الحضارة الاسلامية
أنواع الحضارة الإسلامية
مفهوم الحضارة:
الحضارة هي الجهد الذي
يُقدَّم لخدمة الإنسان في كل نواحي حياته، أو هي التقدم في المدنية
والثقافة معًا، فالثقافة هي التقدم في الأفكار النظرية مثل القانون
والسياسة والاجتماع والأخلاق وغيرها، وبالتالى يستطيع الإنسان أن يفكر
تفكيرًا سليمًا، أما المدنية فهي التقدم والرقى في العلوم التي تقوم على
التجربة والملاحظة مثل الطب والهندسة والزراعة، وغيرها.. وقد سميت
بالمدنيَّة؛ لأنها ترتبط بالمدينة، وتحقق استقرار الناس فيها عن طريق
امتلاك وسائل هذا الاستقرار، فالمدنية تهدف إلى سيطرة الإنسان على الكون من
حوله، وإخضاع ظروف البيئة للإنسان.
ولابد للإنسان من الثقافة والمدنية
معًا؛ لكي يستقيم فكر الأفراد وسلوكياتهم، وتتحسن حياتهم، لذلك فإن الدولة
التي تهتم بالتقدم المادي على حساب التقدم في مجال القيم والأخلاق، دولة
مدنيَّة، وليست متحضرة؛ ومن هنا فإن تقدم الدول الغربية في العصر الحديث
يعد مدنية وليس حضارة؛ لأن الغرب اهتم بالتقدم المادي على حساب القيم
والمبادئ والأخلاق، أما الإسلام الذي كرَّم الإنسان وأعلى من شأنه، فقد جاء
بحضارة سامية، تسهم في تيسير حياة الإنسان.
مفهوم الحضارة الإسلامية:
الحضارة
الإسلامية هي ما قدمه الإسلام للمجتمع البشرى من قيم ومبادئ، وقواعد ترفع
من شأنه، وتمكنه من التقدم في الجانب المادي وتيسِّر الحياة للإنسان.
أهمية الحضارة الإسلامية:
الفرد
هو اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وإذا صلح صلح المجتمع كله، وأصبح
قادرًا على أن يحمل مشعل الحضارة، ويبلغها للعالمين، ومن أجل ذلك جاء
الإسلام بتعاليم ومبادئ تُصْلِح هذا الفرد، وتجعل حياته هادئة مستقرة،
وأعطاه من المبادئ ما يصلح كيانه وروحه وعقله وجسده.
وبعد إصلاح الفرد
يتوجه الإسلام بالخطاب إلى المجتمع الذي يتكون من الأفراد، ويحثهم على
الترابط والتعاون والبر والتقوى، وعلى كل خير؛ لتعمير هذه الأرض، واستخراج
ما بها من خيرات، وتسخيرها لخدمة الإنسان وسعادته، وقد كان آباؤنا على قدر
المسئولية، فحملوا هذه الحضارة، وانطلقوا بها يعلِّمون العالم كله
ويوجهونه.
أنواع الحضارة الإسلامية:
وللحضارة الإسلامية، ثلاثة أنواع:
1- حضارة التاريخ (حضارة الدول):
وهي
الحضارة التي قدمتها دولة من الدول الإسلامية لرفع شأن الإنسان وخدمته،
وعند الحديث عن حضارة الدول ينبغى أن نتحدث عن تاريخ الدولة التي قدمت هذه
الحضارة، وعن ميادين حضارتها، مثل: الزراعة، والصناعة، والتعليم، وعلاقة
هذه الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، وما قدمته من إنجازات في هذا
الميدان.
2-الحضارة الإسلامية الأصيلة:
وهي الحضارة التي جاء بها
الإسلام لخدمة البشرية كلها، وتشمل ما جاء به الإسلام من تعاليم في مجال:
العقيدة، والسياسة، والاقتصاد، والقضاء، والتربية، وغير ذلك من أمور الحياة
التي تسعد الإنسان وتيسر أموره.
