الدويلات المستقلة عن الخلافة العباسية
فى عهد الخلافة
العباسية استقلَّت بعض الدول عنها استقلالا تاما، بينما أخذ بعضها يتجه
نحو استقلال جزئى تصبح البلاد فيه تابعة للخلافة اسمًا (فقط) بحيث تستمد
منها مكانتها الروحية وقدرها العظيم فى نفوس المسلمين.
ويقف المؤرخون
والمحللون أمام قيام بعض الدول وانهيار أخرى وقفات تأملية يبحثون عن
الأسباب والعوامل التى أدت إلى قيام هذه وانهيار تلك.
وعلى كلّ، فقد كان
قيام الدويلات نتيجة لضعف الخلافة، وسببًا لمزيد من الانحلال، وخطوة على
طريق النهاية، لقد قامت أولى هذه الدويلات فى أقصى الغرب؛ لبعده عن عاصمة
الدولة، ومركز السلطان فيها، فقامت دولة الأمويين فى الأندلس، وبقيامها فى
سنة 137هـ/756م ضعف نفوذ العباسيين على الغرب، وسرعان ما نشأت الدويلات فى
شمال إفريقية.
وحين تطرق الضعف إلى جسد الخلافة العباسية جميعًا، نشأت
الدويلات فى بقية أجزاء الدولة، وقد تسببت هذه الدول فى ضعف الدولة
العباسية وانحلالها؛ ذلك لأنَّ علاقة هذه الدويلات بالدولة العباسية كانت
مختلفة اختلافًا كبيرًا، فقد انفصل بعضها عن الدولة انفصالا تامّا، ونافسها
بعضها على تولى الخلافة نفسها.
كما ظل قسم آخر على علاقة اسمية
بالدولة، فيكفى الخليفة أن يذكر اسمه على المنابر، ويصك اسمه على العملة،
وفى حقيقة الأمر أنها دولة مستقلة تمامًا لا تخضع له فى شىء. وهناك دويلات
ظلت على صلة متغيرة بالدولة، تقوى حينًا، وتضعف حينًا آخر تبعًا لتغير
الأحوال.
وفيما يلى نذكر هذه الدول والإمارات، التى انفصلت عن دولة الخلافة العباسية، وهى:
أولا: الإمارة الأموية فى الأندلس.
ثانيًَا: الدول فى بلاد المغرب وهى:
1- الدولة الرستمية.
2- دولة الأدارسة.
3- دولة الأغالبة.
ثالثًا: الدول فى بلاد الشرق، وهى:
1- الدولة الطاهرية.
2- الدولة الصفارية.
3- الدولة السامانية.
4- الدولة الغزنوية.
رابعًا: الدول فى مصر والشام، وهى:
1- الدولة الطولونية.
2- الدولة الإخشيدية.
3- الدولة الحمدانية.
4- الدولة الفاطمية.
5- الدولة الأيوبية.
6- الدولة المملوكية.
***
الإمارة في الأندلس
(138-422هـ/ 750-1031م)
عبدالرحمن الداخل:
لما
قامت الخلافة العباسية طارد العباسيون الأمويين، ويشاء الله أن يفلت من
أيديهم واحد من بنى أمية : أتدرى من هو؟ إنه عبدالرحمن بن معاوية بن هشام
حفيد هشام بن عبد الملك عاشر الخلفاء الأمويين.
لقد هرب إلى فلسطين، ومنها إلى مصر ثم المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفى عن عيون العباسيين ومكث عند أخواله الذين أكرموه.
ومن
هناك راح ينتقل من "برقة" إلى "المغرب الأقصى" حتى وصل إلى مدينة "سبتة"
سنة 137هـ/ 755م، وراح يُعِدّ العدة ويلتقط أنفاسه، ويرسم الخطوط العريضة
لإقامة دولة يحيى بها مجد آبائه وأجداده الأمويين.
وأخذ يتطلع إلى
"الأندلس الإسلامية" ليقيم فيها الخلافة الإسلامية الأموية من جديد، فهى
البلاد التى فتحها الجيش الإسلامى بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير، زمن
الأمويين منذ سنة 92هـ/711م، وإليهم يرجع الفضل فى فتحها!
ولقد استقرت بها طوائف من أهل الشام وجُنْدِه الموالين للبيت الأموى.
وهنا
أرسل "عبد الرحمن" أحدَ أتباعه، وهو مولاه "بدر"؛ ليجمع كلمة الذين يدينون
لبنى أمية بالولاء والانتماء، ورَحّبَ به أنصارُ بنى أمية، ورأَوْا فيه
شخصًا جديرًا بأن يتولى زعامتهم بدلا من ذلك الوالى العباسى، وعبر البحر
إلى شاطئ الأندلس، وهناك انضمّ إليه أنصارُ بنى أمية، فقد انتهز عبد الرحمن
الداخل فرصة الخلافات بين العرب المُضَريِّين والعرب اليمنيين فى الأندلس،
فانضم إلى اليمنيين لأنهم كانوا مغلوبين على أمرهم، وهزم المضريين بقيادة
يوسف الفهرى فى موقعة "المصارة" فى 138هـ/ 756م، فاستولى على مدن البلاد
الأندلسية الجنوبية دون مقاومة، ثم راح يستولى على "قرطبة" عاصمة "ولاية
الأندلس" سنة 141هـ/ 759م، بعد هزيمة الوالى العباسي، وأعلن نفسه أميرًا،
وأصدر عفوّا عامًا غداة دخوله قرطبة ليمكن لنفسه فى البلاد، وتم له ما أراد
بعد بضع سنوات فقط من تولى العباسيين عرش الخلافة فى بغداد، وبهذا انفصلت
ولاية الأندلس، عن الخلافة فى بغداد انفصالا رسميّا.
ولكن ماذا كان موقف العباسيين من هذا الذى زاحمهم فى الأندلس، بل وأنهى حكمهم هناك؟
ظل
"عبد الرحمن الأموى" يعمل طوال مدة حكمه التى استمرت ثلاثة وثلاثين عامًا
على تأمين مركزه فى جميع أجزاء دولته الجديدة، فأخمد الفتن، وأحبط الدسائس،
وقضى على تلك المحاولات التى قام بها العباسيون لإخراجه من الأندلس.
صقر قريش:
لقد أرسل أبو جعفر المنصور إليه جيشًا بقيادة العلاء بن مغيث لإخضاع، الأندلس فهزمه عبد الرحمن بن معاوية وقتل العلاء.
فماذا فعل المنصور؟ وكيف كان رد الفعل؟
لم يحاول المنصور العباسى أن يُعيِّن على الأندلس أحدًا بعد هذا الذى قُتل.
ولم
يحاول أن يرسل جيشًا لحربه، بل فَضَّل أن يقر بالأمر الواقع ويعترف له
بلقب: "صقر قريش"، فقد أطلق عليه أبوجعفر المنصور هذا اللقب لاعترافه
بشجاعته وقوته، فيروى أن أبا جعفر قال يومًا لبعض جلسائه: "أخبرونى من صقر
قريش من الملوك،؟ قالوا ذلك أمير المؤمنين الذى راضى الملوك، وسكن الزلازل،
وأباد الأعداء، وحسم الأدواء (يقصدون أبا جعفر المنصور). قال : ما قلتم
شيئًا. قالوا : فمعاوية ؟قال: لا. قالوا: فعبد الملك بن مروان؟ قال ما قلتم
شيئًا. قالوا: فمن يا أمير المؤمنين ؟ قال صقر قريش عبدالرحمن بن معاوية
الذى عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميّا منفردًا بنفسه فمصَّر
ال**ار، وجنّد الأجناد، ودَوَّن الدواوين، ونال ملكًا بعد انقطاعه بحسن
تدبيره وشدة شكيمته، إن معاوية نهض بمركب حمله عمر وعثمان عليه وذلَّلا له
صعبه، وعبد الملك ببيعة أبرم عقدها، وأمير المؤمنين بطلب عترته واجتماع
شيعته، وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد بأمره مستصحب لعزمه، فمد الخلافة
بالأندلس، وافتتح الثغور وقتل المارقين وأذل الجبابرة الثائرين".
أخلاق عبدالرحمن:
وقد
كان عبد الرحمن جوادًا بسيطًا متواضعًا، يؤثر لبس البياض، ويصلى بالناس
الجمع والأعياد، ويحضر الجنائز، ويعود المرضى، ويزور الناس ويخاطبهم، وكان
نقش خاتمه "عبد الرحمن بقضاء الله راض " و "بالله يثق عبد الرحمن به
يعتصم"، وكان شاعرًا بليغًا عالمًا بأحكام الشريعة.
ولقد اكتفت الخلافة العباسية ببقاء عبد الرحمن الأموى بعيدًا عنها فى إمارته.
النهضة العمرانية:
وراح عبد الرحمن يبنى، ويعمر، ويُعيدُ الحياة الآمنة الهادئة إلى ربوع الأندلس أكثر من ثلاثين سنة.
ولقد
قابلته صعوبات وعقبات، منها تلك الفتن التى نشبت بين المضرية واليمنية،
وهما من العرب، وكان هناك خطر جاثم يتمثل فى "دولة الفرنجة" (فرنسا الآن)،
وكانت هناك أسبانيا النصرانية التى استطاعت أن تكون مملكة فى الشمال الغربى
من شبه جزيرة أيبيريا (أسبانيا).
