منتديات فرسان المعرفة

أهلا وسهلا زائرنا الكريم ومرحبا بك في منتديات فرسان المعرفة منتديات التميز والابداع ونتمنى أن تكون زيارتك الأولى مفتاحا للعودة إليه مرة أخرى والانضمام إلى أسرة المنتدى وأن تستفيد إن كنت باحثا وتفيد غيرك إن كنت محترفا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات فرسان المعرفة

أهلا وسهلا زائرنا الكريم ومرحبا بك في منتديات فرسان المعرفة منتديات التميز والابداع ونتمنى أن تكون زيارتك الأولى مفتاحا للعودة إليه مرة أخرى والانضمام إلى أسرة المنتدى وأن تستفيد إن كنت باحثا وتفيد غيرك إن كنت محترفا

منتديات فرسان المعرفة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات الشمول والتنوع والتميز والإبداع

قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا اذكروا الله كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا)أ
عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(من قال صبيحة يوم الجمعة قبل صلاة الغداة , أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفرالله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر)
عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يدعو بهذا الدعاء "اللهم! اغفر لي خطيئتي وجهلي. وإسرافي في أمري. وما أنت أعلم به مني. اللهم! اغفر لي جدي وهزلي. وخطئي وعمدي. وكل ذلك عندي. اللهم! اغفر لي ما قدمت وما أخرت. وما أسررت وما أعلنت. وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر. وأنت على كل شيء قدير". رواه مسلم في صحيحه برقم (2719)
عن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة)رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحة
عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم! أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري. وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي. وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي. واجعل الحياة زيادة لي في كل خير. واجعل الموت راحة لي من كل شر". رواه مسلم في صحيحه برقم (2720)
عن أبي الأحوص، عن عبدالله رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يقول "اللهم! إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى". رواه مسلم في صحيحه برقم(2721)
عن زيد بن أرقم رضى الله عنه. قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان يقول "اللهم! إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر. اللهم! آت نفسي تقواها. وزكها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها. اللهم! إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها". رواه مسلم في صحيحه برقم(2722)
عن عبدالله رضى الله عنه قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال "أمسينا وأمسى الملك لله. والحمد لله. لا إله إلا الله وحده لا شريك له". قال: أراه قال فيهن "له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. رب! أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها. وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها. رب! أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر. رب! أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر". وإذا أصبح قال ذلك أيضا "أصبحنا وأصبح الملك لله". رواه مسلم في صحيحه برقم(2723)
عن عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله رضى الله عنه . قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال "أمسينا وأمسى الملك لله. والحمد لله. لا إله إلا الله وحده. لا شريك له. اللهم! إني أسألك من خير هذه الليلة وخير ما فيها. وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها. اللهم! إني أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر. وفتنة الدنيا وعذاب القبر". رواه مسلم في صحيحه برقم(2723)
عن أبي موسى رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت) رواه البخاري.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله, ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منه حتى يعود إليه, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه, ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله , ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) متفق عليه
عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ) روه الشيخان والترمذي.
عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(الطهور شطر الإيمان والحمدلله تملأ الميزان وسبحان الله والحمدلله تملأ أو تملآن ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه أو موبقها) رواه مسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(من قال سبحان الله وبحمده في يومه مائة مرة حُطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)رواه البخاري ومسلم.
عن أبي سعيد رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( استكثروا من الباقيات الصالحات ) قيل وما هن يارسول الله؟ قال ( التكبير والتهليل والتسبيح والحمدلله ولا حول ولاقوة إلابالله ) رواه النسائي والحاكم وقال صحيح الاسناد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أحب الكلام إلى الله أربع- لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر ). رواه مسلم

    نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما - الدكتور عبد القادر عوده

    alsaidilawyer
    alsaidilawyer
    مدير المنتدى
    مدير المنتدى


    الجنس : ذكر
    الابراج : الدلو
    عدد المساهمات : 4030
    نقاط : 81110
    السٌّمعَة : 2684
    تاريخ التسجيل : 01/03/2010
    العمر : 53
    الموقع : الجمهورية اليمنية - محافظة إب

    نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما - الدكتور عبد القادر عوده Empty نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما - الدكتور عبد القادر عوده

    مُساهمة من طرف alsaidilawyer الأحد 19 أكتوبر 2014 - 12:12

    نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما

    من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – المجلد الأول
    الدكتور
    عبد القادر عوده