3- الحضارة المقتبسة:
وتسمى حضارة
البعث والإحياء، وهذه الحضارة كانت خدمة من المسلمين للبشرية كلها، فقد
كانت هناك حضارات وعلوم ماتت، فأحياها المسلمون وطوروها، وصبغوها بالجانب
الأخلاقي الذي استمدوه من الإسلام، وقد جعل هذا الأمر كُتاب العالم الغربى
يقولون: إن الحضارة الإسلامية مقتبسة من الحضارات القديمة، وهما حضارتا
اليونان والرومان، وأن العقلية العربية قدْ بدَّلت الصورة الظاهرة لكل هذه
الحضارات وركبتها في أسلوب جديد، مما جعلها تظهر بصورة مستقلة.
وهذه
فكرة خاطئة لا أساس لها من الصحة، فالحضارة الإسلامية في ذاتها وجوهرها
إسلامية خالصة، وهي تختلف عن غيرها من الحضارات اختلافًا كبيرًا، إنها
حضارة قائمة بذاتها، لأنها تنبعث من العقيدة الإسلامية، وتستهدف تحقيق
الغاية الإسلامية، ألا وهي إعمار الكون بشريعة الله لنيل رضاه، لا مجرد
تحقيق التقدم المادي، ولو كان ذلك على حساب الإنسان والدين كما هو الحال في
حضارات أخرى، مع الحرص على التقدم المادي؛ لما فيه من مصلحة الأفراد
والمجتمع الإنساني كله.
أما ما استفادته من الحضارات الأخرى فقد كان
ميزة تحسب لها لا عليها، إذ تعنى تفتح العقل المسلم واستعداده لتقبُّل ما
لدى الآخرين، ولكن وضعه فيما يتناسب والنظام الإسلامي الخاص بشكل متكامل،
ولا ينقص من الحضارة الإسلامية استفادتها من الحضارات السابقة، فالتقدم
والتطور يبدأ بآخر ما وصل إليه الآخرون، ثم تضيف الحضارة الجديدة لتكمل ما
بدأته الحضارات الأخرى.
**********************
خصائص الحضارة الإسلامية ومظاهرها
خصائص الحضارة الإسلامية للحضارة الإسلامية أسس قامت عليها، وخصائص تميزت بها عن الحضارات الأخرى، أهمها:
1- العقيدة:
جاء
الإسلام بعقيدة التوحيد التي تُفرِد الله سبحانه بالعبادة والطاعة، وحرص
على تثبيت تلك العقيدة وتأكيدها، وبهذا نفى كل تحريف سابق لتلك الحقيقة
الأزلية، قال الله تعالى: {قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد.
ولم يكن له كفوًا أحد} [الإخلاص: 1-4].
فأنهي الإسلام بذلك الجدل الدائر
حول وحدانية الله تعالى، وناقش افتراءات اليهود والنصارى، وردَّ عليها؛ في
مثل قوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن
الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى
يؤفكون. اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما
أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}
[التوبة: 30-31].
وقطع
القرآن الطريق بالحجة والمنطق على كل من جعل مع الله إلهًا آخر، قال الله
تعالى: {أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون. لو كان فيهما آلهة إلا الله
لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} [الأنبياء: 21-22].
2- شمولية الإسلام وعالميته:
الإسلام
دين شامل، وقد ظهرت هذه الشمولية واضحة جليَّة في عطاء الإسلام الحضاري،
فهو يشمل كل جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، كما
أن الإسلام يشمل كل متطلبات الإنسان الروحية والعقلية والبدنية، فالحضارة
الإسلامية تشمل الأرض ومن عليها إلى يوم القيامة؛ لأنها حضارة القرآن الذي
تعهَّد الله بحفظه إلى يوم القيامة، وليست جامدة متحجرة، وترعى كل فكرة
أو
وسيلة تساعد على النهوض بالبشر، وتيسر لهم أمور حياتهم، ما دامت تلك
الوسيلة لا تخالف قواعد الإسلام وأسسه التي قام عليها، فهي حضارة ذات أسس
ثابتة، مع مرونة توافق طبيعة كل عصر، من حيث تنفيذ هذه الأسس بما يحقق
النفع للناس.