ولقد استطاع أهل مدينة سرقسطة مع واليهم أن يصدوا هجوم شارلمان سنة 161هـ/ 778م.
وقد
استطاع عبد الرحمن أن ينافس العباسيين فى بغداد، وفاقت حضارة بلاده حضارات
الدولة الأوربية المعاصرة لها، فقد أعاد عبد الرحمن بناء مسجد قرطبة،
وأنشأ فيها الحدائق والبساتين والقصور، واهتم بالعلم والعلماء.
وعاش من
فى الأندلس من مسيحيين ويهود عيشة هانئة آمنة سعيدة فى ظل التسامح
الإسلامى، حتى توفى عبد الرحمن سنة 172هـ/97_م، وعاشت الدولة من بعده قرنين
ونصف قرن من الزمان!ترى من سيخلف "عبد الرحمن الأموي" وهل سيصفو الجوُّ
لَهُ كما صفا لمن سبقه؟
هشام الأول:
لقد حكم الأندلس بعد وفاة "عبد
الرحمن الداخل" ابنه "هشام الأول"، وكان وَرِعًا تقيّا يتشّبه بعمر بن عبد
العزيز -رضى الله عنه-، وكان شغفه بالجهاد، وإعلاء كلمة الدين من أخص مظاهر
تقواه، فقد أرسل الحملات الكثيرة التى هزمت الفرنجة، واستولى على مدنهم،
ونشر الإسلام فيها، وكان ينفق الأموال الطائلة فى افتداء أسرى المسلمين حتى
لم يَبْقَ فى قبضة العدو منهم أحد، رتب فى ديوانه أرزاقًا لأسر الجند من
الشهداء، وفى عهده جُعلت اللغة العربية لغة التدريس فى معاهد اليهود
والنصارى، وكان ذلك سببًا فى استقرار البلاد وهدوء الخلافات بين النصارى
والمسلمين، ووقوف النصارى على حقيقة الإسلام، ودخول الكثيرين منهم فى
الإسلام.
وكان يحب مجالس العلم والفقه والأدب، وكان معاصرًا للإمام
مالك، وكان الإمام مالك يحبه ويعجب بسيرته، ولذلك انتشر مذهب الإمام مالك
فى الأندلس فى عهد هشام، ولشدة عدله وتقواه قصده كثير من العلماء والفقهاء.
وكان
يرسل الوعاظ إلى جميع أجزاء مملكته للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكان
يعود المرضى، ويخرج فى الليالى العاصفة وهو يحمل الطعام لأحد الزهاد، حتى
إذا بلغ داره جلس بجانبه يؤنسه ويرعاه، ويرسل من يثق فيهم من رجاله إلى
بلاد الأندلس ومدنها، يسألون الناس عن أحوالهم وسيرة عماله فيهم، فإذا
انتهى إليه أن أحدهم أسرف عزله عن عمله، وكان يهتم بالزكاة فيجمعها وينفقها
فى وجوهها. ولقى هشام ربه سنة 180هـ/ 796م.
الحكم الأول:
وجاء بعد
هشام ابنه الحكم الأول، وكان حازمًا شجاعًا قويًا على أعدائه، كريمًا يميل
إلى العفو، فطنًا، حسن التدبير، واسع الحيلة، يؤثر العدل، ويحرص على
إقامته، ويختار لقضائه أفضل الناس وأكثرهم نزاهة وورعًا، وكان يسلط قضاته
على نفسه وولده وخاصته، وكان قاضيه محمد بن بشير من أعظم القضاة نزاهة
واستقلالا فى الرأى والحكم، وكان الحكم خطيبًا مفوهًا وشاعرًا مجيدًا، نظم
الشعر فى مناسبات مختلفة.
واهتم بالعمران والصناعة والزراعة، وكان محبّا
للثقافة، نصيرًا للعلوم والآداب، يحشد حوله جمهرة من أكابر العلماء
والأدباء والشعراء، مثل العلامة الفلكى الشهير عباس بن فرناس.
وقد اشتهر
ببره بأهل بيته، وإغداقه النعم على أقربائه، وكان يعشق الفلك، ويهتم
بدراسته، وكان ابن فرناس، وعبيد الله بن الشمر من أساتذته فى هذا الفن،
وكان يقربهما ويجرى عليهما الأرزاق.
وفى عهده ازداد شأن الحكومة
الإسلامية عند بلاد الفرنجة، وصارت لها مكانتها ومنزلتها بين حكومات هذه
البلاد الفرنجية، وصارت الدولة الإسلامية توفد سفاراتها إلى كل هذه الدول،
وتوفى سنة 206هـ/228م.
عبدالرحمن الثانى:
ويتولى الأمر فى "الأندلس" عبد الرحمن الثانى (الأوسط) ولكن الوضع فى عهده كان يختلف عمن قبله.
لقد
امتاز عهده بالهدوء والسلام الداخلى بعد أن قضى على الثورات والفتن
الداخلية، وقضى على غارات النورمان على الأندلس، فنهض لإصلاح البلاد؛ مما
أدى إلى ازدهار الحياة بها ونمائها حتى راحت تنافس دولة العباسيين فى
النهضة العلمية، وفى التقدم الاقتصادى والحضارى. وقد أنشأ دارًا كبيرة فى
أشبيلية لصناعة السفن، كانت نواة للأسطول الإسلامى الأندلسى الذى ازدهر فى
أيام عبد الرحمن الناصر.
وظلت الأندلس تنعم بحياة مزدهرة حتى لقى الأمير عبد الرحمن الأوسط ربه سنة 238هـ/ 853م.
ثلاثة أمراء:
وتمر السنوات سراعًا فيتغير حال الأندلس، وتضطرب الأمور نتيجة للثورات الداخلية، ويتوالى على الحكم ثلاثة من الأمراء:
الأول: محمد بن عبد الرحمن (الأول)، وكان فاضلا مهتمّا بأحوال المسلمين،
والعناية بمصالحهم وثغورهم، حاول الحفاظ على الدولة الإسلامية بالأندلس من
التفكك والضعف. ولكن الأحداث كانت تجرى على غير ما يشتهى، ومع ذلك فقد أرسل
الحملات الكثيرة لتأديب الثائرين وقمع المعتدين، وكان يخرج بنفسه على رأس
حملات لغزو النصارى ورد كيدهم، وقوّى الجيش وأعد الحصون، وخفف الضرائب عن
الناس رغم كثرة الحروب، واكتفى بدعوتهم للتطوع للجهاد فى سبيل الله، وكان
يُقرب العلماء والفقهاء، ونال الفقهاء فى عصره كثيرًا من الرعاية، ومع أن
مدته كانت حربًا عسكرية فإنه قام بالعديد من الإصلاحات، مثل بعض التجديدات
والإضافات الكثيرة فى المسجد الجامع بقرطبة.
الثانى: المنذر بن محمد
وكان قويّا شجاعًا حازمًا مع زعماء الفتنة يخافونه ويهابونه، ولولا وفاته
المفاجئة لقضى على هذه الفتن، وكان من أصلح أمراء بنى أمية وأحسنهم خلقًا،
وكان يؤثر مجالس العلماء والشعراء ويعظمهم، وكان يلجأ إلى أهل العلم
لاستشارتهم.
الثالث: عبد الله بن محمد الذى استمر حكمه حتى سنة 300هـ/913م.
وكان
الوضع السياسى خلال فترة هؤلاء الثلاثة منذرًا بأسوأ حال، فلقد تمزقت وحدة
البلاد، وانحسر الحكم الأموى عن البلاد، ولم يبقَ فى يد الأمراء المسلمين
إلا قرطبة، بينما انقسمت الدولة الأندلسية إلى دويلات مستقلة حتى قيض الله
لها فى القرن الرابع الهجرى، العاشر الميلادى من يأخذ بيدها، فقد بلغت
البلاد من القوة والازدهار وذيوع الصيت ما لم تبلغه من قبل فى عهد عبد
الرحمن الناصر (300 - 350هـ/ 913 - 961م) كذلك كانت ولاية حكم
المستنصر(350-366هـ/961-977)، والأسرة العامرية خيرًا وبركة على الدولة
الإسلامية حتى نهاية القرن الرابع الهجرى.
ملوك الطوائف:
شاء الله أن
تدخل الأندلس فى القرن الخامس الهجرى، الحادى عشر الميلادى دورًا طويلا من
التفكك الداخلى بين أجزائها على أيدى ملوك مسلمين أَطلق عليهم التاريخ اسم
"ملوك الطوائف"، وما زال هؤلاء الملوك يتناحرون فيما بينهم حتى سقطت
طُلَيْطِلَة فى أيدى الأسبان، وهنا ظهر المرابطون، وهم جماعة من البربر
الأشداء ظهروا فى بلاد المغرب، واستطاعوا حكمها حتى استنجد بهم المسلمون فى
الأندلس بعد سقوط طليطلة، فأوقعوا بالأسبان الصليبيين هزيمة ساحقة على يد
الزعيم المرابطى العظيم يوسف بن تَاشَفِين، ومضى خلفاء يوسف على ذلك العهد
من الجهاد للأعداء والحفاظ على الأندلس حتى ضعفت دولتهم، وورثها الموحدون
وهم يشبهون المرابطين فقد كانوا أيضًا من البدو الذين حكموا المغرب، ثم
عبروا إلى الأندلس مجاهدين ليمدوا فى عمر المسلمين هناك عصورًا أخرى من
الغزو والحضارة، فلما ضعف الموحدون انقسمت الأندلس بين زعمائها حتى ظهر بنو
الأحمر فى "عُمْر ناقة" فأقاموا بها ملكًا عظيمًا.
