الجزء الأول
أقاليم العرب
جزيرة العرب
إنما بدأنا بجزيرة العرب لأن بها بيت الله الحرام، ومدينة النبي عليه الصلاة والسلام، ومنها انتشر دين الاسلام. وفيها كان الخلفاء الراشدون، والانصار والمهاجرون. وبها عقدت رايات المسلمين، وقويت أمور الدين. وأيضاً فأن بها المشاعر والمناسك والمواقيت والمناحر. ثم هي عشرية قد ذكرها الائمة في دواوينهم، ولا بد للمدرسين من معرفتها في شروحهم. ولأن منها دحيت الأرض ودعا إبراهيم عم الخلق. ومع ذلك فإنها تشتمل على حدود جليلة وكور كبيرة وأعمال نفيسة. ألا ترى أن الحجاز كلها، واليمن بأسرها، وبلد سبأ والاحقاف واليمامة والاشحار وهجر وعمان والطائف ونجران وحنين والمخلاف وحجر صالح وديار عاد وثمود والبئر المعطلة والقصر المشيد وموضع إرم ذات العماد وأصحاب الاخدود وحبس شداد وقبرهود وديار كندة وجبل طيء وبيوت الفارهين بالواد وجبل سينا ومدين شعيب وعيون موسى فيها. وهي أمد الأقاليم مساحة وأفسحها ساحة وأفضلها تربة وأعظمها حرمة وأشرفها مدناً. بها صنعاء التي فاقت البلاد، وعدن التي تشد إليها الرحال، والمخاليف للاسلام فيها جمال. واليمن الجليلة والحجاز. فإن قال قائل لم جعلت اليمن والمشرق والمغرب جانبين جانبين، قيل له: أما اليمن فالنبي صلى الله عليه وسلم جعلها حيث فرق مواقيتها في الأحرام. وأما خراسان فإن أبا زيد جعلها إقليمين وهو إمام في هذا العلم بخاصة في إقليمه، فلا عيب علينا إن جعلناها جانبين. فإن قال فلم خالفته بعد ما نصبته أماماً فصيرت خراسان إقليماً واحداً، قيل له لنا في هذا جوابان: أحدهما أنا لم نحب أن نفرق مملكة آل سامان إذ المشهور في الاسلام أنهم ملوك خراسان وأنما دار ملكهم فى هيطل. والجواب الثاني أن أبا عبدالله الجيهاني أيضاً إمام في هذا العلم وهو لم يفرق خراسان. فقولنا من جهة يوافقهما ومن جهة يخالف. وهذه صورة جزيرة العرب.
وقد جعلناه أربع كور جليلة، وأربع نواح نفيسة، والكور أولها الحجاز ثم اليمن ثم عمان ثم هجر. والنواحي: الاحقاف، والاشحار، اليمامة، قرح. فأما الحجاز فقصبته مكة ومن مدنها: يثرب وينبع وقرح وخيبروالمروة والحوراء وجدة والطالف والجار والسقيا والعونيد والجخفة والعشيرة هذه أمهات، دونهن: بدر، خليص، أمج، الحجر، بدا يعقوب، السوارقية، الفرع، السيرة، جبلة، مهاج، حاذة. وأما اليمن فقسمان ما كان نحو البحر فهو غور وأسمه تهامة قصبته زبيد ومن مدنه: معقر، كدرة، مور، عطنة، الشرجة، دويمة، الحمضة، غلافقة، مخا، كمران، الحردة، اللسعة، شرمة، العشيرة، رنقة، الخصوف، الساعد، المهجم، وغيرهن. ناحية أبين مدنها: عدن لحج. وناحية عثر مدنها: بيش، حلى، السرين، وناحية السروات. وأما ما كان من ناحية الجبال فهو بلاد باردة تسمى نجداً قصبتها صنعاء، ومن مدنها: صعدة، نجران، جرش، العرف، جبلان، الجند، ذمار، نسفان، يحصب، السحول، المذ يخرة، خولان. ناحيتها الاحقاف بها من المدن: حضرموت، حسب. وناحية مهرة مدينتها الشحر، وناحية سبأ. وأما عمان فقصبتها صحار ومدنها: نزوة، السر، ضنك، حفيت، دبا، سلوت، جلفار، سمد، لسيا، ملح. وأما هجر فقصبتها الاحساء ومدنها: سابون، الزرقاء، اوال، العقير، وناحيتها اليمامة. وأكثر مدن هذه الجزيرة صغار لكنها على آئين المدن. الآن نرجع إلى وصف ماأمكن من بلدان الكور وندع ما لا فائدة فيه.