    12 - كيف وصمت الشريعة بعدم الصلاحية؟
    وقد تبين لي - كما سيتبين للقارئ - من دراسة الشريعة أن القائلين بأن الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر لا يبنون رأيهم على دراسة علمية أو حجج منطقية، لأن الدراسة العلمية والمنطق يقتضيان القول بتفوق الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية، وبصلاحية الشريعة لهذا العصر ولما سيتلوه من عصور.
    وفوق هذا؛ فالقائلون بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر فريقان: فريق لم يدرس الشريعة ولا القانون، وفريق درس القانون دون الشريعة. وكلا الفريقين ليس أهلاً للحكم على الشريعة لأنه يجهل أحكامها جهلاً مطبقاً، ومن جهل شيئاً لا يصلح للحكم عليه.
    والواقع أن هؤلاء الجاهلين بالشريعة يبنون عقيدتهم الخاطئة في عدم
    (1/12)
    ________________________________________
    صلاحية الشريعة على قياس خاطئ وليس على دراسة منظمة، ذلك أنهم تعلموا أن القوانين الوضعية القائمة الآن لا تمت بسبب إلى القوانين القديمة التي كانت تطبق حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلاديين، وعلموا أن القوانين الوضعية الحديثة قائمة على نظريات فلسفية واعتبارات اجتماعية وإنسانية لم يكن لها وجود في القوانين القديمة، وتحملهم المقارنة بين هذين النوعين من القوانين على الاعتقاد بعدم صلاحية القوانين القديمة للعصر الحاضر، وهو اعتقاد كله حق، ولكنهم ينساقون بعد ذلك إلى الخطأ حين يقيسون الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية فيقولون: ما دامت القوانين التي كانت سائدة حتى أواخر القرن الثامن عشر لا تصلح لعصرنا الحاضر؛ فكذلك الشريعة الإسلامية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، والتي ظل الكثير من أحكامها معمولاً به حتى أواخر القرن الثامن العشر. وفي هذا القياس الباطل خطؤهم المجسم الذي لا يكاد يفوت الناقد البصير.
    13 - وجه الخطأ في قياس الشريعة بالقانون:
    ووجه الخطأ في هذا القياس أنهم سووا بين القوانين الوضعية التي وضعها البشر وبين الشريعة الإسلامية التي تكفل بوضعها خالق البشر، فهم حين يقيسون إنما يقيسون الأرض بالسماء والناس برب الناس، فكيف يستوي في عقل عاقل أن يقيس نفسه بربه وأرضه بسمائه؟
    وجه الخطأ في هذا القياس أنهم سووا بين الشريعة والقانون وهما مختلفان في طبيعتهما جد الاختلاف، ونستطيع أن نتبين مدى هذا الخلاف إذا استعرضنا نشأة كل منهما ومميزاته الجوهرية التي تميزه عن غيره.
    14 - لا قياس بين مختلفين:
     وإذا صح أن الشريعة تختلف عن القوانين اختلافات أساسية وتتميز عنها بمميزات جوهرية فقد امتنع القياس؛ لأن القاعدة أن القياس يقتضي مساواة المقيس بالمقيس عليه، فإذا انعدمت المساواة فلا قياس، أو كان القياس باطلاً.
    (1/13)
    ________________________________________
    ولما كان القائلون بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر يبنون رأيهم على قياس الشريعة بالقوانين الوضعية، ولا مساواة بين الشريعة وهذه القوانين؛ فيكون قياسهم باطلاً، وادعاؤهم بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر ادعاء باطلاً، لأنه بني على قياس باطل، وما قام على الباطل فهو باطل.
    وسنستعرض فيما يلي نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما، وسيظهر هذا الاستعراض الفرق جلياً بين الشريعة والقانون لمن لا يحسن التفريق بينهما، وسيتبين منه أن الشريعة تختلف عن القانون اختلافات أساسية، وتتميز عنه بصفات جوهرية.
    15 - نشأة القانون:
    ينشأ القانون الوضعي في الجماعة التي ينظمها ويحكمها ضئيلاً محدود القواعد، ثم يتطور بتطور الجماعة، فتزداد قواعده وتتسامى نظرياته كلما ازدادت حاجات الجماعة وتنوعت، وكلما تقدمت الجماعة في تفكيرها وعلومها وآدابها. فالقانون الوضعي كالوليد ينشأ صغيراً ضعيفاً، ثم ينمو ويقوى شيئاً فشيئاً حتى يبلغ أشده، وهو يسرع في التطور والنمو والسمو كلما تطورت الجماعة التي يحكمها وأخذت بحظ من الرقي والسمو، ويبطئ في تطوره ونموه كلما كانت الجماعة بطيئة النمو والتطور. فالجماعة إذن هي التي تخلق القانون الوضعي وتصنعه على الوجه الذي يسد حاجاتها وينظم حياتها، وهو تابع لها وتقدمه مرتبط بتقدمها.
    وعلماء القانون الوضعي حين يتحدثون عن النشأة الأولى للقانون يقولون: إنه بدأ يتكون مع تكون الأسرة والقبيلة، وإن كلمة رب الأسرة كانت قانون الأسرة، وكلمة شيخ القبيلة كانت قانون القبيلة، وإن القانون ظل يتطور مع الجماعة حتى تكونت الدولة، وإن عادات كل أسرة كانت لا تتفق مع عادات غيرها من الأسر، وتقاليد كل قبيلة لم تكن مماثلة لتقاليد غيرها من القبائل. وإن الدولة حين بدأت تتكون وحَّدت العادات والتقاليد وجعلت منها قانوناً ملزماً لجميع الأفراد والأسر والقبائل الداخلين في نطاق الدولة. ولكن
    (1/14)
    ________________________________________
    قانون كل دولة لم يكن يتفق في الغالب مع قوانين الدول الأخرى، وظل هذا الخلاف حتى بدأت المرحلة الأخيرة من التطور القانوني في أعقاب القرن الثامن عشر على هدي النظريات الفلسفية والعلمية والاجتماعية، فتطور القانون الوضعي من ذلك الوقت حتى الآن تطوراً عظيماً، وأصبح قائماً على نظريات لم يكن لها وجود في العهود السابقة. وأساس هذه النظريات الحديثة العدالة والمساواة والرحمة والإنسانية. وقد أدى شيوع هذه النظريات في العالم إلى توحيد معظم القواعد القانونية في كثير من دول العالم، ولكن بقى لكل دولة قانونها الذي يختلف عن غيره من القوانين في كثير من الدقائق والتفاصيل.
    هذه هي خلاصة لنشأة القانون وتطوره والمراحل التي مر بها تبين بجلاء أن القانون حين نشأ كان شيئاً يختلف كل الاختلاف عن القانون الآن، وأنه ظل يتغير ويتطور حتى وصل إلى شكله الحالي، وأنه لم يصل إلى ما هو عليه الآن إلا بعد تطور طويل بطئ استمر آلاف السنين.
    16 - نشأة الشريعة:
     وإذا كانت هذه هي نشأة القانون، فإن الشريعة الإسلامية لم تنشأ هذه النشأة ولم تسر في هذا الطريق. لم تكن الشريعة قواعد قليلة ثم كثرت، ولا مبادئ متفرقة ثم تجمعت، ولا نظريات أولية ثم تهذبت. ولم تولد الشريعة طفلة مع الجماعة الإسلامية ثم سايرت تطورها ونمت بنموها، وإنما وُلدت شابة مكتملة، ونزلت من عند الله شريعة كاملة شاملة جامعة مانعة، لا ترى فيها عوجاً، ولا تشهد فيها نقصاً، أنزلها الله تعالى من سمائه على قلب رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في فترة قصيرة لا تجاوز المدة اللازمة لنزولها، فترة بدأت ببعثة الرسول وانتهت بوفاته، أو انتهت يوم قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]
    ولم تأت الشريعة لجماعة دون جماعة، أو لقوم دون قوم، أو لدولة دون
    (1/15)
    ________________________________________
    دولة، وإنما جاءت للناس كافة من عرب وعجم، شرقيين وغربيين، على اختلاف مشاربهم وتباين عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم، فهي شريعة كل أسرة، وشريعة كل قبيلة، وشريعة كل جماعة، وشريعة كل دولة، بل هي الشريعة العالية التي استطاع علماء القانون الوضعي أن يتخيلوها، ولكنهم لم يستطيعوا أن يوجدوها.
    وقد جاءت الشريعة كاملة لا نقص فيها، جامعة تحكم كل حالة، مانعة لا تخرج عن حكمها حالة، شاملة لأمور الأفراد والجماعات والدول، فهي تنظم الأحوال الشخصية والمعاملات وكل ما يتعلق بالأفراد، وتنظم شئون الحكم والإدارة والسياسة وغير ذلك مما يتعلق بالجماعة، كما تنظم علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر في الحرب والسلم.
    ولم تأت الشريعة لوقت دون وقت، أو لعصر دون عصر، أو لزمن دون زمن، وإنما هي شريعة كل وقت، وشريعة كل عصر، وشريعة الزمن كله حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
    وقد صيغت الشريعة بحيث لا يؤثر عليها مرور الزمن، ولا يبلي جِدَّتها، ولا يقتضي تغيير قواعدها العامة ونظرياتها الأساسية، فجاءت نصوصها من العموم والمرونة بحيث تحكم كل حالة جديدة ولو لم يكن في الإمكان توقعها، ومن ثم كانت نصوص الشريعة غير قابلة للتغيير والتبديل كما تتغير نصوص القوانين الوضعية وتتبدل.
    وأساس الفرق بين الشريعة والقانون هو أن الشريعة من عند الله جل شأنه، وهو يقول: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [يونس: 64] ، وهو عالم الغيب القادر على أن يضع للناس نصوصاً تبقى صالحة على مر الزمان. أما القوانين فمن وضع البشر، وتوضع بقدر ما يسد حاجتهم الوقتية، وبقدر قصور البشر عن معرفة الغيب تأتي النصوص القانونية التي يضعونها قاصرة عن حكم ما لم يتوقعوه.
    ولقد جاءت الشريعة من يوم نزولها بأحدث النظريات التي وصل إليها
    (1/16)
    ________________________________________
    أخيراً القانون الوضعي مع أن القانون أقدم من الشريعة، بل جاءت الشريعة من يوم نزولها بأكثر ما وصل إليه القانون الوضعي، وحسبنا أن نعرف أن كل ما يتمنى رجال القانون اليوم أن يتحقق من المبادئ موجود في الشريعة من يوم نزولها.
    17 - لا مماثلة بين الشريعة والقانون: ونستطيع بعد أن استعرضنا نشأة القانون ونشأة الشريعة أن نقول بحق: إن الشريعة لا تماثل القانون ولا تساويه، ولا يصح أن تقاس به، وإن طبيعة الشريعة تختلف تماماً عن طبيعة القانون، ولو كانت طبيعة الشريعة من طبيعة القانون الوضعي لما جاءت على الشكل الذي جاءت به، وعلى الوصف الذي أسلفنا، ولوجب أن تأتي شريعة أولية ثم تأخذ طريق القانون في التطور مع الجماعة، وما كان يمكن أن تأتي بالنظريات الحديثة التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيراً، بل ما كان يمكن أن تصل إلى مثل هذه النظريات إلا بعد أن تعرفها القوانين وبعد مرور آلاف من السنين.
    ويستطيع القارئ من استعراض تاريخ القانون وتاريخ الشريعة أن يتبين الاختلافات المتعددة بين الشريعة والقانون والمميزات الكثيرة التي تميز الشريعة عن القانون، وللقارئ أن يتقصى تلك الاختلافات وهذه المميزات إذا شاء، أما أنا فأكتفي بأن أبرز الاختلافات الأساسية والمميزات الجوهرية، لأن في الكلام عليها ما يغني عن الكلام على غيرها.
    18 - الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون: تختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية اختلافاً أساسياً من ثلاثة وجوه:
    الوجه الأول: أن القانون من صنع البشر، أما الشريعة فمن عند الله، وكلٌّ من الشريعة والقانون يتمثل فيه بجلاء صفات صانعه، فالقانون من صنع البشر ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم، ومن ثمَّ كان القانون عرضة للتغيير والتبديل، أو ما نسميه التطور، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة
    (1/17)
    ________________________________________
    أو وجدت حالات لم تكن منتظرة. فالقانون ناقص دائماً ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وإن استطاع الإلمام بما كان.
    أما الشريعة: فصانعها هو الله، وتتمثل قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن؛ ومن ثمَّ صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شئ في الحال والاستقبال حيث أحاط علمه بكل شئ، وأمر جل شأنه أن لا تغير ولا تبدل حيث قال: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [يونس: 64] ؛ لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل مهما تغيرت الأوطان والأزمان وتطور الإنسان.
