القضاء في الشريعة الإسلامية
مقدمة
شرع الإسلام القضاء؛ لأنه وسيلة لتحقيق العدل والعدالة، ورد الحقوق إلي أصحابها، فينتشر الأمان بين الناس، وتصان دماؤهم وأموالهم وأعراضهم، والقضاء لا يكون في حقوق الناس فقط، بل يكون كذلك في حقوق الله تعالى. مقدمة
ولأهمية القضاء وجب علي الحاكم تعيين قضاة له في كل أنحاء البلاد التي يحكمها.
هذا قد قسمنا هذا الفصل إلى مباحث أربعة.
المبحث الأول: تعريف القضاء في اللغة والاصطلاح
أولا القضاء في اللغة:
يعدّ لفظ القضاء من الألفاظ التي تحمل أكثر من معنى ، إذ وضع العرب - كعادتهم- للفظ القضاء أكثر من معنى فحينما نطلق لفظ القضاء فإنه ينصرف إلى معاني عديدة ، وترجع هذه المعاني كلها إلى لفظ القضاء ؛ على النحو التالي:-
- بمعنى الأمر ، مثل قوله تعالى (وقضى ربك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه …) .
-وهو بمعنى فرغ مثل قوله تعالى (فاقض ما أنت قاض) ، وقُضِيَ قَضَاؤكَ: أي فُرِغَ من أمْرِكَ. وهو بمعنى انتهى أجله وانقضى مثل قول العرب عن فلان (قضى نحبه ) أي انتهت حياته .
-وهو بمعنى الارادة مثل قوله تعالى : (فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) .
-والقضاء بمعنى الحكم والإلزام مثل : قضيت عليك بكذا ، وقضيت بين الخصمين وعليهما. والقضاء بمعنى الأداء مثل قوله تعالى : (فإذا قضَيْتُم مناسِكَكُم) أي أديتموها.
-ويطلق لفظ القضاء على الصنع والتقدير كقوله تعالى : (فقضاهنّ سبْعَ سَمَواتٍ في يوْميْن) .
-وبمعنى أعلمناهم ، كقولُه سُبْحانَه وتعالى: "وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ" أي أعْلَمْناهم.
ولهذا فالقضاء في اللغة يعدّ من الألفاظ ذات المعاني المتعددة والتي يعرّفها العلماء بأنها من المشترك اللفظي.
ثانيا
القضاء في الاصطلاح:
ينصرف معنى القضاء إصطلاحا إلى ثلاث مجالات: أولها : في التوحيد والعقيدة : بمعنى أن القضاء من خصائص الألوهية وثانيها في فقه العبادات ،
القضاء : التي وقعت بعد وقتها ، ووجد فيه سبب وجوبها ، وقيل : إتيان العبادة بعد وقتها المقدر استدراكا لما فات . بمعنى قضاء الفوائت من العبادات ، ثالثهما في مجال الفصل بين الناس في الخصومات لحسم النزاع بالأحكام الشرعية من الكتاب والسنة . والأخير هو نطاق بحثنا و ما سوف نقصده- إن شاء الله تعالى - بالبحث في هذه الدراسة.
ثالثا
القضاء في الفقه المذهبي:
والقضاء بمعنى الحُكم بين الناس له تعريفاتٌ متعددة نذكر منها:-
أولا
تعريف القضاء عند الحنفية:-
عرّفه ابن عابدين بأنه:- " الفصل ين الناس في الخصومات ، حسما للتداعي وقطعا للنزاع بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة "
ثانيا
تعريف القضاء عند المالكية :-
عرّفه ابن عرفة من علماء المالكية بأنه" صفة حكميّة ، توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي ولو بتعديل أو تجريح ، لا في عموم مصالح المسلمين."