مكة: هي مصر هذا الإقليم قد خطت حول الكعبة في شعب واد، رأيت لها ثلاث نظائر عمان بالشام واصطخر بفارس وقرية الحمراء بخراسان. بناؤها حجارة سود ملس وبيض أيضاً، وعلوها الاجركثيرة الاجنحة من خشب الساج، وهي طبقات مبيضة نظيفة، حارة في الصيف إلا أن ليلها طيب قد رفع الله عنهم مؤونة الدفأ وأراحهم من كلف الاصطلاء. وكلما نزل عن المسجد الحرام يسمونه المسفلة، ؤما ارتفع عنه المعلاة، وعرضها سعة الوادي. والمسجد في ثلثى البلد إلى المسفلة، والكعبة في وسطه، وفيه طول باب الكعبة مرتفع عن الأرض نحو قامة، عليه مصراعان ملبسان بصفائح الفضة قد طليت بالذهب قبال المشرق، طول المسجد ثلاثمائة ذراع وسبعون ذراعاً، وعرضه ثلاثمائة وخمسة عشر ذراعاً. وطول الكعبة أربعة وعشرون ذراعاً وشبر في ثلاثة وعشرين ذراعاً وشبر، وذرع دور الحجر خمسة وعشرون ذراعاً، وذرع الطواف مائة ذراع وسبعة أذرع، وسمكها في السماء سبعة وعشرون ذراعاً، والحجر من قبل الشام فيه يقلب الميزاب شبه أندر قد البست حيطانه بالرخام مع أرضه، إرتفاعها حقو ويسمونه الحطيم، والطواف من ورائه ولا يجوز الصلاة إليه. فإن قال قائل إذا لم يجز الطواف إلا عليه فأجز الصلاة إليه، قيل له هذا كلام غيرفهيم لأنه مشكوك فيه فوجب أن يحتاط فيه من الوجهين. والحجر الاسود على الركن الشرقي عند الباب على لسان الزاوية مثل رأس الانسان، ينحني إليه من قبله يسيراً. وقبة زمزم تقابل الباب الطواف بينهما، ومن ورائها قبة الشراب، فيها حوض كان يسقي فيه السويق والسكر في القديم. والقام بازاء وسط البيت الذي فيه الباب وهو أقرب إلى البيت من زمزم، يدخل في الطواف أيام الموسم ويكب. عليه صندوق حديد عظيم راسخ في الأرض، طوله أكثر من قامة، وله كسوة ويرفع المقام في كل موسم إلى البيت، فإذا رد جعل عليه صندوق خشب له باب يفتح أوقات الصلاة، فإذا سلم الامام إستلمه ثم أغلق الباب، وفيه أثر قدم إبراهيم عم، مخالفة، وهو أسود وأكبر من الحجر. وقد فرش الطواف بالرمل، والمسجد بالحصى، وأدير على صحنه أروقة ثلاثة على أعمدة رخام، حملها المهدي من الاسكندرية في البحر إلى جدة، والمسجد من بنائه. قد ألبست حيطان الأروقة من الظاهر بالفسيفساء حمل إليها صناع الشام ومصر، الا ترى اسماءهم عليه وله تسعة عشر باباً: باب بني شيبة، باب النبي، باب بني هاشم، باب الزياتين، باب البزازين، باب الدقاقين، باب بني مخزوم، باب الصفا، باب زقاق الشطوي، باب التمارين، باب دار الوزير، باب جياد، باب الحزورة، باب إبراهيم، باب بني سهم، باب بني جمح، باب العجلة، باب الندوة، باب البشارة، وإليه الاسواق من المشرق والجنوب، ودور المصريين ومنازلهم من الغرب. ويقع السعي بين الصفا والمروة في السوق الشرقي، والعدو من قرنة المسجد إلى باب بني هاشم وثم أميال خضر، وخلف هذين السوقين آخران إلى آخر المعلاة بينهما منافذ. فمن دخل من العراق وأراد باب بني شيبة فليتيامن وليسلك سوق رأس الردم ولا يسلك سوق الليل. ومن أراده من المصريين فإذا بلغ الجراحية خارج البلد عطف على اليسار إلى الثنية، ثم انحدر على المقابر إلى مدخل العراقيين. ويدخل إليها من ثلاثة وجوه، أبواب منى نحو العراق دربان ثم درب العمرة ثم درب اليمن بالمسفلة، الجميع مصفحة بالحديد والبلد محصن. وأبو قبيس مطل على المسجد يصعد إليه من الصفا في درج. وقد أحاط بالطواف أميال من الصفر وخشبات فيها قناديل معلقة، ويجعل فوقها الشمع لملوك مصر واليمن والشار صاحب غرجستان.
وبمكة ثلاث برك تملأ من قناة شقتها زبيدة من بستان بني عامر، وآبار عذيبية ومستغلاتهم الدور. أخبرنا أبو بكر بن عبدان الشيرازي، قال: حدقنا علي بن الحسين ابن معدان، قال: حدثنا محمد بن سليمان لوين المصيصي، قال: حدثنا أبو الأحوص عن الأشعث بن سليم عن الاسود بن يزيد، قال: قالت عائشة رضها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجر من البيت هو، قال: نعم، قلت: فمالهم لم يدخلوه في البيت، فقال: أن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فماشأن بابه مرتفعاً، قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية فأخاف تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر في البيت وأن الزق بابه بالأرض. ويقال أن ابن الزبيرأدخل عشرة من مشايخ الصحابة حتى سمعوا ذلك منها، ثم أمر بهدم الكعبة فاجتمع إليه الناس وأبوا ذلك، فأبى إلا هدمها، فخرج الناس إلى فرسخ خوفاً من نزول عذاب، وعظم ذلك عليهم ولم يكن ألا الخير. وبناها على ما حكت عائشة وتراجع الناس، فلما قدم الحجاج تحرم ابن الزبير بالكعبة، فأمر بوضع المنجنيق على أبي قبيس وقال: ارموا الزيادة التي ابتدعها هذا المكلف، فرموا موضع الحطيم، وأخرج ابن الزبير وصلبه، ورد الحائط كما كان في القديم، وأخذ بقية الاحجار فسد منها الباب الغربي، ورصف بقيتها في البيت كيلاتضيع.
وسمعت بعض مشايخ القيروان يقول حج المنصور فرأى صغر المسجد الحرام وشعثه وقلة معرفتهم بحرمته، ورأى ا الإعرابي يطوف بالبيت على بعيره وبجاوية، فساءه ذلك وعزم على شراء ما حوله من الدور وزيادتها فيه، وتفخيمه وتجصيصه. فجمع أصحابها ورغبهم في الاموال الجمة فتابوا عن بيعها وضنوا بجوار بيت الله الحرام، فاهتم لذلك ولم يجز أن يغصبها عليهم، ولم يظهر للناس ثلاثة أيام. وتحدث الناس بذلك وأبو حنيفة في تلك السنة حاج، ليس له بعد ذكر ولا ظهر الناس على فقهه، وصائب رأيه، قال: فقصد خيامه وكانت بالابطح، فسأل عن أمير المؤمنين وما الذي غيب شخصه. فذكرت القصة، فقال: هذا باب هين لو قد لقيته عرضته عليه. فأنهي ذلك إليه، فأمر بإحضاره. فلما سأله عن ذلك قال أبو حنيفة: يحضرهم أمير المؤمنين فيسألهم أهذه الكعبة نزلت عليكم أم أنتم نزلتم عليها. فإن قالوأ نزلت علينا كذبوا، لأن منها دحيت الأرض. وإن قالوا نحن نزلنا عليها، فجوابهم أنه قد كثر زوارها وضاقت ساحتها، فهي أحق بفنائها، ففرغوه لها. فلما جمعهم وسألهم قال سفيرهم وكان رجلاهاشمياً، نحن نزلنا عليها. قال: ردوا فناءها فقد كثر زوارها واحتاجت إليه، فبهتوا ورضوا بالبيع. وهذه الحكاية تقوي أحدى الروايتين عن أبي حنيفة كراهية بيع دور مكة وأخذ أجورها إلا على تأويل.
