من الذاكرة الفلسطينية...حريق المسجد الأقصىالمبارك
محمود كعوش
عندما
ارتكب الصهاينة جريمة حرق المسجد الاقصى في 21 آب 1969 قالت رئيسة وزراء
كيان العدو آنذاك جولدا مائير: "لم انم ليلتها وأنا أتخيل كيف أن العرب
سيدخلون إسرائيل أفواجا أفواجاً من كل حدب وصوب ....لكني عندما طلع الصباح
ولم يحدث شيء أدركت أن بمقدورنا أن نفعل ما نشاء فهذة أمة نائمة......"!!.
هل حقاً أن إدراك جولدا مائير كان في محله وأن هذه الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس قد تحولت بالفعل إلى أمة نائمة ؟!!
تمشياً مع متطلبات العقيدة الصهيونية المتعطشة دائماً وأبداً لسفك
الدم وإزهاق أرواح الأبرياء من أطفال ونساء وبنات وشيوخ وشبان فلسطين
المدنيين العزل، وإمعاناً في تنويع وتحديث وتطوير الوسائل والأساليب
والآليات والأدوات الصهيونية لاقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وطرده منها،
مارست العصابات الإرهابية الصهيونية بحق هذا الشعب البطل أبشع صور التعذيب
والتنكيل، ودأبت تلك الزمر الإرهابية على اقتحام البلدات والقرى الفلسطينية
والعمل على سفك دماء أهلها بدم بارد، والقيام بتدمير ونسف وحرق المنازل
وبيوت العبادة والدوائر العامة والباصات والأسواق وكل ما وصلت وتصل إليه
أياديهم.
ولأن المسجد الأقصى المبارك الذي يعتبر أولى القبلتين وثالث
الحرمين الشريفين بالنسبة للمسلمين في العالم لم يسلم من إرهاب العصابات
الصهيونية، ولأن الذكرى الثالثة والأربعين لجريمة حرقه من قبل متطرفين
"إسرائليين" تتوافق مع الحادي والعشرين من الشهر الجاري الذي يتوافق بدوره
هذا العام مع عيد الفطر المبارك، يستدعي الواجب ضرورة التوقف المطول عند
هذه الجريمة النكراء لإعادة إلقاء الأضواء عليها وعلى نتائجها وإرهاصاتها.
طوال
خمسة وأربعين عاماً من احتلال الشطر الشرقي لمدينة القدس ظل المسجد الأقصى
بشكل متواصل من أولويات أهداف التغيير عند سلطة الاحتلال "الإسرائيلية"
الغاشمة، بزعم "وجود جبل الهيكل اليهودي تحت أرضه"!! وقد اتخذت عمليات
تغييره أشكالاً مختلفة منها العبث بمحيطه وباطن أرضه وجدرانه وكل شيء فيه،
والتحدي السافر لرواده وعمليات الاقتحام المتتالية له، التي قام بها
"الإسرائيليون" وما زالوا يقومون بها بشكل أحمق ومجنون حتى أيامنا هذه.
فمنذ
وقوع الشطر الشرقي لمدينة القدس في قبضة الاحتلال في اليوم الثاني لعدوان
حزيران 1967، دأب المتطرفون "الإسرائيليون" على اقتحام ساحة المسجد بين
الحين والآخر وتدنيسها من خلال إقامة حفلات الغناء والرقص والمجون والخلاعة
بداخلها. ولربما أن اقتحام الإرهابي الصهيوني الأرعن آرئيل شارون مع نفر
من أعوانه الأشرار في 28 أيلول 2000 ساحة المسجد تحت سمع وبصر حكومة حزب
العمل التي كان يرأسها آنذاك الإرهابي الصهيوني الآخر أيهود باراك كان
الأسوأ من نوعه والأكثر استفزازاً وتحدياً لمشاعر العرب والمسلمين بمن فيهم
الفلسطينيين طبعاً، إذ شكل الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة الشعبية
الفلسطينية الثانية التي حملت اسم المسجد المبارك.
لقد بدأ المتطرفون
"الإسرائيليون" حملاتهم التغييرية والتهويدية للمدينة المقدسة مع لحظة وقوع
الشطر الشرقي لمدينة القدس في قبضة الاحتلال في 6 حزيران 1967، وتواصلت
هذه الحملات في ظل "اتفاقية أوسلو" اللعينة وخلال ما أعقبها من مفاوضات
وتفاهمات عقيمة بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" تارة برعاية رباعية منحازة
وطوراً برعاية أميركية أكثر انحيازاً، وتصاعدت وتيرتها في ظل حرب الإبادة
الجماعية المستمرة التي يواصل الجنود "الإسرائيليون" شنها ضد الفلسطينيين
الآمنين بطريقة عدوانية سافرة.
