التاريخ الإسلامي
دولة الخلافة العباسية
سميت الدولة العباسية بهذا الاسم، نسبة إلى العباس عم
الرسول (، فمؤسس الدولة العباسية وخليفتها الأول هو أبو العباس عبد الله بن
محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب عم رسول الله (، وقد اشتهر
أبو العباس بأبى العباس السفاح.
كيف آلت الخلافة إلى العباسيين؟
عندما
ضعفت الدولة الأموية، تطلع الناس إلى رجل يعود بالأمة إلى الجادة والطريق
الصحيح، يرفع عنهم الظلم، ويقيم فيهم العدل، ويرهب بهم الأعداء، فحسبوا أن
أصلح الناس لهذا الأمر، رجل يكون من بنى هاشم، فكتبوا فى هذا الشأن إلى
"أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية بن على بن أبى طالب" أحد العلماء
الثقات، وكان مقيمًا بالشام قريبًا من مركز الخلافة الأموية.. وما لبث أمر
تلك المكاتبة أن وصل الخليفة الأموى "سليمان بن عبد الملك"، فخشى أبو هاشم
على نفسه -وكانت قد تقدمت به السِّنّ- بطش الخليفة، فانتقل إلى "الحميمة"
من أرض الشام؛ حيث يقيم عمه "عليّ السَّجَّاد بن عبد الله بن عباس"، وهناك
حضرته منيته، فأوصى إلى "محمد بن على بن عبد الله بن عباس" بما كان من أمر
الناس معه، ودفع إليه الكتب التى كتبوها إليه، وقال له: أنت صاحب هذا
الأمر، وهو فى ولدك. ثم مات، وكان ذلك فى خلافة سليمان بن عبد الملك سنة
99هـ/ 718م.
وأخذ محمد العباسى فى تنفيذ ما أوصاه به أبوهاشم، فاتصل
بالناس، واختار من بينهم دعاة يخرجون وينتشرون فى ربوع الدولة الأموية،
يشهرون بها وينتقدون عيوبها، ويدعون إلى ضرورة أن يتولى أمر الخلافة رجل من
آل البيت قادر على أن يملأ الأرض عدلا، ووجدت تلك الدعوة صدى عند الناس
ورواجًا.
ويموت محمد بن على بن عبد الله بن عباس سنة 124هـ/742م، بعدما أوصى ابنه إبراهيم الملقب بالإمام بمواصلة المسيرة.
وتأخذ
الدعوة العباسية عند إبراهيم الإمام صورة أخرى غير التى كانت عليها قبل
ذلك، فهى لم تكن منظمة، أما الآن فقد صار لها نظام، وقادة معلومون، من
أمثال أبى سلمة الخلال على الكوفة، وأبى مسلم الخراسانى على خراسان.
وما
تكاد سنة 129هـ/ 747م، تقبل حتى يصدر أمر الإمام العباسى "إبراهيم بن
محمد" أن يكون "أبو مسلم الخراسانى" رئيسًا للدعاة جميعًا فى خراسان وما
حولها، وكلَّفه أن يجهر بالدعوة للعباسيين علنًا، وأن يعمل على جعل خراسان
قاعدة للانطلاق بقواته ضد البيت الأموى.
انتقال الخلافة إلى العباسيين:
بعد هذا العرض يصبح فى مقدورنا أن نعرف كيف تحولت الخلافة من الأمويين إلى العباسيين.
لقد
صدر الأمر إلى أبى مسلم بالجهر بالدعوة للعباسيين فى عهد آخر خلفاء بنى
أمية "مروان بن محمد"، ولم يلبث أبو مسلم أن دخل "مرو " عاصمة خراسان، وكاد
أن يستولى عليها إلا أنه لم يتمكن من ذلك هذه المرة، وهنا أسرع الوالى على
خراسان من قبل بنى أمية، وهو "نصر بن سيار" يستغيث بمروان بن محمد ويطلب
منه مددًا، وينبه رجال الدولة إلى الخطر المحدق فيقول:
أَرى خَلَلَ الرَّمادِ وَميِضَ نــــارٍ ويُوشكُ أن يَكُونَ لَهَا ضِـرَامُ
فإن النارَ بالعودين تُذْكــــــى وإن الحربَ مبدؤها كـــــلامُ
فقلت من التعجب ليتَ شِعرى أأيقاظ أمية أم نيـــــــــام؟
ولم
يهتم بنو أمية بهذا الأمر بسبب انشغالهم بصراعات أنصارهم القدماء بالشام،
وانشقاق زعماء الأمويين على أنفسهم، ولم يمدُّوا واليهم على خراسان بشىء،
فأدرك أبو مسلم الخراسانى أن الوالى الأموى لن يصبر طويلا، وأن "مرو" ستفتح
يومًا ما قريبًا، فأخذ يجمع العرب من حوله، ثم انقضَّ بهم على "مرو" ففتحت
له، وهرب واليها "نصر بن سيار" وكان ذلك سنة 130هـ/ 748م.