وعرفه ابن الدردير من علماء المالكية تعريفا طويلا غير مختصر فقال: " حكم حاكم أو محكم بأمر ثبت عنده كدين أو حبس ، وقتل ، وجرح وضرب وسب وترك صلاة ونحوها ، وقذف وشرب وزنا ، وسرقة وغصب وعدالة ، وضدها وذكورة وأنوثة وموت وحياة ، وجنون وعقل وسفه ورشد وصغر وكبر ونكاح ، وطلاق ، ونحو ذلك ، ليرتب على ماثبت عنده مقتضاه ، أو حكمه بذلك المقتضى."
وعرّفه ابن رشد – أحد فقهاء المالكية – بأنه " الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام "
ثالثا
تعريف القضاء عند الشافعية:-
عرّفه بعض فقهاء الشافعية بأنه " فصل الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى ." كما عرفوه أيضا بانه :- " إلزام من له الإلزام بحكم الشرع." وهما تعريفان غير مانعين ، لأنهما يشملان رياسة الدولة والتعريف الأول ينطبق اكثر ويشمل حكم المحكّم أيضا. كما أن سلطة الإلزام ملاحظة في تعريف القاضي بخلاف المفتي ، لأن المفتي وغن كان يتفق مع القاضي في ان كلا منهما مظهر ومبيّن لحكم الشرع ، إلا ان القاضي له سلطة الالزام والإمضاء ، أي تنفيذ الحكم بجانب إظهاره لحكم الشرع ، وأما المفتي فليس له سلطة الإلزام والإمضاء ، وإنما هو مظهر لحكم الشرع في المسألة التي يستفتى فيها ، ولذلك قال بعض العلماء :إن القيام بحق القضاء أفضل من الإفتاء ، وإن كان المفتي أقرب للسلامة وأبعد من القاضي عن الإثم.
رابعا
تعريف القضاء عند الحنابلة:-
قد عرفه بعض فقهاء الحنابلة بأنه :" الإلزام بالحكم الشرعي وفصل الخصومات ". كما عرفوه أيضا بانه: " تبيين الحكم الشرعي والإلزام به ، وفصل الخصومات."
وعرفه الصنعاني بأنه:- " إلزام ذي الولاية بعد الترافع".
وقد ذكر الصنعاني تعريفا آخر لغيره من العلماء هو انه:" الإكراه بحكم الشرع في الوقائع الخاصة لمعين أو جهة ". ثم أوضح الصنعاني أن المقصود بالجهة كما لوحكم القاضي لبيت المال (الخزانة العامة للدولة) أو عليه.
المبحث الثاني:المبادئ التي يقوم عليها القضاء في الإسلام
مقدمة
يقوم القضاء في الإسلام على الشخص الذي يؤدي مهمة الفصل بين الناس، ألا وهو القاضي الذي يشترط فيه عددا من الشروط ليكون صالحا للامساك بزمام الولاية العامة لمنصب القضاء والحكم بين الناس،و لأهمية القاضي اجتهد علماؤنا في بيان الشروط الواجبة في شخص القاضي وبيان ما له من الاختصاصات التي هي في الواقع حقوق و التزامات ترتبط بطبيعة ولاية القضاء العامة.وما اجتهد فيه علماؤنا هو في الحقيقة تبيين للمبادئ الأساسية التي لا يقوم القضاء إلا بها كما ذكر الحافظ السيوطي في مقاليد مفاتيح العلوم:« المبادئ ما يتوقف عليها البحث عن ذلك العلم » ولذا ندرسها بقدر مناسب من الإيجاز في مطلبين:أولهما في صلاحية القاضي لتولي منصب القضاء، وثانيهما في اختصاصات القاضي والتزاماته. مقدمة
المطلب الأول:في صلاحية القاضي لتولي منصب القضاء
حتى يكون القاضي المنوط به مهمة ولاية القضاء صالحا لهذه الولاية يلزم أن تتوافر فيه مجموعة من الشروط. فالقاضي هو من يوصف بالإسلام والبلوغ والعقل والحرية والعدالة والذكورة والكفاية والاجتهاد وذي سمع وبصر ونطق غير أمي غير راشي بمال ليتولى القضاء. و هي الشروط اللازمة في حد ذاتها لتولي ولاية القضاء، ويمكن أن يقال عنها بأنها المبادئ الأساسية التي يتوقف عليها البحث في علم القضاء وننقل ما ذكر الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب آداب القضاء. ونقله عنه الحافظ بن حجر العسقلاني – نفعنا الله بعلمه- ببيان متى يستحق الشخص أن يكون قاضيا... قال الكرابيسي –رحمه الله- «لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقع وعلمه، وورعه، قارئا لكتاب الله، عالما بأكثر أحكامه، عالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظا لأكثرها، وكذا أقوال الصحابة، عالما بالوفاق والخلاف، وأقوال فقهاء التابعين، يعرف الصحيح من السقيم، يتبع في النوازل الكتاب، فإن لم يجد فالسنن ، فإن لم يجد عمل بما اتفق علي الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسنة، ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم، والمشاورة لهم، مع فضل وورع، ويكون حافظا للسانه، وبطنه وفرجه، فهما بكلام الخصوم، ثم لابد أن يكون عاقلا مائلا عن الهوى.»ثم استطرد الكرابيسي فقال: «هذا وان كنا نعلم انه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم».