3- الحث على العلم:
حثت الحضارة الإسلامية على العلم،
وشجَّع القرآن الكريم والسنة النبوية على طلب العلم، ففرق الإسلام بين أمة
تقدمت علميًّا، وأمة لم تأخذ نصيبها من العلم، فقال تعالى: {قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9]. وبين القرآن فضل العلماء، فقال
تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:
11].
وقال رسول الله ( مبيِّنًا فضل السعي في طلب العلم: (من سلك
طريقًا يبتغي فيه علمًا؛ سهل الله له به طريقًا إلى الجنة) [البخاري وأبو
داود والترمذي وابن ماجه]. وقال (: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) [البخاري
وأبوداود والترمذي وابن ماجه].
وهناك أشياء من العلم يكون تعلمها فرضًا
على كل مسلم ومسلمة، لا يجوز له أن يجهلها، وهي الأمور الأساسية في
التشريع الإسلامي؛ كتعلم أمور الوضوء والطهارة والصلاة، التي تجعل المسلم
يعبد الله عبادة صحيحة، وهناك أشياء أخرى يكون تعلمها فرضًا على جماعة من
الأمة دون غيرهم، مثل بعض العلوم التجريبية كالكيمياء والفيزياء وغيرهما،
ومثل بعض علوم الدين التي يتخصص فيها بعض الناس بالدراسة والبحث كأصول
الفقه، ومصطلح الحديث وغيرهما.
مظاهر الحضارة الإسلامية:
لم تغفل
الحضارة الإسلامية الجانبين الروحي والمادي في حياة الإنسان، لذلك نجد أن
الحضارة الإسلامية برزت في مجالات متعددة، بحيث ترقى بالإنسان في كل
مستويات حياته، ومظاهر هذه الحضارة هي:
1- الجانب السياسي.
2- الجانب الاقتصادي.
3- الجانب الاجتماعي.
4- الجانب العلمي.
5- العلاقات الدولية.
6- النظام التشريعي.
7- النظام القضائي.
8- الجانب العسكري.
9- الجانب المعماري.
الجانب السياسي في الحضارة الإسلامية
جاء الإسلام
رحمة للعالمين، وجاءت تعاليم الإسلام لتضمن سلامة المجتمع البشري من التفكك
والضعف والانحلال، ولتضمن سعادته في الدنيا والآخرة، ولقد تمسك بها
الصحابة -رضي الله عنهم- فخضعت لهم الدنيا، وأسسوا للإسلام دولة واسعة
الحضارة، قوية البناء، محبة للعلوم، والتاريخ خير شاهد على ذلك. لقد وضع
الإسلام نظامًا لم يكن معروفًا في أي مجتمع من المجتمعات، ولم يكن هذا
النظام تطورًا طبيعيًّا أو غير طبيعى لأي نظام سابق عليه.
إن نظام الحكم
الإسلامي له أسسه وقوانينه الواضحة المستمدة من القرآن الكريم، الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأهمية الحكم في الإسلام فقد اهتم
الإسلام ببيان ما على الحاكم والمحكوم، فحذر الحاكم من اتباع الهوى وشهوات
النفس، قال تعالى: {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل
الله} [ص: 26]. وقال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع
أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة: 49].
وحذر الله -سبحانه- المحكوم من العصيان دون سبب مقبول شرعًا، قال تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59].
وحرص
الإسلام على أن يسود العدل بين جميع الناس، وحذر من الظلم وعواقبه، حتى مع
غير المسلمين، قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان
سميعًا بصيرًا} [النساء: 58]. وقال رسول الله (: (اتقوا الظلم، فإن الظلم
ظلمات يوم القيامة) [مسلم].
خصائص النظام السياسي في الإسلام:
1- نظام عالمي:
النظام
السياسي الإسلامي نظام عالمي، استمد عالميته من عالمية الإسلام ذاته، ومن
صلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان، فجعل للعلماء القادرين على الاستنتاج
واستخراج الأحكام الحقَّ في الاجتهاد في تفصيل الأحكام وتوضيحها بالشكل
الذي يحقق أهداف الإسلام، ويدور في إطار أحكام الإسلام العامة، وقد جاءت
أحكام الإسلام في أسلوبين:
الأول: أحكام تفصيلية محددة، تبين حكمها نصوص
من القرآن واضحة الدلالة، لا خلاف في معناها، وأحاديث صحيحة من السنة وطرق
أدائها، وهذه التعاليم لا
مجال للاجتهاد فيها بالزيادة أو النقصان مثل بعض أحكام الصلاة والزكاة والحج والمواريث وغيرها.