مدينة منى: على فرسخ من مكة، وهي من الحرم. طولها ميلان، تعمر أيام الموسم وتخلو بقية السنة إلا ممن يحفظها. وكان أبو الحسن الكرخي يحتج لأبي حنيفة في جواز الجمعة بها إنها ومكة كمصر واحد. فلما حج أبو بكر الجصاص ورأى بعد ما بينهما استضعف هذه العلة وقال: إنها مصر من **ار المسلمين، تعمر وقتاً وتخلو وقتاً، وخلوها لا يخرجها من حد الامصار، وعلى هذه العلة يعتمد القاضي أبو الحسين القزويني. وسألني يوماً: كم يسكنها وسط السنة من الناس. قلت عشرون ثلاثون رجلاً وقل مضرب إلا وفيه امرأة تحفظه، قال: صدق أبو بكر وأصاب فيما علمك. فلما لقيت الفقيه أبا حامد البغولني بنيسابور حكيت له ذلك، فقال: العلة ما نص بهأ أبو الحسن إلا ترى إلى قول الله عز أسمه: ثم محلها إلى البيت العتيق ، وقال: هدياً بالغ الكعبة وإنما يقع النحر بمنى . وقل بلد مذكور في الاسلام إلا ولأهله به مضرب، وعلى رأسها من نحو مكة عقبة ترمي عليها الجمرة يوم النحر، والثالث من الأيام الأخر، والأولى بقرب مسجد الخيف، والوسطى بينهما. ومنى شعبان فيهما أزقته، والمسجد في الشارع الايمن، ومسجد الكبش بقرب العقبة، بها آبار ومصانع وقياسير وحوانيت حسنة البناء بالحجر وخشب الساج، وهي بين جبلين يطلان عليها.
والمزدلفة: على فرسخ من منى، بها مصلى وسقاية ومنارة وبرك عدة إلى جبل ثبير. وكانت العرب تقول أشرق ثبير كيما نغير على الخلاف وتسمى جمعاً والمشعر ا لحرام.
عرفة: قرية فيها مزارع وخضر ومباطح، وبها دور حسنة لأهل مكة ينزلونها يوم عرفة، والموقف منها على صيحة عند جبل متلاط، وثم سقايات وحياض وقناة تخر وعلم قد بني يقف خلفه الأمام للدعاء، والناس حوله على جبال بقربه لاطية. والمصلى على حافة وادي عرنة على تخوم عرفة. ولا يجوز الوقوف بالوادي، ومن خرج إليه قبل غيبوبة الشمس وجب عليه دم. وعلى حد عرفة أعلام بيض، وفي المصلى منبر من الآجر، وخلفه حوض كبير، وقبله بميلين المأزمين هي حد الحرم.
بطن محسر: واد بين منى والمزدلفة، هوتخم المزدلفة.
التنعيم: موضع به مساجد حول مسجد عائشة، وسقايات على طريق المدينة منه يحرم المكيون بالعمرة، ويحدق بالحرم أعلام بيض، وهو من طريق الغرب التنعيم ثلاثة أميال، ومن طريق العراق تسعة أميال، ومن طريق اليمن سبعة أميال، ومن طريق الطائف احد عشر ميلاً، ومن طريق الجادة عشرة أميال. ذوالحليفة: قرية عند يثرب، بها مسجد عامر، وبالقرب آبار، ولا يرى بها ديار. الجحفة: مدينة عامرة يسكنها بنوجعفر، عليها حصن ببابين، وبها أباريسيرة، وعلى ميلين عين وبها بركة كبيرة ربما عز بها الماء وهي كثيرة الحمى. أخبرنا شافع بن محمد قال: حدثنا علي بن الرجاء قال: حدثنا أبو عتبة قال: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشد وانقل حماها إلى الجحفة. قرن: مدينة صغيرة خلف الطائفت على طريق صنعاء. يلملم: منزل على طريق زبيد عامر. ذات عرق: قرية بها آبار قريبة المستقى يابسة عابسة على منزلين. أخبرنا إبراهيم بن عبدالله الاصبهاني قال: أخبرنا محمد بن إسحاق السراج قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث بن سعد قال. حدثنا نافع مولى ابن عمر عن عبدالله بن عمر: أن رجلاً قام في المسجد فقال يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن، فقال ابن عمر: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يهل أهل اليمن من يلملم في حديث آخر، ويهل أهل العراق من ذات عرق. الذبيب: ميقات الغرب في البحر جبل أزاء الجحفة. شقان: ميقات أهل اليمن في البحر موضع قبال يلملم. عيذاب: مدينة قبالة جدة، يحرم منها من قصد من ذلك الوجه. فهذه مواقيت الآفاق فمن جاوزهن يريد مكة ثم رجع نظر فإن كان لبى سقط عنه الدم، وقال بعض لا يسقط، وقال بعض يسقط وإن لم يلب. ولا يجاوز آفاقي ميقاتا إلا محرماً وإن لم يكن ميقاته كالشامي إذا اجتاز بذي الحليفة. وميقات أهل مكة في الحج منها. الجعرانة: على مرحلة من مكة يخرج الناس إليها في الاحرام بالعمرة.