ولهذا نعرضها من جهة كونها مبادئ فقط ، بالمناسبة لمنهجنا التقديمي في هذه الدراسة حيث لن يتسع المقام لنا لولوجها باستفاضة تُرضي نهم العلم بعمق مباحثها ولهذا نوجز محتواها على النحو التالي:
شروط صلاحية القاضي لتولي القضاء
1- أن يكون القاضي بالغًا عاقلا: فلا يصح أن يتولي القضاء طفل أو مجنون. 2- أن يكون القاضي مسلمًا: فلا يجوز تولية الكافر القضاء بين المسلمين.(ونورد لها بيانا في فرع مستقل)
3- أن يكون رجلا: فلا يتولي القضاء امرأة، قال ( عندما علم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسري لتحكم: "لن يفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة"[البخاري والترمذي والنسائي وأحمد].
ولكن أجاز كثير من الفقهاء قديمًا وحديثًا تولي المرأة القضاء علي أساس أن الولاية المقصودة في الحديث هي الولاية العامة، ولكن لم يُسمع أن امرأة تولت القضاء في عصور الخلافة في الإسلام، وذلك أن القضاء يطلب فيه تحكيم العقل، أما المرأة فغالبًا ما تُحَكِّم الهوي.
4- أن يكون سليم الحواس: فيسمع ويري ويتكلم، فلا يجوز أن يتولي القضاء أصم أو أعمي أو أبكم.
5- أن يشهد له بالفطنة والذكاء والخبرة بأحوال الناس: حتى لا يخدعه الظالم، أو أحد المتنازعين.
6- أن يكون تقيًا عدلا: فلا يتولي القضاء الفاسق، وإلا ضاعت حقوق الناس.
7- أن يكون عالـمًا: بالقرآن وبالسنة، وبآيات الأحكام وبأحاديثها، وأقوال السلف وما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، وباللغة، وبالقياس وبآراء الفقهاء.
8- أن يكون أهلا للقضاء: بمعني أن يكون قويًا قادرًا علي تحمل هذه المسئولية الجسيمة. قال : "من وَليَ القضاء فقد ذُبح بغير سكين" [أبو داود].
وطلب أبو ذر من النبي ( أن يُأَمِّره علي بعض البلاد، فقال له النبي: ("يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدي الذي عليه فيها" [مسلم وأحمد]. وعلي القاضي أن يتخلي عن أهوائه، وأن يتجنب القضاء في بعض الحالات، فيتجنب القضاء في حالة الغضب أو القلق أو الجوع الشديد، أو في حالة الخوف المفزع، أو في الحر الشديد أو البرد الشديد، ففي كل هذه الأحوال يكون فكر القاضي مشوشًا، وذهنه غير صاف، فيمكن أن يخطئ في القضاء. قال (: "لا يَقْضِيَنَّ حَكَم بين اثنين وهو غضبان" [رواه الجماعة].