والثانى:
أحكام جاءت من خلال الآيات التي يُختلف في تفسيرها، والأحاديث التي لم
تثبت صحتها، أو ثبتت صحتها ولم يتفق العلماء فيها على معنى واحد، أو عبارة
عن قواعد عامة في مجال المعاملات، وهذه من حق العلماء القادرين على
الاجتهاد أن يبدوا الرأي فيها، بما يحقق مصالح المجتمع الإسلامي في زمن
معين أو وضع معين، مع المحافظة على روح الشريعة، وتحقيق مقاصدها التي جاءت
لمصلحة الناس.
2- المشاركة بين الفرد والمجتمع:
العلاقة بين الفرد
والمجتمع في النظام الإسلامي علاقة مشاركة، فالإسلام لا يعترف بالفلسفات
والمذاهب التي تجعل الفرد والمجتمع في صراع، وبعض هذه المذاهب يفضل جانب
الفرد على المجتمع مثل الرأسمالية، وبعضها الآخر يفضل جانب المجتمع على
جانب الفرد كما صنعت الشيوعية، أما الإسلام فهو يوازن بين الفرد والمجتمع،
فهو يعترف بالمسئولية الفردية، أي مسئولية كل فرد عن أفعاله، قال تعالى:
{ألا تزر وازرة وزر أخري. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 38-39]،
ويشجعه على أن يتفاعل مع المجتمع، ويؤدي ما عليه تجاهه، من خير يحمله إليه،
وشر يدفعه عنه، فالفرد عليه تبعات تجاه نفسه، وتجاه مجتمعه، ملزم بأدائها.
وينظم
الإسلام ذلك من خلال مبدأ المسئولية الاجتماعية، وفرض الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وقد تعرض الرسول ( لتوضيح هذه المسئولية الجماعية من
خلال المثل الذي ضربه في حديثه: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها
كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين
في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا
في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا،
وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا) [البخاري].
وعلاقة الفرد
بالحكومة، علاقة تعاون، فقد أعطى الإسلام الفرد حقوقه الأساسية، وألزم
الحكومة باتباع القانون الرباني، وحمى الفرد من تدخل الحكومة في شئونه دون
مبرر، قال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس
بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26].
وربط الإسلام الفرد
المسلم بضوابط أخلاقية، وفرض عليه طاعة الحكومة المسلمة التي تطبق شرع
الله، وطلب منه التعاون معها والتضحية بالنفس والمال في سبيل حمايتها، قال
(: (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي) [البخاري].
3- الحكومة الإسلامية نابعة من المجتمع الإسلامي:
فالإسلام
لا يعترف بهيئة من خارج المجتمع الإسلامي تحكم الأمة عن طريق الاستيلاء
على السلطة بالقوة وحكم الشعوب بالتسلط والقهر، قال تعالى: {يا أيها الذين
أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59].
فقوله
تعالى: (منكم) يحدد نوعية الحاكم والحكومة، وهي أنها حكومة إسلامية منا،
وليست من غير المسلمين، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلاً} [النساء: 141].
4 - التأثير المتبادل بين التعاليم والمبادئ:
نظم
الحضارة الإسلامية، الخلقي منها والاقتصادي والسياسي، كل منها يؤثر في
الآخر ويتأثر به، فمثلاً بدون التعاليم والمبادئ الخلقية لا يؤدى النظام
الاقتصادي دوره المنشود، ويصعب الوصول إلى ما يدعو إليه من تعاون وتكافل
بين الناس، كما يسهل تسرب الفساد إلى الأجهزة السياسية وغيرها.