    وقد يصعب على بعض الناس بأن يؤمنوا بهذا القول لأنهم لا يؤمنون قبل كل شئ بأن الشريعة من عند الله، ولست أهتم من أمر هؤلاء إلا بأن يؤمنوا بأن الشريعة تتوفر فيها الصفات التي ذكرتها، وعلى أن أقيم لهم الدليل على توافرها وعليهم هم بعد ذلك أن يبحثوا إن شاءوا عن سبب توفر هذه الصفات في الشريعة دون غيرها، وأن يبحثوا عن صانعها، ولينتظروا مني أن أقدم لهم الدليل عند الكلام على مميزات الشريعة، وإن كان في كل فصل من فصول هذا الكتاب الدليل على ما أقول.
    أما الذين يؤمنون بأن الشريعة من عند الله فليس يصعب عليهم أن يؤمنوا بتوفر الصفات التي ذكرناها في الشريعة ولو لم يقدم لهم الدليل المادي على ذلك، لأن منطقهم يقضي عليهم أن يؤمنوا بتوفر بهذه الصفات فمن كان يؤمن بأن الله هو خلق السموات والأرض، وسير الشمس والقمر والنجوم، وسخر الجبال والرياح والماء، وأنبت النبات، وصور الأجنة في بطون أمهاتهم، وجعل لكل مخلوق خلقه من الحيوان ونبات وجماد نظاماً دائماً لا يخرج عليه، ولا يحتاج لتغيير ولا تبديل ولا تطور. من كان يؤمن بأن الله وضع قوانين ثابتة تحكم طبائع الأشياء وحركاتها واتصالاتها، وأن هذه القوانين الطبيعية بلغت من الروعة والكمال
    (1/18)
    ________________________________________
    ما لا يستطيع أن يتصوره الإنسان. من كان يؤمن بهذا كله وبأن الله أتقن كل شئ خلقه، فأولى به أن يؤمن بأن الله وضع الشريعة الإسلامية قانوناً ثابتاً كاملاً لتنظيم الأفراد والجماعات والدولة، ولتحكم معاملاتهم، وأن الشريعة بلغت من الروعة والكمال حداً يعجز عن تصوره الإنسان.
    ومن كان يؤمن بهذا كله ولكنه يريد أن يرى الدليل عليه ليطمئن قلبه فلينتظر مع الفريق الأول حتى يرى الدليل في موضعه، بل لعله يرى في كل مكان من هذا الكتاب ما يطمئن قلبه ونفسه إن شاء الله.
    الوجه الثاني: أن القانون عبارة عن قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شئونها وسد حاجاتها. فهي قواعد متأخرة عن الجماعة، أو هي في مستوى الجماعة اليوم، ومتخلفة عن الجماعة غداً، لأن القوانين لا تتغير بسرعة تطور الجماعة، وهي قواعد مؤقتة تتفق مع حال الجماعة المؤقتة، وتستوجب التغير كلما تغيرت حال الجماعة.
    أما الشريعة فقواعد وضعها الله تعالى على سبيل الدوام لتنظيم شئون الجماعة، فالشريعة تتفق مع القانون في أن كليهما وضع لتنظيم الجماعة. ولكن الشريعة تختلف عن القانون في أن قواعدها دائمة ولا تقبل التغيير والتبديل. وهذه الميزة التي تتميز بها الشريعة تقتضي من الوجهة المنطقية:
    أولاً: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان، وتطورت الجماعة، وتعددت الحاجات وتنوعت.
    ثانياً: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت أو عصر ما عن مستوى الجماعة.
    والواقع أن ما يقتضيه المنطق متوفر بوجهيه في الشريعة، بل هو أهم ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع السماوية والوضعية، فقواعد الشريعة الإسلامية ونصوصها جاءت عامة ومرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، كما أنها وصلت من السمو درجة لا يتصور بعدها سمو.
    (1/19)
    ________________________________________
    ولقد مر على الشريعة الإسلامية أكثر من ثلاثة عشر قرناً، تغيرت في خلالها الأوضاع أكثر من مرة، وتطورت الأفكار والآراء تطوراً كبيراً، واستُحدث من العلوم والمخترعات ما لم يكن على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القانون الوضعي ونصوصه أكثر من مرة لتتلاءم مع الحالات الجديدة والظروف الجديدة، بحيث انقطعت العلاقة بين القواعد القانونية الوضعية التي نطبقها اليوم وبين القواعد القانونية الوضعية التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وبالرغم من هذا كله، ومع أن الشريعة الإسلامية لا تقبل التغيير والتبديل؛ ظلت قواعد الشريعة ونصوصها أسمى من مستوى الجماعات، وأكفل بتنظيم وسد حاجاتهم، وأقرب إلى طبائعهم، وأحفظ لأمنهم وطمأنينتهم.
    هذه هي شهادة التاريخ الرائعة يقف بها في جانب الشريعة الإسلامية، وليس ثمة ما هو أروع منها إلا شهادة النصوص ومنطق النصوص، وخذ مثلاً قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ، أو اقرأ قول الرسول: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، فهذان نصان من القرآن والسنة بلغا من العموم والمرونة واليسر ما لا يمكن أن يتصور بعده عموم أو مرونة أو يسر، وهما يقرران الشورى قاعدة للحكم على الوجه الذي لا يضر بالنظام العام ولا بمصلحة الأفراد أو الجماعة، وبتقرير مبدأ الشورى على هذا الوجه بلغت الشريعة من السمو حده الأقصى الذي لا يتصور أن يصل إليه البشر في يوم من الأيام، إذ عليهم أن يجعلوا أمرهم شورى بينهم بحيث لا يحدث ضرر ولا ضرار، وهيهات أن يتحقق ذلك بين الناس.
    ولو تتبعنا نصوص الشريعة لوجدناها على غرار النصين السابقين من العموم والمرونة والسمو، ومن السهل علينا أن نتبين هذه المميزات لأول وهلة في أي نص نستعرضه، فنصوص الشريعة كلها تصلح أمثلة على ما نقول؛ ويكفي أن نسوق للقارئ مثلاً آخر قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
    (1/20)
    ________________________________________
    وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، فهذا النص تدل صياغته على أنه بلغ حد العموم والمرونة، أما المبدأ الذي جاء به النص فلم يُعرف بعدُ أن هناك ما هو خير منه، ولا يمكن أن يتصور العقل البشري أن هناك طريقاً لأصحاب الدعوات يسلكونها في نشر دعواتهم خيراً من طريق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
    ويستطيع القارئ أن يقرأ قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] ، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وقوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] ، وقوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] ، يستطيع القارئ أن يستعرض هذه النصوص وغيرها ليرى كيف بلغت من العموم والمرونة كل مبلغ، وليرى أن المبادئ التي جاءت بها هذه النصوص قد بلغت من السمو ما ليس بعده زيادة لمستزيد، أو خيال لمتخيل.
    الوجه الثالث: أن الجماعة هي التي تصنع القانون، وتلونه بعاداتها وتقاليدها وتاريخها، والأصل في القانون أنه يوضع لتنظيم شئون الجماعة، ولا يوضع لتوجيه الجماعة، ومن ثم القانون متأخراً عن الجماعة وتابعاً لتطورها، وكان القانون من صنع الجماعة، ولم تكن الجماعة من صنع القانون.
    وإذا كان هذا هو الأصل في القانون من يوم وجوده، فإن هذا الأصل قد تعدل في القرن الحالي، وعلى وجه التحديد بعد الحرب العظمى الأولى، حيث بدأت الدول التي تدعو لدعوات جديدة أو أنظمة جديدة تستخدم القانون لتوجيه الشعوب وجهات معينة، كما تستخدمه لتنفيذ أغراض معينة، وقد كان أسبق الدول
    (1/21)
    ________________________________________
    إلى الأخذ بهذه الطريقة روسيا الشيوعية، وتركيا الكمالية، ثم تلتهما إيطاليا الفاشيستية وألمانيا النازية، ثم اقتبست بقية الدول هذه الطريقة، فأصبح الغرض اليوم من القانون تنظيم الجماعة وتوجيهها الوجهات التي يرى أولياء الأمور أنها في صالح الجماعة.
    أما الشريعة الإسلامية فقد علمنا أنها ليست من صنع الجماعة، وأنها لم تكن نتيجة لتطور الجماعة وتفاعلها كما هو الحال في القانون الوضعي، وإنما هي من صنع الله الذي أتقن كل شئ خلقه. وإذا لم تكن الشريعة من صنع الجماعة، فإن الجماعة نفسها من صنع الشريعة.
    إذن الأصل في الشريعة أنها لم توضع لتنظيم شئون الجماعة فقط كما كان الغرض من القانون الوضعي، وإنما المقصود من الشريعة قبل كل شئ هو خلق الأفراد الصالحين والجماعة الصالحة، وإيجاد الدولة المثالية، والعالم المثالي، ومن أجل هذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها، ولا تزال كذلك حتى اليوم، وجاء فيها من المبادئ والنظريات ما لم يتهيأ العالم غير الإسلامي لمعرفته والوصول إليه إلا بعد قرون طويلة، وما لم يتهيأ هذا العالم لمعرفته أو يصل إليه حتى الآن. ومن أجل هذا تولى الله جل شأنه وضع الشريعة، وأنزلها على رسوله نموذجاً من الكمال ليوجه الناس إلى الطاعات والفضائل، ويحملهم على التسامي والتكامل؛ حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل. وقد حققت الشريعة ما أراده لها العليم الخبير، فأدت رسالتها أحسن الأداء، وجعلت من رعاة الإبل سادة للعالم، ومن جهال البادية معلمين وهداة للإنسانية. ولقد أدت الشريعة وظيفتها طالما كان المسلمون متمسكين بها عاملين بأحكامها. تمسك بها المسلمون الأوائل وعملوا بها وهم قلة مستضعفة يخافون أن يتخطفهم الناس، فإذا هم في عشرين سنة سادة العالم وقادة البشر، لا صوت إلا صوتهم، ولا كلمة تعلو كلمتهم، وما أوصلهم لهذا الذي يشبه المعجزات
    (1/22)
    ________________________________________
    إلا الشريعة الإسلامية التي علمتهم وأدبتهم، ورققت نفوسهم، وهذبت مشاعرهم، وأشعرتهم العزة والكرامة، وأخذتهم بالمساواة التامة، والعدالة المطلقة، وأوجبت عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، وحرمت عليهم الإثم والعدوان، وحررت عقولهم ونفوسهم من نير الجهالات والشهوات، وجعلتهم يعتقدون أنهم خير أمة أخرجت للناس؛ يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله.
    كان ذلك حال المسلمين طالما تمسكوا بشريعتهم، فلما تركوها وأهملوا أحكامها تركهم الرقي وأخطأهم التقدم، ورجعوا القهقري إلى الظلمات التي كانوا يعمهون فيها من قبل، فعادوا مستضعفين مستبعدين لا يستطيعون دفع معتد ولا الامتناع من ظالم.
    وقد خيل للمسلمين وهم في غمرتهم هذه أن تقدم الأوروبيين راجع لقوانينهم وأنظمتهم، فذهبوا ينقلونها وينسجون على منوالها، فلم تزدهم إلا ضلالاً على ضلالهم، وخبالاً على خبالهم، وضعفاً على ضعفهم، بل جعلتهم أحزاباً وشيعاً كل حزب بما لديهم فرحون، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.
    ولو أراد الله بالمسلمين خيراً لعلموا أن الشريعة الإسلامية - وقد جاءت كاملة لا يشوبها نقص، حاملة في طياتها وسائل التقدم والتطور المستمر للمجتمع - هي أصلح الشرائع لعصور التقدم وعصور التأخر على السواء، لأنها في كل الأحوال ترمي إلى تكون الجماعة الصالحة وتوجيهها دائماً للتقدم المستمر والتطور الصالح، ولا تقنع من ذلك بما هو دون الكمال التام.
    وإن في تاريخ المسلمين لآية، وإنه لعبرة لمن كان له قلب، وإن فيه الدليل الحاسم على أن الشريعة الإسلامية هي التي خلقت المسلمين من العدم، وجعلتهم أمة فوق الأمم، ودفعتهم إلى الأمام، وسلطتهم على دول العالم، وإن فيه الدليل الحاسم على أن حياة المسلمين وتقدمهم ورقيهم متوقف على تطبيق الشريعة
    (1/23)
    ________________________________________
    الإسلامية، فالمسلمون من صنع الشريعة كيانهم تابع لكيانها، ووجودهم مرتبط بوجودها، وسلطانهم تابع لسلطانها.
    وأحب قبل الانتقال إلى موضوع آخر أن أنبه القارئ إلى أن القانون الوضعي حين تحول أخيراً عن أصله الأول فصار يوضع لتوجيه الجماعة إنما أخذ في ذلك بنظرية الشريعة الإسلامية التي تجعل الأصل في التشريع أن يصنع الجماعة ويوجهها ثم ينظمها، وهكذا انتهى القانون الوضعي إلى ما بدأت به الشريعة وسبقت إليه من ثلاثة عشر قرناً، فإذا ما قال علماء القانون الوضعي إنهم وصلوا لنظرية جديدة، قلنا لهم: كلا ولكنكم تسلكون طريق الشريعة وتسيرون في أثرها.
    alsaidilawyer
    alsaidilawyer
    مدير المنتدى
    مدير المنتدى