9-اجتهاد القاضي:
وللقاضي أن يُعْمل عقله في الأمور التي ليس فيها نص من القرآن أو السنة أو القياس أو اجتهاد من له حق الاجتهاد، فعندئذٍ يجتهد القاضي برأيه، وله أجر الاجتهاد، قال (:"إن حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجر" [الجماعة].
والمقصود بالأجرين: أجر الاجتهاد في معرفة الحق، وأجر التوصل إلي الحق ومعرفته، فإن أخطأ فله أجر واحد وهو أجر الاجتهاد في محاولة الوصول للحق. وليس عليه ذنب إن أخطأ ما دامت نيته معرفة الحق، إذا كان مالكًا لأدوات الاجتهاد، قال تعالي:{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورًا رحيمًا}[الأحزاب: 5].
الفرع الأول: مدى تحقق شرط الإسلام في القاضي
لقد اشترط العلماء في القاضي أن يكون مسلما وهو أمر أجمعوا عليه بلا اختلاف ، ولكنهم اختلفوا إذا تولى منصب القضاء شخص من غير المسلمين (أحد الذميين)للفصل في الخصومات بين غير المسلمين ، على رأيين: الرأي الأول
رأي جمهور العلماء
مايراه جمهور العلماء وهو أنه لايصح تولية القضاء غير المسلم ولو كان سيقضي بين غير المسلمين، استنادا إلى :
أ- ضرورة أن يكون العلو في المجتمع الاسلامي للمسلمين.وإلى أن جواز تنفيذ احكام غير المسلمين التي قضوا بها وهو ما يتنافى مع مفهوم الصغار في الآية 29 من سورة التوبة، وعليه لا يجوز توليهم القضاء.
ب- وعملا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الدارقطني في سننه والطبراني في الأوسط، وعلّقه البخاري: الاسلام يعلو ولا يعلى عليه.وهذا الحديث يفيد انه لا ولاية لغير المسلم في دولة الاسلام.
ت- وأنّ القصد من القضاء فصل الأحكام، وغير المسلم جاهل بالأحكام الشرعية.
ث- عن طريق القياس بالأوْلىَ ، أن العدالة من شروط القاضي ولذلك فالفاسق ممنوعٌ من تولي القضاء، ومن ثم غير المسلم يكون ممنوعا من باب أوْلى،ولأن الفاسق أحسن حالاً من غير المسلم وقد مُنع من تولية القضاء لغياب صفة العدالة في شخصه. فحرمان غير المسلم من هذه السلطة أولى لتمكن علة المنع عنده أكثر من الفاسق.
الرأي الثاني
رأي الحنفية:
ويذهب إلى أن لغير المسلمين ولاية القضاء بعضهم على بعض.استدلالا بطريق قياس القضاء على الشهادة وأن العرف جرى في البلاد الاسلامية على تعيين قضاة من أهل الذمة ليحكموا بينهم.
ترجيح مذهب أبي حنيفة
-أولا:أن العرف الذي استند إليه الحنفية له أصل شرعي، وهو أن عمرو بن العاص بعد ما فتح مصر ولى القضاء قضاة من بين النصاري ليحكموا بين أهل ديانتهم، ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب أقره ولم يعلم لهما مخالف من الصحابة في حينه، وهذا هو أصل القضاء الملي في البلاد المصرية.
- ثانيا: ان المفهوم من كلام فقهاء الحنفية أن القول بجواز تولية غير المسلم القضاء بين أهل ديانته إنما هو نوع من التسامح مع أهل الذمة، فلا ينبغي أن يفهم منه انه يجب على رئيس الدولة الاسلامية أو من له حق تولية القضاة أن يولي غير المسلم، لأن من الأصول المقررة أن كل ولاية عامة في بلاد الاسلام، إنما تستند إلى المسلمين لا إلى غيرهم، كما لا يفهم منها ان غير المسلمين مجبرون على أن يتحاكموا إلى القاضي غير المسلم، لأن لهم الحق في التحاكم إلى القاضي المسلم.