مظاهر الحقد الصليبى:
لقد
ظهر الحقد الصليبى فى أبشع صوره بعد سقوط طليطلة، فقد حولوا جامعها إلى
كنيسة على يد الفونس السادس، الحاكم الأسبانى، ولم يسلم مسلم من أذاهم،
وتجلى حقدهم الأعمى على الإسلام والمسلمين، فأعملوا فيهم القتل والتعذيب
والإحراق، وما تزال صحائف محاكم التفتيش السود تنطق بما حَلّ بالمسلمين،
تلك التى أقاموها للمسلمين بعد أن زال سلطان المسلمين نهائىّا من أسبانيا
عندما استسلم أبو عبد الله ملك "غرناطة" سنة 898هـ/ 1492م. وضاع ذلك
"الفردوس" من أيدى المسلمين. لقد كان البيزنطيون يقيمون المذابح فى البلاد
القريبة من الحدود البيزنطية فى الشام والجزيرة من بلاد العراق. كما ارتكبت
الجرائم على أيدى الصليبيين الذين غزوا مصر والشام. وراح التتار يشنون حرب
إبادة وتعذيب فى بلاد ما وراء النهر وخراسان والعراق والشام. كلهم تكالبوا
على المسلمين، ونكلوا بهم، بينما كان الفتح الإسلامى كله عدل ورحمة ومحبة
وتسامح وحرية للأديان، واحترام لحقوق الإنسان. لقد هدموا المساجد فى
الأندلس التى تدل على تاريخ المسلمين بها، بينما بقيت الكنائس فى كل البلاد
التى ظلت تحت حكم الإسلام والمسلمين، ألا فلتشهد الدنيا سماحة الإسلام
والمسلمين!
ترى هل تعود الأندلس إلى أحضان المسلمين ثانية؟ لن تعــود إلا بالعمل الجاد والإيمان العميق والعلم والتقدم، ووحدة الصف الإسلامي.
لقد
رفضت الدولة الرومانية الدعوة السلمية التى بعث بها رسول الله ( إلى
ملكها ليدخل فى دين الله، وتحركت بدافع صليبى لمحاولة القضاء على
الإسلام، فنشأ الصراع الحربى الذى انتهى بدخول المسلمين الشام ثم آسيا
الصغرى، بالإضافة إلى مصر والنوبة وشمال إفريقية وإجلاء الرومان عنها،
فزادت الضغينة، وتراكمت المرارة فى قلوب الصليبيين، فظلوا يتربصون لهذا
الدين، يتمنون فرصة مواتية يكرُّون عليه فيها، ويُجْلونه عن الأماكن التى
فتحها وفتح قلوب أهلها للحق.
لكنهم ما كانوا يفكرون فى ذلك والدولة الإسلامية فى قوتها وسطوتها أيام الأمويين، وأيام قوة الدولة العباسية .
فلما انتشر الترف؛ تراخى المسلمون عن رسالتهم وسادت النزاعات والشقاقات فيما بينهم.
وهنا
جاءت الصليبية، واستولت على ساحل الشام فى القرنين الخامس والسادس
الهجريين، ثم هب الشرق ممثلا فى الأتراك العثمانيين فأسقط الدولة
البيزنطية، واستولى على البلقان.وعاد الغرب فى القرنين التاسع عشر
والعشرين ممثلا فى الاستعمار الأوربى ليستولى على كثير من بلاد الشرق.
***
الدولة الرستمية
(160-296هـ/ 777-909م)
قامت
الدولة الرستمية فى المغرب الأوسط (الجزائر)، وتنسب إلى مؤسسها "الرحمن بن
رستم " زعيم الخوارج الإباضية، ومنذ خرج "الخوارج" على "على بن أبى
طالب" -رضى الله عنه- وتسببوا فى قتله على يد الخارجى "عبد الرحمن بن
ملجم"، وهم يتبنون سياسة الخروج والثورة على الخلافة الإسلامية، يكفِّرون
من خالفهم من المسلمين، وتستبيح بعض فرقهم دماءهم!
وكان الخوارج قد فروا فى مرحلة مبكرة من الأمويين بدمشق والشام إلى المغرب.
وحاول
الخوارج نشر مبادئهم هناك، وكانت الدولة العباسية كالدولة الأموية تحاول
القضاء على الخوارج بسبب أفكارهم الغريبة ومعتقداتهم، واستقر عبد الرحمن
بن رستم فى إقليم "تاهرت" بالمغرب الأوسط، وقام بنشر مذهبه هناك حتى بويع
بالإمامة سنة 160هـ/777م، فأعلن قيام دولته التى صارت ملجأ لإباضية
العراق وفارس وغيرهما، وهم أحد الفرق المعتدلة؛ حيث تتعايش مع خصومها وتعدل
عن قتلهم.
نجح عبد الرحمن بن رستم فى توطيد دعائم دولته خلال الفترة
التى قدر له أن يحكمها (144-168هـ) وقد خلفه من بعده ابنه عبد الوهاب الذى
بقى فى حكم الدولة الرستمية عشرين سنة، ثم "أفلح بن عبد الوهاب" الذى
حكم أكثر من خمسين عامًا (188-238هـ)، ثم تتابع فى حكم الدولة الرستمية
خمسة من الأمراء، هم: أبوبكر بن أفلح، وأبو اليقظان، فأبو حاتم، فيعقوب ابن
أفلح، فاليقظان ابن أبى اليقظان آخر أمرائهم.
وظل أتباع هذه الدولة
يتصارعون ويختلفون حتى انقرضت الدولة الرستمية سنة 296هـ/ 909م، فى عهد
اليقظان بن أبى اليقظان على يد داعى الفاطميين أبى عبد الله الشيعي.
لقد
كانت علاقة الدولة الرستمية متوترة مع الأغالبة الذين يمثلون الدولة
العباسية، ولكنهم كانوا على علاقة طيبة بالأمويين فى الأندلس، وذلك لأن
الأمويين كانوا يبادلون العباسيين الكراهية والعداء.
وانتهت دولة الرستميين رغم ما تمتعت به من حياة سهلة رغيدة مدة من الزمان؛ لأن الذى يخرج عن جسم الأمة لابد أن تحاصره النهاية.
وكانت
هنا دويلة أخرى قامت فى جنوب المغرب الأقصى إلى جانب دولة الأغالبة
والأدارسة والدولة الرستيمة، إنها دولة سجلماسة (أو الدولة المدارية) فى
جنوب المغرب الأقصى (140-296هـ/ 758-909م) وقد يتساءل البعض عَمْن أسسها؟
وكيف كانت علاقة هذه الدولة بجيرانها؟
لقد أسسها "موسى بن يزيد
المكناسي" وهى دولة كالرستمية أسسها خوارج لكنهم على المذهب الصفري،
ولهذا توطدت العلاقات بين هذه الدولة والدولة الرستمية فى شتى المجالات،
ومؤسسها سودانى بنى العاصمة "سجلماسة"، وقد قضى الفاطميون عليها كما
قضوا على غيرها.
***
دولة الأدارسة
(172-364هـ/789-975م)
ذُكِرَ أنه
فى أيام الخليفة الهادى قامت ثورة "علوية" فى الحجاز، وهى من تلك
الثورات التى كان العلويون يشعلون نارها طوال خلافة العباسيين. وقامت قوات
"الهادي" بالقضاء على هذه الثورة فى موقعة "فخ". ولكن بعض رءوس هذه
الثورة وقادتها قد أفلتوا من أيدى العباسيين وهربوا إلى أماكن نائية
بعيدًا عن أيديهم.
وكان ممن هربوا عَلَوِى يسمى "إدريس" بن عبد الله
بن الحسن ابن على -رضى الله عنه-. وراحت قوات العباسيين تطارده، عيونهم
وجواسيسهم تبحث عنه، فظل ينتقل من قطر إلى قطر آخر حتى وصل إلى مصر. وفى
مصر التقى بصاحب البريد، وكان قلبه مع العلويين، فدبر لإخفائه، واحتال حتى
أرسله إلى أبعد أجزاء الدولة حتى يكون فى مأمن من سطوة الخليفة.
وكان له ما أراد فوصل إلى أقصى المغرب.
وهناك
أعلن أنه من سلالة النبى (، فأسرع البربر بالالتفاف حوله غير أن جيش
أنصار الخليفة العباسى تمكن من هزيمته، ولكن ابنه إدريس بن إدريس بن عبد
الله بن الحسن بن على تمكن من جمع أهل المغرب من حوله، وما أسرع ما
بايعوه، ولم يجد صعوبة فى قيادتهم والاستيلاء على الإقليم جميعه، والقضاء
على أى أثر للنفوذ العباسى فيه، واتخذ عاصمته فى فاس، وأقام دولة هناك
نُسبت إليه فعُرفت بدولة الأدارسة، وهى نموذج للدولة المعادية للدولة
العباسية، وهى أول دولة شيعية تظهر فى التاريخ، على أنَّ تَشَيُّعَها لم
يكن يتجاوز حب آل بيت رسول الله > والولاء لهم، وهى صفة يشترك فيها
السنة والشيعة معًا، وإن بالغ فيها أهل التشيع.