وواصل أبو
مسلم فتوحاته، فدانت له "بلخ" و"سمرقند" و"طخارستان" و"الطبسين" وغيرها،
وتمكن من بسط سيطرته ونفوذه على خراسان جميعًا، وراح يتطلع إلى غيرها، وكان
كلما فتح مكانًا أخذ البيعة من أهله على كتاب الله-عز وجل-وسنة نبيه (
"وللرضا من آل محمد"، أى يبايعون إمامّا مرضيًا عنه من آل البيت من غير أن
يعِّيَنهُ لهم.
والواقع أن بنى أمية كانوا نيامًا فى آخر عهدهم، لا
يعلمون من أمر القيادة الرئيسية لهذه الدعوة العباسية شيئًا، ولما وقع فى
يد الخليفة (مروان بن محمد) كتاب من "الإمام إبراهيم العباسى" يحمل
تعليماته إلى الدعاة، ويكشف عن خطتهم وتنظيمهم، كان منشغلا بتوطيد سلطانه
المتزعزع وقمع الثائرين ضده، واكتفى الخليفة "مروان بن محمد" بأن أرسل إلى
القائم بالأمر فى دمشق للقبض على الإمام "إبراهيم بن محمد" "بالحميمة"
وإيداعه فى السجن، وتم القبض عليه وأودع السجن، فظل به حبيسًا إلى أن مات
فى خلافة مروان بن محمد سنة 132هـ/750م. ولما علم "إبراهيم" بالمصير الذى
ينتظره، وعلم أن أنصاره ومؤيديه قد واصلوا انتصاراتهم، وأن الكوفة قد دانت
لهم وصارت فى قبضتهم أوصى لأخيه "أبى العباس" بالإمامة طالبًا منه أن يرحل
إلى الكوفة ومعه أهل بيته؛ لينزل على داعى العباسيين بها وهو "أبو سلمة
الخلال" فهناك يكون فى مأمن من رقابة الأمويين وسلطانهم
مبايعة أبى العباس:
وهناك
فى الكوفة -بعد قليل من وصول آل العباس إليها- تمت مبايعة أبى العباس
خليفة للمسلمين، وتوجه "أبو العباس" إلى مسجد الكوفة عقب مبايعته بالخلافة
فى الثانى عشر من ربيع الأول سنة 132هـ/ 750م، وألقى على الملأ خطبة كانت
بمثابة الإعلان الرسمى عن قيام الدولة العباسية، ومما جاء فى تلك الخطبة:
"الحمد
لله الذى اصطفى الإسلام لنفسه، وكرمه وشرفه وعظَّمه، واختاره لنا، زعم
الشامية أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، شاهت وجوههم، بِمَ
ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم،
وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، ودحض الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان
فاسدًا، ورفع بنا الخسيسة، وتمم النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد
العداوة أهل التعاطف والبر والمواساة فى دنياهم، وإخوانًا على سرر متقابلين
فى آخرتهم، فتح الله ذلك -مِنَّةً وبهجة -لمحمد (، فلما قبضه الله إليه،
وقام بالأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، حَوَوْا مواريث الأمم،
فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصًا منها، ثم وثب
بنو حرب وبنو مروان فابتزُّوها وتداولوها، فجاروا فيها واستأثروا بها،
وظلموا أهلها، وقد أملى الله لهم حينًا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم
بأيدينا، وتدارك بنا أمتنا، وَوَلِىَ نصرنا والقيام بأمرنا، لَيمُنَّ بنا
على الذين استضعفوا فى الأرض، فختم بنا كما افتتح بنا، وإنى لأرجو ألا
يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح،
وماتوفيقنا أهل البيت إلا بالله، فاستعدوا أيها الناس، فأنا السَّفَّاح
المبيح والثائر المنيح (يقصد أنه كريم جواد) ".
ومن هذه المقولة التصقت به صفة السفاح، فقيل أبو العباس السفاح، مع أنه ما قصد ذلك المعنى الذى شاع على الألسنة.