-ثالثا:- أن هذه التولية لاتنفي الصغار عنهم، لأن هذه التولية ليست على المسلمين، وإنما عليهم أنفسهم وعلى بعضهم البعض،كما انه ليس في هذه التولية علو على المسلمين، لأن العلو لا يتحقق إلا إذا شملت التولية الحكم بين المسلمين، وهذا غير حاصل.
الفرع الثاني :من الشروط الخاصة عند بعض الفقهاء في صلاحية القاضي
(شرط ألا يكون قد دفع رشوة لتوليه القضاء)
- قد اشترط المالكية لصحة تولية القاضي الذي لا يتعين عليه القضاء: ألا يكون قد دفع رشوة ليحصل على هذا المنصب، فإن كان ممن لا يجب عليه تولي القضاء ودفع رشوة لكي يحصل على هذا المنصب فلا تنعقد عندهم ولايته، وقضاؤه مردود، حتى ولو وافق الحق، وتوفرت فيه شروط القضاء، هكذا صرح علماء المالكية.
- أما إذا كان يجب عليه تولي القضاء، فقد اختلف المالكية فيه، فهل يجوز له أن يبذل مالاً ليتقلد منصب القضاء أم لا، على رأيين في الفقه المالكي، أحدهما يفيد الجواز، لأنه إنما بذل المال ليحصل على أمر واجب، والرأي الآخر يفيد بعدم الجواز.
- وكذلك يرى الشافعية أنه إذا تعين للقضاء واحد لا يصلح له غيره لزمه طلبه.حتى لو توصل الى ذلك بدفع مال فاضل عن قوته، وقوت من تلزمه نفقته، لأن القضاء يترتب عليه مصلحة عامة للمسلمين، فوجب بذل المال للقيام بهذه المصلحة.
ومال بعض الشافعية إلى أنه يجب عليه طلب القضاء وان كان يظن عدم إجابته طلبه، أخذا من قول العلماء: يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عدم الامتثال له.
المطلب الثاني :آداب القاضي
علي القاضي أن يسوي بين المتخاصمين في الدخول عليه وفي الجلوس أمامه، وفي استقباله لهما، وفي الاستماع إليهما، وفي الحكم عليهما. فلا يحترم أحدًا دون الآخر، ولا يُجلس أحدهم في مكان أفضل من الآخر، وألا يعطي لأحدهما حق التحدث أكثر مما يعطي للآخر، وأن يُبعد عواطفه تجاه أي منهما عند الفصل بينهما. عن علي - رضي الله عنه- قال بعثني رسول الله ( إلي اليمن قاضيًا، فقلتُ: يا رسول الله! ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: "إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحري أن يتبين لك القضاء" [أبو داود].
وعلي القاضي ألا يقبل من أحد المتنازعين شيئًا حتى لا يعدَّ ذلك رشوة.
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- قال: لعن رسول الله ( الراشي والمرتشي. [أبو داود والترمذي وابن ماجة].
والراشي: هو معطي الرشوة. والمرتشي: آخذ الرشوة.
وليس للقاضي أن يقبل هدية ممن كان لا يهاديه قبل توليه القضاء، لقول ه ( :"من استعملناه علي عمل ، فرزقناه رزقًا، فما أخذه بعد ذلك فهو غلول"[أبو داود والحاكم].
وعلي القاضي أن يحكم بما أنزل الله تعالي، وسنة رسول الله (، قال تعالي :{وأن احكم بينهم بما أنزل الله}[المائدة: 49].
وقال أيضا:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}[الحشر: 7].
وليس للقاضي أن يقبل هدية ممن كان لا يهاديه قبل توليه القضاء، لقول ه (: "من استعملناه علي عمل، فرزقناه رزقًا، فما أخذه بعد ذلك فهو غلول" [أبو داود والحاكم].