فلم يكن تشيع هذه الدولة
ينال من حقيقة الإسلام الصافية شيئًا. ولهذا أحبها أهل السنة وانتصرت بهم،
وكانت القبائل البربرية السنية فى المغرب حاميتهم وعماد دولتهم، ولهذا
أيضًا عاشت دولة الأدارسة نحوًا من قرنين من الزمان.
لقد كانت "دولة الأدارسة" ضعيفة نسبيّا وذلك لسببين:
أولهما: أنها كانت محصورة بين الصحراء والمحيط والأمويين فى الأندلس ثم الأغالبة فى إفريقية.
ثانيهما: هو أنها كانت تعتمد على البربر وهم متقلبون يؤيدونها اليوم بينما يثورون عليها غدًا.
وكانت
سياسة الدولة نفسها متقلبة تميل مع مصالحها لتضمن البقاء والاستمرار، فهى
يومًا تميل مع الفاطمين، فتدعو لهم، وتعتمد عليهم، وعندما يهددها الأمويون
فى الأندلس تميل معهم وتدعو لهم، وهذا يفسر لنا بوضوح سر ضعف دولة
"الأدارسة".
وأراك تسألنى عن نهايتها، وأقول: لقد كانت نهايتها كنهاية
دولة "الأغالبة" فى تونس -التى سيأتى ذكرها- على يد الفاطميين سنة
364هـ/ 975م بعد أن عاشت ما يقرب من قرنين، وأدت دورًا حضاريّا رائعًا فى
المغرب الإسلامي، إذ انتشر بهم الإسلام فى المغرب بين البربر، وأسّسوا
جامع القرويين الذى كان منارة للثقافة الإسلامية، وكانت فى المغرب
كالأزهر فى المشرق.
***
دولة الأغالبة
(184-296هـ/800-909م)
هل تعلم أن
نية العرب يوم فتحوا شمالى إفريقية كانت تتجه إلى توحيد إدارتها وإدارة
الأندلس فى ولاية واحدة أسموها "إفريقية" وعاصمتها "القيروان"؟!
ولكن
موقف "البربر" المتقلب، والبعد عن الخلافة، ونفوذ الأمويين فى الأندلس، كل
ذلك ساعد على قيام الدويلات، فقامت "دولة الأدارسة" فى المغرب كما
عرفتَ، وحاول الرشيد أن يوقف نفوذهم وتقدمهم، فاختار صديقًا له يدعى "ابن
الأغلب" وولاه على القيروان (تونس). وأفهمه أن مهمته الأولى هي: إيقاف
"الأدارسة" عند حدهم. واستطاع إبراهيم بن الأغلب بعد أن وصل إلى "القيروان"
أن يوقف زحف الأدراسة العلوية، وأن يقى الدولة العباسية شر غزوات البربر
والإغارة على الأقاليم الشرقية للدولة، وحقق إبراهيم بن الأغلب للرشيد ما
أراد.
وكانت هذه الدويلة تمثل الدويلات ذات العلاقة الاسمية بالدولة
العباسية بخلاف دولة الأدارسة التى كانت معادية للخلافة العباسية. لقد
استطاع "إبراهيم بن الأغلب" أن يوقف الأدارسة. وبعد مناوشات بين الطرفين
اقترحوا عليه ألا يعتدى أحد الطرفين على الآخر، وأن يبقى كل فى إقليمه،
فقبل "ابن الأغلب".
واستقل "إبراهيم بن الأغلب" بالإقليم، ولكنه ظل على
علاقة بالخلافة العباسية، فهو يذكر اسم الخليفة فى خطبة الجمعة، ويضع
اسمه على العملة، ولكن فيما عدا هذين الأمرين فليس للخليفة العباسى أى
نفوذ على دولة الأغالبة، فهم يتوارثونها أبًا عن جد، ويصرِّفون أمورها كما
يشاءون دون رقيب.
ولما قويت شوكة الأغالبة بدءوا التوسع، ولكن الأدارسة
حدوا من توسعهم غربًا، والصحراء حدتهم جنوبًا، والعباسيون شرقًا، فلم يبقَ
لهم سوى الاتجاه شمالا حيث البحر!
فهل توقف الأغالبة؟ كلا، فها هم
أولاء ينشئون أسطولا ضخمًا، يبنونه فى سنوات معدودات، ويبدءون جهادهم
المبارك ضد الصليبيين بقيادة "أسد بن الفرات" فى البحر الأبيض المتوسط،
ترى إلى أين؟ هاجموا جزيرة "صقلية" مرارًا على مدى ثمانين عامًا حتى
استطاعوا القضاء على مقاومة الرومان من أهل الجزيرة وحكامها، وضموها
لأراضى المسلمين، ثم استولوا على جزيرتى "مالطة" و"سردينيا" ونزلوا بعد
ذلك فى كثير من السواحل الأوربية، وبخاصة سواحل إيطاليا الجنوبية
والغربية، والسواحل الجنوبية لفرنسا.
لقد عاشوا أكثر من قرن من الزمان يحكمون تونس وملحقاتها، ويحكمون صقلية، ويفرضون هيبتهم على الدول الأوربية.
وقد
استطاعوا فى بعض هذه السواحل إقامة حاميات وحصون دائمة، وإن لم يستطيعوا
التوغل فى بعض هذه البلاد والاستيلاء عليها من أيدى أهلها.
وقد يتساءل البعض: ما قيمة هذه الفتوح وهى ليست إلا بعض جزر، وبعض نقاط السواحل؟
إنها
فى حقيقة الأمر على جانب كبير من الأهمية، ذلك أن هذه الجزر والسواحل
الضيقة كانت جسرًا عبرت عليه الحضارة الإسلامية إلى أوربا فى زمن كانت فيه
أوربا فى ظلام حالك.
كما أن السيطرة على هذه الجزر كان يؤمن التجارة
الإسلامية فى غرب البحر المتوسط وكانت الثقافة الإسلامية الضوء الوحيد فى
العالم الذى أنار وجه الأرض حينذاك.
وعاشت دولة الأغالبة قرنًا وتسعة
أعوام من سنة800م إلى سنة 909م، وازدهرت الحياة الاقتصادية والعمرانية فى
تونس على عهدهم، ولعبت مساجدهم فى تونس دورًا كبيرًا فى دعم الحضارة
الإسلامية، وكان جامع الزيتونة جامعة إسلامية عظيمة.
وقد انتهت حياتها على يد الفاطميين يوم دخلوا القيروان فاتحين.
***
الدولة الطاهرية
(205-259هـ/821-873م)
قامت هذه الدولة فى خراسان، وقد أسسها طاهر بن الحسين أحد كبار قواد الجيش فى عهد الخليفة المأمون.
ولكن كيف يتسنى له أن يقيم دولة والدولة العباسية فى أول عهدها، وفى عصر المأمون الذى يعد العصر الذهبى للدولة العباسية؟!
إن
لقيام هذه الدولة قصة، فقد كان لإقليم خراسان وضع خاص فى الدولة العباسية
منذ نشأتها، إذ كان هؤلاء الخراسانيون-كما علمتَ فى قيام الدولة
العباسية-يشعرون بأنهم أصحاب فضل على الدولة العباسية، وبأن سيدهم "أبا
مسلم الخراساني" هو المؤسس الأكبر لهذه الدولة، ورغم ذلك لم يحسن العباسيون
جزاءهم حين قتل المنصور أبا مسلم.
والواقع أن الخلافة العباسية كانت
تتجاوز كثيرًا عن الخراسانيين، وتحاول إرضاءهم؛ اعترافًا بفضلهم على
الدولة. وفى عصر المأمون، كان طاهر بن الحسين وابنه عبد الله من كبار رجال
الدولة وخيرة قادتها فى ذلك الوقت؛ الذى بدأ فيه الصراع بين الأمين
والمأمون.
ولقد وقف طاهر بن الحسين إلى جوار المأمون فى كثير من
المواقف الحرجة حتى تمكن من الخلافة. ولم يمرَّ إلا عامان حتى أقدم "طاهر
بن الحسين" على خطوة جريئة فى سنة 207هـ/ 823م. أتدرى ما هي؟ لقد قطع
الدعاء فى الخطبة للمأمون، وكان قطع الدعاء يعنى الاستقلال عن الخلافة.
ولكن يشاء الله أن يموت طاهر فى العام نفسه، ترى هل تعود الدولة الطاهرية إلى الدولة العباسية بعد موت مؤسسها؟
لقد
تولى ابنه طلحة بعد أبيه بأمر من الخليفة المأمون، وظل الطاهريون يحكمون
خراسان، ولكنهم يتبعون "الدولة العباسية" تبعية اسمية مما جعل الخلافة
العباسية تلجأ إلى الطاهريين، تلتمس منهم المؤازرة والمساندة ضد الخارجين
على سلطانهم.
لقد حارب عبدُالله بن طاهر نصرَ بن شبث حين قام بثورة فى
شمال حلب سنة 209هـ، وأتى به أسيرًا إلى المأمون. وظل الطاهريون على
ولائهم للعباسيين حيث اشترك عبد الله بن طاهر فى إخماد فتنة وقعت فى عهد
المعتصم بطبرستان، وهكذا استقل الطاهريون استقلالا داخليا هادئًا فى
خراسان، وظلوا يتولون أمرها، ويتوارثون الإمارة فيها، ولم يمنعهم استقلالهم
من مساندة الخلافة العباسية، ومساعدتها فى كل ما واجهته من فتن وثورات.
ولكن عندما جاءت سنة 259هـ/ 873م، استطاع يعقوب الصفار أن يقيم دولته على أنقاض دولة الطاهريين.