لقد
أعلنها صريحة مدوية فى الآفاق بينما كان "مروان بن محمد" آخر خلفاء بنى
أمية يجلس على كرسى الخلافة، فكيف تمت المواجهة بين هؤلاء وأولئك؟ وكيف
تحققت الغلبة للعباسيين؟
اللقاء الحاسم:
يالها من لحظات حاسمة فى
تاريخ الأمم والشعوب، إن شمس الأمويين الغاربة تؤذن بالزوال، بينما شمس
العباسيين فى صعود، وهذه هى الدنيا، فيوم لنا ويوم علينا، والأيام دُوَل.
وكان اللقاء الحاسم بين الأمويين والعباسيين على أحد فروع دجلة بالقرب من الموصل وهو "نهر الزَّاب الأعلى".
فجيش العباسيين يقوده عم الخليفة، وهو "عبد الله بن على"، بينما يقود جيش الأمويين الخليفة نفسه "مروان بن محمد".
كان
ذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة 132هـ/ 750م، ولم
يجد "مروان" أمام جحافل العباسيين إلا أن يفر إلى "دمشق" مهزومًا أمام
مطاردة "عبد الله بن على".
لقد راح يُطارده، فاستولى على "دمشق"،
واستولى على مدن الشام واحدة بعد الأخرى، وكان استسلام دمشق العاصمة معناه
سقوط دولة بنى أمية، وانتهاء عهدها كعاصمة للدولة الإسلامية، لكن مروان قد
فرّ إلى مصر وتوجه إلى صعيدها، وقرب الفيوم، عند قرية "أبوصير" أُلقِىَ
القبضُ عليه، وقُتِلَ بعدما ظل هاربًا ثمانية أشهر، يفر من مكان إلى مكان.
ومضى عهد، وأقبل عهد جديد، وسيظل عام 132هـ/ 750م فاصلا بين عهدين، وتاريخًا لا يُنسى.
عصور الخلافة العباسية
بدأت الدولة الجديدة سنة
132هـ/ 750م، وقد بلغ عدد خلفائها نحو سبعة وثلاثين خليفة، تعاقبوا على
التوالى حكم هذه الدولة التى طال عمرها، واختلفت عصورها، وامتدت حتى سنة
656هـ/ 1100م ؛ حيث سقطت على أيدى التتار، بعد أن عاشت خمسة قرون وربع قرن ؛
اختلفت فيها العصور قوة وضعفًا!
فكيف كانت البداية؟
وكيف كانت النهاية؟
العصر العباسى الأول
( 132 - 232هـ / 750 - 847م )
اشتمل
العصر العباسى الأول على عهود تسعة خلفاء، بدأ حكمهم بأبى العباس السفاح،
وانتهى بتاسع الخلفاء العباسيين وهو الخليفة الواثق الذى توفى سنة 232هـ/
847م.
والعصر العباسى الأول هو العصر الذهبى للدولة العباسية، فقد
استطاع أولئك الخلفاء التسعة واحدًا بعد الآخر تحقيق ثلاثة منجزات كبرى،
هى:
* تأكيد قوة الخلافة العباسية، والقضاء على كل المحاولات التى كان هدفها النيل من تلك الخلافة وسلطانها.
* إقامة حكم إسلامى تحققت فيه المساواة بين جميع الشعوب الإسلامية.
* رعاية الحضارة الإسلامية، فهم الذين أتاحوا لها الازدهار والانتشار.
خلافة أبى العباس السفاح
( 132 - 136هـ / 750 - 754 م)
هو عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم.
ولم تطل مدة خلافته، إنما هى سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة.
انتشار الإسلام:
فقد
سكن الكوفة، ثم تركها وأقام بالحيرة، ثم اختار مدينة "الأنبار" فبنى بها
قصورًا وأحب الإقامة بها، وظل فيها حتى توفى. وكان لابد من تأمين الحدود،
ورفع راية الإسلام ونشره فى ربوع الأرض لتصبح كلمة الله هى العليا، فبدأت
من جديد تلك الحملات لتأديب الروم أعداء الإسلام والمسلمين.
عقد أبو العباس لعبد الله بن على أمر هذه المهمة سنة 136هـ/ 754م، فقاد عبد الله جيشًا من أهل الشام وخراسان.
ولم
يقف الأمر عند هذا الحد، بل سيطر الجيش الإسلامى فى عصره من جديد على بلاد
ما وراء النهر، وهى المنطقة الواقعة فى حوض نهرى جيحون وسيحون مما يعرف
الآن بالجمهوريات الإسلامية فى آسيا الوسطى التى استقلت عن الاتحاد
السوفيتى مؤخرًا.