وقد سبقت الحملات المسعورة بناء جدار
الفصل العنصري، واستمرت في ذروة بنائه وبعد الانتهاء منه، ولا يبدو أن لها
نهاية أو مستقراً في ظل استمرار المطامع "الإسرائيلية" التوسعية وفي ظل
انحياز أميركي وتواطؤ أوروبي وخضوع رسمي عربي كامل ومهين للاملاءات
الأميركية ـ "الإسرائيلية" المشتركة. واكتست الحملات ولم تزل وجوهاً وأقنعة
عديدة ومتنوعة، وتم التعبير عنها بوسائل وطرق شريرة وشيطانية مختلفة
ومتباينة، ومن خلال العديد من الحلقات والمحطات التي تركت آثارها المؤلمة
والموجعة على العرب والمسلمين، وبالخصوص على الفلسطينيين وبأخص الخصوص على
المقدسيين، بحيث بات من الصعب التكهن باحتمال محوها من ذاكرة أجيالهم
المتعاقبة.
لا ريب في أن محاولة الإجهاز على المسجد الأقصى المبارك عن
طريق الحرق في 21 آب 1969، التي تتصادف ذكراها الثالثة والأربعون في هذا
الشهر، قد كانت من أبرز محطات حملات التغيير والتهويد "الإسرائلية"
الإجرامية. فتلك المحاولة التي وقف وراءها نفر من المتطرفين "الإسرائيليين"
الذين ما أضمروا ولا أظهروا غير الحقد والكراهية للفلسطينيين والعرب عامة،
قد جرت بإيعاز وتشجيع من الدوائر السياسية والأمنية "الإسرائيلية"
الرسمية.
في إطار تلك المحاولة الإجرامية قام المتطرفون "الإسرائيليون"
بحرق المسجد بطريقة لا يمكن لسلطات الاحتلال أن تكون بمنأى أو بمعزل عنها،
إذ أنها قامت بقطع المياه عن منطقة الحرم فور ظهور الحريق، وحاولت منع
أخيار القدس وسيارات الإطفاء التي هرعت من البلديات العربية من الوصول إلى
المنطقة للقيام بعملية الإطفاء. ولولا استماتة هؤلاء الأخيار في عملية
الإطفاء لكان الحريق قد التهم قبة المسجد المبارك، إذ أنهم اندفعوا بقوة
وإصرار عبر النطاق الذي ضربته قوات الاحتلال "الإسرائيلية" وتمكنوا من
إكمال مهمتهم. لكن وبرغم تلك الاندفاعة البطلة إلا أن الحريق أتى وللأسف
على منبر المسجد وسقوف ثلاثة من أروقته وجزءٍ كبير من سطحه الجنوبي.
وفي
محاولة يائسة لطمس معالم الجريمة عملت "إسرائيل" على التعمية على جريمتها
من خلال ادعائها أن "تماساً كهربائياً تسبب في الحريق"، لكن تقارير
المهندسين الفلسطينيين دحضت ذلك الإدعاء، وأكدت أنه تم بفعل أيد مجرمة
أقدمت على تلك الفعلة الشنيعة عن سابق إصرار وتصميم وترصد، الأمر الذي أجبر
قادة العدو على التراجع عن ادعائهم وتحويل الشبهة إلى شاب أسترالي يدعى
دينيس مايكل وليام موهان. وبالفعل قامت "إسرائيل" باعتقال ذلك الشاب،
اليهودي من أصل أسترالي، وتظاهرت بأنها ستقدمه للمحاكمة في عملية التفاف
احتيالية لامتصاص غضبة الفلسطينيين وإدانات العرب والمسلمين والالتفاف على
المنظمة الدولية، لكنها بدل أن تفعل ذلك أطلقت سراحه بذريعة أنه كان
"معتوهاً". وهكذا قيدت "إسرائيل" جريمتها الإرهابية النكراء تلك ضد معتوه،
كعادتها بعد كل جريمة إرهابية يرتكبها جنودها ومواطنوها بحق الفلسطينيين
وأملاكهم وأوقافهم.
