الباب الثاني عشر
في تفاوت الناس واختلافهم
من كتاب : تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين
الراغب الأصفهاني
الراغب الأصفهاني
الأشياءُ كلها متساوية غير متفاوتة من حيث أنها مصنوعة بالحكمة، وعلى ذلك نبه الله تعالى بقوله: )ما ترى في خَلْق الرحمن من تفاوت(. ومختلفة من حيث أن كل نوع يختص بفائدة، وكل نوع وأن اختلف فما من شيء أكثر اختلافاً من الناس، كما قال الله تعالى: )وقد خلقكم أطواراً( وقال تعالى: )ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات( وقال سبحانه وتعالى: )أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً( وقال سبحانه: )ولو شاءَ الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم( وقال تعالى: )وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم( وقال سبحانه: )ولو شاءَ ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك( وعلى هذا نبه الله تعالى بقوله: )وفي الأرض قطَعٌ متجاوراتٌ وجنات من أعناب وزرع )إلى قوله( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون(. والحكمة المقتضية لذلك هو أن الإنسان لما كان غير مكفي بتفرده بقاؤه أدنى مدة، فإن أول ما يحتاج الإنسان إليه ما يواريه وما يغذوه، وليس يجد ما يواريه مصنوعاً، ولا ما يغذوه مطبوخاً، كما يكون لكثير من الحيوانات بل هو مضطر إلى اصلاحهما، واصلاحُ ذلك يحوجه إلى آلاتٍ غير مفروغ منها، والإنسان الواحد لا توصل له إلى إعداد جميع ما يحتاج إليه ليعيش العيشة الحميدة، فلم يكن بُدُّ الناس من تشارك وتعاون، فجعل لكل قوم صنعة وهيئة مفارقة للصنعة الأخرى ليقتسموا الصناعات بينهم، فيتولى كلٌّ منهم صنفاً من الصناعات فيتعاطاه باهتزاز، كما قال الله تعالى: )فتقطعوا أمرهم بينهم زُبراً كلُّ حزب بما لديهم فرحون(. فاقتضت الحكمة أن تختلف جثثهم وقواهم وهممهم، فيكون كلٌّ ميسرٌّ لما خلق له. وقال تعالى: )قل كلٌّ يعمل على شاكلته(. فتكون معايشهم مقتسمة بينهم، كما نبه الله عليه بالآيات المتقدمة. وقال تعالى: )ولو شاءَ ربك لجعل الناس أُمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك(. والاختلاف الحاصل بيِّنٌ. فالناس إذا اعتبر اختلاف أغراضهم وهممهم فهم في صناعاتهم في حكم المسخرين وإن كانوا في الظاهر مختارين. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يتعلق من المصلحة بتباينهم واختلاف طبقاتهم فقال: "لا يزالُ الناس بخيرٍ ما تباينوا فإذا تساووا وهلكوا".