ذكرى ثورة تحيا في العقول والقلوب
(الذكرى الستون لثورة 23/يوليو 1952)]
محمود كعوش
قبل أكثر من عام ونصف بقليل
حسم الشعب المصري أمره وقال كلمته بكل شجاعة واقتدار وعزة وكرامة. قال بصوتٍ عالٍ ومدوٍ لا للظلم والقهر والقمع والتعذيب والجوع
والتجويع...ولا لكل صنوف وأنواع الإذلال والحرمان والتجويع والفقر
والإفقار. قال لا لنظام فاسد ومنبطح ومستسلم لمشيئة بقايا المتصهينين من
المحافظين الجدد في واشنطن وحثالة الإرهابيين في تل أبيب، ولا لأعوان وحزبيين هم
نسخة كربونية وصورة طبق الأصل عن ذلك النظام. قال لا وألف لا لرئيس لا يطيب له النوم إلا في كنف ورعاية
وحماية الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل"، اللتين كان يتوسم فيهما راحته
وطمأنينته وأمنه وأمانه وسلامته ويرى في حكامهما أصدقاء صدوقين وموثوقين على حساب
وطنية شعبه وأمته. قال لا لرئيس تخلى عن كرامته وكرامة مصر العظيمة للعدو وتعامل
مع أبناء شعبه كقطعان وحجارة شطرنج يحركهم كيفما يشاء ومتى يشاء، وفرّط بكراماتهم
وعمل على كسر إراداتهم بشتى الطرق والوسائل غير المشروعة والتي تتنافى مع أبسط
حقوق الإنسان.
نعم
قبل أكثر من عام ونصف العام بقليل قال الشعب المصري كلمته فانتفض بحزم واقتدار واستعاد
أصالته المصرية والعربية، واستعاد معها كرامته وإرادته اللتين سُلبتا منه على مدار
ثلاثة عقود أو يزيد. هو ذا الشعب المصري البطل
الذي قرر في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011 أن لا يرضى بديلاً عن حريته حين قال كلمته وأصر بثقة
وثبات على أن لا يتراجع عنها حتى يحقق طموحاته وطموحات مصر العظيمة ويفرض التغيير
الجذري، بغض النظر عن حجم التضحيات التي ترتبت على تلك الكلمة.
الآن
وقد تحقق التغيير وانتخب الشعب المصري رئيسه الجديد الذي يفترض أن تكون مصر قد انتقلت
معه من حكم العسكر إلى الحكم المدني ودخلت عهداً جديداً فإن من المؤكد أن تُستقبل
ذكرى ثورة 23 يوليو/تموز 1952 المجيدة بغير الكيفية
التي عهدناه خلال العقود الماضية، أكان ذلك خلال حكم جمال عبد الناصر لمصر أو بعد
رحيله في عام 1970، وذلك لأن الرئيس المنتخب د. محمد مرسي هو من جماعة الإخوان المسلمين الذين لم
يكونوا في يوم من الأيام على علاقة طيبة مع جمال عبد الناصر الذي احبط جميع محاولاتهم
وطموحاتهم في الوصول إلى السلطة في مصر.
يتفق
كثير من المحللين السياسيين على أن ثورة 23 يوليو/تموز التي فجرها نفر من الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد
الناصر ضد نظام الحكم الاستبدادي في مصر بكل ما مثلته من حالة ثورية مستجدة وطارئة
على الأمة العربية في حينه وما أحدثته من تحولات وطنية وقومية لامست مختلف جوانب
الحياة الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية العربية، قد ارتقت بالإنسان
العربي إلى مستوى المسؤولية التاريخية في صراعه الطويل والشاق مع الاستعمار
والاستيطان التوسعي وجميع أشكال التحالفات الإقليمية والأحلاف الأجنبية. كما أنها أسهمت بشكل فاعل وملحوظ في تعزيز وتمتين
مناعة وقدرة هذا الإنسان على مواجهة وتحدي الرجعية وقوى الردة والتخاذل والانحطاط
والتخلف والاستبداد والرأسمالية والإقطاع في مصر والوطن العربي بشكل عام.
في رحاب
ثورة 23 يوليو/تموز 1952 وكنف الزعيم التاريخي
جمال عبد الناصر كَبِرَ الإنسان العربي وارتفعت هامته على قدرِ كِبَرِ وارتفاع
هامة الثورة التي أجمع المؤرخون عرباً وعجماً على اعتبارها واحدةً من أهم وأعظم
الثورات تأثيراً في التاريخ المعاصر، لما أحدثته من تحولات، وما أفرزته من
إيجابيات على صعيد مصر أولاً، والوطن العربي ثانياً، والعالم ثالثاً، وبالأخص على
مستوى الدول النامية.
