الباب الرابع عشر
بيان الشجرة النبوية وفضلها على جوهر سائر البرية
بيان الشجرة النبوية وفضلها على جوهر سائر البرية
من كتاب : تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين
الراغب الأصفهاني
الراغب الأصفهاني
اقتضت الحكمة ان تكون الشجرة النبوية صنفاً مفرداً ونوعاً واحداً واقعاً بين الإنسان والملَك، ومشاركاً لكل واحد منهما على وجهٍ، فإنهم كالملائكة في اطلاعهم على ملكوت السموات والأرض، وكالبشر في احوال المطعم والمشرب. ومثَلُه في كونه واقعاً بين نوعين مثل المرجان فإنه حجر يشبه الأشجار بتشذّب اغصانه، وكالنخل فإنه شجر شبيه بالحيوان في كونه محتاجاً الى التلقيح وبطلانه اذا قطع رأسه. وجعل الله النبوة في ولد ابراهيم ومن قبله نوح كما نبه عليه بقوله: )ولقد ارسلنا نوحاً وابراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب( وقال تعالى: )ذرية بعضها من بعض(. فهم عليهم السلام وان كانوا من حيث الصورة كالبشر، فهم من حيث الأرواح كالملَك قد أُيّدوا بقوةٍ روحانيةٍ وخُصّوا بها كما قال الله تعالى في عيسى عليه السلام: )وايدناه بروح القدس( وقال في محمد صلى الله عليه وسلم: )نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين(. وتخصيصهم بهذا الروح ليمكنهم ان يقبلوا من الملائكة لما بينهم من المناسبة البشرية لذلك قال سبحانه: )ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ولَلَبَسْنَا عليهم ما يلبسون( تنبيهاً على ان ليس في قوة عامة البشر الذين لم يخصوا بذلك الروح ان يقبلوا الاَّ من البشر. ولما عمي الكفار عن ادراك هذه المنزلة وعما للأنبياء من الفضيلة انكروا نبوة الأنبياء كما قال الله تعالى: )قالوا ان انتم الا بشرٌ مثلنا تريدون ان تصدونا عما كان يعبد آباءُنا فأتونا بسلطان مبين(. فالأنبياء صلوات الله عليهم بالإضافة إلى سائر الناس كالإنسان بالإضافة إلى الحيوانات، وكالقلب بالإضافة إلى سائر الناس كالإنسان بالإضافة إلى الحيوانات، وكالقلب بالإضافة إلى سائر الجوارح، وأيضاً فمنزلة الأنبياء من أُممهم بمنزلة الشمس من القمر، ومنزلة علمهم من علوم أممهم بمنزلة ضوء الشمس من نور القمر كما قال الله تعالى: )هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً(. فكما أن نور القمر مقتبس من ضوء الشمس وهو قاصر عنها، كذلك منزلة الأُمم من أنبيائهم ومنزلة علمهم من علومهم. وكما لا يحصل النور للقمر إلاّ بوساطة الشمس، كذلك لا تحصل علوم الناس وتزكية نفوسهم إلاّ بوساطة الشمس، كذلك لا تحصل علوم الناس وتزكية نفوسهم إلاّ بوساطة الأنبياء، وعلى هذا دل الله تعالى بقوله: )ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم(. فالله تبارك وتعالى يزكي الأنبياء بوساطة الملك، ويزكي من يشاء من الناس بوساطة الأنبياء، كالطابع الذي جعل له كتابة ثم بوساطته يثبت في الشموع المختلفة شكل تلك الكتابة.