    الجنس : ذكر
    الابراج : الدلو
    عدد المساهمات : 4030
    نقاط : 81110
    السٌّمعَة : 2684
    تاريخ التسجيل : 01/03/2010
    العمر : 53
    الموقع : الجمهورية اليمنية - محافظة إب

    نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما - الدكتور عبد القادر عوده Empty رد: نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما - الدكتور عبد القادر عوده

    مُساهمة من طرف alsaidilawyer الأحد 19 أكتوبر 2014 - 12:22

    19 - المميزات الجوهرية التي تميز الشريعة عن القانون: ونستطيع بعد أن عرضنا الخلافات الأساسية بين الشريعة والقوانين الوضعية أن نتبين أهم المميزات التي تميز الشريعة عن القوانين؛ لأن كل ما تخالف الشريعة فيه القوانين يعتبر في الوقت نفسه مما يميز الشريعة عن القوانين. وعلى هذا يمكننا أن نستخلص مما ذكر من الاختلافات: أن الشريعة الإسلامية تمتاز على القوانين الوضعية بثلاث ميزات جوهرية:
    الميزة الأولى: الكمال: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالكمال؛ أي بأنها استكملت كل ما تحتاجه الشريعة الكاملة من قواعد ومبادئ ونظريات، وأنها غنية بالمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الجماعة في الحاضر القريب والمستقبل البعيد.
    الميزة الثانية: السمو: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالسمو؛ أي بأن قواعدها ومبادئها أسمى دائماً من مستوى الجماعة؛ وأن فيها من المبادئ والنظريات ما يحفظ لها هذا المستوى السامي مهما ارتفع مستوى الجماعة.
    الميزة الثالثة: الدوام: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية
    (1/24)
    ________________________________________
    بالدوام؛ أي بالثبات والاستقرار، فنصوصها لا تقبل التعديل والتبديل مهما مرت الأعوام وطالت الأزمان، وهي مع ذلك تظل حافظة لصلاحيتها في كل زمان ومكان.
    هذه هي الميزات الجوهرية للشريعة الإسلامية، وهي على تعددها وتباينها ترجع إلى أصل واحد نشأت عنه جميعاً بحيث يعتبر كل منها أثراً من آثاره، وهذا الأصل هو أن الشريعة الإسلامية من عند الله ومن صنعه، ولولا أن الشريعة من عند الله لما توفرت فيها صفات الكمال والسمو والدوام، تلك الصفات التي تتوفر دائماً فيما يصنعه الخالق ولا يتوفر شئ منها فيما يصنعه المخلوق.
    20 - الأدلة على توفر هذه المميزات في الشريعة: وإذا كنا قد ذكرنا أن الشريعة تتميز بالكمال والسمو والدوام فقد بقى علينا أن نقدم الدليل على توفر هذه المميزات، وسيتبين للقارئ فيما يأتي أن هذه المميزات متوفرة في كل مبدأ، وفي كل نظرية، وفي كل قاعدة قانونية جاءت بها الشريعة الإسلامية، وسنعرض على القارئ الآن طائفة من النظريات والمبادئ الشرعية التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيراً، أو لم تعرفها بعد، تتوفر فيها جميعاً كل هذه المميزات، وسيرى القارئ أن هذه المميزات كلها تتوفر في كل المبادئ والنظريات التي سنتعرض لدراستها في هذا الكتاب، فالدليل إذن على توفر هذه المميزات هو الواقع الذي لا يكذب، وليس بعد منطق الواقع حاجة لدليل أو استدلال.
    21 - نظرية المساواة: جاءت الشريعة الإسلامية من وقت نزولها بنصوص صريحة تقرر نظرية المساواة وتفرضها فرضاً، فالقرآن يقرر المساواة ويفرضها على الناس جميعاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
    (1/25)
    ________________________________________
    [الحجرات: 13] ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يكرر هذا المعنى في قوله: "الناس سواسية كأسنان المشط الواحد، لا فضل لعربي على عجميِّ إلا بالتقوى"، ثم يؤكد هذا المعنى تأكيداً في قوله: "إن الله قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائهم؛ لأن الناس من آدم وآدم من تراب وأكرمهم عن الله أتقاهم".
    ويلاحظ على هذه النصوص أنها فرضت المساواة بصفة مطلقة، فلا قيود ولا استثناءات، وأنها المساواة على الناس كافة؛ أي على العالم كله، فلا فضل لفرد على فرد، ولا لجماعة على جماعة، ولا لجنس على جنس، ولا للون على لون، ولا لسيد على مسود، ولا لحاكم على محكوم.
    وهذا هو نص القرآن يذكر الناس أنهم خلقوا من أصل واحد من ذكر وأنثى، ولا تفاضل إذا استوت الأصول وإنما مساواة، وهذا هو قول الرسول يذكر الناس أنهم جميعاً ينتمون إلى رجل واحد خلق من تراب فهم متساوون ويشبههم في تساويهم بأسنان المشط الواحد، ولم يعرف أن سناً من مشط فضلت سنة أخرى.
    وقد نزلت نظرية المساواة على الرسول وهو يعيش في قوم أساس حياتهم وقوامها التفاضل، فهم يتفاضلون بالمال والجاه، والشرف واللون، ويتفاخرون بالآباء والأمهات، والقبائل والأجناس، فلم تكن الحياة الاجتماعية وحاجة الجماعة هي الدافعة لتقرير نظرية المساواة، وإنما كان الدافع لتقريرها من وجه هو رفع مستوى الجماعة ودفعهم نحو الرقي والتقدم، كما كان الدافع لتقريرها من وجه آخر ضرورة تكميل الشريعة بما تقتضيه الشريعة الكاملة الدائمة من مبادئ ونظريات.
    ولا جدال في أن عبارة النصوص جاءت عامة مرنة إلى آخر درجات العموم والمرونة، فلا يمكن مهما تغيرت ظروف الزمان والمكان والأشخاص ان تضيق عبارة النصوص بما يستجد من الظروف والتطورات، والعلة في وضع
    (1/26)
    ________________________________________
    نصوص الشريعة على هذا الشكل أن الشريعة لا تقبل التعديل ولا التبديل، فوجب أن تكون نصوصها بحيث لا تحتاج إلى تعديل أو تبديل.
    وإذا كانت نظرية المساواة قد عرفت في الشريعة الإسلامية من ثلاثة عشر قرناً فإن القوانين الوضعية لم تعرفها إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وإذن فقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير المساواة بأحد عشر قرناً، ولم تأت القوانين الوضعية بجديد حين قررت المساواة، وإنما سارت في أثر الشريعة واهتدت بهداها، وسيرى القارئ فيما بعد أن القوانين الوضعية تطبق نظرية المساواة تطبيقاً محدوداً بالنسبة للشريعة الإسلامية التي توسعت في تطبيق النظرية إلى أقصى حد (1) .
    22 - نظرية مساواة المرأة بالرجل: هذه النظرية ليست إلا فرعاً من النظرية العامة للمساواة أو تطبيقاً لها، وقد فضلنا أن نجعل لها مكاناً خاصاً لأهميتها ولأنها دليل ظاهر على عدالة الشريعة وسموها وحكمتها في تقرير الحقوق وتوزيع الواجبات، وأن الشارع لا يطبق المبادئ العامة تطبيقاً آلياً، وإنما يطبقها ليحقق بها نفعاً أو يدفع بها ضرراً.
    والقاعدة العامة في الشريعة الإسلامية: إن المرأة تساوي الرجل في الحقوق والواجبات، فلها مثل ما له وعليها مثل ما عليه، وهي تلتزم للرجل بما يقابل التزاماته لها، فكل حق لها على الرجل يقابله واجب عليها للرجل، وكل حق للرجل عليها يقابله واجب على الرجل لها، وذلك قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 28] .
    ولكن الشريعة مع تقريرها المساواة بين الرجل والمرأة كقاعدة عامة
    _________
    (1) يراجع الفصل المخصص لسريان القانون على الأشخاص، فقد تكلمنا فيه على نظرية المساواة بتوسع بينما قصرنا الكلام هنا على قدر ما يقتضيه المقام من بيان مميزات الشريعة فيما جاءت به من مبادئ ونظريات.
    (1/27)
    ________________________________________
    ميزت الرجل على المرأة درجة في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] ، وقد بين القرآن حدود هذه الميزة أو الدرجة التي أختص بها الرجل في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ، فبين ذلك أن الدرجة هي درجة الرئاسة والقوامة على شئونهما المشتركة.
    ولا شك أن الرجل وهو المكلف طبقاً للشريعة بالإنفاق على المرأة وتربية الأولاد والمسئول الأول عن الأسرة أحق بالرئاسة والقوامة على شئون الأسرة المشتركة، لأن مسئوليته عن هذه الشئون تقتضي أن يكون صاحب الكلمة العليا فيها.
    فالسلطة التي أعطيت للرجل إنما أعطيت له مقابل المسئولية التي حملها ليتمكن من القيام بمسئولياته على خير وجه، وهذا تطبيق دقيق لقاعدة شريعة عامة هي القاعدة التي تقول: "السلطة بالمسئولية"، تلك القاعدة التي جاءت بها الشريعة لتحكم علاقة أصحاب السلطة بغيرهم، ولتبين مدى سلطتهم ومسئوليتهم والتي قررها الرسول عليه السلام في قوله: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها".
    وإذا كان للرجل درجة على النساء في شئونهما المشتركة، فإن الرجل لا يتميز على المرأة في شئونهما الخاصة، وليس له عليها أي سلطان، فهي تستطيع مثلاً أن تتملك الحقوق وتتصرف فيها دون أن يكون للرجل ولو كان زوجاً أو أباً أن يشرف عليها أو يتدخل في أعمالها.
    وقد سوت الشريعة الإسلامية بين الرجل والمرأة على الوجه السابق من يوم نزولها أي من ثلاثة عشر قرناً تقريباً في وقت لم يكن فيه العالم مهيئاً للتسوية بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، فلم تكن حاجة الجماعة هي التي دفعت
    (1/28)
    ________________________________________
    الشريعة لتقرير المساواة وإنما اقتضت ذلك ضرورة تكميل الشريعة بالمبادئ التي يجب أن تكون في شريعة كاملة دائمة.
    ونستطيع أن ندرك مدى السمو الذي وصلت إليه الشريعة بتقريرها مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة إذا علمنا أن القوانين الوضعية لم تسمح بالتسوية بينهما إلا في القرن التاسع عشر، وأن بعضها يمنع النساء إلى اليوم من التصرف في شئونهن الخاصة إلا بإذن أزواجهن.
    ويمكننا أن نلاحظ بسهولة مدى عموم النصوص ومرونتها، وأنها لا تضيق بحالة ما، ولا تعجز عن الإحاطة بكل ما يتصور من المسائل، فإذا أضيف هذا إلى ما في النصوص من كمال وسمو كان من الحق أن نقول إن نصوص الشريعة لا تقبل التعديل والتبديل، لأنها ليست في حاجة إلى تعديل أو تبديل.
    23 - نظرية الحرية: من المبادئ الأساسية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية مبدأ الحرية، فقد أعلنت الشريعة الحرية وقررتها في أروع مظاهرها؛ فقررت حرية التفكير، وحرية الاعتقاد، وحرية القول، وسنتكلم عن هذه الحريات واحدة بعد الأخرى فيما يأتي.
    24 - حرية التفكير: جاءت الشريعة الإسلامية معلنة حرية التفكير، محررة للعقل من الأوهام والخرافات والتقاليد والعادات، داعية إلى نبذ كل ما لا يقبله العقل. فهي تحث على التفكير في كل شئ وعرضه على العقل، فإن آمن به العقل كان محل إيمان، وإن كفر به كان محل كفران. فلا تسمح الشريعة للإنسان أن يؤمن بشيء إلا بعد أن يفكر فيه ويعقله، ولا تبيح له أن يقول مقالاً أو أن يفعل فعلاً إلا بعد أن يفكر فيما يقول ويفعل ويعقله.
    ولقد قامت الدعوة الإسلامية نفسها على أساس العقل، فها هو القرآن يعتمد في إثبات وجود الله، ويعتمد في إقناع الناس بالإسلام، ويعتمد في حملهم على الإيمان بالله ورسوله وكتابه - يعتمد القرآن في ذلك كله اعتماداً أساسياً على استثارة
    (1/29)
    ________________________________________
    تفكير الناس وإيقاظ عقولهم، ويدعوهم بشتى الوسائل إلى التفكير في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم وفي غير ذلك من المخلوقات، ويدعوهم إلى التفكير فيما تقع عليه أبصارهم وما تسمعه آذانهم؛ ليصلوا من وراء ذلك كله إلى معرفة الخالق، وليستطيعوا التمييز بين الحق والباطل.
    ونصوص القرآن التي تحض على استخدام العقل وتحرير الفكر لا تعد كثرة، منها قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] ، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46] وقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الروم: 8] ، وقوله: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101] ، وقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ* فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7] ، وقوله: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20] ، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ، وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [آل عمران: 7] .
    ويعيب القرآن على الناس أن يلغوا عقولهم، ويعطلوا تفكيرهم، ويقلدوا غيرهم، ويؤمنوا بالخرافات والأوهام، ويتمسكوا بالعادات والتقاليد دون تفكير فيما يتركون وما يدعون، وينعي عليهم ذلك كله، ويصف من كانوا على هذه الشاكلة بأنهم كالأنعام بل أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأنهم يتبعون غيرهم دون التفكير ولا يحكمون عقولهم فيما يعملون أو يقولون أو يسمعون، ولأن العقل هو الميزة الوحيدة التي ميز الله بها الإنسان على غيره من المخلوقات، فإذا ألغى
    (1/30)
    ________________________________________
    عقله أو عطل فكره تساوى بالأنعام بل كان أضل منها.
    ونصوص القرآن صريحة في تقرير هذه المعاني، واقرأ إن شئت قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 170 - 171] ، وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ، وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] .
    وللإنسان أن يفكر فيما شاء كما يشاء وهو آمن من التعرض للعقاب على هذا التفكير ولو فكر في إتيان أعمال تحرمها الشريعة، والعلة في ذلك أن الشريعة لا تعاقب الإنسان على أحاديث نفسه، ولا تؤاخذه على ما يفكر فيه من قول أو فعل محرم، وإنما تؤاخذه على ما أتاه من قول أو فعل محرم، وذلك معنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم".
    25 - حرية الاعتقاد: والشريعة الإسلامية وهي أول شريعة أباحت حرية الاعتقاد وعملت على صيانة هذه الحرية وحمايتها إلى آخر الحدود، فلكل إنسان - طبقاً للشريعة الإسلامية - أن يعتنق من العقائد ما شاء، وليس لأحد أن يحمله على ترك عقيدته أو اعتناق غيرها أو يمنعه من إظهار عقيدته.
    وكانت الشريعة الإسلامية عملية حين قررت حرية العقيدة، فلم تكتف بإعلان هذه الحرية وإنما اتخذت لحمايتها طريقين:
    أولاهما: إلزام الناس أن يحترموا حق الغير في اعتقاد ما يشاء وفي تركه يعمل طبقاً لعقيدته، فليس لأحد أن يكره آخر على اعتناق عقيدة ما أو ترك أخرى،
    (1/31)
    ________________________________________
    ومن كان يعارض آخر في اعتقاده فعليه أن يقنعه بالحسنى، ويبين له وجه الخطأ فيما يعتقد، فإن قبل أن يغير عقيدته عن اقتناع فليس عليهما حرج، وإن لم يقبل فلا يجوز إكراهه ولا الضغط عليه، ولا التأثير عليه بما يحمله على تغيير عقيدته وهو غير راضٍ، ويكفي صاحب العقيدة المضادة أنه أدى واجبه؛ فبين الخطأ، وأرشد إلى الحق، ولم يقصر في إرشاد خصمه وهدايته إلى الصراط المستقيم. واقرأ إن شئت هذه المعاني صريحة واضحة في قول تعالى لرسوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ، وقوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] ، وقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22] ، وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] .
    ثانيهما: إلزام صاحب العقيدة نفسه أن يعمل على حماية عقيدته، وأن لا يقف موقفاً سلبياً، فإذا عجز عن حماية نفسه تحتم عليه أن يهاجر من هذه البلدة التي لا تحترم فيها أهله العقيدة، ويمكن فيه من إعلان ما يعتقد، فإن لم يهاجر وهو قادر على الهجرة فقد ظلم نفسه قبل أن يظلمه غيره، وارتكب إثماً عظيماً، وحقت عليه كلمة العذاب، أما إذا كان عاجزاً عن الهجرة فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وهذا هو القرآن ينص صراحة على ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - 99] .
    وقد بلغت الشريعة الإسلامية غاية السمو حينما قررت حرية العقيدة للناس عامة مسلمين وغير مسلمين، وحينما تكفلت بحماية هذه الحرية لغير المسلمين في بلاد الإسلام، ففي أي بلد إسلامي يستطيع غير المسلم أن يعلن عن دينه
    (1/32)
    ________________________________________
    ومذهبه وعقيدته، وأن يباشر طقوسه الدينية، وأن يقيم المعابد والمدارس لإقامة دينه ودراسته دون حرج عليه، فلليهود في البلاد الإسلامية عقائدهم ومعابدهم وهم يتعبدون علناً وبطريقة رسمية، ولهم مدارسهم التي يعلمون فيها الدين الموسوي، ولهم أن يكتبوا ما يشاءون عن عقيدتهم وأن يقارنوا بينها وبين غيرها من العقائد ويفضلوها عليها في حدود النظام العام والآداب والأخلاق الفاضلة، وكذلك حال المسيحيين مع اختلاف مذاهبهم وتعددها، فلكل أصحاب مذهب كنائسهم ومدارسهم، وهم يباشرون عباداتهم علناً، ويعلمون عقائدهم في مدارسهم، ويكتبون عنها وينشرون ما يكتبون في البلاد الإسلامية.
    26 - حرية القول: أباحت الشريعة حرية القول وجعلتها حقاً لكل إنسان، بل جعلت القول واجباً على الإنسان في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة والنظام العام وفي كل ما تعتبره الشريعة منكراً؛ وذلك قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 104] ، وقوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج: 41] ، وذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، وقوله: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وقوله: "الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وقوله: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
    وإذا كان لكل إنسان أن يقول ما يعتقد أنه الحق ويدافع بلسانه وقلمه عن عقيدته فإن حرية القول ليست مطلقة، بل هي مقيدة بأن لا يكون ما يكتب أو يقال خارجاً عن حدود الآداب العامة والأخلاق الفاضلة أو مخالفاً لنصوص الشريعة.
    وقد قررت الشريعة حرية القول من يوم نزولها، وقيدت في الوقت نفسه
    (1/33)
    ________________________________________
    هذه الحرية بالقيود التي تمنع من العدوان وإساءة الاستعمال، وكان أول من قيدت حريته في القول محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو رسول الله الذي جاء معلناً للحرية مبشراً بها وداعياً إليها، ليكون قوله وعمله مثلاً يحتذى، وليعلم الناس انه لا يمكن أن يعفى أحد من هذه القيود إذا كان رسول الله أول من قيد بها مع ما وصفه به ربه من قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .
    ولقد أمر الله رسوله أن يبلغ رسالته للناس وأن يدعو الناس جميعاً إلى الإيمان بالله وبالرسالة، وأن يحاج الكفار والمكذبين ويخاطب عقولهم وقلوبهم، ولكن الله جل شأنه لم يترك لرسوله حرية القول على إطلاقها؛ فرسم له طريقة العودة، وبين له منهاج القول والحجاج، وأوجب عليه أن يعتمد في دعوته على الحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل بالتي هي أحسن، وأن يعرض عن الجاهلين، وأن لا يجهر بالسوء من القول، وأن لا يسب الذين يدعون من دون الله، فرسم الله لرسوله حدود حرية القول، وبين لنا أن الحرية ليست مطلقة وإنما هي حرية مقيدة بعدم العدوان وعدم إساءة الاستعمال.
    وحرية القول في الحدود التي وضعتها الشريعة تعود دون شك على الأفراد والامم بالنفع والتقدم، وتؤدي إلى نمو الإخاء والحب والاحترام بين الأفراد والهيئات، وتجمع كلمة أولي الأمر على الحق دون غيره، وتجعلهم في حالة تعاون دائم، وتقضي على النعرات الشخصية والطائفية، وهذا كله ينقص العالم اليوم، أو يبحث عنه العالم فلا يهتدي إليه.
    ونستطيع أن نبين مدى صلاحية نظرية الشريعة إذا علمنا أن المشرعين الوضعيين بعد تجاربهم الطويلة ينقسمون اليوم قسمين: قسم يرى حرية القول دون قيد إلا فيما يمس النظام العام، وهؤلاء لا يعيرون الأخلاق أي اهتمام، وتطبيق رأيهم يؤدي دائماً إلى التباغض والتنابذ والتحزب ثم القلاقل والثورات وعدم الاستقرار. وقسم يرى تقييد حرية الرأي في كل ما يخالف رأي الحاكمين ونظرتهم للحياة، وتطبيق رأي هؤلاء يؤدي إلى كبت الآراء الحرة وإبعاد
    (1/34)
    ________________________________________
    العناصر الصالحة عن الحكم، ويؤدي في النهاية إلى الاستبداد ثم القلاقل والثورات.
    ونظرية الشريعة الإسلامية تجمع بين هاتين النظريتين اللتين تأخذ بهما دول العالم، ذلك أن نظرية الشريعة تجمع بين الحرية والتقييد، وهي لا تسلم بالحرية على إطلاقها، ولا بالتقييد على إطلاقه؛ فالقاعدة الأساسية في الشريعة هي حرية القول، والقيود على هذه الحرية ليست إلا فيما يمس الأخلاق أو الآداب أو النظام، والواقع أن هذه القيود قصد منها حماية الأخلاق والآداب والنظام، ولكن هذه الحماية لا تتيسر إلا بتقييد حرية القول، فإذا منع القائل من الخوض فيما يمس هذه الأشياء فقد منع من الاعتداء ولم يحرم من أي حق لأن الاعتداء لا يمكن أن يكون حقاً.
    ويمكننا بعد ذلك أن نقول: إن الشريعة الإسلامية تبيح لكل إنسان أن يقول ما يشاء دون عدوان؛ فلا يكون شتاماً ولا عياباً ولا قاذفاً ولا كاذباً، وأن يدعو إلى رأيه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل بالتي هي أحسن، وأن لا يجهر بالسوء من القول، ولا يبدأ به، وأن يعرض عن الجاهلين. ولا جدال في أن من يفعل هذا يحمل الناس على أن يسمعوا قوله ويقدروا رأيه، فضلاً عن بقاء علاقاته بغيره سليمة ثم بقاء الجماعة يداً واحدة تعمل للمصلحة العامة.
    والنصوص القرآنية الآتية تعتبر دستور القول في الشريعة، وهي قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ، وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] ، وقوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ، وقوله: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] ، وقوله: {تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] .
    (1/35)
    ________________________________________
    هذه هي نظرية الحرية بشعبها الثلاث، جاءت بها الشريعة الإسلامية في وقت كان الناس فيه لا يفكرون بعقولهم، ولا يحفلون إلا بما وجدوا عليه آباءهم، وكان من الطبيعي في نظرهم أن يكره الرجل على تغيير عقيدته، ولم يكن لأحد حرية القول أو التفكير إلا أصحاب السلطان والأقوياء. وقد لقى المسلمون الأول عنتاً شديداً في نشر الدعوة وبث العقيدة الإسلامية، فعذبوا لتغيير عقيدتهم، وأكرهوا على ذلك بشتى الوسائل، وكان الكفار والمكذبون يترصدون لهم؛ فلا يحاولون القول إلا منعوهم منه، ولا التعبد إلا آذوهم به.
    وظاهر مما سبق أن الشريعة حين جاءت بنظرية الحرية لم تكن تجاري تطور الجماعة أو تلبي رغباتهم، لأن العالم كله في ذلك الوقت لم يكن مهيأً لنظرية الحرية، وإنما قررت الشريعة هذه النظرية لترفع بها مستوى الجماعة، وتدفعهم نحو التقدم والرقي، وتسمو بهم عن الموطن الذي نزلت بهم فيه همجيتهم، وأرضاهم به جهلهم، كذلك كان تقرير النظرية لازماً لتكميل الشريعة بما تستلزمه الشريعة الكاملة الدائمة.
    وقد جاءت النصوص المقررة للحرية والمبينة لحدودها نصوصاً عامة مرنة بحيث لا يمكن أن تحتاج إلى تعديل أو تبديل. وهذا يتفق مع الأساس الذي قامت عليه الشريعة وهو عدم قابليتها للتعديل أو التبديل، ولا شك أن النصوص من العموم والمرنة بحيث لا يمكن أن تضيق بأي حال مهما تغيرت الظروف والأمكنة وطال الزمن.
    ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير نظرية الحرية بأحد عشر قرناً على الأقل؛ لأن القوانين الوضعية لم تبدأ بتقرير هذه النظرية إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك فلم تكن هذه القوانين تعترف بالحرية بل كانت أقصى العقوبات تخصص للمفكرين ودعاة الإصلاح ولمن ينتقد عقيدة تخالف العقيدة التي يعتنقها أولو الأمر. هذا هو الواقع وهذه هي حقائق التاريخ، فمن شاء بعد ذلك أن يعرف كيف نشأت
    (1/36)
    ________________________________________
    الأكذوبة الكبرى التي تقول إن الأوروبيين هم أول من دعا للحرية فليعلم أنها نشأت من الجهل بالشريعة الإسلامية، وقد يعذر الأوروبيون في هذا الجهل أما نحن فلن نجد لأنفسنا عذراً.
    alsaidilawyer
    alsaidilawyer
    مدير المنتدى
    مدير المنتدى