أما
وقد مضى ستون عاماً على تفجر ثورة 23 يوليو/تموز 1952 وأربعة وتسعون عاماً على
ميلاد عبد الناصر وإثنان وأربعون عاماً على رحيله، فإننا نرى أن من الحكمة عدم
الخوض كثيراً في قراءات تحليلية وتقيمية لإنجازات هذه الثورة ونتائجها وإيجابياتها
وسلبياتها، لتجنب السقوط في منزلقات عاطفية تجاه الثورة وفكرها وزعيمها، خاصة
وأننا كعرب عادة ما نُوصف "بالاستغراق المفرط
والمبالغ به في التعبير عن عواطفنا الجياشة!!".
وكما
هو الحال مع جميع الثورات العظيمة في التاريخ اتصفت ثورة 23 يوليو/تموز بمزيج من الإيجابيات
والسلبيات، لكن إيجابياتها كانت أكبر بكثير من سلبياتها. وكذا كان الحال مع زعيمها، أقلّه في نظر من اعتنقوا
الفكر القومي العربي وبقوا على إيمانهم الراسخ به برغم كل ما أحاط به من مؤامرات
دنيئة وما مورس ضده من ضغوط أكثر دناءة على المستويين العربي والأجنبي. ومما لا شك فيه أن إيجابيات الثورة الكبيرة جداً وازت
إنجازاتها العظيمة جداً، وكذا كان الحال مع سلبياتها التي وازت هي الأخرى أخطاءها.
إن أي
قراءة موضوعية لثورة يوليو/تموز بعيداً عن التأثر
بالحملات المضادة لقوى الردة العربية التي ارتهنت للولايات المتحدة الأميركية
وربطت نفسها بمشروعها الاستعماري ـ الاستيطاني في وطننا العربي، تحفزنا على القول
دون ما تردد أنه إذا ما قارناها "برغم أعوامها الثمانية
عشرة القصيرة التي امتدت بين عامي تفجرها ووفاة قائدها" بكل التجارب والممارسات السياسية
العربية الأخرى التي سبقتها ولحقت بها فإنها تبقى الأكثر تميزاً وتفوقاً، لما كان
لها من فضل كبير وحاسم في تحقيق الاستقلال الوطني لمصر والعديد من الأقطار العربية
والدول النامية في جميع القارات. هذا بالطبع إلى جانب ما
أنجزته من تحولات اجتماعية وتنموية وخروج من دائرة الاستقطاب الدولي والتبعية،
والتي كان لجمال عبد الناصر وإخوانه من الضباط الأحرار في مجلس قيادة الثورة شرف
تحقيقها برغم شراسة قوى الأعداء في الداخل والخارج وتكالبها على الثورة. فلولا قوى الظلام المضادة داخل مصر والوطن العربي عامة
والاستعمار والصهيونية في الخارج، لكان بمقدور الثورة بقيادة جمال عبد الناصر أن
تنجز الكثير من خططها ومشاريعها وبرامجها الاقتصادية والسياسية والفكرية
والاجتماعية، وكذلك الوحدوية.
يتفق
كثيرون من المؤرخين والمفكرين والكتاب العرب على أن الأسباب التي جعلت جمال عبد الناصر
يقوم بثورته في منتصف القرن الماضي ما تزال قائمة حتى يومنا هذا، مع تصاعد في
حدّتها وتمدد في رقعة انتشارها افترضهما التبدل في الزمن. كما ويتفق هؤلاء على أن الأفكار التي طرحتها الثورة ما
تزال تلقى صدى جماهيرياً إيجابياً واسعاً حتى يومنا هذا أيضاً، الأمر الذي يؤكد
مصداقيتها ومصداقية قائدها، ويمنحهما المشروعية الحقيقية والصادقة. ومما لا شك فيه أن حضور ثورة يوليو/تموز وشخص قائدها في ميدان التحرير المصري والميادين العربية
بشكل لافت للنظر خلال الشهور الأخيرة قد دلل على صحة هذا. فمن حسن طالع الأمة العربية أن فكرة النهوض الوحدوي
التي لامست العواطف وتربّعت في الوجدان الشعبي العربي مع تفجر الثورة وانتصاب هامة
زعيمها ما تزال تداعب هذه العواطف وتحتل هذا الوجدان على مساحة الوطن العربي من
المحيط إلى الخليج.