5 - تميز نظام الحكم الإسلامي عن النظم الغربـية:
فالنظم
الغربية، تقوم على أساس الخضوع لحكم الأغلبية المطلقة -صالحة كانت أم
فاسدة- فهي التي تشرع وتضع القوانين، وهي التي تحكم، أما في النظام
الإسلامي، فالحاكم الحقيقي هو الله سبحانه، قال تعالى: {إن الحكم إلا لله}
[يوسف: 40].
وسلطة الشعب المسلم والحكومة الإسلامية محدودة بالعمل تبعًا لأوامر الله، عن رضا واطمئنان وثقة وحب ورغبة.
خصائص الدولة الإسلامية
والدولة الإسلامية تتميز بعدة خصائص منها:
1- السير وفق قانون واضح المعالم:
القرآن
الكريم والسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله (، هما أساس الدستور
الإسلامي، وقد يدخل في هذا الدستور من القواعد العامة أشياء غير منصوص
عليها في الكتاب ولا في السنة ومع ذلك يمكن إدخالها تحت قاعدة كلية من
الكتاب والسنة.
إن كل مُشَرِّع يضع القوانين التي تحمى مصالحه وتحقق
أهدافه، أما في الإسلام فإن سلطة التشريع حق لله وحده، وهو لا يحابي أحدًا
ولا يظلم أحدًا، ومن ثم فإن التشريع الإسلامي يتصف بالعدل، ويكره الهوى،
ويتسم بالشمول.
وعلى الإنسان أن ينفذ أوامر الله سبحانه، ويحكِّم كتاب
الله وسنة رسوله فيما يقع بين الناس من خلاف، قال تعالى: {فلا وربك لا
يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بنهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت
ويسلموا تسليمًا} [النساء: 65].
وغاية إقامة الدولة الإسلامية تنفيذ
أوامر الله، وتحكيم شرعه بين الناس، ويتضح ذلك من تعريف العلماء لمنصب
الخلافة أو الحكم، حيث يقولون: إن الخلافة نيابة عن النبوة في حراسة الدين
وسياسة الدنيا به، أي أن الحاكم المسلم أو الخليفة يقوم بمهمته نائبًا عن
رسول الله ( في تبليغ أوامر الله، والعمل بها، وإلزام الناس بالعمل بها،
فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا.
2- التقوى هي أساس التفاضل بين المسلمين:
التقوى
والعمل الصالح والخلق الحسن أساس التفاضل بين أبناء المجتمع المسلم، وليس
السلطان أو الجاه أو المركز الاجتماعي، قال تعالى: {يا أيها الناس إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله
أتقاكم} [الحجرات: 13]. وقال (: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على
أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى والعمل الصالح) [أحمد].
3- الوفاء بالعهود الداخلية والخارجية:
وهذا
من الخصائص اللازمة والضرورية للدولة الإسلامية، لإقرار الأمن وتحقيق
السلام والاستقرار، قال تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا
الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إنَّ الله يعلم ما تفعلون)
[النحل: 91].
وهذا فرض ومنهج حياة لا تجوز مخالفته، قال تعالى: (وأوفوا
بالعهد إن العهد كان مسئولا) [الإسراء: 34]. وذلك لنشر السلام في كل أنحاء
الديار الإسلامية، لقوله (: (أفشوا السلام بينكم) [مسلم]، ولا فرق في ذلك
بين مسلم وذِمِّي من رعايا الدولة الإسلامية، لقوله (: (إن الله جعل السلام
تحية لأمتنا، وأمانًا لأهل ذمتنا) [البيهقي].
وفي العلاقات الخارجية
فالدولة الإسلامية تدعو إلى السلام، ما لم تُنْتهك حرمات الله أو يُعتدى
على أرض المسلمين، قال تعالى:{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في
الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب
المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم
وتظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة:
8-9].
أسس وقواعد الحكم في الحضارة الإسلامية
1- حق الأمة في اختيار الحاكم وتقويمه:
فالأمة
صاحبة الحق في اختيار الحاكم ومبايعته، وفي الإشراف على سياسته وتصرفاته،
ولها حق تقويمه إذا ابتعد عن طريق الصواب، وكل مسلم بالغ عاقل من حقه أن
يشترك في بيعة الحاكم، وما يلزم في اختيار الحاكم هو اختيار أغلبية الأمة
ممثلة في أهل الحل والعقد وهم مجلس الشورى.