قيام المتطرفين "الإسرايليين" بارتكاب جريمة حرق
المسجد الأقصى وإقدام حكومتهم على معالجتها بطريقة استفزازية أثارت في حينه
هياجاً كبيراً في الأوساط العربية والإسلامية لما يمثله المسجد من قيمة
كبرى على الصعد الدينية والحضارية والإنسانية، استوجبا قيام مجلس الأمن
الدولي بإصدار قراره الشهير الذي حمل الرقم 271. وفي ذلك القرار أدان
المجلس "إسرائيل" لتدنيسها المسجد، ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي من
شأنها المساس بوضعية المدينة المقدسة. وعبر القرار عن حزن المجلس للضرر
الفادح الذي ألحقه الحريق بالمسجد في ظل الاحتلال العسكري "الإسرائيلي"
الغاشم. وبعد أن استذكر القرار جميع القرارات الدولية السابقة التي أكدت
بطلان إجراءات "إسرائيل" التي استهدفت التغيير في القدس المحتلة، دعاها من
جديد إلى التقيد بنصوص اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الذي ينظم الاحتلال
العسكري. كما دعاها إلى الامتناع عن إعاقة عمل المجلس الإسلامي في المدينة،
المعني بصيانة وإصلاح وترميم الأماكن المقدسة الإسلامية. ويذكر أن القرار
الدولي صدر بأغلبية 11 دولة وامتناع أربع دول عن التصويت من ضمنها الولايات
المتحدة.
أجمع المحللون السياسيون المهتمون بقضية فلسطين على أن حريق
المسجد الأقصى المتعمد مثل محطة رئيسية من محطات الإرهاب "الإسرائيلي" وشكل
حلقة بارزة من حلقات المسلسل "الإسرائيلي" المستمر للممارسات اللاأخلاقية
واللاإنسانية بحق الفلسطينيين وأملاكهم وأوقافهم وأماكن عباداتهم الإسلامية
والمسيحية تحت سمع وبصر العالم أجمع، بما في ذلك النظام الرسمي العربي..
فمنذ
احتلال القدس وحتى الآن، لم يكف المتطرفون "الإسرائيليون" عن ارتكاب
المجازر الإجرامية بحق المصلين في المسجد الأقصى الشريف ولم يكفوا عن
محاولة اقتحامه والتهديد بهدمه ونسفه بالمتفجرات وضربه بالصواريخ لإقامة
هيكلهم المزعوم فوق أنقاضه. ويذكر أن مجزرة عام 1990 كانت واحدة من المجازر
البربرية التي ارتكبها هؤلاء الأشرار بحق من اعتادوا على التواصل مع الله
من خلال الصلوات في المسجد الأقصى من منطلق إيماني وحرص أمين ومخلص على
تأكيد هوية الأقصى العربية والإسلامية. في تلك المجزرة الرهيبة هدر
"الإسرائيليون" دم 22 فلسطينياً غيلة وغدراً وهم في لحظات الخشوع بين يدي
رب العالمين.
هذا ولم يوقف "الإسرائيليون" الحفريات حول المسجد المبارك
وفي باطن أرضه وجدرانه وفي الأماكن المحيطة به لحظة واحدة. فقد تواصلت
الحفريات بشكل مسعور ومحموم بذريعة البحث والتنقيب عن آثار هيكل سليمان
وذرائع أخرى واهية. ولم تستثنٍ الحفريات بيتاً عربياً أو مدرسة أو دار علم
يملكها عربي. وبموازاة ذلك، دأبوا منذ عام 1968 على حفر الأنفاق تحت الحرم
القدسي الشريف. وفي العام المذكور شرعوا بحفر نفق عميق وطويل أدخلوا إليه
سفر التوراة وشيدوا في داخله كنيساً يهودياً. وبلغت عملية حفر الأنفاق
ذروتها في أيلول 1996، عندما أقدموا على حفر نفق يمر أسفل السور العربي
للمسجد ويربط بين حائط البراق وطريق الآلام، الأمر الذي أثار في حينه حفيظة
المقدسيين وأشعل موجة من المواجهات المسلحة التي اتسعت رقعتها لتشمل جميع
الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأسفرت تلك المواجهات عن سقوط 65 فلسطينياً و
15 جندياً إسرائيلياً. وقد حصل كل ذلك في ظل تنامي الحديث عن السلام الكاذب
الذي تواتر على خلفيته مؤتمر مدريد المشؤوم واتفاقية أوسلو اللعينة.