لا شك
أن الوفاء لثورة 23 يوليو/تموز يستدعي ونحن نُحيي ذكراها الستين ضرورة التوقف طويلاً
عند شخص قائدها جمال عبد الناصر لاستذكار تجربته واستلهام العبر منها والعمل على
زرعها في ذاكرة الأجيال الجديدة من الشعب العربي، لأن الأسباب التي استدعت قيامها
ما تزال تحاكيها، ولأن الأفكار التي طرحتها ما تزال تنتظر من يباشر في تطبيقها
بشكل أمين ومخلص.فلربما أن هذا التوقف
يكون عبرة لمن رهنوا مستقبل بلادهم وشعوبهم بيد الولايات المتحدة وأطلقوا العنان
للمخططات الأميركية – "الإسرائيلية" الجهنمية لتعيث فساداً في الوطن
العربي، لقاء حفنات تافهة من الدولارات أو البقاء فوق كراسي الحكم في أنظمة فقدت
شرعية بقائها مع لحظة إسقاط مشروع الدفاع العربي المشترك.
وعندما
يحدث هذا التوقف فإنما يحدث من منطلق الإيمان بعظمة وزعامة الرجل وضرورة محاكاة تجربته
وثورته واستخلاص الدروس والعبر.وربما أنه يحدث من منطلق
إيمان راسخ بالقومية العربية التي رفع شعارها وتبّناها وقضى من أجلها، والتي
حوّلها نفر من الكتاب والمفكرين والباحثين والإعلاميين من أهل الثقافات الضيقة إلى
"شماعةٍ" علقوا عليها الأوضاع العربية
المتردية التي سبقت تفجر الثورات العربية في مطلع العام الجاري، خدمة لأهل السلطة
والجاه وأسيادهم في الخارج وتبريراً لتقاعسهم واستكانتهم، وحتى استسلامهم. فالفكر القومي الذي اعتنقه جمال عبد الناصر ما كان
يوماً دعوة إلى تغييب الديمقراطية أو القفز من فوقها، ولا وجهاً للقمع والفاشية أو
رديفاً للدكتاتورية الفردية، بصرف النظر عما أُلصق بالتجربة الناصرية من تهم
وافتراءات بهذا الخصوص، قد يكون بعضها القليل صحيحاً وقد يعود العذر فيه لِقصر عمر
التجربة نفسها وكثرة الإرهاصات والإفرازات السلبية والكبيرة التي ورثتها عن مراحل
الاستعمار المتعددة ونظام الحكم الاستبدادي الذي انقلبت عليه، إضافة إلى تكالب
القوى المعادية في الداخل والخارج ضدها.
إن كل
ما قيل وتم تداوله عن التجربة الناصرية والثورة والقائد بهذا الخصوص صاغه المغرضون
في إطار خطة شيطانية مدروسة وحملة ترويج شرسة للنزعات القطرية البحتة التي استشرت في
الوطن العربي بعد رحيل عبد الناصر، تلك النزعات التي حوّلت الأقطار العربية إلى
إقطاعيات ومزارع لممارسة القمع والفاشية والدكتاتورية تحت سمع وبصر العالم بما فيه
الولايات المتحدة الأميركية "صاحبة الفضيلة والحريصة
على إرساء الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان في العالم"!!
نتوقف
عند جمال عبد الناصر وثورته وتجربته القيادية وفي الصورة ما يتعرض له الشعب الفلسطيني
منذ 64 عاماً من الاحتلال
الصهيوني الفاشي لأرضهم، وفي الأذهان جميع أشكال المؤامرات والمخططات الجهنمية
التي يتعرض لها الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. ونتوقف عند المناسبة
العظيمة متشبثين بما تبقى عندنا من كرامة كان لجمال عبد الناصر الفضل الأكبر في
إرساء دعائمها وزرعها في نفس وعقل وقلب كل إنسان عربي على مساحة الوطن العربي كله. كما ونتوقف عندها لشعورنا الصادق والأمين بأننا أحوج
ما نكون في هذه الأيام لمثل هذا الرجل الكبير، الذي كبرت أمته به وكبر بها.
الآن
وبعد مضي ستين عاماً على رحيل جمال عبد الناصر في عام 1970 وتوالي التجارب السياسية العربية التي أعقبت التجربة
الناصرية، بما في ذلك ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي"، ألا
تقتضي الحكمة الاعتراف بحالة التميز التي شكلتها ثورة 23 يوليو/تموز، بتجربتها وشخص
قائدها، وضرورة إخضاعها للتقييم وأخذ العبر من نجاحاتها وتصحيح إخفاقاتها ووضعها
موضع التطبيق العملي والبناء عليها، بحيث تخرج الأمة العربية من النفق المظلم
وتستعيد مكانتها التاريخية وتعود كما أرادها رب العالمين "خير أمة أخرجت للناس"
!!!؟
محمود
كعوش
كاتب
وباحث مقيم بالدانمارك
كوبنهاجن
2012
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
[/center][/center]