***
فى عهد الخلافة
العباسية استقلَّت بعض الدول عنها استقلالا تاما، بينما أخذ بعضها يتجه
نحو استقلال جزئى تصبح البلاد فيه تابعة للخلافة اسمًا (فقط) بحيث تستمد
منها مكانتها الروحية وقدرها العظيم فى نفوس المسلمين.
ويقف المؤرخون
والمحللون أمام قيام بعض الدول وانهيار أخرى وقفات تأملية يبحثون عن
الأسباب والعوامل التى أدت إلى قيام هذه وانهيار تلك.
وعلى كلّ، فقد كان
قيام الدويلات نتيجة لضعف الخلافة، وسببًا لمزيد من الانحلال، وخطوة على
طريق النهاية، لقد قامت أولى هذه الدويلات فى أقصى الغرب؛ لبعده عن عاصمة
الدولة، ومركز السلطان فيها، فقامت دولة الأمويين فى الأندلس، وبقيامها فى
سنة 137هـ/756م ضعف نفوذ العباسيين على الغرب، وسرعان ما نشأت الدويلات فى
شمال إفريقية.
وحين تطرق الضعف إلى جسد الخلافة العباسية جميعًا، نشأت
الدويلات فى بقية أجزاء الدولة، وقد تسببت هذه الدول فى ضعف الدولة
العباسية وانحلالها؛ ذلك لأنَّ علاقة هذه الدويلات بالدولة العباسية كانت
مختلفة اختلافًا كبيرًا، فقد انفصل بعضها عن الدولة انفصالا تامّا، ونافسها
بعضها على تولى الخلافة نفسها.
كما ظل قسم آخر على علاقة اسمية
بالدولة، فيكفى الخليفة أن يذكر اسمه على المنابر، ويصك اسمه على العملة،
وفى حقيقة الأمر أنها دولة مستقلة تمامًا لا تخضع له فى شىء. وهناك دويلات
ظلت على صلة متغيرة بالدولة، تقوى حينًا، وتضعف حينًا آخر تبعًا لتغير
الأحوال.
وفيما يلى نذكر هذه الدول والإمارات، التى انفصلت عن دولة الخلافة العباسية، وهى:
أولا: الإمارة الأموية فى الأندلس.
ثانيًَا: الدول فى بلاد المغرب وهى:
1- الدولة الرستمية.
2- دولة الأدارسة.
3- دولة الأغالبة.
ثالثًا: الدول فى بلاد الشرق، وهى:
1- الدولة الطاهرية.
2- الدولة الصفارية.
3- الدولة السامانية.
4- الدولة الغزنوية.
رابعًا: الدول فى مصر والشام، وهى:
1- الدولة الطولونية.
2- الدولة الإخشيدية.
3- الدولة الحمدانية.
4- الدولة الفاطمية.
5- الدولة الأيوبية.
6- الدولة المملوكية.
***
الإمارة في الأندلس
(138-422هـ/ 750-1031م)
عبدالرحمن الداخل:
لما
قامت الخلافة العباسية طارد العباسيون الأمويين، ويشاء الله أن يفلت من
أيديهم واحد من بنى أمية : أتدرى من هو؟ إنه عبدالرحمن بن معاوية بن هشام
حفيد هشام بن عبد الملك عاشر الخلفاء الأمويين.
لقد هرب إلى فلسطين، ومنها إلى مصر ثم المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفى عن عيون العباسيين ومكث عند أخواله الذين أكرموه.
ومن
هناك راح ينتقل من "برقة" إلى "المغرب الأقصى" حتى وصل إلى مدينة "سبتة"
سنة 137هـ/ 755م، وراح يُعِدّ العدة ويلتقط أنفاسه، ويرسم الخطوط العريضة
لإقامة دولة يحيى بها مجد آبائه وأجداده الأمويين.
وأخذ يتطلع إلى
"الأندلس الإسلامية" ليقيم فيها الخلافة الإسلامية الأموية من جديد، فهى
البلاد التى فتحها الجيش الإسلامى بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير، زمن
الأمويين منذ سنة 92هـ/711م، وإليهم يرجع الفضل فى فتحها!
ولقد استقرت بها طوائف من أهل الشام وجُنْدِه الموالين للبيت الأموى.
وهنا
أرسل "عبد الرحمن" أحدَ أتباعه، وهو مولاه "بدر"؛ ليجمع كلمة الذين يدينون
لبنى أمية بالولاء والانتماء، ورَحّبَ به أنصارُ بنى أمية، ورأَوْا فيه
شخصًا جديرًا بأن يتولى زعامتهم بدلا من ذلك الوالى العباسى، وعبر البحر
إلى شاطئ الأندلس، وهناك انضمّ إليه أنصارُ بنى أمية، فقد انتهز عبد الرحمن
الداخل فرصة الخلافات بين العرب المُضَريِّين والعرب اليمنيين فى الأندلس،
فانضم إلى اليمنيين لأنهم كانوا مغلوبين على أمرهم، وهزم المضريين بقيادة
يوسف الفهرى فى موقعة "المصارة" فى 138هـ/ 756م، فاستولى على مدن البلاد
الأندلسية الجنوبية دون مقاومة، ثم راح يستولى على "قرطبة" عاصمة "ولاية
الأندلس" سنة 141هـ/ 759م، بعد هزيمة الوالى العباسي، وأعلن نفسه أميرًا،
وأصدر عفوّا عامًا غداة دخوله قرطبة ليمكن لنفسه فى البلاد، وتم له ما أراد
بعد بضع سنوات فقط من تولى العباسيين عرش الخلافة فى بغداد، وبهذا انفصلت
ولاية الأندلس، عن الخلافة فى بغداد انفصالا رسميّا.
ولكن ماذا كان موقف العباسيين من هذا الذى زاحمهم فى الأندلس، بل وأنهى حكمهم هناك؟
ظل
"عبد الرحمن الأموى" يعمل طوال مدة حكمه التى استمرت ثلاثة وثلاثين عامًا
على تأمين مركزه فى جميع أجزاء دولته الجديدة، فأخمد الفتن، وأحبط الدسائس،
وقضى على تلك المحاولات التى قام بها العباسيون لإخراجه من الأندلس.
صقر قريش:
لقد أرسل أبو جعفر المنصور إليه جيشًا بقيادة العلاء بن مغيث لإخضاع، الأندلس فهزمه عبد الرحمن بن معاوية وقتل العلاء.
فماذا فعل المنصور؟ وكيف كان رد الفعل؟
لم يحاول المنصور العباسى أن يُعيِّن على الأندلس أحدًا بعد هذا الذى قُتل.
ولم
يحاول أن يرسل جيشًا لحربه، بل فَضَّل أن يقر بالأمر الواقع ويعترف له
بلقب: "صقر قريش"، فقد أطلق عليه أبوجعفر المنصور هذا اللقب لاعترافه
بشجاعته وقوته، فيروى أن أبا جعفر قال يومًا لبعض جلسائه: "أخبرونى من صقر
قريش من الملوك،؟ قالوا ذلك أمير المؤمنين الذى راضى الملوك، وسكن الزلازل،
وأباد الأعداء، وحسم الأدواء (يقصدون أبا جعفر المنصور). قال : ما قلتم
شيئًا. قالوا : فمعاوية ؟قال: لا. قالوا: فعبد الملك بن مروان؟ قال ما قلتم
شيئًا. قالوا: فمن يا أمير المؤمنين ؟ قال صقر قريش عبدالرحمن بن معاوية
الذى عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميّا منفردًا بنفسه فمصَّر
ال**ار، وجنّد الأجناد، ودَوَّن الدواوين، ونال ملكًا بعد انقطاعه بحسن
تدبيره وشدة شكيمته، إن معاوية نهض بمركب حمله عمر وعثمان عليه وذلَّلا له
صعبه، وعبد الملك ببيعة أبرم عقدها، وأمير المؤمنين بطلب عترته واجتماع
شيعته، وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد بأمره مستصحب لعزمه، فمد الخلافة
بالأندلس، وافتتح الثغور وقتل المارقين وأذل الجبابرة الثائرين".
أخلاق عبدالرحمن:
وقد
كان عبد الرحمن جوادًا بسيطًا متواضعًا، يؤثر لبس البياض، ويصلى بالناس
الجمع والأعياد، ويحضر الجنائز، ويعود المرضى، ويزور الناس ويخاطبهم، وكان
نقش خاتمه "عبد الرحمن بقضاء الله راض " و "بالله يثق عبد الرحمن به
يعتصم"، وكان شاعرًا بليغًا عالمًا بأحكام الشريعة.
ولقد اكتفت الخلافة العباسية ببقاء عبد الرحمن الأموى بعيدًا عنها فى إمارته.
النهضة العمرانية:
وراح عبد الرحمن يبنى، ويعمر، ويُعيدُ الحياة الآمنة الهادئة إلى ربوع الأندلس أكثر من ثلاثين سنة.
ولقد
قابلته صعوبات وعقبات، منها تلك الفتن التى نشبت بين المضرية واليمنية،
وهما من العرب، وكان هناك خطر جاثم يتمثل فى "دولة الفرنجة" (فرنسا الآن)،
وكانت هناك أسبانيا النصرانية التى استطاعت أن تكون مملكة فى الشمال الغربى
من شبه جزيرة أيبيريا (أسبانيا).
ولقد استطاع أهل مدينة سرقسطة مع واليهم أن يصدوا هجوم شارلمان سنة 161هـ/ 778م.