    الجنس : ذكر
    الابراج : الدلو
    عدد المساهمات : 4030
    نقاط : 81110
    السٌّمعَة : 2684
    تاريخ التسجيل : 01/03/2010
    العمر : 53
    الموقع : الجمهورية اليمنية - محافظة إب

    نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما - الدكتور عبد القادر عوده Empty رد: نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما - الدكتور عبد القادر عوده

    مُساهمة من طرف alsaidilawyer الأحد 19 أكتوبر 2014 - 12:31

    27 - نظرية الشورى: جاءت الشريعة الإسلامية مقررة لمبدأ الشورى في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ، وفي قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، ولم يكن تقرير النظرية نتيجة لحال الجماعة، فقد كان العرب في أدنى دركات الجهل وفي غاية التأخر والانحطاط، وإنما قررت الشريعة النظرية لأنها قبل كل شئ من مستلزمات الشريعة الكاملة الدائمة المستعصية على التبديل والتعديل، ولأن تقرير النظرية يؤدي بذاته إلى رفع مستوى الجماعة وحملهم على التفكير في المسائل العامة والاهتمام بها، والنظر إلى مستقبل الأمة نظرة جدية، والاشتراك في الحكم بطريق غير مباشر، والسيطرة على الحكام ومراقبتهم. فالنظرية إذن مقررة لتكميل الشريعة ولتوجيه الجماعة ورفع مستواها.
    وظاهر من صيغة النصين المقررين لمبدأ الشورى أنهما عامان مرنان إلى آخر حدود العموم والمرونة، بحيث لا يمكن أن يحتاج الأمر إلى تعديلهما أو تبديلهما في المستقبل، وفي هذا بيان لما قلناه من أن الشريعة تتميز بصفة الدوام وأنها لا تقبل التبديل والتعديل.
    ولهذه الاعتبارات اكتفت الشريعة بتقرير الشورى كمبدأ عام وتركت لأولياء الأمور في الجماعة أن يضعوا معظم القواعد اللازمة لتنفيذها، لأن هذه القواعد تختلف تبعاً لاختلاف الأمكنة والجماعات والأوقات، فلأولياء الأمور مثلاً أن يعرفوا رأي الشعب عن طريق رؤساء الأسر والعشائر، أو عن طريق ممثلي الطوائف، أو بأخذ رأي الأفراد الذين تتوفر فيهم صفات معينة: إما بطريق التصويت المباشر وإما بطريق التصويت الغير مباشر، ولأولياء الأمور أن يسلكوا أي سبيل آخر يرون أنه أفضل من غيره في تعرف رأي الجماعة، بشرط ألا يكون في ذلك كله ضرر ولا ضرار بصالح الأفراد أو الجماعة أو النظام العام.
    (1/37)
    ________________________________________
    أما القواعد الأساسية الخاصة بتطبيق مبدأ الشورى وتنفيذه وهي قليلة فقد بينت الشريعة أحكامها ولم تتركها لأولياء الأمور، وهذه القواعد حكمها حكم مبدأ الشورى لا تقبل التعديل ولا التبديل؛ لأنها قواعد جاءت بها نصوص خاصة، والقاعدة أن ما نُصَّ عليه لا يعدل ولا يبدل.
    ومن هذه القواعد الأساسية التي توجب الشريعة اتباعها في تطبيق مبدأ الشورى وتنفيذه أن تكون الأقلية التي لم يؤخذ برأيها أول من يسارع إلى تنفيذ رأي الأغلبية، وأن تنفذه بإخلاص باعتباره الرأي الواجب الاتباع، وأن تدافع عنه كما تدافع عنه الأغلبية، وليس للأقلية أن تناقش رأياً اجتاز دون المناقشة، أو تشكك في رأي وضع موضع التنفيذ، وتلك هي سنة الرسول التي سنها للناس والتي يجب على الناس اتباعها، طبقاً لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7] .
    ولقد سن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه السنة وعمل بها في حياته، واتبعها أصحابه بعد وفاته. عمل الرسول بهذه السنة لما علم باستعداد قريش لغزوة أحد وأنهم أقبلوا إلى المدينة ونزلوا قريباً من جبل أحد، فجمع عليه السلام أصحابه، واستشارهم أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه أن لا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبيّ وبعض الصحابة، ولكن جماعة الصحابة أشاروا بالخروج وألحوا عليه في ذلك. فكان الرسول أول من وضع رأي الأكثرية موضع التنفيذ، إذ نهض من المجلس فدخل بيته ولبس لأمته، وخرج عليهم ليقود الأقلية والأكثرية إلى لقاء العدو خارج المدينة، وقد سارع الرسول بتنفيذ رأي الأغلبية بالرغم من مخالفته لرأيه الخاص الذي أظهرت الحوادث فيما بعد أنه كان الرأي الأحق بالاتباع.
    وعمل أصحاب الرسول بهذه السنة بعد وفاته في حروب الردة، فقد كان رأي
    (1/38)
    ________________________________________
    الغالبية أول الأمر متجهاً إلى عدم محاربة المرتدين ومسالمتهم، وكان رأي الأقلية وعلى رأسهم أبو بكر متجهاً إلى محاربة المرتدين وعدم التسامح معهم، وانتهت المناقشة بجنوح الكثيرين إلى رأي أبي بكر بعد اقتناعهم به، فلما وضع هذا الرأي موضع التنفيذ كان المخالفون في الرأي هم أول المنفذين له والمضحين في سبيل تنفيذه بأموالهم وأبنائهم وأنفسهم.
    وهذه السنة المباركة التي تكمل مبدأ الشورى العام تعتبر في وقتنا الحاضر العلاج الناجع لفشل الديموقراطية. فمن المسلم به أن البلاد الديموقراطية فشلت فشلاً ذريعاً في تطبيق مبدأ الشورى، والسبب الأساسي في هذا الفشل أنهم يسمحون للأقلية أن تناقش الرأي الذي أقرته الأغلبية بعد انتهاء دور المناقشة، وأن تشكك في قيمته وصلاحيته أثناء تنفيذه، بل أنه يظل موضع الانتقاد والسخرية حتى بعد تمام تنفيذه.
    ولما كانت القاعدة أن فريق الأغلبية هو الذي يتولى الحكم فإن آراء هذا الفريق وأعماله لا تقابل بما يجب لها من الاحترام، بل تكون دائماً محل تشكيك وسخرية ويطعن عليها بتفاهتها وعدم صلاحيتها، بل قد يحدث أن تمتنع الأقلية من تنفيذ القوانين التي تسنها الغالبية، وتظل الحال هكذا حتى يصبح الفريق الحاكم أقلية، فيترك الحكم ليتولاه فريق الأكثرية الذي تقابل آراؤه وأعماله بمثل ما قوبل به فريق الأكثرية السابق، وهكذا لا يتولى الحكم فريق إلا كانت آراؤه وأعماله محل النقد والتشكيك والسخرية. وقد يكون النقد سبيلاً من سبل الإصلاح إذا أبدى الناقد رأيه وقت المناقشة أو نقد آراء لم تناقش من قبل، أما نقد الآراء التي سبقت مناقشتها والتشكيك فيها بعد أن وضعت موضع التنفيذ فذلك هو الفساد بعينه، بل إنه ليتناقض مع الأساس الذي تقوم عليه الشورى؛ فأساس الشورى هو أن يحكم الشعب طبقاً لرأي الأغلبية، ومعنى ذلك أن أغلبية الشعب إذا أجمعت على رأي كان رأيها قانوناً أو حكماً تجب له الطاعة والاحترام.
    (1/39)
    ________________________________________
    ولقد أدى موقف الأقلية من الأغلبية إلى نتيجته الطبيعية، فظهر أولو الأمر في البلاد الديموقراطية بمظهر العاجز الذي لا يحسن التصرف، وفقد الأفراد ثقتهم في الزعماء والجماعات والأحزاب، وأصبحوا يتشككون في قدرتهم على حكم الشعب وإدارة أموره، وحق لهم أن يفقدوا ثقتهم فيمن تصدوا لقيادتهم فلم يسمعوا عنهم في يوم ما أنهمارتأوا رأياً فكان موضع التقدير، أو جاءوا بفكرة لم تكن موضع السخرية، أو هموا بعمل لم يكن موضع النقد والتشكيك.
    وإذا كان فشل البلاد الديموقراطية في تطبيق مبدأ الشورى يرجع في الأصل إلى انعدام الثقة فيمن يتصدون لقيادة الشعب، إلا أن تفشي هذا الفشل في كل البلاد الديموقراطية جعل الناس يعتقدون أن مبدأ الشورى نفسه غير صالح للتطبيق، فانتقل الشك وعدم الثقة من القائمين على تطبيق المبدأ إلى المبدأ ذاته، واعتنق كثير من البلاد الديموقراطية مبدأ الديكتاتورية وهم يظنون أنهم سيجدون فيه علاجاً لحالة الشك وعدم الثقة التي تعيش فيها الشعوب.
    ولكن التجارب أثبتت أن الدكتاتورية انتهت بفشل أفظع من فشل الديموقراطية، لأنها تؤدي إلى كم الأفواه، وتعطيل حرية الرأي وحرية الاختيار، وانعدام الثقة بين الشعوب والحكام، وتوريط الشعوب والحكومات فيما لا تريده أو فيما لا يعود عليها إلا بالضرر. وإذا كانت الديكتاتورية تبدأ غالباً بالنجاح إذا استبدلت بالديموقراطية الفاشلة فإن النجاح لا يرجع إلى النظام ذاته، وإنما يرجع - كما أثبتت التجارب - إلى ثقة المحكومين بشخصية الحاكمين وتعضيدهم إياهم، وإلى حرص الحكام على صالح الجماعة، فإذا تغير الحكام الموثوق بهم، أو فشلوا في القيام بمهمتهم، انعدمت الثقة بين الحكام والمحكومين، وابتدأ الفساد يدب في النظام الديكتاتوري، وكان ذلك إيذاناً بتغيير نظام الحكم، وإن كان التغيير ذاته يتوقف على عوامل أظهرها ضعف الحاكمين أو شجاعة وقوة المحكومين.
    ونستطيع الآن أن نقول بحق: إن النظام الإسلامي لا يعتبر فقط علاجاً ناجعاً
    (1/40)
    ________________________________________
    لفشل الديموقراطية، ولكنه أيضاً صمام الأمن الذي يحمي الأمم من الديكتاتورية، لأن هذا النظام يحفظ لمبدأ الشورى قيمته النظرية، ويحقق صلاحيته العملية، ويجيش كل القوى لخدمة الجماعة، ويدعو إلى الثقة بالشورى والقائمين بأمرها، ويسد الطريق على المبادئ الهدامة والديكتاتورية.
    ونستطيع أيضاً أن نقول: إن النظام الديموقراطي يقوم في الأصل على الشورى والتعاون، ولكنه انتهى بسوء التطبيق إلى تسليط المحكومين على الحاكمين، وانعدام التعاون بينهما، وإن النظام الديكتاتوري يقوم في الأصل على السمع والطاعة والثقة بين الحاكمين والمحكومين، ولكنه انتهى بسوء التطبيق إلى تسليط الحاكمين على المحكومين وانعدام الثقة بينهما. أما النظام الإسلامي فيقوم على الشورى والتعاون في مرحلة الاستشارة، وعلى السمع والطاعة والثقة في مرحلة التنفيذ، ولا تسمح قواعده بتسليط فريق على فريق، وبهذا جمع النظام الإسلامي بين ما ينسب إلى الديموقراطية من فضائل، وما ينسب إلى الديكتاتورية من مزايا ومحاسن، ثم هو في الوقت نفسه برئ من العيوب التي تنسب للديموقراطية والديكتاتورية معاً.
    ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير مبدأ الشورى بأحد عشر قرناً، حيث لم تعترف هذه القوانين بمبدأ الشورى إلا بعد الثورة الفرنسية، اللهم فيما عدا القانون الإنجليزي فقد عرف مبدأ الشورى في القرن السابع عشر، وقانون الولايات المتحدة الذي أقر المبدأ بعد منتصف القرن الثامن عشر، أما القانون الفرنسي فقد أخذ بمبدأ الشورى في أخر القرن الثامن عشر، وعلى أثر ذلك انتشر مبدأ الشورى وأخذت به معظم القوانين في القرن التاسع عشر، فالقوانين الوضعية حين قررت مبدأ الشورى لم تأت بجديد، وإنما انتهت إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية، وسارت في الطريق الذي سلكته الشريعة من القرن السابع الميلادي.
    28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم: جاءت الشريعة الإسلامية من يوم نزولها
    (1/41)
    ________________________________________
    بنظرية تقييد سلطة الحاكم، فكانت أول شريعة قيدت سلطة الحكام، وحرمتهم حرية التصرف، وألزمتهم أن يحكموا في حدود معينة، ليس لهم أن يتجاوزوها، وجعلتهم مسؤولين عن عدوانهم وأخطائهم.
    وتقوم النظرية على ثلاثة مبادئ أساسية: أولها: وضع حدود لسلطة الحاكم. ثانيها مسؤولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه. ثالثها: تخويل الأمة حق عزل الحاكم.
    المبدأ الأول: وضع حدود لسلطة الحاكم: كانت سلطة الحاكم قبل نزول الشريعة سلطة مطلقة لا حد لها ولا قيد عليها، وكانت علاقة الحاكمين بالمحكومين قائمة على القوة البحتة، ومن القوة كان الحاكم يستمد سلطانه، وعلى مقدار قوته كانت سلطته؛ فكلما كان قوياً امتد سلطانه لكل شئ، وإن ضعف انكمشت سلطته أصابها القصور والوهم. وكان الناس يدينون للحاكم بالطاعة، لا لأنه يحكمهم بل لأنه أقوى منهم، فكلما كان الحاكم قادراً على أن يسوق الناس بعصاه أو يغريهم بماله وجاهه فهم من الطائعين السامعين، فإذا ضعف واستطاع أحد منافسيه أن يتغلب عليه فإنه يستطيع تبعاً لذلك أن يتحكم في رقاب الرعية، وكانت الرعية تعتبر خدماً وعبيداً لصاحب السلطان سواءً أورث سلطانه أم اكتسبه.
    ولما كان الحاكم يستمد سلطته من قوته لم تكن سلطة أي حاكم تساوي سلطة الآخر، ولم تكن هناك حدود مرسومة للحكام لا يتعدونها، بل كان للحاكم أن يأتي ما يشاء ويدع ما يشاء دون حسيب أو رقيب.
    وجاءت الشريعة فاستبدلت بهذه الأوضاع البالية أوضاعاً جديدة تتفق مع الكرامة الإنسانية والحاجات الاجتماعية، فجعلت أساس العلاقة بين الحكام والمحكومين تحقيق مصلحة الجماعة لا قوة الحاكم أو ضعف المحكومين، وتركت للجماعة حق اختيار الحاكم الذي يرعى مصلحتها ويحفظها، وجعلت لسلطة الحاكم حدوداً ليس له أن يتعداها، فإن خرج عليها كان عمله باطلاً وكان من حق الجماعة أن تعزله وتولي غيره لرعاية شئونها.
    (1/42)
    ________________________________________
    وقد بينت الشريعة مهمة الحاكم بياناً شافياً وحددت حقوقه وواجباته تحديداً دقيقاً؛ فمهمة الحاكم في الشريعة أن يخلف رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا (1) ، ويسمى الحاكم في اصطلاح الفقهاء الإمام.