فهذه مشاهد المناسك وجميع ما يؤدى فيها ثلاث فرائض وست واجبات وخمس سنن. أما الفرائض: فالاحرام، والوقوف بعرفة، وا لطواف للزيارة. والواجبات: الاحرام من الوقت، والسعي بين الصفا والمروة، والافاضة من عرفات بعد المغرب. والسنن: طواف القدوم والرمل في ثلاثة أشواط منه، والعدو في السعي بين العلمين، والافاضة من المزدلفة قبل الطلوع، والاقامة بمنى أيام منى. وقال بعضهم السعي فرض وقال بعض طواف القدوم واجب وطواف الصدر سنة.
نرجع الآن إلى وصف مدائن هذه الكورة ونواحيها على الترتيب.
الطائف: مدينة صغيرة، شامية الهواء، باردة الماء، أكثر فواكه مكة منها، موضع الرمان الكثيروالزبيب والعنب الجيد والفواكه الحسنة. وهي على ظهر جبل غزوان، ربما يجلد بها الماء، عامتها مدابغ، إذا تأذى مكة بالحر خرجوا إليها.
جدة: مدينة على البحر، منه اشتق اسمها، محصنة عامرة آهلة، أهل تجارات ويسار، خزانة مكة ومطرح اليمن ومصر. وبها جامع سري، غير أنهم في تعب من الماء مع أن فيها بركاً كثيرة، ويحمل إليهم الماء من البعد، قدغلب عليها الفرس. لهم بها قصور عجيبة، وازقتها مستقيمة، ووضعها حسن، شديدة الحر جداً. أمج: صغيرة بها خمسة حصون إثنان حجر وثلاثة مدر، والجامع على متن الطريق. خليص: متصلة بها وبها بركة وقناة وتمور وخضر ومزارع.
السوارقية: كثيرة الحصون بها بساتين ومزارع كثيرة ومواش. الفرع والسيرة: حصنان بكل واحد جامع. جبلة: كبيرة بها متاجر، عليها حصن منيع يقال له المهد، الجامع خارجه. مهايع: نظير جبلة على أودية ساية. حاذة: مدينة مليحة للبكريين بها عدة من الحصون وجامع كبير.
يثرب: هي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وقد جعلناها ناحية لما قد أحاط بها من المدن الخطيرة والسواحل المذكورة، تكون أقل من نصف مكة، يحيط بأكثرها بساتين ونخيل وقرى، ولهم مزارع قليلة ومياه عذيبية، وفيها حياض تقلب فيها قنى عند أبواب البلد ينحدر إليها في درج. وقد جر عمر رضه إلى باب الجامع قناة قد أختلت، والاسواق عند الجامع لها نور وبهاء، أكثرهم بنو الحسين بن علي رضهما. بنيانهم مدر، ملحة الأرض، قليلة الأهل، والمسجد في ثلثيها مما يلي بقيع الغرقد على عمل جامع دمشق ليس بالكبير، وهووجامع دمشق من بناء الوليد بن عبد الملك، وقد زاد فيه بنو العباس. وقال صلى الله عليه وسلم لو مد هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي. وأول من زاد فيه عمر رضه من الاساطين التي إليها المقصورة اليوم إلى الجدار القبلى. ثم زاد عثمان رضه من قبل القبلة إلى موضعه اليوم. ثم زاد فيه الوليد، ولم يزده لله، ولكن من أجل بيت الحسن بن الحسن بن علي رضه الذي كان بابه في المسجد، وكان يخرج منه عند الاقامة، فبناه بالحجارة المنقوشة والفسافسا، وتولى بناءه عمر بن عبد العزيز رضه. فلما بلغ هدم المحراب دعا بمشايخ المهاجرين والانصار فقال احضروا بنيان قبلتكم لا تقولوا غيرها عمر. فوقع زيادة الوليد من المشرق إلى المغرب ست أساطين، وزاد إلى الشام من المربعة التي في القبرأربع عشرة أسطوانة، منها عشر في الرحبة، وأربع في السقائق. ثم حج المهدي سنة160 فزاد فيه مائة ذراع، من ناحية الشام عشر أساطين. فطوله اليوم مائة وأربعة وخمسون ذراعاً، وعرضه مائة وثلاثة وستون ذراعاً، وطول الصحن مائة وخمسة وستون ذراعاً، وعرضه مائة وخمسة وستون ذراعاً.