وقد
استطاع عبد الرحمن أن ينافس العباسيين فى بغداد، وفاقت حضارة بلاده حضارات
الدولة الأوربية المعاصرة لها، فقد أعاد عبد الرحمن بناء مسجد قرطبة،
وأنشأ فيها الحدائق والبساتين والقصور، واهتم بالعلم والعلماء.
وعاش من
فى الأندلس من مسيحيين ويهود عيشة هانئة آمنة سعيدة فى ظل التسامح
الإسلامى، حتى توفى عبد الرحمن سنة 172هـ/97_م، وعاشت الدولة من بعده قرنين
ونصف قرن من الزمان!ترى من سيخلف "عبد الرحمن الأموي" وهل سيصفو الجوُّ
لَهُ كما صفا لمن سبقه؟
هشام الأول:
لقد حكم الأندلس بعد وفاة "عبد
الرحمن الداخل" ابنه "هشام الأول"، وكان وَرِعًا تقيّا يتشّبه بعمر بن عبد
العزيز -رضى الله عنه-، وكان شغفه بالجهاد، وإعلاء كلمة الدين من أخص مظاهر
تقواه، فقد أرسل الحملات الكثيرة التى هزمت الفرنجة، واستولى على مدنهم،
ونشر الإسلام فيها، وكان ينفق الأموال الطائلة فى افتداء أسرى المسلمين حتى
لم يَبْقَ فى قبضة العدو منهم أحد، رتب فى ديوانه أرزاقًا لأسر الجند من
الشهداء، وفى عهده جُعلت اللغة العربية لغة التدريس فى معاهد اليهود
والنصارى، وكان ذلك سببًا فى استقرار البلاد وهدوء الخلافات بين النصارى
والمسلمين، ووقوف النصارى على حقيقة الإسلام، ودخول الكثيرين منهم فى
الإسلام.
وكان يحب مجالس العلم والفقه والأدب، وكان معاصرًا للإمام
مالك، وكان الإمام مالك يحبه ويعجب بسيرته، ولذلك انتشر مذهب الإمام مالك
فى الأندلس فى عهد هشام، ولشدة عدله وتقواه قصده كثير من العلماء والفقهاء.
وكان
يرسل الوعاظ إلى جميع أجزاء مملكته للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكان
يعود المرضى، ويخرج فى الليالى العاصفة وهو يحمل الطعام لأحد الزهاد، حتى
إذا بلغ داره جلس بجانبه يؤنسه ويرعاه، ويرسل من يثق فيهم من رجاله إلى
بلاد الأندلس ومدنها، يسألون الناس عن أحوالهم وسيرة عماله فيهم، فإذا
انتهى إليه أن أحدهم أسرف عزله عن عمله، وكان يهتم بالزكاة فيجمعها وينفقها
فى وجوهها. ولقى هشام ربه سنة 180هـ/ 796م.
الحكم الأول:
وجاء بعد
هشام ابنه الحكم الأول، وكان حازمًا شجاعًا قويًا على أعدائه، كريمًا يميل
إلى العفو، فطنًا، حسن التدبير، واسع الحيلة، يؤثر العدل، ويحرص على
إقامته، ويختار لقضائه أفضل الناس وأكثرهم نزاهة وورعًا، وكان يسلط قضاته
على نفسه وولده وخاصته، وكان قاضيه محمد بن بشير من أعظم القضاة نزاهة
واستقلالا فى الرأى والحكم، وكان الحكم خطيبًا مفوهًا وشاعرًا مجيدًا، نظم
الشعر فى مناسبات مختلفة.
واهتم بالعمران والصناعة والزراعة، وكان محبّا
للثقافة، نصيرًا للعلوم والآداب، يحشد حوله جمهرة من أكابر العلماء
والأدباء والشعراء، مثل العلامة الفلكى الشهير عباس بن فرناس.
وقد اشتهر
ببره بأهل بيته، وإغداقه النعم على أقربائه، وكان يعشق الفلك، ويهتم
بدراسته، وكان ابن فرناس، وعبيد الله بن الشمر من أساتذته فى هذا الفن،
وكان يقربهما ويجرى عليهما الأرزاق.
وفى عهده ازداد شأن الحكومة
الإسلامية عند بلاد الفرنجة، وصارت لها مكانتها ومنزلتها بين حكومات هذه
البلاد الفرنجية، وصارت الدولة الإسلامية توفد سفاراتها إلى كل هذه الدول،
وتوفى سنة 206هـ/228م.
عبدالرحمن الثانى:
ويتولى الأمر فى "الأندلس" عبد الرحمن الثانى (الأوسط) ولكن الوضع فى عهده كان يختلف عمن قبله.
لقد
امتاز عهده بالهدوء والسلام الداخلى بعد أن قضى على الثورات والفتن
الداخلية، وقضى على غارات النورمان على الأندلس، فنهض لإصلاح البلاد؛ مما
أدى إلى ازدهار الحياة بها ونمائها حتى راحت تنافس دولة العباسيين فى
النهضة العلمية، وفى التقدم الاقتصادى والحضارى. وقد أنشأ دارًا كبيرة فى
أشبيلية لصناعة السفن، كانت نواة للأسطول الإسلامى الأندلسى الذى ازدهر فى
أيام عبد الرحمن الناصر.
وظلت الأندلس تنعم بحياة مزدهرة حتى لقى الأمير عبد الرحمن الأوسط ربه سنة 238هـ/ 853م.
ثلاثة أمراء:
وتمر السنوات سراعًا فيتغير حال الأندلس، وتضطرب الأمور نتيجة للثورات الداخلية، ويتوالى على الحكم ثلاثة من الأمراء:
الأول: محمد بن عبد الرحمن (الأول)، وكان فاضلا مهتمّا بأحوال المسلمين،
والعناية بمصالحهم وثغورهم، حاول الحفاظ على الدولة الإسلامية بالأندلس من
التفكك والضعف. ولكن الأحداث كانت تجرى على غير ما يشتهى، ومع ذلك فقد أرسل
الحملات الكثيرة لتأديب الثائرين وقمع المعتدين، وكان يخرج بنفسه على رأس
حملات لغزو النصارى ورد كيدهم، وقوّى الجيش وأعد الحصون، وخفف الضرائب عن
الناس رغم كثرة الحروب، واكتفى بدعوتهم للتطوع للجهاد فى سبيل الله، وكان
يُقرب العلماء والفقهاء، ونال الفقهاء فى عصره كثيرًا من الرعاية، ومع أن
مدته كانت حربًا عسكرية فإنه قام بالعديد من الإصلاحات، مثل بعض التجديدات
والإضافات الكثيرة فى المسجد الجامع بقرطبة.
الثانى: المنذر بن محمد
وكان قويّا شجاعًا حازمًا مع زعماء الفتنة يخافونه ويهابونه، ولولا وفاته
المفاجئة لقضى على هذه الفتن، وكان من أصلح أمراء بنى أمية وأحسنهم خلقًا،
وكان يؤثر مجالس العلماء والشعراء ويعظمهم، وكان يلجأ إلى أهل العلم
لاستشارتهم.
الثالث: عبد الله بن محمد الذى استمر حكمه حتى سنة 300هـ/913م.
وكان
الوضع السياسى خلال فترة هؤلاء الثلاثة منذرًا بأسوأ حال، فلقد تمزقت وحدة
البلاد، وانحسر الحكم الأموى عن البلاد، ولم يبقَ فى يد الأمراء المسلمين
إلا قرطبة، بينما انقسمت الدولة الأندلسية إلى دويلات مستقلة حتى قيض الله
لها فى القرن الرابع الهجرى، العاشر الميلادى من يأخذ بيدها، فقد بلغت
البلاد من القوة والازدهار وذيوع الصيت ما لم تبلغه من قبل فى عهد عبد
الرحمن الناصر (300 - 350هـ/ 913 - 961م) كذلك كانت ولاية حكم
المستنصر(350-366هـ/961-977)، والأسرة العامرية خيرًا وبركة على الدولة
الإسلامية حتى نهاية القرن الرابع الهجرى.
ملوك الطوائف:
شاء الله أن
تدخل الأندلس فى القرن الخامس الهجرى، الحادى عشر الميلادى دورًا طويلا من
التفكك الداخلى بين أجزائها على أيدى ملوك مسلمين أَطلق عليهم التاريخ اسم
"ملوك الطوائف"، وما زال هؤلاء الملوك يتناحرون فيما بينهم حتى سقطت
طُلَيْطِلَة فى أيدى الأسبان، وهنا ظهر المرابطون، وهم جماعة من البربر
الأشداء ظهروا فى بلاد المغرب، واستطاعوا حكمها حتى استنجد بهم المسلمون فى
الأندلس بعد سقوط طليطلة، فأوقعوا بالأسبان الصليبيين هزيمة ساحقة على يد
الزعيم المرابطى العظيم يوسف بن تَاشَفِين، ومضى خلفاء يوسف على ذلك العهد
من الجهاد للأعداء والحفاظ على الأندلس حتى ضعفت دولتهم، وورثها الموحدون
وهم يشبهون المرابطين فقد كانوا أيضًا من البدو الذين حكموا المغرب، ثم
عبروا إلى الأندلس مجاهدين ليمدوا فى عمر المسلمين هناك عصورًا أخرى من
الغزو والحضارة، فلما ضعف الموحدون انقسمت الأندلس بين زعمائها حتى ظهر بنو
الأحمر فى "عُمْر ناقة" فأقاموا بها ملكًا عظيمًا.