ويُذكر
أنه في ظل احتفال الفلسطينيين بتحرير قطاع غزة في عام 2005، تعالت أصوات
"إسرائيلية" منكرة من هنا وهناك مهددة بقصف المسجد الأقصى بالصواريخ من
الجو والبر أو اقتحامه وتدميره. ففي السادس من حزيران ذلك العام، حيث
توافقت الذكرى ألـ 38 لاحتلال مدينة القدس، فشلت مجموعات يهودية متطرفة
رافقها حاخامات ونواب "إسرائيليون" يمينيون وشخصيات "إسرائيلية" شعبية في
اقتحام المسجد بشكل جماعي عبر باب الأسباط بعد أن تصدى لها حراسه
والمرابطون بداخله ومن وحوله. وفي ليلة التاسع من آب في ذات العام تكررت
المحاولة عبر بابي حطة والسلسلة، إلا أنها منيت بالفشل أيضاً. ومنذ الرابع
عشر من ذات الشهر والعام الذي توافق مع ذكرى ما يسمونه "خراب الهيكل
الثاني"، استأنف المتطرفون اليهود محاولات اقتحام المسجد جماعياً وفردياً.
وفي واحدة من تلك المحاولات الإجرامية، ألقت الشرطة "الإسرائيلية" القبض
على متطرفين حاولا الدخول إليه عبر بابين مختلفين.
وفي الأعوام السبعة
الأخيرة، بين 2006 و 2012 الجاري، تكررت المحاولات مترافقة مع تهديدات
مباشرة من قِبَلِ أعضاء في الكنيست "الإسرائيلي" طالبوا فيها بتدمير المسجد
انتقاماً لقتلاهم وفي محاولات يائسة لتحرير أسراهم لدى المقاومتين
الفلسطينية واللبنانية!!
أتذكر أيضاً أنه بينما كانت انتفاضة الأقصى
المجيدة لم تزل بعد في أوج توقدها في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة،
تمحورت المخاوف الفلسطينية بصورة خاصة حول القدس والمخاطر المحدقة بها
والمستقبل المظلم الذي يتهدد عروبتها ذلك لأن "الإسرائيليين" كانوا يعملون
على إعادة رسم جغرافيتها بالكيفية التي تلائم طموحاتهم التهويدية
والاستيطانية التوسعية. هذا وتظافرت المخاوف على المسجد الأقصى بشكل خاص
ومدينة القدس بشكل عام لتبلغ مبلغاً من الخطورة لم تبلغه من قبل مع قيام
السلطات "الإسرايلية" في مطلع عام 2010 بافتتاح ما أسمته حكومة تل أبيب
"كنيس الخراب" على بعد بضعة أمتار من المسجد الأقصى.
وهذا العام وبعدما
اتخذت بلدية الاحتلال "الإسرائيلي" في مدينة القدس في الحادي والثلاثين من
شهر تموز الماضي قراراً قضى بتحويل باحات المسجد الأقصى إلى حدائق وساحات
عامة وفتحها أمام دخول اليهود إليها وقت ما يشاءوون تكون تبعية تلك الباحات
قد تحولت من المسجد الأقصى إلى البلدية، وتكون المخاوف الفلسطينية قد بلغت
ذروتها، باعتبار أن هذا الأجراء التعسفي وما سبقه من إجراءات تعسفية
مماثلة جاءت جميعها في إطار التهيئة لتحقيق الحلم الصهيوني في إقامة الهيكل
اليهودي المزعوم على أنقاض أولى القبلتين وثالث الحرمين.
إنه لمن دواعي
الأسف والأسى أن يحدث كل ذلك في ظل استمرار الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني
وحالة الانقسام والتشرذم القائمة بين من يفترض أن يكونوا إخوة ورفاق النضال
ضد العدو "الإسرائلي" المشترك، الأمر الذي يستدعي طرح ذات السؤال الذي
اعتدت على طرحه في السنوات السبع الأخيرة مع قدوم كل ذكرى جديدة: ترى إلى
متى سيستمر هذا الوضع الشاذ الذي تحولت الوحدة الفلسطينية معه إلى حلم بات
بعيد المنال ؟!!!