قال وكتب الوليد إلى ملك الروم أنا نريد أن نعمر مسجد نبينا الاعظم، فأعني فيه بصناع وفسافسا. فبعث إليه باحمال وبضعة وعشرين صانعاً. فيهم عشرة يعدلون مائة وثمانين ألف دينار. قال فخلا لهم المسجد، فعمد أحدهم فقال أبول على قبر نبيهم، فلما حل سراويله يبس مكانه. وقد اختلف الناس في ترتيب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه في رواية النبي من ورائه أبو بكر ومن ورائه عمر. وفي رواية مالك ابن انس النبي غربي البيت أزاءه فضاء، خلف النبي أبو بكر، خلف الفضاء عمر. والفضاء هو الذي ذكر لعمر بن عبد العزيز، فلم ير نفسه له أهلا. ويقال فيه يقبر عيسى عم. حدثنا أبو بكر محمد بن علي الفقيه بساوة قال: حدثنا محمد بن هلال الشاشي قال: حدثنا محمد بن اسحاق قال: حدثنا يونس قال: حدثنا محمد بن اسماعيل بن أبى فديك عن عمروبن عثمان عن القاسم قال: دخلت على عائشة فقلت يا أمه اكشفي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه. فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطية مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء، قال: فرأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مقدماً، وأبا بكر عندرأسه، رجليه بين كتفي النبي، وعمررأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم والمنبر وسط المغطى غلاف منبر النبي صلى الله عليه وسلم في روضة مرخمة، والروضه المنعوتة إلى جانب سارية حمراء بين المنبر والقبر. وقرأت في اخبار المدينة أن معاوية أمر بحمل المنبر إلى جانب المحراب كسائر المنابر. فلما اخذوا في نقله تزلزلت المدينة واقبلت الصواعق فقال اتركوه، وامر بعمل هذا المنبر فوقه وهو خمس درجات، والأول ثلاث. وللمسجد عشرون باباً. والمدينة هائلة الأبواب ولها اربعة أبواب: باب البقيع، وباب الثنية، وباب جهينة، وباب الخندق، والخندق من نحو مكة عامرة الحصن مشرفة.
البقيع: شرقي المدينة، مليحة التربة، فيه قبر ابراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم والحسن وعدة من الصحابة وقبر عثماق في اقصاه. قبا: قرية على ميلين على يسار طريق مكة، بها بنيان كثير من الحجارة، وثم مسجد التقوى عامر قدامه رصيف وفضاء حسن وآثارات وماء عذب، وبها مسجد الضرار يتطوع العوام بهدمه. أحد: جبل على ثلاثة اميال، قبله قبرحمزة في مسجد قدامة بئر ثم بعده حظيرة فيها قبور الشهداء، وفي الجبل موضع اختبأ فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أقرب الجبال إلى المدينة.
العقيق: قرية على ميلين، عامرة من نحو مكة بها ينزل السلطان، وماؤها عذب، وما بين لا بتي المدينة حرم كحرم مكة.
بدر: مدينة صغيرة من نحو الساحل، جيدة التمور، وثم عين النبي صلى الله عليه وسلم وموضع الوقعة ومساجد بناها ملوك مصر.
الجار: على ساحل البحر، محصنة بثلاث حيطان والربع البحري مفوه، بها دور شاهقة وسوق عامر، خزانة المدينة ومدنها يحمل إليهم الماء من بدر والطعام من مصر، وليس لجامعهم صحن.
العشيرة: صغيرة على الساحل قبال ينبع، عندها نخيلات وليس لخانها نظير.