وليس للقاضي أن يحل الحرام أو يحرم الحلال، لكنه ينفذ الحق علي الممتنع عن أدائه، والذي جاءه الشرع، والمشار إليه في قول رسول الله ( :"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" [متفق عليه].
فإذا كان حكم القاضي مخالفًا للكتاب والسنة، لم يجز لأحد أن ينفذه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ولا يحل للقاضي أن يقضي بما يغلب علي ظنه، قال تعالي:{وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا}[ النجم: 28].
وقال ( :"إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" [متفق عليه].
وعليه أن يقضي بما اطمأنت به نفسه،فإن البر فيه. قال ( :"البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب" [الدارمي وأحمد].
ولا يحل للقاضي كذلك أن يتباطأ في فصل القضاء، وإنفاذ الحكم لمن ظهر له الحق.
وللقاضي أن يستعين بالوسائل العلمية التي تيسر له الوصول إلي الحقيقة، كتقرير المعمل الجنائي، أو الطبيب الشرعي أو غير ذلك، فقديمًا كان يحكم بالقافة (معرفة الأنساب من الأقدام) فقد روي أن مجزر المدلجي مر علي زيد بن حارثة وولده أسامة وقد غطيا بثوب ، فأخفيا رأسيهما وظهرت أقدامهما. وكان زيد بن حارثة أبيض البشرة، بينما كان ولده أسامة أسود، فقال مجزر: هذه أقدام بعضها من بعض، فسر رسول الله ( بما قال.
وإذا كان القاضي يعلم الحقيقة، كأن كان قد شاهد الواقعة، أو سمع صاحبها يتحدث بها؛ وجب عليه أن يقضي بما يعلم.
فإن رفض الطرفان الصلح؛ لجأ إلي القضاء والحكم بينهما فيما اختلفا فيه.فعن كعب بن مالك: أنه تقاضي ابن أبي حدرد دينًا له عليه في عهد رسول الله ( في المسجد،فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله ( وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله ( حتى كشف سجف (ستر) حجرته، ونادي: "يا كعب بن مالك، يا كعب قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك. قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. قال رسول الله ( لابن أبي حدرد : "قم فاقضه" [البخاري].
ويصح للقاضي أن يقضي علي الغائب في الحقوق المدنية متي ثبتت الدعوي . فقد صح ذلك عن رسول الله ( لهند بنت عتبة أن تأخذ من مال أبي سفيان بغير إذن، وهنا حكم علي غائب.
وحكم القاضي لا يحرم الحلال، ولا يحلل الحرام، فإن جاء المدعي ببينة كاذبة فاحتال بها علي القاضي فحكم له من حق المدعي عليه، فإن هذا الشيء المحكوم له به لا يصبح حلالا، ولا يجوز له الانتفاع به فهو ليس من حقه، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي ( قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي علي نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" [رواه الجماعة].
ولو اكتشف القاضي كذب المدعي، عاد الأمر كما كان، ولابد من البينة علي المدعي أو اليمين علي من أنكر، إلا أن يأتيه المدعي عليه بالبينة.
ويجوز للقاضي المسلم أن يحكم بين يهوديين أو نصرانيين- أو بين يهودي ونصراني. قال تعالي:{فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين}[المائدة: 42]. ويشترط عليه أن يحكم بينهم بأحكام المسلمين.
قال (: "لاحسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالا فسلطه علي هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" [أحمد].
وقال أيضًا: "من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدله جوره، فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار" [أبو داود].
وعن عبد الله بن أبي أوفي أن النبي ( قال: "إن الله مع القاضي مالم يجر (يظلم)، فإذا جار؛ تخلَّي عنه، ولزمه الشيطان" [الترمذي وابن ماجة].
وليس للقاضي أن يحكم لنفسه أو لمن لا يقبل شهادته لهم، كالولد والوالد والزوجة.
مشروعية القضاء
مشروعية القضاء دليلها مستمد من مصادر التشريع الإسلامي وهي القرآن والسنة والإجماع. القرآن الكريم
-لقوله تعالى في سورة ص :
(يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكُم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) الآية 26 .