كوبنهاجن آب/أغسطس 2012
محمود كعوش
كاتب وباحث سياسي فلسطيني[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
محمود كعوش
عندما
ارتكب الصهاينة جريمة حرق المسجد الاقصى في 21 آب 1969 قالت رئيسة وزراء
كيان العدو آنذاك جولدا مائير: "لم انم ليلتها وأنا أتخيل كيف أن العرب
سيدخلون إسرائيل أفواجا أفواجاً من كل حدب وصوب ....لكني عندما طلع الصباح
ولم يحدث شيء أدركت أن بمقدورنا أن نفعل ما نشاء فهذة أمة نائمة......"!!.
هل حقاً أن إدراك جولدا مائير كان في محله وأن هذه الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس قد تحولت بالفعل إلى أمة نائمة ؟!!
تمشياً مع متطلبات العقيدة الصهيونية المتعطشة دائماً وأبداً لسفك
الدم وإزهاق أرواح الأبرياء من أطفال ونساء وبنات وشيوخ وشبان فلسطين
المدنيين العزل، وإمعاناً في تنويع وتحديث وتطوير الوسائل والأساليب
والآليات والأدوات الصهيونية لاقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وطرده منها،
مارست العصابات الإرهابية الصهيونية بحق هذا الشعب البطل أبشع صور التعذيب
والتنكيل، ودأبت تلك الزمر الإرهابية على اقتحام البلدات والقرى الفلسطينية
والعمل على سفك دماء أهلها بدم بارد، والقيام بتدمير ونسف وحرق المنازل
وبيوت العبادة والدوائر العامة والباصات والأسواق وكل ما وصلت وتصل إليه
أياديهم.
ولأن المسجد الأقصى المبارك الذي يعتبر أولى القبلتين وثالث
الحرمين الشريفين بالنسبة للمسلمين في العالم لم يسلم من إرهاب العصابات
الصهيونية، ولأن الذكرى الثالثة والأربعين لجريمة حرقه من قبل متطرفين
"إسرائليين" تتوافق مع الحادي والعشرين من الشهر الجاري الذي يتوافق بدوره
هذا العام مع عيد الفطر المبارك، يستدعي الواجب ضرورة التوقف المطول عند
هذه الجريمة النكراء لإعادة إلقاء الأضواء عليها وعلى نتائجها وإرهاصاتها.
طوال
خمسة وأربعين عاماً من احتلال الشطر الشرقي لمدينة القدس ظل المسجد الأقصى
بشكل متواصل من أولويات أهداف التغيير عند سلطة الاحتلال "الإسرائيلية"
الغاشمة، بزعم "وجود جبل الهيكل اليهودي تحت أرضه"!! وقد اتخذت عمليات
تغييره أشكالاً مختلفة منها العبث بمحيطه وباطن أرضه وجدرانه وكل شيء فيه،
والتحدي السافر لرواده وعمليات الاقتحام المتتالية له، التي قام بها
"الإسرائيليون" وما زالوا يقومون بها بشكل أحمق ومجنون حتى أيامنا هذه.
فمنذ
وقوع الشطر الشرقي لمدينة القدس في قبضة الاحتلال في اليوم الثاني لعدوان
حزيران 1967، دأب المتطرفون "الإسرائيليون" على اقتحام ساحة المسجد بين
الحين والآخر وتدنيسها من خلال إقامة حفلات الغناء والرقص والمجون والخلاعة
بداخلها. ولربما أن اقتحام الإرهابي الصهيوني الأرعن آرئيل شارون مع نفر
من أعوانه الأشرار في 28 أيلول 2000 ساحة المسجد تحت سمع وبصر حكومة حزب
العمل التي كان يرأسها آنذاك الإرهابي الصهيوني الآخر أيهود باراك كان
الأسوأ من نوعه والأكثر استفزازاً وتحدياً لمشاعر العرب والمسلمين بمن فيهم
الفلسطينيين طبعاً، إذ شكل الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة الشعبية
الفلسطينية الثانية التي حملت اسم المسجد المبارك.
لقد بدأ المتطرفون
"الإسرائيليون" حملاتهم التغييرية والتهويدية للمدينة المقدسة مع لحظة وقوع
الشطر الشرقي لمدينة القدس في قبضة الاحتلال في 6 حزيران 1967، وتواصلت
هذه الحملات في ظل "اتفاقية أوسلو" اللعينة وخلال ما أعقبها من مفاوضات
وتفاهمات عقيمة بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" تارة برعاية رباعية منحازة
وطوراً برعاية أميركية أكثر انحيازاً، وتصاعدت وتيرتها في ظل حرب الإبادة
الجماعية المستمرة التي يواصل الجنود "الإسرائيليون" شنها ضد الفلسطينيين
الآمنين بطريقة عدوانية سافرة.