ينبع: كبيرة جليلة حصينة الجدار غزيرة الماء أعمر من يثرب وأكثر نخيلاً، حسنة الحصن حارة السوق، لها بابان الجامع عند أحدهما، الغالب عليها بنو الحسن. رأس العين: على أثنى عشر ميلاً.
المروة: بلد حصين كثيرة النخيل جيدة التمور، سقياهم من قناة غزيرة عليها خندق وأبواب حديد وهي معدن المقل والبردى، حارة في الصيف، الغالب عليها بنو جعفر.
الحوارء: هي ساحل خيبر، لها حصن وربض عامر فيه سوق من نحو البحر.
خيبر: بلد حصين مثل المروة، بها جامع حسن، وثم الباب الذي قلعه أمير المؤمنين، وهي والمروة والحوراء مدن خيبر.
ناحية قرح: تسمى وادي القرى، وليس بالحجاز اليوم بلد،اجل واعمر وآهل وأكثر تجارا وأموالأ وخيرات بعد مكة من هذا، عليها حصن منيع على قرنته قلعة قد أحدق به القرى واكنف به النخيل، ذو تمور رخيصة واخباز حسنة ومياه غزيرة ومنازل أنيقة وأسواق حارة، عليه خندق وثلاثة أبواب محددة والجامع في الأزقة في محرابه عظم، قالوا هو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم لا تأكلني فأنا مسموم، وهو بلد شامي مصري عراقي حجازي، غير أن ماءهم ثفيل وتمرهم وسط وحمامهم خارج البلد، والغالب عليها اليهود.
الحجر: صغيرة حصينة، كثيرة الآبار والمزارع، ومسجد صالح بالقرب على نشزة مثل الصفة قد نقر في صخرة، وثم عجائب ثمود وبيوتهم.
سقيا يزيد: هي أحسن مدن هذه الناحية، والنخيل والبساتين متصلة من قرح إليها، والجامع خارج البلد. بدا يعقوب: على جادة مصر، عامرة آهلة. العونيد: هي ساحل قرح، عامرة كثيرة العسل ولها مرسى حسن.
زبيد: قصبة تهامة، وهو أحد المصرين لأنه مستقر ملوك اليمن، بلد جليل حسن البنيان يسمونه بغداد اليمن، لهم أدنى ظرف وبه تجار وكبار وعلماء وأدباء، مفيد لمن دخله مبارك على من سكنه، آبارهم حلوة وحماماتهم نظيفة، عليه حصن من الطين بأربعة أبواب: باب غلافقه، وباب عدن، وباب هشام، وباب شبارق. وحولها قرى ومزارع أعمر من مكة وأكبر وأرفق، أكثر بنيانهم الآجر ومنازلهم فسيحة طيبة، والجامع ناء عن الاسواق نظيف مبربق الأرض، تحت المنبر تقوير ليتصل الصف، وقد أجرى إليها ابن زياد قناة، وهو بلد نفيس ليس باليمن مثله، غير أن أسواقه ضيقة والاسعار بها غالية والثمار قليلة أكثر طعامهم الدخن والذرة.
معقر: على جادة عدن، وكذلك عبرة وعارة والمخنق وكلهن صغار.
عدن: بلد جليل عامرآهل، حصين خفيف، دهليز الصين وفرضة اليمن وخزانة المغرب ومعدن التجارات، كثيرالقصور، مبارك على من دخله مثرلمن سكنه، مساجد حسان ومعايش واسعة واخلاق طاهرة ونعم ظاهرة، وبارك النبي صلى الله عليه وسلم في سوق منى وعدن وهو في شبه صيرة الغنم قد احاط به جبل بما يدور إلى البحر، ودار خلف الجبل لسان من البحر، فلا يدخل إليه إلا أن يخاض ذلك اللسان فيصل إلى الجبل، وقد شق فيه طريق في الصخر عجيب، وجعل عليه باب حديد ومدوا من نحو البحر حائطاً، الجبل إلى الجبل فيه خمسة أبواب، والجامع ناء عن الاسواق ولهم آبار مالحة وحياض عدة، ويقال إنها كانت في القديم حبس شداد بن عاد، إلا إنها يابسة عابسة لا زرع ولا ضرع ولا شجر ولا ثمر ولا ماء ولا كلأ، كثيرة الحريق والوكف، جامع شعث وهرج وحش وحمامات ردية يحمل إليهم الماء من مرحلة.