وفي سورة المائدة: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) الآية 49.
وفي سورة النور: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) الآية 48 .
وفي سورة النساء: (فلا وربك لايومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلّموا تسليما ) الآية 65 .، وبذات السورة قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) الآية 105 .
السنة النبوية الشريفة
ومن السنة ما رواه عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر. " رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث الشريفة.
الإجماع
فقد اجمع علماء المسلمين على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس .
الحكم الشرعي لوجود القاضي
حقاً وصدقاً القضاء مشروع أي أقره الشرع ولكن هل وجود القاضي من المباحات أو الأمور المستحبة او من الأمور المفروضة؟ وتلك المسألة تثور لأنه من المعلوم ان الشيء قد يكون مشروعا ومع ذلك هو جائز أو مستحب أو واجب ،
بعبارة أخرى ماحكم وجود القاضي في المجتمع من هذه الوجهة ؟
ولقد أجاب العلماء على ذلك بأن القضاء من فروض الكفايات ، بل هو أسنى فروض الكفايات حتى ذهب الغزالي إلى تفضيله على الجهاد.
معنى فرض الكفاية (أو الفرض الكفائي)
يعني الفرض الكفائي أنه الأمر الذي طلب الشارع حصوله على سبيل الحتم والإلزام من مجموع المكلفين لا من كل فرد ، وذلك مثل القضاء والإفتاء والجهاد في سبيل الله ، ورد السلام إذا المرء في جماعة ، وأداء الشهادة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعلّم الطب والصناعات التي يحتاج الناس إليها في حياتهم. حكم فرض الكفاية (أو الفرض الكفائي) ومتى يتحول إلى فرض عين (أو فرض عيني)
حكم فرض الكفاية أنه إذا فعله البعض من المكلفين سقط الوجوب عن الباقين ، واما إذا لم يفعله أحد فإن جميع القادرين على فعله يكونون آثمين. ويتحول الواجب الكفائي (فرض الكفاية) إلى واجب عيني (فرض عين) إذا كان يوجد شخص يستطيع القيام بهذا الواجب ، ولا يوجد غيره يستطيع القيام به ، كما لو وجد شخص تتوافر فيه شروط القاضي ولا يوجد غيره متوافرة فيه هذه الشروط ، فيصير في هذه الحال تولي منصب القضاء فرض عين أي واجبا عينيا عليه وليس فرض كفاية ، فإذا لم يتول هذا الشخص القضاء كان آثما ، وذلك لأنه لابد من وجود القضاء بين الناس ، لأن أمورهم لا تستقيم بدونه ، فكان واجبا عليهم إيجاده بينهم ، قال أحمد بن حنبل :لابد للناس من حاكم ، أتذهب حقوق الناس ؟
وكذلك لو كان هناك أكثر من واحد يصلح لتولي القضاء ، وامتنعوا جميعا عن توليه ، فإنهم يأثمون جميعا بتركه ، كما لو ترك الجميع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي هذه الحال الأخيريجبر رئيس الدولة او من له السلطة أحدهم على تولي عن هذا المنصب لأنه إذا لم يجبر رئيس الدولة أو من له السلطة أحدا في هذه الحال ، بقى الناس بلا قاض ، وضاعت الحقوق ، وذلك لا يمكن تصور وجوده في ظل التشريع الإسلامي الحكيم ، الذي يهدف لإقامة العدل بين الناس تحقيقا لرخاء و ازدهار البشرية .