وقد سبقت الحملات المسعورة بناء جدار
الفصل العنصري، واستمرت في ذروة بنائه وبعد الانتهاء منه، ولا يبدو أن لها
نهاية أو مستقراً في ظل استمرار المطامع "الإسرائيلية" التوسعية وفي ظل
انحياز أميركي وتواطؤ أوروبي وخضوع رسمي عربي كامل ومهين للاملاءات
الأميركية ـ "الإسرائيلية" المشتركة. واكتست الحملات ولم تزل وجوهاً وأقنعة
عديدة ومتنوعة، وتم التعبير عنها بوسائل وطرق شريرة وشيطانية مختلفة
ومتباينة، ومن خلال العديد من الحلقات والمحطات التي تركت آثارها المؤلمة
والموجعة على العرب والمسلمين، وبالخصوص على الفلسطينيين وبأخص الخصوص على
المقدسيين، بحيث بات من الصعب التكهن باحتمال محوها من ذاكرة أجيالهم
المتعاقبة.
لا ريب في أن محاولة الإجهاز على المسجد الأقصى المبارك عن
طريق الحرق في 21 آب 1969، التي تتصادف ذكراها الثالثة والأربعون في هذا
الشهر، قد كانت من أبرز محطات حملات التغيير والتهويد "الإسرائلية"
الإجرامية. فتلك المحاولة التي وقف وراءها نفر من المتطرفين "الإسرائيليين"
الذين ما أضمروا ولا أظهروا غير الحقد والكراهية للفلسطينيين والعرب عامة،
قد جرت بإيعاز وتشجيع من الدوائر السياسية والأمنية "الإسرائيلية"
الرسمية.
في إطار تلك المحاولة الإجرامية قام المتطرفون "الإسرائيليون"
بحرق المسجد بطريقة لا يمكن لسلطات الاحتلال أن تكون بمنأى أو بمعزل عنها،
إذ أنها قامت بقطع المياه عن منطقة الحرم فور ظهور الحريق، وحاولت منع
أخيار القدس وسيارات الإطفاء التي هرعت من البلديات العربية من الوصول إلى
المنطقة للقيام بعملية الإطفاء. ولولا استماتة هؤلاء الأخيار في عملية
الإطفاء لكان الحريق قد التهم قبة المسجد المبارك، إذ أنهم اندفعوا بقوة
وإصرار عبر النطاق الذي ضربته قوات الاحتلال "الإسرائيلية" وتمكنوا من
إكمال مهمتهم. لكن وبرغم تلك الاندفاعة البطلة إلا أن الحريق أتى وللأسف
على منبر المسجد وسقوف ثلاثة من أروقته وجزءٍ كبير من سطحه الجنوبي.
وفي
محاولة يائسة لطمس معالم الجريمة عملت "إسرائيل" على التعمية على جريمتها
من خلال ادعائها أن "تماساً كهربائياً تسبب في الحريق"، لكن تقارير
المهندسين الفلسطينيين دحضت ذلك الإدعاء، وأكدت أنه تم بفعل أيد مجرمة
أقدمت على تلك الفعلة الشنيعة عن سابق إصرار وتصميم وترصد، الأمر الذي أجبر
قادة العدو على التراجع عن ادعائهم وتحويل الشبهة إلى شاب أسترالي يدعى
دينيس مايكل وليام موهان. وبالفعل قامت "إسرائيل" باعتقال ذلك الشاب،
اليهودي من أصل أسترالي، وتظاهرت بأنها ستقدمه للمحاكمة في عملية التفاف
احتيالية لامتصاص غضبة الفلسطينيين وإدانات العرب والمسلمين والالتفاف على
المنظمة الدولية، لكنها بدل أن تفعل ذلك أطلقت سراحه بذريعة أنه كان
"معتوهاً". وهكذا قيدت "إسرائيل" جريمتها الإرهابية النكراء تلك ضد معتوه،
كعادتها بعد كل جريمة إرهابية يرتكبها جنودها ومواطنوها بحق الفلسطينيين
وأملاكهم وأوقافهم.
