الباب العاشر
في كون الإنسان هو المقصود من العالم وإيجاد ما عداه لأجله
في كون الإنسان هو المقصود من العالم وإيجاد ما عداه لأجله
من كتاب : تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين
الراغب الأصفهاني
الراغب الأصفهاني
إن المقصود من خلق العالم وإيجاده شيئاً بعد شيء هو أن يوجد الإنسان على الأرض ليكون خليفة الله فيها فينتفع مما أوجد الله له عليها ، فالغرض من الأركان أن يحصل منها النبات، ومن النبات أن تحصل الحيوانات، ومن الحيوانات أن تحصل الأجسام البشرية ومن الأجسام البشرية، أن يحصل منها الأرواح الناطقة، ومن الأرواح الناطقة أن يحصل منها خلافة الله تعالى في أرضه فيتوصل بلإيفاء حقها إلى النعيم الأبدي كما دلَّ الله تعالى عليه بقوله: )إني جاعل في الأرض خليفة(. وجعل تعالى الإنسان سلالة العالم وزبدته وهو المخصوص بالكرامة كما قال تعالى: )ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً(. وجعل ما سواه كالمعونة له كما قال تعالى في معرض الامتنان: )هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً(. فليس فضله بقوة الجسم، فالفيل والبعير أقوى جسماً منه، ولا بطول العمر فالنسر والحية أطول منه عمراً، ولا بشدة البطش فالأسد والنمر أشد منه بطشاً، ولا بحسن اللباس والدراج أحسن منه لباساً، ولا بالقوة على النكاح فالحمار والعصفور أقوى منه نكاحاً، ولا بكثرة الذهب والفضة فالمعادن والجبال أكثر منه ذهباً وفضةً. وما أحسن قول الشاعر:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان
ولما تفاضلت النفوس ودبرت أيدي الكماة عواليَ المـرَّان
لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان
ولما تفاضلت النفوس ودبرت أيدي الكماة عواليَ المـرَّان
ولا بعنصره الموجود منه كما زعم ابليس حيث قال: )خلقتني من نار وخلقته من طين(. بل ذلك بما خصه الله تعالى به، وهو المعنى الذي ضمنه فيه، والأمر الذي رشحه له، وقد أشار إليه تعالى بقوله: )فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين( وبقوله: )خلقتُ بيديَّ(. والملائكة لما نبههم الله تعالى لفضل آدم تنبهوا فأذعنوا وسجدوا له كما أُمروا. وإبليس لما نظر إلى ظاهر آدم وبدئه وتعامى عما ذكر الله تعالى، ولم يتأمل المعنى الذي ضمنه الله تعالى آدم، والعاقبة التي جعلها له أبى واستكبر. وقد اقتدى به الكفار في ردّ الأنبياء حيث قالوا: )ما هذا إلاّ بشرٌ مثلكم يريد أن يتفضل عليكم(. وقالوا: )ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق(. وقد نبه الله تعالى على أن الاعتبار بفضلهم ليس بظاهر أبدانهم وإنما ذلك لمعاني في نفوسهم يعمى عنها الكفار فقال عزَّ من قائل: )وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون(. أي لا يعرفون ما فضلتهم به. فمن وفّق لفضل ما أٌعطي ولما رُشح له وأُعدَّ ثم سعى في مثاله، فقد أُوتي خيراً كثيراً وما يذَّكر الاّ أُولو الألباب.