    والإمامة أو الخلافة - كما يرى الفقهاء - عقد لا ينعقد إلا بالرضى والاختيار (2) ، وبموجب هذا العقد يلزم الإمام - أي الحاكم - أن يشرف على الشئون العامة للأمة في الداخل والخارج (3) بما يحقق مصلحتها، بشرط أن يكون ذلك كله في حدود ما أنزل الله على رسوله، وفي مقابل التزام الإمام للأمة بهذا الالتزام تلتزم له الأمة على لسان ممثليها الذين اختاروه إماماً أن تسمع له وتطيع أمره، ما لم يتغير حاله فيصبح فاسقاً أو يعجز عن مباشرة عمله (4) ، فإذا تغير حاله انعزل بفسقه أو عجزه.
    فسلطة الإمام - أي الحاكم - في الشريعة ليست مطلقة، وليس له أن يفعل ما يشاء ويدع ما يشاء، وإنما هو فرد من الأمة اختير لقيادتها وعليه للأمة التزامات وله على الأمة حقوق، وله من السلطة ما يستطيع أن يؤدي به التزاماته ويستوفي به حقوقه، وهو في أداء واجباته واستيفاء حقوقه مقيد بأن لا يخرج على نصوص الشريعة أو روحها، وذلك طبقاً لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ} [المائدة: 49] ، وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] ، وقوله: {لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .
    وإذا كان الإمام - أي الحاكم - مقيداً بأن يتبع الشريعة وأن يحكم طبقاً لنصوصها، فمعنى ذلك أن سلطته مقيدة بنصوص الشريعة، فما أباحته فقد امتد سلطانه إليه، وما حرمته عليه فلا سلطان له عليه. والشريعة لا تبيح للحاكم إلا ما تبيحه لكل فرد، ولا تحرم عليه إلا ما حرمته على كل فرد.
    _________
    (1) الأحكام السلطانية ص3.
    (2) الأحكام السلطانية ص6.
    (3) حدد صاحب الأحكام السلطانية واجبات الإمام بأنها: حفظ الدين، وتوفير الأمن والنظام، وإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وحفظ الثغور، والجهاد، والإشراف على الأموال العامة في جبايتها وإنفاقها، والإشراف على الموظفين العموميين الذين يتولون كل هذه المهام.
    (4) نفس المرجع ص12 -17
    (1/43)
    ________________________________________
    المبدأ الثاني: مسئولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه: وبعد أن بينت الشريعة واجبات الإمام - أي الحاكم - وحقوقه وحددت سلطته على وجه السابق جعلته مسئولاً عن كل عمل يتجاوز به سلطانه، سواء أتعمد هذا العمل أم وقع العمل نتيجة إهماله. ولم تكن الشريعة في تقرير مسئولية الحكام عن تصرفاتهم إلا متمشية مع منطق الأشياء، فقد بينت للحاكم حقه وواجبه وألزمته بأن لا يخرج عن أحكام الشريعة، وجعلته كأي فرد عادي فلم تميزه على غيره بأي ميزة، فكان من الطبيعي - تحقيقاً للعدالة والمساواة واستجابة للمنطق - أن يسأل الحاكم عن كل عمل مخالف للشريعة سواء أتعمد هذا العمل أم وقع منه نتيجة إهماله، ما دام كل فرد يسأل كذلك عن أعماله المخالفة للشريعة (1) .
    المبدأ الثالث: تخويل الأمة حق عزل الحكام: بينا فيما سبق أن الإمامة تنعقد بناء على عقد يختار فيه الشعب الإمام أي الحاكم، ويلتزم له بالطاعة في مقابل التزاما لحاكم بالإشراف على شئون الأمة وقيادتها في الطريق التي رسمتها الشريعة. وينبني على هذا المنطق أن الحاكم الذي يقوم بمهمته في الحدود المقررة لها يجب له على الشعب السمع والطاعة، أما الحاكم الذي لا يقوم بالتزاماته أو يخرج على حدودها فليس له أن ينتظر من الشعب السمع والطاعة، وعليه هو أن يتنحى عن مركزه لمن هو أقدر منه على الحكم في حدود ما أنزل الله، فإن لم يتنح مختاراً نحّاه الشعب مكرهاً واختار غيره.
    وهذا الذي يقتضيه المنطق هو نفس حكم الشريعة الصريح، جاء به القرآن وأمر به الرسول، وعمل به الخلفاء الراشدين من بعده، فالله جل شأنه يأمر بطاعة أولي الأمر في حدود ما جاء به الرسول فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ
    _________
    (1) سنفصل الكلام على مسئولية الحكام عندما نبحث في سريان الشريعة على الأشخاص وإنما تكلمنا هنا عن المسئولية بالقدر الذي يظهر مميزات الشريعة وسبقها في تقرير النظريات الحديثة في القوانين.
    (1/44)
    ________________________________________
    وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ، والرسول عليه السلام يقول: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، ويقول: "إنما الطاعة في المعروف"، ويقول في ولاة الأمور: "من أمركم منهم بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
    وبعد موت الرسول اختار المسلمون أبا بكر خليفة عليهم، فكانت أول خطبة يقولها تطبيقاً دقيقاً لهذه النصوص حيث قال: "أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
    وولي عمر أمر المسلمين بعد أبي بكر، فكان حريصاً على إظهار معاني هذه النصوص وتثبيتها في الأذهان، خطب يوماً فقال: "لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه؟! قال: لا، القتل أنكل لمن بعده".
    هذه هي نظرية الشريعة جاءت بها في وقت كانت سلطة الحاكمين على المحكومين سلطة مطلقة، فلم تكن الشريعة حين قررت هذه النظرية تأتي بما يلائم الجماعة ويصلح لحالها، وإنما جاءت بالنظرية لأنها ضرورية للشريعة الكاملة الدائمة من ناحية، ولترفع بها مستوى الجماعة وتدفعهم نحو الرقي من ناحية أخرى، فالنظرية إذن شرعت للتكميل والتوجيه.
    وهذه هي النصوص التي تقوم عليها النظرية؛ جاءت عامة إلى آخر حدود العموم، مرنة إلى آخر حدود المرونة، بحيث تنطبق في كل زمان ومكان، ولا تضيق بما يمكن أن يستجد من حالات.
    وقد سبقت الشريعة الإسلامية بنظريتها كل القوانين الوضعية في تقييد سلطة
    (1/45)
    ________________________________________
    الحاكم، وتعيين الأساس الذي تقوم عليه علاقة الحاكمين بالمحكومين، وفي تقرير سلطان الأمة على الحكام، وأول قانون وضعي اعتراف بعد الشريعة بسلطان الأمة على الحكام هو القانون الإنجليزي، وكان ذلك في القرن السابع عشر أي بعد أن قررت الشريعة نظريتها بأحد عشر قرناً، ثم جاءت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر وعلى أثرها انتشر هذا المبدأ في القوانين الوضعية.
    وتسير القوانين الوضعية في تقرير النظرية على هدى الشريعة الإسلامية، فتجعل الحد بين الحاكمين والمحكومين الدستور الوضعي الذي يبين حقوق الأفراد والجماعات والحكام ومدى سلطان كلٍّ، كما جعلت النظرية الشرعية الحد بين الحاكمين والمحكومين نصوص الشريعة وهي الدستور الإسلامي.
    29 - نظرية الطلاق: أباحت الشريعة الإسلامية للرجل أن يطلق المرأة سواء دخل بها أم لم يدخل، ولو لم يقم دليل ظاهر على أن ضرراً حدث للرجل من الزواج، بالأمر في تطليق المرأة متروك للرجل.
    وأباحت الشريعة الإسلامية للمرأة أن تطلب من القضاء أن يطلقها على الزوج إذا أثبتت أنه يضارها ضرراً مادياً أو أدبياً، أو لا يؤدي لها ما توجبه الشريعة على الزوج من حقوق للزوجة.
    وأساس الفرق بين الرجل والمرأة في استعمال حق الطلاق أن للرجل حق القوامة والرئاسة فيما يتعلق بشئون الزوجية (1) ، وهو الذي يتحمل وحده أعباءها، فهو ملزم بمهر الزوجة ونفقات الزواج، وملزم بالإنفاق هلى الزوجة من يوم العقد ولو لم تنتقل إلى بيته، وملزم بالإنفاق عليها وعلى أولادها منه، فأعطى له حق الطلاق مطلقاً من كل قيد في مقابل هذه المسئوليات الجسيمة. وفي هذا مصلحة للمرأة من وجه آخر لأن إلزام الرجل ببيان أسباب الطلاق قد يؤدي إلى تلويث سمعة المرأة
    _________
    (1) راجع الفقرة 22.
    (1/46)
    ________________________________________
    وحرمانها من الزواج بعد ذلك. أما المرأة فأعطى لها حق الطلاق مقيداً بحصول ضرر مادي أو أدبي، وفي هذا ما يتفق مع تقديم الرجل عليها درجة في شئون الزوجية، وما يحميها حماية كافية من تعنت الزوج، وما يحمي الزوج في الوقت نفسه من أن تسئ الزوجة استعمال حقها في طلب الطلاق.
    وإذا كانت الشريعة قد أعطت الرجل الطلاق مطلقاً من كل قيد فإنها قد فرضت عليه في مقابل ذلك واجبات قصد منها حماية الزوجة وحفظ مصلحتها.
    والطلاق إما أن يكون قبل الدخول وقبل فرض مهر الزوجة، وإما أن يكون قبل الدخول وبعد فرض مهر للزوجة، وإما أن يكون بعد الدخول، وفي كل حالة من هذه الالتزامات تعتبر من ناحية تعويضاً للمرأة كما أنها من ناحية أخرى تحمل الرجل على أن يفكر كثيراً قبل استعمال حق الطلاق.
    الطلاق قبل الدخول وفرض المهر: إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو يفرض لها مهراً فعليه أن يمتعها، أي يعوضها عن الطلاق بما يقتضيه العرف، أي بما تعارف أمثال الزوج ومن هم في طبقته على أدائه للمرأة في مثل هذه الحالة، والمقصود بالأمثال أن يكونوا مثله من الناحية المالية، وذلك قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] .
    الطلاق قبل الدخول وبعد فرض المهر: وإذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول وبعد فرض المهر فهو ملزم بأن يدفع لها نصف المهر تعويضاً عن الطلاق، طبقاً لقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] .
    الطلاق بعد الدخول: أما إذا طلق الرجل المرأة بعد الدخول فهو ملزم لها
    (1/47)
    ________________________________________
    بكل المهر ولو كان أكثره غير حال، وعليه أن يسلمها كل ما قدمه لها بمناسبة الزواج أو ما ملّكها إياه في حال الزوجية سواء كان ملزماً به أم متفضلاً به عليها، وذلك طبقاً لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [النساء: 20] .
    وعلى الزوج بعد ذلك أن ينفق على الزوجة حتى تستوفي عدتها وتصبح بذلك أهلاً للزواج من غيره. وتختلف عدة المطلقة بحسب ما إذا كانت حاملاً أو غير حامل، فإن كانت حاملاً فعدتها أن تضع حملها طبقاً لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، وإن لم تكن حاملاً فعدتها أن تمر عليها ثلاثة قروء طبقاً لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] ، والقرء هو الحيض على رأي، والطهر من الحيض على رأي آخر.
    وأول ما يلاحظ على النصوص التي جاءت في الطلاق أنها نصوص مرنة وعامة إلى آخر حدود العموم والمرونة، ومن ثم كانت صالحة لكل عصر ولكل مصر، ولم تكن في حاجة إلى التعديل والتبديل، ولقد أثبت ذلك الزمن نفسه حيث مر على هذه النصوص أكثر من ثلاثة عشر قرناً وهي لا تزال على ما كانت عليه يوم نزولها من الجدة والصلاحية والسمو.
    وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد قررت حق الطلاق للزوجين من ثلاثة عشر قرناً وأحاطته بهذه الضمانات القوية العادلة، فإن العالم المتحضر لم يعرف هذا الحق ولم يعترف به إلا في القرن العشرين، بل كان البعض يأخذون على الشريعة أنها جاءت مقررة لحق الطلاق، ثم دار الزمن دورته وجاء عصر العلوم والرقي وتقدمت الأمم وتفتحت العقول، فرأى العلماء والمفكرون أن تقرير حق الطلاق نعمة على المتزوجين وأنه الطريق الوحيد للخلاص من الزواج الفاشل، ومن سوء العشرة ومن الآلام النفسية، وأن الطلاق هو الذي يحقق سعادة الزوجين
    (1/48)
    ________________________________________
    إذا فشل الزواج في تحقيقها، وأنه يحفظ الرجل والمرأة من التعرض للأخطاء ووساوس الشيطان.
    ولا يكاد اليوم يخلو قانون وضعي من قوانين الأمم المتحضرة من نص على الطلاق والاعتراف به، ولكن هذه القوانين تختلف في مدى الأخذ بمبدأ الطلاق، فالبعض يتوسع في تطبيق المبدأ، والبعض يضيق من الدائرة التي يطبق فيها. فالقانون الروسي يبيح الطلاق للرجل والمرأة دون قيد ولا شرط، فهو يأخذ بالمبدأ الذي وضعته الشريعة للرجل ويطبقه على المرأة والرجل معاً، وقوانين بعض الولايات التابعة للولايات المتحدة الأمريكية تبيح للرجل وللمرأة معاً حق طلب الطلاق إذا أثبت الطالب أن الآخر يضره ضرراً مادياً أو أدبياً، فهذه القوانين تأخذ بالمبدأ الذي قررته الشريعة حقاً للمرأة وتطبقه على الرجل والمرأة معاً. وأكثر القوانين الوضعية تبيح الطلاق بناء على طلب أحد الزوجين في حدود ضيقة ولأسباب معينة، فهذه القوانين تطبق على الرجل والمرأة ما جعلته الشريعة حقاً للمرأة ولكنها تحدد أسباب الطلاق وتضيق من دائرتها.
    وهكذا بدأ العالم بعد ثلاثة عشر قرناً يعترف بنظرية الشريعة الإسلامية في الطلاق ويأخذ بها، وقد لا يمضي القرن العشرين حتى تتوسع القوانين الوضعية في إباحة الطلاق وتطبيق نظرية الشريعة بحذافيرها.
    ونستطيع أن نتبين مما سبق أن العالم لم يكن مهيأ لقبول نظرية الطلاق يوم نزلت بها الشريعة، وأن وجود هذه النظرية في الشريعة اقتضته ضرورة تكميل الشريعة بما تحتاج إليه الشريعة الكاملة الدائمة من نظريات، وقصد منه رفع مستوى الجماعة ودفعها نحو الرقي والكمال.
    alsaidilawyer
    alsaidilawyer
    مدير المنتدى
    مدير المنتدى