قيام المتطرفين "الإسرايليين" بارتكاب جريمة حرق
المسجد الأقصى وإقدام حكومتهم على معالجتها بطريقة استفزازية أثارت في حينه
هياجاً كبيراً في الأوساط العربية والإسلامية لما يمثله المسجد من قيمة
كبرى على الصعد الدينية والحضارية والإنسانية، استوجبا قيام مجلس الأمن
الدولي بإصدار قراره الشهير الذي حمل الرقم 271. وفي ذلك القرار أدان
المجلس "إسرائيل" لتدنيسها المسجد، ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي من
شأنها المساس بوضعية المدينة المقدسة. وعبر القرار عن حزن المجلس للضرر
الفادح الذي ألحقه الحريق بالمسجد في ظل الاحتلال العسكري "الإسرائيلي"
الغاشم. وبعد أن استذكر القرار جميع القرارات الدولية السابقة التي أكدت
بطلان إجراءات "إسرائيل" التي استهدفت التغيير في القدس المحتلة، دعاها من
جديد إلى التقيد بنصوص اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الذي ينظم الاحتلال
العسكري. كما دعاها إلى الامتناع عن إعاقة عمل المجلس الإسلامي في المدينة،
المعني بصيانة وإصلاح وترميم الأماكن المقدسة الإسلامية. ويذكر أن القرار
الدولي صدر بأغلبية 11 دولة وامتناع أربع دول عن التصويت من ضمنها الولايات
المتحدة.
أجمع المحللون السياسيون المهتمون بقضية فلسطين على أن حريق
المسجد الأقصى المتعمد مثل محطة رئيسية من محطات الإرهاب "الإسرائيلي" وشكل
حلقة بارزة من حلقات المسلسل "الإسرائيلي" المستمر للممارسات اللاأخلاقية
واللاإنسانية بحق الفلسطينيين وأملاكهم وأوقافهم وأماكن عباداتهم الإسلامية
والمسيحية تحت سمع وبصر العالم أجمع، بما في ذلك النظام الرسمي العربي..
فمنذ
احتلال القدس وحتى الآن، لم يكف المتطرفون "الإسرائيليون" عن ارتكاب
المجازر الإجرامية بحق المصلين في المسجد الأقصى الشريف ولم يكفوا عن
محاولة اقتحامه والتهديد بهدمه ونسفه بالمتفجرات وضربه بالصواريخ لإقامة
هيكلهم المزعوم فوق أنقاضه. ويذكر أن مجزرة عام 1990 كانت واحدة من المجازر
البربرية التي ارتكبها هؤلاء الأشرار بحق من اعتادوا على التواصل مع الله
من خلال الصلوات في المسجد الأقصى من منطلق إيماني وحرص أمين ومخلص على
تأكيد هوية الأقصى العربية والإسلامية. في تلك المجزرة الرهيبة هدر
"الإسرائيليون" دم 22 فلسطينياً غيلة وغدراً وهم في لحظات الخشوع بين يدي
رب العالمين.
هذا ولم يوقف "الإسرائيليون" الحفريات حول المسجد المبارك
وفي باطن أرضه وجدرانه وفي الأماكن المحيطة به لحظة واحدة. فقد تواصلت
الحفريات بشكل مسعور ومحموم بذريعة البحث والتنقيب عن آثار هيكل سليمان
وذرائع أخرى واهية. ولم تستثنٍ الحفريات بيتاً عربياً أو مدرسة أو دار علم
يملكها عربي. وبموازاة ذلك، دأبوا منذ عام 1968 على حفر الأنفاق تحت الحرم
القدسي الشريف. وفي العام المذكور شرعوا بحفر نفق عميق وطويل أدخلوا إليه
سفر التوراة وشيدوا في داخله كنيساً يهودياً. وبلغت عملية حفر الأنفاق
ذروتها في أيلول 1996، عندما أقدموا على حفر نفق يمر أسفل السور العربي
للمسجد ويربط بين حائط البراق وطريق الآلام، الأمر الذي أثار في حينه حفيظة
المقدسيين وأشعل موجة من المواجهات المسلحة التي اتسعت رقعتها لتشمل جميع
الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأسفرت تلك المواجهات عن سقوط 65 فلسطينياً و
15 جندياً إسرائيلياً. وقد حصل كل ذلك في ظل تنامي الحديث عن السلام الكاذب
الذي تواتر على خلفيته مؤتمر مدريد المشؤوم واتفاقية أوسلو اللعينة.