مظاهر الحقد الصليبى:
لقد
ظهر الحقد الصليبى فى أبشع صوره بعد سقوط طليطلة، فقد حولوا جامعها إلى
كنيسة على يد الفونس السادس، الحاكم الأسبانى، ولم يسلم مسلم من أذاهم،
وتجلى حقدهم الأعمى على الإسلام والمسلمين، فأعملوا فيهم القتل والتعذيب
والإحراق، وما تزال صحائف محاكم التفتيش السود تنطق بما حَلّ بالمسلمين،
تلك التى أقاموها للمسلمين بعد أن زال سلطان المسلمين نهائىّا من أسبانيا
عندما استسلم أبو عبد الله ملك "غرناطة" سنة 898هـ/ 1492م. وضاع ذلك
"الفردوس" من أيدى المسلمين. لقد كان البيزنطيون يقيمون المذابح فى البلاد
القريبة من الحدود البيزنطية فى الشام والجزيرة من بلاد العراق. كما ارتكبت
الجرائم على أيدى الصليبيين الذين غزوا مصر والشام. وراح التتار يشنون حرب
إبادة وتعذيب فى بلاد ما وراء النهر وخراسان والعراق والشام. كلهم تكالبوا
على المسلمين، ونكلوا بهم، بينما كان الفتح الإسلامى كله عدل ورحمة ومحبة
وتسامح وحرية للأديان، واحترام لحقوق الإنسان. لقد هدموا المساجد فى
الأندلس التى تدل على تاريخ المسلمين بها، بينما بقيت الكنائس فى كل البلاد
التى ظلت تحت حكم الإسلام والمسلمين، ألا فلتشهد الدنيا سماحة الإسلام
والمسلمين!
ترى هل تعود الأندلس إلى أحضان المسلمين ثانية؟ لن تعــود إلا بالعمل الجاد والإيمان العميق والعلم والتقدم، ووحدة الصف الإسلامي.
لقد
رفضت الدولة الرومانية الدعوة السلمية التى بعث بها رسول الله ( إلى
ملكها ليدخل فى دين الله، وتحركت بدافع صليبى لمحاولة القضاء على
الإسلام، فنشأ الصراع الحربى الذى انتهى بدخول المسلمين الشام ثم آسيا
الصغرى، بالإضافة إلى مصر والنوبة وشمال إفريقية وإجلاء الرومان عنها،
فزادت الضغينة، وتراكمت المرارة فى قلوب الصليبيين، فظلوا يتربصون لهذا
الدين، يتمنون فرصة مواتية يكرُّون عليه فيها، ويُجْلونه عن الأماكن التى
فتحها وفتح قلوب أهلها للحق.
لكنهم ما كانوا يفكرون فى ذلك والدولة الإسلامية فى قوتها وسطوتها أيام الأمويين، وأيام قوة الدولة العباسية .
فلما انتشر الترف؛ تراخى المسلمون عن رسالتهم وسادت النزاعات والشقاقات فيما بينهم.
وهنا
جاءت الصليبية، واستولت على ساحل الشام فى القرنين الخامس والسادس
الهجريين، ثم هب الشرق ممثلا فى الأتراك العثمانيين فأسقط الدولة
البيزنطية، واستولى على البلقان.وعاد الغرب فى القرنين التاسع عشر
والعشرين ممثلا فى الاستعمار الأوربى ليستولى على كثير من بلاد الشرق.
***
الدولة الرستمية
(160-296هـ/ 777-909م)
قامت
الدولة الرستمية فى المغرب الأوسط (الجزائر)، وتنسب إلى مؤسسها "الرحمن بن
رستم " زعيم الخوارج الإباضية، ومنذ خرج "الخوارج" على "على بن أبى
طالب" -رضى الله عنه- وتسببوا فى قتله على يد الخارجى "عبد الرحمن بن
ملجم"، وهم يتبنون سياسة الخروج والثورة على الخلافة الإسلامية، يكفِّرون
من خالفهم من المسلمين، وتستبيح بعض فرقهم دماءهم!
وكان الخوارج قد فروا فى مرحلة مبكرة من الأمويين بدمشق والشام إلى المغرب.
وحاول
الخوارج نشر مبادئهم هناك، وكانت الدولة العباسية كالدولة الأموية تحاول
القضاء على الخوارج بسبب أفكارهم الغريبة ومعتقداتهم، واستقر عبد الرحمن
بن رستم فى إقليم "تاهرت" بالمغرب الأوسط، وقام بنشر مذهبه هناك حتى بويع
بالإمامة سنة 160هـ/777م، فأعلن قيام دولته التى صارت ملجأ لإباضية
العراق وفارس وغيرهما، وهم أحد الفرق المعتدلة؛ حيث تتعايش مع خصومها وتعدل
عن قتلهم.
نجح عبد الرحمن بن رستم فى توطيد دعائم دولته خلال الفترة
التى قدر له أن يحكمها (144-168هـ) وقد خلفه من بعده ابنه عبد الوهاب الذى
بقى فى حكم الدولة الرستمية عشرين سنة، ثم "أفلح بن عبد الوهاب" الذى
حكم أكثر من خمسين عامًا (188-238هـ)، ثم تتابع فى حكم الدولة الرستمية
خمسة من الأمراء، هم: أبوبكر بن أفلح، وأبو اليقظان، فأبو حاتم، فيعقوب ابن
أفلح، فاليقظان ابن أبى اليقظان آخر أمرائهم.
وظل أتباع هذه الدولة
يتصارعون ويختلفون حتى انقرضت الدولة الرستمية سنة 296هـ/ 909م، فى عهد
اليقظان بن أبى اليقظان على يد داعى الفاطميين أبى عبد الله الشيعي.
لقد
كانت علاقة الدولة الرستمية متوترة مع الأغالبة الذين يمثلون الدولة
العباسية، ولكنهم كانوا على علاقة طيبة بالأمويين فى الأندلس، وذلك لأن
الأمويين كانوا يبادلون العباسيين الكراهية والعداء.
وانتهت دولة الرستميين رغم ما تمتعت به من حياة سهلة رغيدة مدة من الزمان؛ لأن الذى يخرج عن جسم الأمة لابد أن تحاصره النهاية.
وكانت
هنا دويلة أخرى قامت فى جنوب المغرب الأقصى إلى جانب دولة الأغالبة
والأدارسة والدولة الرستيمة، إنها دولة سجلماسة (أو الدولة المدارية) فى
جنوب المغرب الأقصى (140-296هـ/ 758-909م) وقد يتساءل البعض عَمْن أسسها؟
وكيف كانت علاقة هذه الدولة بجيرانها؟
لقد أسسها "موسى بن يزيد
المكناسي" وهى دولة كالرستمية أسسها خوارج لكنهم على المذهب الصفري،
ولهذا توطدت العلاقات بين هذه الدولة والدولة الرستمية فى شتى المجالات،
ومؤسسها سودانى بنى العاصمة "سجلماسة"، وقد قضى الفاطميون عليها كما
قضوا على غيرها.
***
دولة الأدارسة
(172-364هـ/789-975م)
ذُكِرَ أنه
فى أيام الخليفة الهادى قامت ثورة "علوية" فى الحجاز، وهى من تلك
الثورات التى كان العلويون يشعلون نارها طوال خلافة العباسيين. وقامت قوات
"الهادي" بالقضاء على هذه الثورة فى موقعة "فخ". ولكن بعض رءوس هذه
الثورة وقادتها قد أفلتوا من أيدى العباسيين وهربوا إلى أماكن نائية
بعيدًا عن أيديهم.
وكان ممن هربوا عَلَوِى يسمى "إدريس" بن عبد الله
بن الحسن ابن على -رضى الله عنه-. وراحت قوات العباسيين تطارده، عيونهم
وجواسيسهم تبحث عنه، فظل ينتقل من قطر إلى قطر آخر حتى وصل إلى مصر. وفى
مصر التقى بصاحب البريد، وكان قلبه مع العلويين، فدبر لإخفائه، واحتال حتى
أرسله إلى أبعد أجزاء الدولة حتى يكون فى مأمن من سطوة الخليفة.
وكان له ما أراد فوصل إلى أقصى المغرب.
وهناك
أعلن أنه من سلالة النبى (، فأسرع البربر بالالتفاف حوله غير أن جيش
أنصار الخليفة العباسى تمكن من هزيمته، ولكن ابنه إدريس بن إدريس بن عبد
الله بن الحسن بن على تمكن من جمع أهل المغرب من حوله، وما أسرع ما
بايعوه، ولم يجد صعوبة فى قيادتهم والاستيلاء على الإقليم جميعه، والقضاء
على أى أثر للنفوذ العباسى فيه، واتخذ عاصمته فى فاس، وأقام دولة هناك
نُسبت إليه فعُرفت بدولة الأدارسة، وهى نموذج للدولة المعادية للدولة
العباسية، وهى أول دولة شيعية تظهر فى التاريخ، على أنَّ تَشَيُّعَها لم
يكن يتجاوز حب آل بيت رسول الله > والولاء لهم، وهى صفة يشترك فيها
السنة والشيعة معًا، وإن بالغ فيها أهل التشيع.
فلم يكن تشيع هذه الدولة
ينال من حقيقة الإسلام الصافية شيئًا. ولهذا أحبها أهل السنة وانتصرت بهم،
وكانت القبائل البربرية السنية فى المغرب حاميتهم وعماد دولتهم، ولهذا
أيضًا عاشت دولة الأدارسة نحوًا من قرنين من الزمان.