إقامة قاض بين الناس فرض عين على رئيس الدولة
لما كان وجود القاضي بين أفراد المجتمع ضروريا ليحكم بين الناس في خصوماتهم ، ودعاواهم وهو فرض كفاية (واجب كفائي) ، فإذا وجد من يقوم بهذا الواجب فقد سقط الوجوب عن الباقي ، وقد قرر العلماء بوجود فرض عين (واجب عيني) على رئيس الدولة أن يقلّد شخصا القضاء ، بما لايجوز معه أن يخلى المجتمع من قاض. وعلى رئيس الدولة إلتزام بأن يحسن إختيار القاضي ويتفرع عن هذا ان لرئيس الدولة القيام بمهمة القضاء . قيام رئيس الدولة بأعباء القضاء جائز بديلا عن إقامة قاض
لما كان يجب على رئيس الدولة أن يقلد شخصا القضاء ليقوم بمهمة الحكم في الخصومات ، وتحقيق العدل بين أفراد المجتمع ، إلا أنه ليس من اللازم ان يقوم غير رئيس الدولة بالقضاء ، فمن الجائز ان يقوم رئيس الدولة بهذا المنصب إذا كانت أعباء منصبه تسمح بهذا ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بين المسلمين و هو من هو رسول الله ورئيس الدولة ، واضع أساس الدولة فقد خاطبه الله تعالى في محكم التنزيل في سورة المائدة ( فاحكم بينهم بما انزل الله) ، فإذا لم تسمح الأعباء بقيامه بالقضاء وجب عليه أن يقيم للناس قاضيا ، والغالب ان منصب رئيس الدولة مع تعدد أعبائه لا يُعْطِي رئيس الدولة الوقت لتولي القضاء بجانب أعماله الأخرى.
الدليل على أن نصب القاضي فرض عين على رئيس الدولة
لما كان القضاء أمرا مفروضا ، فإن نصب قاض أو تعيينه أمر مفروض بالتبعية فلقد قال الله عز وجلّ : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق )
وقال تبارك وتعالى لرسولنا صلى الله عليه وسلم: ( فاحكم بينهم بما أنزل الله)
وبذا يكون نصب القاضي لإقامة الفرض ومن ثمّ يكون فرضا. ذلك أن القضاء هو الحكم بين الناس بالحق والحكم بما أنزل الله عز وجلّ.
ويدل على ذلك أن نصب رئيس الدولة واجب شرعا ، للأدلة التي قامت على هذا ، ومنها إجماع الصحابة – رضي الله عنهم – على وجوب إقامة رئيس لهم يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في رعاية مصالحهم الدنيوية وكان ذلك في اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة ، يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والاحتياج إلى رئيس الدولة إنما هو لإيصال الحقوق لأصحابها وإنصاف المظلوم من الظالم وقطع المنازعات وإقامة الحدود المستحقة على مرتكبي الجرائم . وغير ذلك من الأمور التي لا تتحقق إلا بوجود رئيس للدولة. وكان طبيعة البشر لاتحتمل القيام بمهام وأعباء إدارة مجتمع في جميع الاختصاصات والشؤون من شخص واحد وفي وقت واحد . لذا كان من اللازم ان يقوم رئيس الدولة بتوزيع واجباته على من يعاونه في تحقيق دوره ، ولذلك يحتاج إلى نائب يقوم بأمور الخصومات والدعاوى هو القاضي .لذلك ليس بغريب عن التشريع الإسلامي ان يكون تعيين واختيار القضاة بواسطة رئيس الدولة، إذ يصدر رئيس الدولة قرارا بتعيينهم وفقا للمعمول به في العصر الحديث في التشريعات الوضعية ومنها على سبيل المثال :قانون السلطة القضائية في جمهورية مصر العربية وفي بعض الدول العربية كاليمن.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث القضاة إلى النواحي المختلفة ، فبعث معاذ بن جبل إلى اليمن ، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة ، فكان نصب القاضي من ضرورات نصب رئيس للدولة ، فكان فرضا.
إختيار القاضي بمعيار الأفضل
وقد بيَّن العلماء أنه ينبغي لمن له ولاية تقليد القضاة وهو رئيس الدولة او من يقوم مقامه أن يختار لهذا المنصب من هو أقدر وأولى لديانته وعفته وقوته دون غيره، استنادا إلى ما رواه الطبراني عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من تولى من أمر المسلمين شيا فاستعمل عليهم رجلا ، وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك واعلم منه بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين.)