّدَ الْحُدُودَ وَوَضَعَ الدَّوَاوِينَ وَرَاعَى مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ بِمَالِكٍ وَلَا إجْحَافٍ بِزَارِعٍ وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ جَرِيبٍ قَفِيزًا وَدِرْهَمًا وَكَانَ الْقَفِيزُ وَزْنُهُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ وَثَمَنُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ بِوَزْنِ الْمِثْقَالِ , وَلِانْتِشَارِ ذَلِكَ بِمَا ظَهَرَ فِي جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سَلْمَى ( مِنْ الطَّوِيلِ ) :
فَتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لَا تُغِلُّ لِأَهْلِهَا قُرًى بِالْعِرَاقِ مِنْ قَفِيزٍ وَدِرْهَمِ و
َضَرَبَ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى غَيْرَهَا غَيْرَ هَذَا الْقَدْرِ , فَاسْتَعْمَلَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِالْمِسَاحَةِ وَوَضْعِ مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ خَرَاجِهَا , فَمَسَحَ وَوَضَعَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ الْكَرْمِ وَالشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ عَشْرَ دَرَاهِمَ , وَمِنْ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ , وَمِنْ قَصَبِ السُّكَّرِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَمِنْ الرَّطْبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ , وَمِنْ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ , وَمِنْ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَأَمْضَاهُ وَعَمِلَ فِي نَوَاحِي الشَّامِ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَعُلِمَ أَنَّهُ رَاعَى فِي كُلِّ أَرْضٍ مَا تَحْتَمِلُهُ . وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاضِعُ الْخَرَاجِ بَعْدَهُ يُرَاعِي فِي كُلِّ أَرْضٍ مَا تَحْتَمِلُهُ , فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ يُؤَثِّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي زِيَادَةِ الْخَرَاجِ وَنُقْصَانِهِ : أَحَدُهَا مَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْضِ مِنْ جَوْدَةٍ يَزْكُو بِهَا زَرْعُهَا أَوْ رَدَاءَةٍ يَقِلُّ بِهَا رِيعُهَا وَالثَّانِي مَا يَخْتَصُّ بِالزَّرْعِ مِنْ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ , فَمِنْهَا مَا يَكْثُرُ ثَمَنُهُ , وَمِنْهَا مَا يَقِلُّ ثَمَنُهُ , فَيَكُونُ الْخَرَاجُ بِحَسَبِهِ وَالثَّالِثُ مَا يَخْتَصُّ بِالسَّقْيِ وَالشُّرْبِ ; لِأَنَّ مَا الْتَزَمَ الْمُؤْنَةَ فِي سَقْيِهِ بِالنَّوَاضِحِ وَالدَّوَالِي لَا يَحْتَمِلُ مِنْ الْخَرَاجِ مَا يَحْتَمِلُهُ سَقْيُ السُّيُوحِ وَالْأَمْطَارِ . وَشُرْبُ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا مَا سَقَاهُ الْآدَمِيُّونَ بِغَيْرِ آلَةٍ كَالسُّيُوحِ مِنْ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ يُسَاقُ إلَيْهَا فَيَسِيحُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُمْنَعُ مِنْهَا عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ وَهَذَا أَوْفَرُ الْمِيَاهِ مَنْفَعَةً وَأَقَلُّهَا كُلْفَةً . وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا سَقَاهُ الْآدَمِيُّونَ بِآلَةٍ مِنْ نَوَاضِحَ وَدَوَالِيبَ أَوْ دَوَالِيَ وَهَذَا أَكْثَرُ الْمِيَاهِ وَأَشَقُّهَا عَمَلًا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ بِمَطَرٍ أَوْ ثَلْجٍ أَوْ طَلٍّ وَيُسَمَّى الْعِذْيُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا سَقَتْهُ الْأَرْضُ بِنَدَوَاتِهَا وَمَا اسْتَكَنَّ مِنْ الْمَاءِ فِي قَرَارِهَا فَيَشْرَبُ زَرْعُهَا وَشَجَرُهَا بِعُرُوقِهِ وَيُسَمَّى الْبَعْلُ فَأَمَّا الْغِيلُ وَهُوَ مَا شَرِبَ بِالْقَنَاةِ فَإِنْ سَاحَ فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَسِحْ فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَأَمَّا الْكَظَائِمُ فَهُوَ مَا شَرِبَ مِنْ الْآبَارِ ; فَإِنْ نُضِحَ مِنْهَا بِالْغُرُوبِ فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي , وَإِنْ اُسْتُخْرِجَ مِنْ الْقَنَاةِ فَهُوَ غِيلٌ يُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا بُدَّ لِوَاضِعِ الْخَرَاجِ مِنْ اعْتِبَارِ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ , مِنْ اخْتِلَافِ الْأَرْضِينَ وَاخْتِلَافِ الزُّرُوعِ وَاخْتِلَافِ السَّقْيِ لِيَعْلَمَ قَدْرَ مَا تَحْمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ خَرَاجِهَا , فَيَقْصِدُ الْعَدْلَ فِيهَا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تُجْحِفُ بِأَهْلِ الْخَرَاجِ وَلَا نُقْصَانٍ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْفَيْءِ نَظَرًا لِلْفَرِيقَيْنِ ; وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اعْتَبَرَ شَرْطًا رَابِعًا وَهُوَ قُرْبُهَا مِنْ الْبُلْدَانِ وَالْأَسْوَاقِ وَبُعْدُهَا لِزِيَادَةِ أَثْمَانِهَا وَنُقْصَانِهَا , وَهَذَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَكُونُ خَرَاجُهُ وَرِقًا وَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَكُونُ خَرَاجُهُ حَبًّا وَتِلْكَ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ تُعْتَبَرُ فِي الْحَبِّ وَالْوَرِقِ ; وَإِذَا كَانَ الْخَرَاجُ مُعْتَبَرًا بِمَا وَصَفْنَا فَكَذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ قَدْرُهُ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ كُلِّ نَاحِيَةٍ مُخَالِفًا لِخَرَاجِ غَيْرِهَا , وَلَا يَسْتَقْصِي فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ غَايَةَ مَا يَحْتَمِلُهُ , وَلْيَجْعَلْ فِيهِ لِأَرْبَابِ الْأَرْضِ بَقِيَّةً يُجْبِرُونَ بِهَا النَّوَائِبَ وَالْحَوَائِجَ . حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي أَخْذِ الْفَضْلِ مِنْ أَمْوَالِ السَّوَادِ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَتَبَ إلَيْهِ : لَا تَكُنْ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَأْخُوذِ أَحْرَصَ مِنْكَ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَتْرُوكِ وَأَبْقِ لَهُمْ لُحُومًا يَعْقِدُونَ بِهَا شُحُومًا . فَإِذَا تَقَرَّرَ الْخَرَاجُ بِمَا احْتَمَلَتْهُ الْأَرْضُ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا رَاعَى فِيهَا أَصْلَحَ الْأُمُورِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الْأَرْضِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الزَّرْعِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَجْعَلَهَا مُقَاسَمَةً , فَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الْأَرْضِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالسَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ وَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الزَّرْعِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَإِنْ جَعَلَهُ مُقَاسَمَةً كَانَ مُعْتَبَرًا بِكَمَالِ الزَّرْعِ وَتَصْفِيَتِهِ , فَإِذَا اسْتَقَرَّ عَلَى أَخْذِهَا مُقَدَّرًا بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ صَارَ ذَلِكَ مُؤَبَّدًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ وَلَا يُنْقَصَ مِنْهُ مَا كَانَتْ الْأَرْضُونَ عَلَى أَحْوَالِهَا فِي سَقْيِهَا وَمَصَالِحِهَا . فَإِنْ تَغَيَّرَ سَقْيُهَا وَمَصَالِحُهَا إلَى الزِّيَادَةِ أَوْ النُّقْصَانِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِمْ , كَزِيَادَةٍ حَدَثَتْ بِشَقِّ أَنْهَارٍ أَوْ اسْتِنْبَاطِ مِيَاهٍ , أَوْ نُقْصَانٍ حَدَثَ لِتَقْصِيرٍ فِي عِمَارَتِهِ , أَوْ عُدُولٍ عَنْ حُقُوقٍ وَمَصْلَحَةٍ , فَيَكُونُ الْخَرَاجُ عَلَيْهِمْ بِحَالِهِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِزِيَادَةِ عِمَارَتِهِمْ فِيهِ , وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ لِنُقْصَانِهَا , وَيُؤْخَذُونَ بِالْعِمَارَةِ لِئَلَّا يَسْتَدِيمَ خَرَابُهُ فَيَتَعَطَّلَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِمْ , فَيَكُونُ النُّقْصَانُ لِشَقٍّ انْشَقَّ أَوْ نَهَرٍ تَعَطَّلَ ; فَإِنْ كَانَ سَدُّهُ وَعَمَلُهُ مُمْكِنًا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ , وَالْخَرَاجُ سَاقِطٌ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلْ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ فَخَرَاجُ تِلْكَ الْأَرْضِ سَاقِطٌ عَنْ أَهْلِهَا إذَا عُدِمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا , فَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ الزِّرَاعَةِ كَمَصَائِدَ أَوْ مَرَاعٍ جَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ وَضْعَ خَرَاجٍ عَلَيْهَا بِحَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ الصَّيْدُ وَالْمَرْعَى وَلَيْسَتْ كَالْأَرْضِ الْمَوَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى مَصَائِدِهَا وَمَرَاعِيهَا خَرَاجٌ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ مَمْلُوكَةٌ وَأَرْضُ الْمَوَاتِ مُبَاحَةٌ . أَمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِي أَحْدَثَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَكَأَنْهَارٍ حَفَرَهَا السَّيْلُ وَصَارَتْ الْأَرْضُ بِهَا سَائِحَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تُسْقَى بِآلَةٍ , فَإِنْ كَانَ هَذَا عَارِضًا لَا يُوثَقُ بِدَوَامِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ فِي الْخَرَاجِ وَإِنْ وُثِقَ بِدَوَامِهِ رَاعَى الْإِمَامُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ لِأَرْبَابِ الضِّيَاعِ وَأَهْلِ الْفَيْءِ وَعَمِلَ فِي الزِّيَادَةِ أَوْ الْمُتَارَكَةِ بِمَا يَكُونُ عَدْلًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ .
وَخَرَاجُ الْأَرْضِ إذَا أَمْكَنَ زَرْعُهَا مَأْخُوذٌ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ تُزْرَعْ وَقَالَ مَالِكٌ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ تَرَكَهَا مُخْتَارًا أَوْ مَعْذُورًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُؤْخَذُ مِنْهَا إنْ كَانَ مُخْتَارًا وَيَسْقُطُ عَنْهَا إنْ كَانَ مَعْذُورًا وَإِذَا كَانَ خَرَاجُ مَا أَخَلَّ بِزَرْعِهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزُّرُوعِ أُخِذَ مِنْهُ فِيمَا أَخَلَّ بِزَرْعِهِ عَنْ أَقَلِّ مَا يُزْرَعُ فِيهَا لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى زَرْعِهِ لَمْ يُعَارَضْ فِيهِ
وَإِذَا كَانَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ لَا يُمْكِنُ زَرْعُهَا فِي كُلِّ عَامٍ حَتَّى تُرَاحَ فِي عَامٍ وَتُزْرَعَ فِي عَامٍ آخَرَ رُوعِيَ حَالُهَا فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا وَاعْتَبَرَ أَصْلَحَ أُمُورٍ لِأَرْبَابِ الضِّيَاعِ وَأَهْلِ الْفَيْءِ فِي خَصْلَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يَجْعَلَ خَرَاجَهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ خَرَاجِ مَا يُزْرَعُ فِي كُلِّ عَامٍ فَيُؤْخَذُ مِنْ الْمَزْرُوعِ وَالْمَتْرُوكِ وَإِمَّا أَنْ يَمْسَحَ كُلَّ جَرِيبَيْنِ مِنْهَا بِجَرِيبٍ لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا لِلْمَزْرُوعِ وَالْآخَرُ لِلْمَتْرُوكِ وَإِمَّا أَنْ يَضَعَهُ بِكَمَالِهِ عَلَى مِسَاحَةِ الْمَزْرُوعِ وَالْمَتْرُوكِ وَيَسْتَوْفِي مِنْ أَرْبَابِهِ الشَّطْرَ مِنْ زِرَاءِ أَرْضِهِمْ
وَإِذَا كَانَ خَرَاجُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ فَزُرِعَ أَوْ غُرِسَ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ اُعْتُبِرَ خَرَاجُهُ بِأَقْرَبِ الْمَنْصُوصَاتِ بِهِ شَبَهًا وَنَفْعًا .
وَإِذَا زُرِعَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ مَا يُوجِبُ الْعُشْرَ لَمْ يَسْقُطْ عُشْرُ الزَّرْعِ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ وَجُمِعَ فِيهَا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَأَقْتَصِرُ عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ وَإِسْقَاطِ الْعُشْرِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُنْقَلَ أَرْضُ الْخَرَاجِ إلَى الْعُشْرِ وَلَا أَرْضُ الْعُشْرِ إلَى الْخَرَاجِ , وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَإِذَا سُقِيَ بِمَاءِ الْخَرَاجِ أَرْضُ عُشْرٍ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا عُشْرًا وَإِذَا سُقِيَ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَرْضُ خَرَاجٍ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا خَرَاجًا اعْتِبَارًا بِالْأَرْضِ دُونَ الْمَاءِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ حُكْمُ الْمَاءِ فَيُؤْخَذُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ الْخَرَاجُ وَيُؤْخَذُ بِمَاءِ الْعُشْرِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ الْعُشْرُ اعْتِبَارًا بِالْمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ وَاعْتِبَارُ الْأَرْضِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْمَاءِ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْأَرْضِ وَالْعُشْرُ مَأْخُوذٌ عَنْ الزَّرْعِ , وَلَيْسَ عَلَى الْمَاءِ خَرَاجٌ وَلَا عُشْرٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ صَاحِبَ الْخَرَاجِ أَنْ يَسْقِيَ بِمَاءِ الْعُشْرِ وَمَنَعَ صَاحِبَ الْعُشْرِ أَنْ يَسْقِيَ بِمَاءِ الْخَرَاجِ , وَلَمْ يَمْنَعْ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَاحِدًا مِنْهُمَا أَنْ يَسْقِيَ بِأَيِّ الْمَاءَيْنِ شَاءَ
وَإِنْ بُنِيَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ أَبْنِيَةٌ مِنْ دُورٍ أَوْ حَوَانِيتَ ; كَانَ خَرَاجُ الْأَرْضِ مُسْتَحَقًّا ; لِأَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَيْفَ شَاءَ , وَأَسْقَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ تُزْرَعَ أَوْ تُغْرَسَ , وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّ مَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ بُنْيَانِهِ مِنْ مَقَامِهِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ لِزِرَاعَتِهَا عَفْوٌ يَسْقُطُ عَنْهُ خَرَاجُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِمَسْكَنٍ يَسْتَوْطِنُهُ وَمَا جَاوَزَ قَدْرَ الْحَاجَةِ مَأْخُوذٌ بِخَرَاجِهِ