لقد كانت "دولة الأدارسة" ضعيفة نسبيّا وذلك لسببين:
أولهما: أنها كانت محصورة بين الصحراء والمحيط والأمويين فى الأندلس ثم الأغالبة فى إفريقية.
ثانيهما: هو أنها كانت تعتمد على البربر وهم متقلبون يؤيدونها اليوم بينما يثورون عليها غدًا.
وكانت
سياسة الدولة نفسها متقلبة تميل مع مصالحها لتضمن البقاء والاستمرار، فهى
يومًا تميل مع الفاطمين، فتدعو لهم، وتعتمد عليهم، وعندما يهددها الأمويون
فى الأندلس تميل معهم وتدعو لهم، وهذا يفسر لنا بوضوح سر ضعف دولة
"الأدارسة".
وأراك تسألنى عن نهايتها، وأقول: لقد كانت نهايتها كنهاية
دولة "الأغالبة" فى تونس -التى سيأتى ذكرها- على يد الفاطميين سنة
364هـ/ 975م بعد أن عاشت ما يقرب من قرنين، وأدت دورًا حضاريّا رائعًا فى
المغرب الإسلامي، إذ انتشر بهم الإسلام فى المغرب بين البربر، وأسّسوا
جامع القرويين الذى كان منارة للثقافة الإسلامية، وكانت فى المغرب
كالأزهر فى المشرق.
***
دولة الأغالبة
(184-296هـ/800-909م)
هل تعلم أن
نية العرب يوم فتحوا شمالى إفريقية كانت تتجه إلى توحيد إدارتها وإدارة
الأندلس فى ولاية واحدة أسموها "إفريقية" وعاصمتها "القيروان"؟!
ولكن
موقف "البربر" المتقلب، والبعد عن الخلافة، ونفوذ الأمويين فى الأندلس، كل
ذلك ساعد على قيام الدويلات، فقامت "دولة الأدارسة" فى المغرب كما
عرفتَ، وحاول الرشيد أن يوقف نفوذهم وتقدمهم، فاختار صديقًا له يدعى "ابن
الأغلب" وولاه على القيروان (تونس). وأفهمه أن مهمته الأولى هي: إيقاف
"الأدارسة" عند حدهم. واستطاع إبراهيم بن الأغلب بعد أن وصل إلى "القيروان"
أن يوقف زحف الأدراسة العلوية، وأن يقى الدولة العباسية شر غزوات البربر
والإغارة على الأقاليم الشرقية للدولة، وحقق إبراهيم بن الأغلب للرشيد ما
أراد.
وكانت هذه الدويلة تمثل الدويلات ذات العلاقة الاسمية بالدولة
العباسية بخلاف دولة الأدارسة التى كانت معادية للخلافة العباسية. لقد
استطاع "إبراهيم بن الأغلب" أن يوقف الأدارسة. وبعد مناوشات بين الطرفين
اقترحوا عليه ألا يعتدى أحد الطرفين على الآخر، وأن يبقى كل فى إقليمه،
فقبل "ابن الأغلب".
واستقل "إبراهيم بن الأغلب" بالإقليم، ولكنه ظل على
علاقة بالخلافة العباسية، فهو يذكر اسم الخليفة فى خطبة الجمعة، ويضع
اسمه على العملة، ولكن فيما عدا هذين الأمرين فليس للخليفة العباسى أى
نفوذ على دولة الأغالبة، فهم يتوارثونها أبًا عن جد، ويصرِّفون أمورها كما
يشاءون دون رقيب.
ولما قويت شوكة الأغالبة بدءوا التوسع، ولكن الأدارسة
حدوا من توسعهم غربًا، والصحراء حدتهم جنوبًا، والعباسيون شرقًا، فلم يبقَ
لهم سوى الاتجاه شمالا حيث البحر!
فهل توقف الأغالبة؟ كلا، فها هم
أولاء ينشئون أسطولا ضخمًا، يبنونه فى سنوات معدودات، ويبدءون جهادهم
المبارك ضد الصليبيين بقيادة "أسد بن الفرات" فى البحر الأبيض المتوسط،
ترى إلى أين؟ هاجموا جزيرة "صقلية" مرارًا على مدى ثمانين عامًا حتى
استطاعوا القضاء على مقاومة الرومان من أهل الجزيرة وحكامها، وضموها
لأراضى المسلمين، ثم استولوا على جزيرتى "مالطة" و"سردينيا" ونزلوا بعد
ذلك فى كثير من السواحل الأوربية، وبخاصة سواحل إيطاليا الجنوبية
والغربية، والسواحل الجنوبية لفرنسا.
لقد عاشوا أكثر من قرن من الزمان يحكمون تونس وملحقاتها، ويحكمون صقلية، ويفرضون هيبتهم على الدول الأوربية.
وقد
استطاعوا فى بعض هذه السواحل إقامة حاميات وحصون دائمة، وإن لم يستطيعوا
التوغل فى بعض هذه البلاد والاستيلاء عليها من أيدى أهلها.
وقد يتساءل البعض: ما قيمة هذه الفتوح وهى ليست إلا بعض جزر، وبعض نقاط السواحل؟
إنها
فى حقيقة الأمر على جانب كبير من الأهمية، ذلك أن هذه الجزر والسواحل
الضيقة كانت جسرًا عبرت عليه الحضارة الإسلامية إلى أوربا فى زمن كانت فيه
أوربا فى ظلام حالك.
كما أن السيطرة على هذه الجزر كان يؤمن التجارة
الإسلامية فى غرب البحر المتوسط وكانت الثقافة الإسلامية الضوء الوحيد فى
العالم الذى أنار وجه الأرض حينذاك.
وعاشت دولة الأغالبة قرنًا وتسعة
أعوام من سنة800م إلى سنة 909م، وازدهرت الحياة الاقتصادية والعمرانية فى
تونس على عهدهم، ولعبت مساجدهم فى تونس دورًا كبيرًا فى دعم الحضارة
الإسلامية، وكان جامع الزيتونة جامعة إسلامية عظيمة.
وقد انتهت حياتها على يد الفاطميين يوم دخلوا القيروان فاتحين.
***
الدولة الطاهرية
(205-259هـ/821-873م)
قامت هذه الدولة فى خراسان، وقد أسسها طاهر بن الحسين أحد كبار قواد الجيش فى عهد الخليفة المأمون.
ولكن كيف يتسنى له أن يقيم دولة والدولة العباسية فى أول عهدها، وفى عصر المأمون الذى يعد العصر الذهبى للدولة العباسية؟!
إن
لقيام هذه الدولة قصة، فقد كان لإقليم خراسان وضع خاص فى الدولة العباسية
منذ نشأتها، إذ كان هؤلاء الخراسانيون-كما علمتَ فى قيام الدولة
العباسية-يشعرون بأنهم أصحاب فضل على الدولة العباسية، وبأن سيدهم "أبا
مسلم الخراساني" هو المؤسس الأكبر لهذه الدولة، ورغم ذلك لم يحسن العباسيون
جزاءهم حين قتل المنصور أبا مسلم.
والواقع أن الخلافة العباسية كانت
تتجاوز كثيرًا عن الخراسانيين، وتحاول إرضاءهم؛ اعترافًا بفضلهم على
الدولة. وفى عصر المأمون، كان طاهر بن الحسين وابنه عبد الله من كبار رجال
الدولة وخيرة قادتها فى ذلك الوقت؛ الذى بدأ فيه الصراع بين الأمين
والمأمون.
ولقد وقف طاهر بن الحسين إلى جوار المأمون فى كثير من
المواقف الحرجة حتى تمكن من الخلافة. ولم يمرَّ إلا عامان حتى أقدم "طاهر
بن الحسين" على خطوة جريئة فى سنة 207هـ/ 823م. أتدرى ما هي؟ لقد قطع
الدعاء فى الخطبة للمأمون، وكان قطع الدعاء يعنى الاستقلال عن الخلافة.
ولكن يشاء الله أن يموت طاهر فى العام نفسه، ترى هل تعود الدولة الطاهرية إلى الدولة العباسية بعد موت مؤسسها؟
لقد
تولى ابنه طلحة بعد أبيه بأمر من الخليفة المأمون، وظل الطاهريون يحكمون
خراسان، ولكنهم يتبعون "الدولة العباسية" تبعية اسمية مما جعل الخلافة
العباسية تلجأ إلى الطاهريين، تلتمس منهم المؤازرة والمساندة ضد الخارجين
على سلطانهم.
لقد حارب عبدُالله بن طاهر نصرَ بن شبث حين قام بثورة فى
شمال حلب سنة 209هـ، وأتى به أسيرًا إلى المأمون. وظل الطاهريون على
ولائهم للعباسيين حيث اشترك عبد الله بن طاهر فى إخماد فتنة وقعت فى عهد
المعتصم بطبرستان، وهكذا استقل الطاهريون استقلالا داخليا هادئًا فى
خراسان، وظلوا يتولون أمرها، ويتوارثون الإمارة فيها، ولم يمنعهم استقلالهم
من مساندة الخلافة العباسية، ومساعدتها فى كل ما واجهته من فتن وثورات.
ولكن عندما جاءت سنة 259هـ/ 873م، استطاع يعقوب الصفار أن يقيم دولته على أنقاض دولة الطاهريين.
***