وليس من الضرورى أن يكون
هناك إجماع على شخص رئيس الدولة الإسلامية، فمن المعروف تاريخيًّا أن
المسلمين جميعًا لم يجمعوا على اختيار حاكم، فالذين بايعوا الخلفاء
الراشدين هم أهل المدينة، وبعض المسلمين من أهل مكة.
ويُعزل الحاكم إذا
ثبت عجزه وفساده، ولكن بعد أن يبذل له المخلصون من أبناء الأمة وعلمائها
النصح بكل الطرق والوسائل التي ترده إلى الحق، فإن استجاب ورجع إلى الحق
فلا ينبغي عزله، إلا إذا لم يستمع لنصح الناصحين وإخلاص المخلصين، وتعذر
تعذرًا شديدًا إصلاح حاله، وظهر استخفافه بمصالح المسلمين، وعدم اهتمامه
بما يحفظ على المسلمين حقوقهم وعزتهم وكرامتهم. وذلك بشرط القدرة على عزله
دون حدوث فتنة تؤدي إلى ضرر يفوق الضرر من بقائه، فإن تأكد العجز عن عزله
دون فتن مهلكة، فالصبر على ظلمه أولى.
2- الشورى:
فالشورى ركن أساسي
من أركان الحكم الإسلامي، قال سبحانه: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159]،
وقال أيضًا: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: 38]، وكان ( يستشير أصحابه
كثيرًا. وكذلك كان الخلفاء
الراشدون -رضي الله عنهم- من بعده يستشيرون
أهل العلم والخبرة في كل الأمور، كاختيار القواد، وتسيير الجيوش، وتوزيع
الغنائم، كما كانوا يرجعون إلى الفقهاء في المسائل التي لا يجدون لها حكمًا
ظاهرًا في الكتاب والسنة.
وقد كون أبوبكر -رضي الله عنه- مجلس شورى
يعرض عليه أي مسألة ليس فيها نص قرآني أو نبوي صريح، وكان عمر -رضي الله
عنه- يمنع كبار الصحابة من الخروج من المدينة حتى يستشيرهم عند الحاجة.
وهذه
الشورى لا تكون في أمر فيه نص صريح الدلالة من كتاب الله أو سنة صحيحة،
فهذه الأمور لا دخل للشورى فيها، فرسول الله كان يلتزم الشورى، ولكن في
الأمور التي ليس فيها نص من كتاب الله، ولم ينزل الوحي يبين للرسول ( ما
يفعله فيما وقع من المسائل، وتتحقق الشورى في مظهرين:
الأول: اختيار
الحاكم المسلم القادر على القيام بالمسئولية، ومبايعته على العمل بكتاب
الله وسنة رسوله (، فإن تمت البيعة كان له السمع والطاعة دون ضغط أو إكراه.
الثانى:
عدم استبداد الحاكم بالسلطة، فمن حق كل مسلم أن يبدي رأيه بكل حرية، وبكل
قوة في كل أمر من أمور الدولة، ومن واجب الحاكم أن يستمع إليه، ويستضىء
برأيه إن كان فيه الصواب، هذا وإن كان لكل فرد أن يعبر عن رأيه فإنه لا يجب
استشارة العوام في مهام الأمور، لأنهم لا يستطيعون تقدير الأمور تقديرًا
صحيحًا، وإنما يستشار أهل الحل والعقد والحكمة فيمن توفرت فيهم شروط من
يستشار، مثل العلم، والتقوى، والورع، وحسن التدبير، والتفكير.
وأهل الحل
والعقد: هم جماعة من الأمراء والحكام -والعلماء ورؤساء الجند وسائر
الرؤساء والزعماء في كل المصالح، الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات
والمصالح العامة.
وقد ركز الإسلام على الشورى في نظام الحكم؛ لما لها من آثار طيبة على حياة الفرد والمجتمع، ومن هذه الآثار:
- أنها تتفق مع ما قرره الإسلام من احترام للفرد والاعتراف بشخصيته في إطار مصلحة الجماعة.