ويُذكر
أنه في ظل احتفال الفلسطينيين بتحرير قطاع غزة في عام 2005، تعالت أصوات
"إسرائيلية" منكرة من هنا وهناك مهددة بقصف المسجد الأقصى بالصواريخ من
الجو والبر أو اقتحامه وتدميره. ففي السادس من حزيران ذلك العام، حيث
توافقت الذكرى ألـ 38 لاحتلال مدينة القدس، فشلت مجموعات يهودية متطرفة
رافقها حاخامات ونواب "إسرائيليون" يمينيون وشخصيات "إسرائيلية" شعبية في
اقتحام المسجد بشكل جماعي عبر باب الأسباط بعد أن تصدى لها حراسه
والمرابطون بداخله ومن وحوله. وفي ليلة التاسع من آب في ذات العام تكررت
المحاولة عبر بابي حطة والسلسلة، إلا أنها منيت بالفشل أيضاً. ومنذ الرابع
عشر من ذات الشهر والعام الذي توافق مع ذكرى ما يسمونه "خراب الهيكل
الثاني"، استأنف المتطرفون اليهود محاولات اقتحام المسجد جماعياً وفردياً.
وفي واحدة من تلك المحاولات الإجرامية، ألقت الشرطة "الإسرائيلية" القبض
على متطرفين حاولا الدخول إليه عبر بابين مختلفين.
وفي الأعوام السبعة
الأخيرة، بين 2006 و 2012 الجاري، تكررت المحاولات مترافقة مع تهديدات
مباشرة من قِبَلِ أعضاء في الكنيست "الإسرائيلي" طالبوا فيها بتدمير المسجد
انتقاماً لقتلاهم وفي محاولات يائسة لتحرير أسراهم لدى المقاومتين
الفلسطينية واللبنانية!!
أتذكر أيضاً أنه بينما كانت انتفاضة الأقصى
المجيدة لم تزل بعد في أوج توقدها في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة،
تمحورت المخاوف الفلسطينية بصورة خاصة حول القدس والمخاطر المحدقة بها
والمستقبل المظلم الذي يتهدد عروبتها ذلك لأن "الإسرائيليين" كانوا يعملون
على إعادة رسم جغرافيتها بالكيفية التي تلائم طموحاتهم التهويدية
والاستيطانية التوسعية. هذا وتظافرت المخاوف على المسجد الأقصى بشكل خاص
ومدينة القدس بشكل عام لتبلغ مبلغاً من الخطورة لم تبلغه من قبل مع قيام
السلطات "الإسرايلية" في مطلع عام 2010 بافتتاح ما أسمته حكومة تل أبيب
"كنيس الخراب" على بعد بضعة أمتار من المسجد الأقصى.
وهذا العام وبعدما
اتخذت بلدية الاحتلال "الإسرائيلي" في مدينة القدس في الحادي والثلاثين من
شهر تموز الماضي قراراً قضى بتحويل باحات المسجد الأقصى إلى حدائق وساحات
عامة وفتحها أمام دخول اليهود إليها وقت ما يشاءوون تكون تبعية تلك الباحات
قد تحولت من المسجد الأقصى إلى البلدية، وتكون المخاوف الفلسطينية قد بلغت
ذروتها، باعتبار أن هذا الأجراء التعسفي وما سبقه من إجراءات تعسفية
مماثلة جاءت جميعها في إطار التهيئة لتحقيق الحلم الصهيوني في إقامة الهيكل
اليهودي المزعوم على أنقاض أولى القبلتين وثالث الحرمين.
إنه لمن دواعي
الأسف والأسى أن يحدث كل ذلك في ظل استمرار الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني
وحالة الانقسام والتشرذم القائمة بين من يفترض أن يكونوا إخوة ورفاق النضال
ضد العدو "الإسرائلي" المشترك، الأمر الذي يستدعي طرح ذات السؤال الذي
اعتدت على طرحه في السنوات السبع الأخيرة مع قدوم كل ذكرى جديدة: ترى إلى
متى سيستمر هذا الوضع الشاذ الذي تحولت الوحدة الفلسطينية معه إلى حلم بات
بعيد المنال ؟!!!
كوبنهاجن آب/أغسطس 2012
محمود كعوش
كاتب وباحث سياسي فلسطيني[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]