    الجنس : ذكر
    الابراج : الدلو
    عدد المساهمات : 4030
    نقاط : 81110
    السٌّمعَة : 2684
    تاريخ التسجيل : 01/03/2010
    العمر : 53
    الموقع : الجمهورية اليمنية - محافظة إب

    نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما - الدكتور عبد القادر عوده Empty رد: نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما - الدكتور عبد القادر عوده

    مُساهمة من طرف alsaidilawyer الأحد 19 أكتوبر 2014 - 12:44

    30 - نظرية تحريم الخمر: حرمت الشريعة الإسلامية الحمر تحريماً مطلقاً وجعلت عقوبة تناول الخمر من الحدود "أي العقوبات" المقدرة التي لا يجوز لولى الأمر العفو عنها ولا عن الجريمة التي وضعت لها، ولا يجوز للقاضي أن
    (1/49)
    ________________________________________
    يخفضها، أو يستبدل بها غيرها، أو يوقف تنفيذها.
    ولم تحرم الشريعة الخمر مرة واحدة، بل جاءت بالتحريم تدريجياً، لأن شرب الخمر كان متفشياًٍ في العرب، وكانت الخمر إحدى متعهم وسبيل لهوهم، فاقتضت حكمة التشريع التدرج في التحريم، وكان أول نص من نصوص التحريم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ، فنهاهم الله عن الصلاة وهم سكارى، ولما كانت الصلاة فريضة لابد من أدائها فقد وجب عليهم أن لا يتناولوا الخمر بكميات تسكرهم ليستطيعوا أن يؤدوا فريضة الصلاة خمس مرات فيما بين الفجر والعشاء وهم غير سكارى، ولعل هذا كان داعياً لهم أن يتساءلوا عن حكم الخمر في ذاتها، وقد جاء النص الثاني من نصوص التحريم يرد على هذا التساؤل ويبين علة التحريم، وذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، وبعد أن أصبحت النفوس مهيأة لترك الخمر نزل النص القاطع في التحريم وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90، 91] .
    وظاهر من نصوص الشريعة أنها عامة مرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، وهذه الميزة التي تتميز بها نصوص الشرعية هي التي جعلت هذه النصوص صالحة للتطبيق وقت نزول الشريعة، وحفظت لها هذه الصلاحية في عصرنا الحاضر أي بعد مضي ثلاثة عشر قرناً على تاريخ نزولها، وهذه الميزة هي التي ستحفظ لها هذه الصلاحية في مستقبل الأيام مهما امتد الزمن وطال. فإذا ما قلنا إن الشريعة لا تقبل التعديل والتبديل فذلك لأنها صيغت بحيث لا تحتاج إلى تعديل أو تبديل.
    ولم تأت الشريعة بحريم الخمر مجاراة لحال الجماعة أو استجابة لرغباتها، فقد
    (1/50)
    ________________________________________
    كانت فكرة التحريم بعيدة عن الأذهان، ولم تكن النفوس مهيأة لها، وإنما جاءت الشريعة بالتحريم لأنه ضروري لتكميل الشريعة بما يجب أن تكون عليه الشريعة الكاملة الدائمة، وجاءت به لترفع مستوى الجماعة وتوجهها نحو السمو والكمال، وإذا كان العالم غير الإسلامي قد أصبح الآن يفكر في تحريم الخمر، كما أصبحت النفوس مهيأة لقبول التحريم، فمعنى ذلك أن الشريعة الإسلامية بما قررته من تحريم دعت الناس أن يتقدموا عصرهم بأكثر من ثلاثة عشر قرناً.
    ولقد دعت الشريعة الإسلامية العالم إلى ترك الخمر وحرمتها على الناس من القرن السابع، ولكن لم يستجب لهذه الدعوة ويأخذ نفسه بتحريم الخمر إلا البلاد الإسلامية، أما ما عداها من البلاد فقد بقيت تحت سلطان الخمر حتى أثبت العلم المادي أخيراً أن الخمر مفسدة عظمى، وأنها تهدم الصحة وتضيع المال وتضعف النسل والعقل وتضر بالإنتاج ضرراً بليغاً، هنالك بدأت الدعوة لتحريم الخمر تظهر وتشتد، وتؤلف لها الجماعات وتجمع لها الأموال وتنشر الصحف، وقد نجحت الدعوة لتحريم الخمر نجاحاً ملحوظاً فلا يكاد يوجد اليوم بلد ليس فيه جماعة قوية تدعو لتحريم الخمر، وتجد كل تعضيد ومساعدة من المفكرين والمصلحين بحيث يمكن أن يقال: إن الدعوة إلى تحريم الخمر أصبحت اليوم عامة.
    ويستطيع الإنسان أن يرى الدعوة إلى تحريم الخمر ظاهراً في التشريعات التي صدرت في القرن الحالي، فالولايات المتحدة أصدرت من عدة سنين قانوناً يحرم الخمر تحريماً تاماً، والهند أصدرت من عامين قانوناً مماثلاً. وهاتان هما الدولتان الوحيدتان اللتان حرمتا الخمر تحريماً تاماً. أما أكثر الدول فقد استجابت للدعوة استجابة جزئية؛ فحرمت تقديم الخمر وتناولها في المحلات العامة في أوقات معينة من النهار، كما حرمت تقديمها أو بيعها لمن لم يبلغوا سناً معيناً.
    ونستطيع أن نقول بعد ذلك: إن العالم اليوم أصبح مهيأ لفكرة تحريم الخمر بعد أن ثبت علمياً أنها تضر بالشعوب ضرراً بليغاً، وأن الدعوة إلى التحريم
    (1/51)
    ________________________________________
    تأخذ طريقها ويشتد ساعدها كل يوم، وتجد من العلماء والمصلحين كل تعضيد، وأن اليوم الذي تحرم فيه كل الدول الخمر تحريماً قاطعاً لم يعد بعيداً، وأن العالم قد بدأ يأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية ويسير على أثرها فسجل على نفسه بذلك أنه استجاب للحق بعد أن ظل يدعى إليه ثلاثة عشر قرناً فلا يجيب.
    31 - نظرية تعدد الزوجات: جاءت الشريعة الإسلامية من يوم نزولها مبيحة لتعدد الزوجات بشرط أن يعلم الزوج من نفسه القدرة على عدل بينهن، فإن كان يعلم أنه لا يستطيع العدل بينهن أو يخشى أن لا يعدل بينهن فلا يجوز له أن يتزوج غير امرأة واحدة، وإذا كان يعلم أنه يستطيع العدل بينهن فليس له أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة، وذلك قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] .
    وقد سايرت الشريعة الإسلامية منطقها الخاص، وسايرت الطبيعة البشرية، وجاءت متفقة مع الغرض من الزواج حينما قررت إباحة تعدد الزوجات.
    فأما أن الشريعة قد سايرت منطقها الخاص: فذلك أن الشريعة تحرم الزنا تحريماً كلياً وتعاقب عليه أشد العقاب حتى أنها لتعاقب الزاني المحصن بالرجم (أي القتل رمياً بالحجارة) فوجب أن لا تحرم الزنا على الناس من وجه وتدفعهم إلى الزنا من وجه آخر، ولا شك أن التحريم تعدد الزوجات يدفع الناس إلى الزنا، ذلك أن عدد النساء في العالم يزيد على عدد الرجال، ويزداد الفرق بينهما كلما نشبت الحروب وتعددت، فتحريم الزواج إلا من واحدة يؤدي إلى بقاء عدد كبير من النساء دون زواج، وحرمان المرأة من الزواج مع استعدادها له معناه أن تجاهد المرأة طبيعتها، وهو جهاد ينتهي غالباً بالفشل والاستسلام وإباحة الأعراض والرضا بالسفاح، وكذلك فإن الرجل والمرأة يختلفان من حيث استعدادهما للعملية الجنسية، فالمرأة ليست مستعدة في كل وقت لغشيان الرجل إياها؛ لأنها تحيض كل شهر أسبوعاً في المتوسط، وقد تصل أيام الحيض إلى أسبوعين، وغشيانها محرم في
    (1/52)
    ________________________________________
    الحيض، ولأنها عندما تلد يحرم غشيانها مدة النفاس وهي أربعون يوماً تقريباً. كذلك فإن استعداد المرأة يضعف طول مدة الحمل أو على الأقل مدة الإثقال بالحمل، أما الرجل فاستعداده واحد لا يختلف باختلاف أيام الشهر والسنة، فإذا حرم على الرجل أكثر من واحدة كان معنى ذلك حمل الكثيرين على الزنا، لأنهم لا يستطيعون أن يكبتوا غرائزهم الجنسية أيام الحيض والنفاس والإثقال بالحمل.
    وأما أن الشريعة الإسلامية سايرت طبائع البشر في إباحة تعدد الزوجات: فإنها قدرت قوة الغرائز الجنسية حق قدرها، فلم تعرض الرجل أو المرأة لامتحان إن نجح فيه عشرات سقط المئات، ولم تفرض على الرجل أن يتزوج واحدة فقط حتى لا تحكم على بعض النساء بالبقاء عوانس مدى الحياة، يتمنين الرجل فلا يحصلن عليه، ويحملن بالأولاد والأسرة ولا سبيل إلى تحقيق حلمهن، ويقاومن الغرائز الجنسية فلا تعود عليهن المقاومة إلا بضعف الصحة والعقل وخسارة الشرف والعفة، ولم تفرض الشريعة على الرجل أن يتزوج واحدة فقط حتى لا تعرضه للوقوع تحت سيطرة الغرائز الجنسية في فترات الحيض والنفاس أو غيرها من الفترات التي يضعف فيها استعداد المرأة للاستجابة، لأن الرجل في الغالب يخضع لسلطان الغريزة أكثر مما يخضع لسلطان العقل، شأنه في ذلك شأن المرأة، وإن كانت طبيعة المرأة تساعدها على كبت غريزتها أكثر مما يستطيع الرجل.
    وأما أن حكم الشريعة في إباحتها التعدد متفقاً مع الغرض من الزواج: فالأصل أن الغرائز الجنسية ركبت في الرجل والمرأة لحفظ النوع، وأن الزواج شرع للتناسل وتكوين الأسرة، فإذا تزوج الرجل امرأة عقيماً ولم يبح له أن يتزوج غيرها فقد تعطلت وظائفه الجنسية عن أداء الغرض الذي خلقت له، وتعطل الغرض من الزواج نفسه، كذلك فإن قدرة الزوج على التناسل غير محدودة أما قدرة المرأة فلها حد لا تتعداه؛ فالرجل يستطيع أن ينجب أولاداً حتى يبلغ الستين
    (1/53)
    ________________________________________
    أو السبعين في المتوسط وهو في الغالب أقصى عمره، أما المرأة فتنعدم قدرتها على التناسل فيما بين الأربعين والخمسين، فلو حرم على الرجل أن يتزوج أكثر من واحدة لكان معنى ذلك تعطيل وظيفته التناسلية حوالي نصف المدة التي يستطيع فيها أن يؤدي هذه الوظيفة.
    هذه هي نظرية الشريعة في إباحة تعدد الزوجات، قررتها لدفع الضرر ورفع الحرج، ولتحقيق المساواة بين النساء ولرفع مستوى الأخلاق، وظاهر من النص الذي قررها أنه نص عام إلى آخر حدود العموم، مرن إلى آخر حدود من المرونة، وهذا جعله محتفظاً بصلاحيته التي كانت له من ثلاثة عشر قرناً، وما سيجعله محتفظاً بهذه الصلاحية إلى ما شاء الله.
    ولم تأت الشريعة بهذا النص لتساير به حال الجماعة، فقد كان العرب يجيزون تعدد الزوجات إلى غير حد، ولم يكونوا يستسيغون تحديد عدد الزوجات، وقد اضطر الكثيرون منهم بعد نزول النص إلى إبقاء أربعة فقط من أزواجهم وتطليق الباقيات، لكن الشريعة جاءت بهذا النص لترفع به مستوى الجماعة، ولأن وجوده ضروري في شريعة دائمة كاملة لا تقبل التغيير والتبديل.
    ونظرية الشريعة في تعدد الزوجات من النظريات التي لم تعترف بها القوانين الوضعية حتى الآن، بل كانت هذه النظرية قديماً مدعاة لتندر الأوروبيين واستهجانهم، وأداة يستخدمونها في طعنهم على الإسلام، أما اليوم فإن النظرية تجد لها في نفوس علمائهم ومصلحيهم مكاناً، وفي صحفهم السيارة موضعاً، ومن يدري لعل اليوم الذي تأخذ فيه القوانين الوضعية بهذه النظرية قد أقترب، فإن الحرب العظمى التي وقعت سنة 1914 والحرب الأخيرة التي وقعت سنة 1939 قد ساعدت كلاهما على تهيئة الأذهان لهذه النظرية، حيث قتل في كل من الحربين عدد كثير من الرجال وترمل عدد كبير من النساء، وزاد عدد النساء على عدد الرجال زيادة ظاهرة.
    والحق أن الحروب لم تكن هي الدافع الوحيد الذي حمل الأوربيين على التفكير
    (1/54)
    ________________________________________
    في إباحة تعدد الزوجات، إنما حملهم على ذلك أسباب أخرى متعددة، منها انتشار المخاللة بحيث أصبح لكل رجل عدد من الخليلات يشاركن زوجته في رجولته وعطفه وماله، بل قد يكون لإحداهن في هذه أكثر من نصيب زوجته، ومنها شيوع الزنا وما يترتب عليه من جنايات أقلها كثرة أبناء السفاح الذين يقذف بهم إلى الشوارع خوف العار، وقتل الأجنة في بطون أمهاتها، ومنها الزيادة الطبيعية في عدد النساء وحاجة هؤلاء إلى أن يكنّ زوجات وأمهات، ومنها قلة النسل قلة ظاهرة في الشعوب الأوروبية، فهذه الأسباب مجتمعة مع غيرها دعت الناس إلى أن يفكروا في إباحة تعدد الزوجات باعتباره العلاج الطبيعي لهذه الظواهر والأمراض الاجتماعية الخطيرة.
    32 - نظريات في الإثبات والتعاقد: وهذه مجموعة من النظريات التي جاءت بها الشريعة الإسلامية نعرضها تحت عنوان واحد، لأن القرآن جاء بها جميعاً في آية واحدة هي آية الدين، ولأن بعضها يتصل بالبعض الآخر اتصالاً وثيقاً، ولأننا سنتكلم عنها فقط بالقدر الذي يبرز فيها مميزات الشريعة.
    وآية الدين التي نعنيها هي قول الله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] .
    (1/55)
    ________________________________________
    ونص الآية يشمل عدداً من المبادئ التشريعية والنظريات الفقهية، وسنبين أهمها فيما يلي:
    33 - نظرية الإثبات بالكتابة: فرضت الشريعة الإسلامية الكتابة وسيلة لإثبات الدين المؤجل سواء كبرت قيمة الدين أو صغرت، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ، وقوله: {وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} ، ويدخل تحت لفظ الدين كل التزام ايا كان نوعه، لأن الالتزام ليس إلا ديناً في ذمة الملتزم له، فيدخل تحت لفظ الدين القرض والرهن والبيع بثمن مؤجل والتعهد بعمل وغير ذلك (1) .
    أما التصرفات التي تتم في الحال فليس من الواجب كتابتها ما دام كل متعاقد قد وفى بالتزاماته واستوفى حقوقه؛ كمن يشتري شيئاً من آخر ويتسلمه ويسلمه الثمن في الحال، ومثل هذه التصرفات يجوز إثباتها بغير الكتابة مهما بلغت قيمته إذا أثبتت باعتبارها وقائع لا باعتبارها التزامات؛ لأن الوقائع المادية يجوز إثباتها بكل طرق الإثبات.
    وظاهر من النص الذي فرض الكتابة أنه نص عام ومرن إلى حد بعيد، وأنه يصلح للتطبيق اليوم كما كان صالحاً من ثلاثة عشر قرناً، وكما سيكون صالحاً للمستقبل البعيد، وهذه إحدى مميزات الشريعة التي هيأتها لتكون غير قابلة للتعديل والتبديل.