-
أنها طريق مضمونة للوصول إلى أصح وأصوب الآراء في موضوع ما من الموضوعات
التي تدخل في نطاق الشورى، وبالشورى يحترم الحاكم مشاعر المحكومين وحقوقهم؛
فهم شركاء في الحكم.
-تحفظ حقوق الشعب، وتصحح مسار الحكام، وتضمن استقامتهم وحسن تدبيرهم لأمور الدولة.
وبعد، فهذه هي الشورى الإسلامية، وهي الشورى الحقيقية التي تقوم على الحرية في إبداء الرأي، دون خوف أو إكراه.
3- العدل:
أمر
الإسلام بالعدل، وجعله غاية الحكم الإسلامي وهدفه، والعدل هو: إعطاء كل ذي
حق حقه كاملاً غير منقوص. وهذا العدل مسئولية الحاكم، وواجب من الواجبات
المفروضة عليه، والأمة لها الحق في أن تحاسب الحاكم إذا ظلم أحدًا. ويشمل
العدل كل الحقوق المتعلقة بالأرواح والأعراض والحريات والأموال، للمسلم
وغير المسلم.
وتحدثت كثير من الآيات في القرآن عن العدل، وحذرت من الظلم
وعواقبه، قال الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى
وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم الله لعلكم تذكرون} [النحل: 90]،
وقال رسول الله (: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) [مسلم].
ومن
العدل أن يكون الناس أمام القانون سواء، فلا فرق بين شريف ووضيع، ولا غني
وفقير، فالعدل يخضع له الجميع، وبذلك يكون العدل هو أساس استمرار الدول
والحفاظ عليها، يقول ابن تيمية: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت
كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.
ومن أجل أن يتحقق العدل
فلابد له من قوة تحميه، ولا بد أن يكون حاكمًا لا خاضعًا، ولذلك نجد
الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يحرص على جعل القضاء الذي يقيم العدل
مستقلاً عن كل سلطة، حتى عن سلطة الحاكم، وصار ذلك مبدأ من مبادئ الحكم
الإسلامي، فعندما تولى عمر الخلافة، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، عين لكل
إقليم قاضيًا مستقلاً، ونظم السلطة القضائية وميزها
عن غيرها.
إن
العدل يشعر المواطن بالأمن على ماله وعرضه وسائر حقوقه، ففي ظل العدل تختفي
الجريمة، وينصرف كل إنسان إلى عمله، ويسهم في بناء مجتمعه وأمته، وبالعدل
يجنى الإنسان ثمرة عمله وتعبه، وينطلق في ميادين التنافس الشريف في ميادين
الخير،
وبالعدل تتم المساواة، ويتفاضل الناس بحسب قدراتهم وجهدهم. إن الإسلام سبق
كل الذين دَعَوْا إلى العدل، وأرسى دعائمه، وقد طبق العدل أروع تطبيق في
حياة المسلمين.
4- طاعة الحاكم:
طاعة الحاكم هي إحدى قواعد الحكم
الإسلامي، وذلك ما دام الحاكم منفذًا لحدود الله عز وجل، وما لم يأمر
بمعصية، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم} [النساء: 59].
وعلى المسلم أن يسمع ويطيع للحاكم، فيما أحب
وكره، إلا أن يأمر بمعصية، فإن أمر الحاكم بمعصية فلا طاعة له، قال (:
(على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية،
فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) [ابن ماجه].
5- الحرية:
لقد احترم
الإسلام الحرية الفردية، فلم يكره أحدًا على أن يعتنق فلسفة معينة، ولم
يُرغمه على أن يعيش حياته وفق نظرية محددة، بل إن لكل فرد في الدولة
الإسلامية حريته الكاملة في أن يفكر وأن يختار أسلوب حياته، وأن يعبر عن
رأيه بشرط ألاَّ يَحُدَّ من حرية الآخرين.
وفي مجال العقيدة الدينية،
فقد أعطى الإسلام لأفراد الدولة الإسلامية الحرية في اعتناق أية عقيدة، فمن
حق أهل الكتاب الخاضعين للدولة الإسلامية أن يمارسوا شعائرهم دون أن
يمنعهم من ذلك أحد، قال تعالى: {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256]، وقال
سبحانه: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99]. وهذه هي كلمة
عمر الخالدة التي قالها لعمرو بن العاص عندما تسابق ابنه مع أحد المصريين
القبط فسبقه المصري، فضربه ابن عمرو بن العاص.