أبين: هي أقدم من عدن، وإليها تنسب عدن لأن برهم وفواكههم وخضرهم منها لكثرة القرى والمزارع بها، وكذلك لهج.
مندم: على البحر عامرة بها يعتقل الريح المراكب، قشفة.
مخا: مدينة لزبيد، عامرة كثيرة السليط، شربهم من عين خارج البلد، والجامع على طرفه على الساحل. غلافقة: فرضة زبيد، بها جامع على البحر رأيتهم يفضلونه ويرابطون فيه، عامرة آهلة بها نخيل ونارجيل وآبار حلوة، إلا إنها وبية قاتلة للغرباء.
الشرجة والحردة وعطنه: مدن على الساحل بهن خزائن الذرة تحمل إلى عدن.
جدة: بلد اللبن، يحمل إليهم الماء من بعد، وجوامعهم على الساحل.
ناحية عثر: ناحية جليلة، عليها سلطان براسه، ومدنها نفيسة، وعثر مدينة كبيرة طيبة مذكورة لأنها قصبة الناحية وفرضة صنعاء.
صعدة: بها سوق حسن، وجامع عامر، يحمل إليهم الماء من بعد وحمامهم وضر.
بيش: أطيب هواء منها وأعذب ماء، بها ينزل السلطان داره إلى جانب الجامع. الجريب: بلد الموز، وهو أرخى مدن الناحية وأعجبها إلي.
حلي: مدينة ساحلية، عامرة سرية رفقة.
السرين: بلد صغير، له حصن، الجامع فيه على باب البلد.
مصنعة: وهو فرضة السروات. السروات: معدن الحبوب والخيرات والتمور الردية والعسل الكثير، لا أدري هي مدن أم قرى لأني ما دخلتها.
صنعاء: هي قصبة نجد اليمن، وقد كانت أجل من زبيد واعمر، وكان الاسم لها وأما اليوم فقد أختلت، غير إن بها مشايخ لم أر بجميع اليمن مثلهم هيأة وعقلا، ثم بلد رحب كثير الفواكه رخيص الاسعار أخباز حسنة وتجارات مفيدة، أكبرمن زبيد، ولا تسأل عن طيب الهواء فإنه عجب ومع ذلك رفق معف.
صعدة: أصغر من صنعاء، عامرة في الجبال بها تصنع الركاء الجيدة والانطاع الحسنة، ومنها يرتفع أدم جيد، وهي مدينة العلوية وعملهم.
جرش: مدينة وسطة ذات نخل، واليمن ليس ببلد نخيل.
نجران: مثل جرش وهما دون صعدة، وأكثر ما ترى من الادم فمن هذه المدن.
الحميري: هو بلد قحطان بين زبيد وصنعاء، كثير القرى ردي الهواء وبي مفيد للتجار.
المعافر: بلد واسع ذو مزارع وقرى وفوائد.
سبأ: بلد خلف هذه النواحي عامر المدينة خرب العمل.
حضرموت: هي قصبة الاحقاق، موضوعة في الرمال عامرة نائية عن الساحل، آهلة، لهم في العلم والخير رغبة، إلا أنهم شراة شديد سمرتهم.
الشحر: مدينة على البحر، معدن السمك العظيم يحمل إلى عمان وعدن ثم إلى البصرة وأطراف اليمن، وثم أشجار الكندر صمغها. وموضع إرم ذات العماد ليس لها أثر، من لحج إليها فرسخان في مستوى، فتراها من البعد تشرق فإذا قربت لم تر شيئا، وماء عدن من ثم.
سخين: مدينة قريش، يقال لهم بنو سامة سمدت أنهم في أربعة آلاف قوس. الشقرة: ديار خثعم، ثم نخيل وقرى قد أحاط بها.
واعلم أن اليمن موضع واسع، قد أقمت به حولاً كاملاً، ودخلت هذه البلدان التي وصفت وغاب عني منه الكثير، غير أني أذكر ما سمعت فيه من أهل الخبرة واستوعب مخاليفه وإن لم أطأ الجميع، لأنه بلد يميز بالمخاليف، واذكر وضع جزيرة العرب وتمثيلها بوصف يقف عليه كل أحد إن شاء الله تعالى.