    ويوم نزل هذا النص على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان العرب أميين يعيشون في أعماق البادية وفي خشونة من العيش، وأمثال هؤلاء تقل بينهم المعاملات بحيث لا تحتاج إلى تشريع خاص، ولو أن الشريعة كانت كالقانون
    _________
    (1) كذلك يمكن قياس أي التزام على الدين إذا احتفظ لكلمة الدين بمعنى القرض لأن كليهما شئ مقوم التزم بع بعد مضي أجل معين.
    (1/56)
    ________________________________________
    تأتي على قدر حاجة الناس لما جاء بها شئ خاص بإثبات الالتزامات، أو لجاء بها من الأحكام ما يتفق مع أمية العرب وجهالتهم، أما أن تجئ الشريعة على هذا الوجه فتفرض على الأميين كتابة الصغير والكبير فذلك هو السمو الذي تتميز به الشريعة الكاملة الدائمة. فرضت الشريعة الإسلامية الكتابة بين الأميين لتحملهم على أن يتعلموا فتتسع مداركهم وتتثقف عقولهم، ويحسنوا فهم هذه الحياة الدنيا؛ فيصبحوا - وقد تعلموا - أهلاً لمنافسة الأمم الأخرى وللتفوق والسيطرة عليها، وهذه أغراض اجتماعية وسياسية بحتة، أما الغرض القانوني فهو حفظ الحقوق وإقامة الشهادات والابتعاد عن الريب والشكوك.
    فالشريعة حين أوجبت الكتابة في الصغير والكبير جاءتنا بنظرية عظيمة ذات وجوه سياسية واجتماعية وقانونية، وهذه النظرية التي نزل بها القرآن على الرسول في القرن السابع الميلادي هي من أحدث النظريات في القوانين الوضعية وفي المذاهب الاجتماعية الحديثة، فالدول قد بدأت من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الحالي تفرض على شعوبها أن يتعلموا تعليماً إجبارياً رجالاً ونساء، وهذا الذي تفرضه الدول على الشعوب إنما هو تطبيق للنظرية الإسلامية في ناحيتها السياسية والاجتماعية. وقد بدأت الدول تأخذ بالناحية القانونية من النظرية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، حين اشترط القانون الفرنسي الذي أخذت عنه القوانين الأوروبية أن يكون الدين مكتوباً إذا زاد عن مقدار معين، ولكن شراح القانون رأوا أن الإثبات بالكتابة تكون أكمل وأكثر توفيقاً لو اشترطت الكتابة في الصغير والكبير، وظلوا ينادون برأيهم هذا حتى حققته أخيراً بعض دول أوروبا، ولا يزال الشراح في الدول الأخرى ينادون به ويأملون تحقيقه. وإذن فأحدث نظريات الإثبات في عصرنا الحاضر هي نفس نظرية الشريعة الإسلامية أخذت بها بعض القوانين الوضعية ولا يزال الشراح في بعض
    (1/57)
    ________________________________________
    الدول يطالبون دولهم أن تأخذ بها.
    34 - نظرية إثبات الدين التجاري: اشترطت الشريعة - كما بينا - الكتابة لإثبات الدين سواء كان الدين صغيراً أو كبيراً، ولكنها استثنت من هذا المبدأ العام الدين التجاري (1) وأباحت إثباته بغير الكتابة من طرق الإثبات، وذلك قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} ، والعلة في استثناء الديون التجارية من شرط الكتابة أن الصفقات التجارية تقتضي السرعة ولا تحتمل الانتظار، ولأن المعاملات التجارية أكثر عدداً وتكراراً وتنوعاً، فاشتراط الكتابة فيها يؤدي إلى الحرج وقد يضيع فرصة الكسب على المشتري أو يعرض البائع للخسارة، ومن أجل هذا لم تقيد الشريعة المعاملات التجارية بما قيدت به المعاملات المدنية من اشتراط الكتابة.
    والنص المقرر لهذه النظرية عام ومرن إلى آخر الحدود بحيث لا يحتاج على مر الأزمان تعديلاً أو تبديلاً، وليس أدل على ذلك من صلاحيته لوقتنا الحاضر مع أنه نزل منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً.
    ومن يعرف شيئاً عن تاريخ العرب وحالهم وقت نزول النص يعلم أن النص لم ينزل مجاراة لحال الجماعة أو تمشياً مع ما وصلت إليه، وإنما كان نزول النص ضرورة لتكميل الشريعة الدائمة الكاملة ولرفع مستوى الجماعة وتوجيههم الوجهة الصالحة.
    وليس أدل على سمو الشريعة وكمالها من أن نظرياتها في إثبات الدين التجاري
    _________
    (1) استثنت الشريعة أيضاً من الإثبات بالكتابة حالة الضرورة، وذلك قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] .
    (1/58)
    ________________________________________
    هي نفس النظرية السائدة اليوم في القوانين الوضعية الحديثة، وأنها تعتبر أحدث ما وصل إليه القانون الوضعي في عصرنا الحاضر.
    35 - نظرية حق الملتزم في إملاء العقد: جاءت الشريعة الإسلامية بمبدأ عام أوجبته في كتابة العقود هو أن يملي العقد الشخص الذي عليه الحق أو بمعنى آخر أضعف الطرفين، والمقصود من هذا المبدأ العام هو حماية الضعيف من القوي، فكثيراً ما يستغل القوي مركزه فيشترط على الضعيف شروطاً قاسية، فإن كان دائناً مثلاً قسا على المدين، وإن كان صاحب عمل سلب العامل كل حق واحتفظ لنفسه بكل حق، ولا يستطيع المدين أو العامل أن يشترطا لنفسيهما أو يحتفظا بحقوقهما لضعفهما، فجاءت الشريعة وجعلت إملاء العقد للطرف الضعيف لتحفظ به حقوقه، ولتحميه من التورط، ولتكون شروط العقد معلومة له حق العلم، وليقدر ما التزم به حق قدره.
    وهذه الحالة التي عالجتها الشريعة من يوم نزولها هي من أهم المشاكل القانونية في عصرنا الحالي، وقد برزت في أوروبا في القرن الماضي على أثر نمو النهضة الصناعية وتعدد الشركات وكثرة العمال وأرباب الأعمال، وكان أظهر صور المشكلة أن يستغل رب العمل حاجة العامل إلى العمل أو حاجة الجمهور إلى منتجاته فيفرض على العامل أو المستهلك شروطاً قاسية يتقبلها العامل أو المستهلك وهو صاغر، إذ يقدم عقد العمل أو عقد الاستهلاك مكتوباً مطبوعاً فيوقعه تحت تأثير حاجته للعمل أو حاجته للسلعة، بينما العقد يعطي لصاحب العمل كل الحقوق ويرتب على العامل أو المستهلك كل التبعات.
    ذلك العقد الذي نسميه اليوم في اصطلاحنا القانوني "عقد الإذعان".
    وقد حاولت القوانين الوضعية أن تحل هذا المشكل، فاستطاعت أن تحله بين المنتج والمستهلك بفرض شروط تحمي المستهلك من المنتج، وبتعيين سعر السلعة، ولكنها لم تستطع أن تحل إلا بعض نواحي المشكلة بين أصحاب العمل
    (1/59)
    ________________________________________
    والعمال، مثل إصابات العمال والتعويضات التي يستحقها العامل إذا أصيب أو طرد من عمله، لأن التدخل بين صاحب العمل والعامل في كل شروط العمل مما يضر بسير العمل ولإنتاج، وبقيت من المشكلة نواح هامة كأجر العامل وساعات العمل ومدة الإجازات وغيرها، يحاول العمال من ناحيتهم حلها بتأليف النقابات والاتحادات وتنظيم الإضرابات، ويرى العمال أن حل مشاكلهم لن يتأتى إلا إذا كان لهم حق إملاء شروط عقد العمل، ويظاهرهم على ذلك بعض المفكرين والكتاب، فهذا الحق الذي يطالب به العمال في كل أنحاء العالم والذي أضرب العمال من أجله وهددوا السلم والنظام في دول كثيرة في سبيل تحقيقه، هذا الحق الذي حقق القانون الوضعي بعضه ولم يحقق بعضه الآخر والذي يأمل العمال أن يتحقق كله إن قريباً أو بعيداً، هذا الحق قررته الشريعة الإسلامية كاملاً للضعفاء على الأقوياء وللملتزمين على الملتزم لهم وجاء به القرآن في آية الدين: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} .
    وظاهر أن صيغة النص بلغت من العموم والمرونة كل مبلغ. وهذا هو الذي جعل الشريعة تمتاز بأنها لا تقبل التغيير والتبديل.
    ووجود هذا النص في الشريعة دليل بذاته على سموَّها وكمالها ورقيها وعدالتها، فقد جاءت به منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، بينما القوانين الوضعية لم تصل إلى تقرير مثله حتى الآن مع ما يدعي لها من الرقي والسمو.
    36 - نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات: حرمت الشريعة على الإنسان أن يدعى للشهادة فيمتنع عنها، أو أن يشهد واقعة فيكتمها، أو يذكرها على غير حقيقتها، وقد نص على الحالة الأولى في آيه الدين في قوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} ، والمقصود إباؤهم حينما يدعون ليشهدوا تصرفاً ما
    (1/60)
    ________________________________________
    أو واقعة معينة، فالنص جاء خاصاً بتحمل الشهادة وليس خاصاً بأدائها. أما الحالتان الثانية والثالثة فقد نص عليهما في قوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، وفي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] ، والنصان الأخيران خاصان بتحريم كتمان الشهادة أو الامتناع عن أدائها بتحريم شهادة الزور.
    والقوانين الوضعية اليوم تأخذ بنظرية الشريعة في تحريم شهادات الزور أو كتمان الشهادة، ولكنها لم تصل بعد إلى تحريم الامتناع عن تحمل الشهادة. ولا شك أن الشريعة تتفوق على القوانين الوضعية من هذه الوجهة، فإن المصلحة العامة تقضي بالتعاون على حفظ الحقوق وبتسهيل المعاملات بين الناس، والامتناع عن تحمل الشهادة يقضي إلى تضييع الحقوق، ويؤدي إلى تعقيد المعاملات وبطئها، وهناك عقود لابد فيها من حضور الشهود كعقد الزواج.
    فإذا كان الامتناع عن تحمل الشهادات مباحاً تعطلت هذه العقود.
    ومن ير النصوص التي جاءت في تحريم الامتناع عن تحمل الشهادة أو في تحريم كتمانها أو تغييرها يعلم مدى ما بلغته هذه النصوص من العموم والمرونة، ويفهم العلة في أن الشريعة لا تقبل التعديل والتبديل.
    ومن يقارن الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية يعلم مدى ما وصلت إليه الشريعة من السمو والكمال، ويتبين أن نصوص الشريعة لم ترد مسايرة لحال الجماعة وإنما وردت لتكمل الشريعة بما تحتاج إليه الشريعة الكاملة الدائمة، ولترفع مستوى الجماعة حتى تقترب من مستوى الشريعة الكامل.
    37 - أحكام أخرى في آية الدين: هذه أربع نظريات جاءت بها آية واحدة من القرآن هي آيه الدين؛ أخذت القوانين الوضعية الحديثة باثنتين منها وبدأت
    (1/61)
    ________________________________________
    تأخذ بالثالثة ولم تأخذ بعد بالرابعة، وليست هذه النظريات الأربع هي كل أحكام آية الدين، وإنما هي بعض أحكامها، فالآية تشترط أن يكون الكاتب محايداً عدلاً عالماً بأحكام الشريعة فيما يكتبه، وتوجب عليه أن لا يمتنع عن الكتابة، وتشترط أن يشهد على سند الدين رجلان أو رجل وامرأتان، وتوجب عدم الإضرار بالكاتب أو الشاهد. وهذه كلها مبادئ عامة لا نستطيع أن نستعرضها جميعاً في هذا الكتاب الذي خصصناه للمبادئ العامة الجنائية، وإذا كنا قد تكلمنا عن نظريات دستورية واجتماعية وإدارية فإنما قصدنا من ذلك أن نبين أن نصوص الشريعة في كل ما جاءت فيه تتميز بالكمال والسمو والدوام حتى لا يظن البعض أن هذه المميزات تتوفر في قسم دون آخر من الشريعة.
    38 - تذكير: وقبل أن أنتقل إلى موضوع البحث أحب أن أقول للمسلمين الذين يعتقدون - خطأ - أن الشريعة الإسلامية لا تصلح للتطبيق في عصرنا الحاضر؛ أحب أن أقول لهؤلاء: إن هذه العقيدة لا تتفق مع عقيدة الإسلام الذي يدّعونه ويحرصون على التمسك به، وأن عليهم أن يذكروا قوله تعالى: {إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] ، وليعلم هؤلاء أن سبب تأخرها وانحطاطنا هو أننا لم نطبق الشريعة تطبيقاً عادلاً ولا كاملاً في عهودنا المظلمة المتأخرة، وأن حكامنا من الأتراك والمماليك كانوا يحكمون هواهم في كل ما يهتمون به، ويحكمون الشريعة فيما لا يضرهم ولا ينفعهم. وإذا كان سبب تأخرنا هو إهمال الشريعة وترك أحكامها فلن يجدينا الأخذ بالقوانين شيئاً، بل سيزيدنا تأخراً على تأخر وانحطاطاً على انحطاط، وإنما علاجنا المجدي هو القضاء على سبب التأخر والعودة لأحكام الشريعة.
    لقد طبق آباؤنا بعض أحكام الشريعة دون البعض الآخر، وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه؛ فصدقهم الله وعده - إن وعد الله حق - وأخزاهم
    (1/62)
    ________________________________________
    في الحياة الدنيا، وجئنا نحن على آثارهم نتبعهم ونؤمن إيمانهم، فأخزانا الله كما أخزاهم، وسلط علينا كما سلط عليهم، وجعلنا عبرة لأولي الألباب. ولن يغير الله ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا وقلوبنا ونؤمن بالكتاب كله، ذلك وعد الله، والله يقول الحق، وقد قال: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
    لقد آمنوا المسلمون الأوائل وحسن إيمانهم فمكن الله لهم في الأرض، وإن الذي مكن لهم على قلتهم وضعفهم قادر أن يمكن لنا في الأرض إذا آمنا وحسن إيماننا، ذلك وعد الله لعباده في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55] ، وذلك وعده لمن اتبع كتابه وتمسك بشريعته حيث يقول جل شأنه: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16] .
    (1/63)


    _________________

    *******************************************

    نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما - الدكتور عبد القادر عوده 08310

    نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما - الدكتور عبد القادر عوده 17904110

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 21 نوفمبر 2024 - 1:50