فاشتكى هذا الشاب لأمير
المؤمنين عمر، فاستدعى عمرًا وابنه، وأمر هذا الغلام أن يضرب ابن عمرو بن
العاص أمام أبيه، وقال له: اضرب ابن الأكرمين. وقال لعمرو: متى استعبدتم
الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وقد قرر الإسلام حريات أخرى كثيرة، مثل
الحرية المدنية؛ وهي حرية الشخص في عقد العقود، وتحمل الالتزامات، وقد
أقرها الإسلام لكل إنسان ما عدا الصبى والمجنون، ومن هذه الحريات؛ الحرية
السياسية، وحرية التفكير، والحرية في الإسلام مشروطة بعدم التعدي على مبادئ
الإسلام وعدم التعدي على حرية الآخرين.
صفات الحاكم المسلم
لقد شهدت
الحضارة الإسلامية حكامًا عظامًا، أعظمهم رسول الله (، وهو القدوة في كل
شيء، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله
واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا} [الأحزاب: 21].
وقد رأت الدنيا أجيالاً
متتالية من الحكام المسلمين ممن اتبعوا آثار رسول الله (، وتربوا على سنته
وما كان لهم في الأرض نظير، ولِمَ لا، وقد تعلموا ما قال الرسول (: (كلكم
راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام الأعظم الذي على الناس راعٍ وهو مسئول
عن رعيته) [متفق عليه]. وقد اتضح لهم أن مسئولية الحاكم عظيمة القدر؛ لأنها
تتعلق بشئون الدين والدنيا، فلابد أن يكون أهلا لها بما يتوفر فيه من صفات
تجعله ينهض بأعباء المسئولية على خير وجه.
ومن أهم هذه الصفات:
-اعتقاده
أن السلطة تكليف وليست تشريفًا، فقد اختاره الشعب وبايعه بالرئاسة
لكفاءته، وبايعه على السمع والطاعة، وجعلوه وكيلاً عنهم في حماية أمور
الدين وتدبير شئون الحياة، ومن حق الشعب أن يراقبه ويحاسبه، أو يعزله إذا
انحرف من خلال أهل العقد والحل. وعلى الحاكم المسلم أن يعلم أنها أمانة،
وهي يوم القيامة خزي وندامة، إذا لم يؤدِّ حقها، فقد قال أبو ذر -رضي الله
عنه-: يا رسول الله، ألا تستعملني (تولني إمارة)؟ فقال رسول الله (: (يا
أبا ذر، إنك ضعيف إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها
بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها) [مسلم].
-أن يكون ذكيًّا فطنًا عالمًا
بأحكام الدين وقواعده العامة، وبذلك يستطيع تمييز الحلال من الحرام، فهو
الأمين على مصالح الأمة والراعي لها، كما ينبغى له أن يكون على أعظم معرفة
بأمور الدنيا، مثل الحرب والبيع والشراء، وعقد المعاهدات وغير ذلك.
-أن يتصف بالصفات الحسنة، كالأمانة والعفة والكرم، وأن يبتعد عن كبائر الذنوب وصغائرها.
-أن
يلتزم مبدأ الشورى في تدبير أمور الأمة في الأشياء التي ليس فيها نص من
القرآن أو السنة، فيستشير أهل الرأي والخبرة ليستفيد من عقولهم، وليستنير
بحسن تدبيرهم.
-وينبغي أن يكون سليم الحواس والأعضاء من نقص يمنع القيام
بأعباء الحكم، فلا يكون له أمراض كالجنون والصمم والخرس، وفَقْد بعض
الأعضاء، مثل اليدين والقدمين، وكل هذا مما يؤثر على عمله وقيامه به خير
قيام، وهكذا ندرك أن الإسلام أعطى مكانة عظيمة للسياسة والحكم لما لهما من
أهمية ونفع في تسيير أمور الحياة.