قمع الثورات:
ولم يخل عهده من ثورات قام بها بعض
قواد الأمويين فى أول عهده بالخلافة وفى آخره، فقضى على ثورة "أبى الورد"
الذى انضم إليه أهل "قنسرين"، و"حمص"، و"دمشق"، وكان ذلك عام تولّيه الحكم.
وفى
آخر عهده، أعلن أهل دمشق تمردهم على خلافة العباسيين سنة 136 هـ، وبايعوا
أحد الأمويين، ولكنهم ما لبثوا أن هربوا أمام الجيش العباسى الذى داهمهم
وطاردهم.
ويموت أبو العباس فى هذا العام بعد أن أوصى لأخيه "أبى جعفر المنصور" بالخلافة من بعده.
خلافة أبى جعفر المنصور
(136 - 158هـ/ 754 - 775م)
يعتبر أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقى لدولة بنى العباس وإن تولَّى الخلافة بعد أخيه أبى العباس (سنة 136هـ/ 754م).
ترى لماذا يُعَدُّ أبو جعفر المنصور المؤسس الأول على الرغم من أنه الخليفة العباسى الثانى؟
إن
"أبا جعفر المنصور" بذل جهودًا عظيمة لتدعيم الأسرة العباسية فى الحكم،
وإعلاء شأن الخلافة، وإضفاء روح المهابة والإجلال على الدولة فى الداخل
والخارج.
لقد بُويع بالخلافة بعد عودته من الحج ووفاة أخيه أبى العباس،
بايعه أهل العراق وخراسان وسائر البلاد سوى الشام التى كان عمه "عبد الله
بن على" أميرًا، فقد رفض مبايعته اعتقادًا منه بأنه أولى بالخلافة، فما كان
من أبى جعفر إلا أن أرسل إليه القائد "أبا مسلم الخراسانى" ومعه جماعة من
أمراء بنى العباس فهزموهم هزيمة منكرة، وخضعت بلاد الشام لأبى جعفر.
نهاية أبى مسلم الخراسانى:
وبدأ
الجو يصفو لأبى جعفر بعد مقتل عمه "عبد الله" إلا من بعض الإزعاج الذى كان
يسببه له أبو مسلم الخراسانى؛ وبسبب مكانته القوية فى نفوس أتباعه،
واستخفافه بالخليفة المنصور، ورفضه المستمر للخضوع له؛ فأبو مسلم يشتد
يومًا بعد يوم، وساعده يقوى، وكلمته تعلو، أما وقد شم منه رائحة خيانة
فليكن هناك ما يوقفه عند حده، وهنا فكر المنصور جديّا فى التخلص منه.
وقد
كان، فأرسل إلى أبى مسلم حتى يخبره أن الخليفة ولاه على مصر والشام، وعليه
أن يوجه إلى مصر من يختاره نيابة عنه، ويكون هو بالشام ؛ ليكون قريبًا من
الخليفة وأمام عينيه وبعيدًا عن خراسان ؛ حيث شيعته وموطن رأسه، إلا أن أبا
مسلم أظهر سوء نيته، وخرج على طاعة إمامه، ونقض البيعة، ولم يستجب لنصيحة
أحد، فأغراه المنصور حتى قدم إليه فى العراق، وقتله فى سنة 137هـ/ 756م،
ولأن مقتل رجل كأبى مسلم الخراسانى قد يثير جدلا كبيرًا، فقد خطب المنصور
مبينًا حقيقة الموقف، قال: "أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة
المعصية، ولا تمشوا فى ظلمة الباطل بعد سعيكم فى ضياء الحق، إن أبا مسلم
أحسن مبتدئًا وأساء معقبًا، فأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح
باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبيث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم
لنا فيه لعذرنا فى قتله، وعنفنا فى إمهالنا، فما زال ينقض بيعته، ويخفر
ذمته حيث أحل لنا عقوبته، وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه لنا فى غيره، ممن
شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه". ومع ذلك فلم تهدأ
الأمور، ولم يصفُ الجو لأبى جعفر المنصور كما كان يتوقع.
ثورة سُنباد:
كان
ممن غضب لمقتل أبى مسلم الخراسانى، رجل مجوسى اسمه "سُنباد"، فثار والتف
حوله الكثيرون من أهل "خراسان"، فهجموا على ديار المسلمين فى "نيسابور"
و"قومس" و"الرى"، فنهبوا الأموال وقتلوا الرجال وسبوا النساء، ثم تبجحوا،
فقالوا: إنهم عامدون لهدم الكعبة، فأرسل إليهم المنصور جيشًا بقيادة جمهور
ابن مرار العجلى، فهزمهم واستردَّ الأموال والسبايا، ولا يكاد أبو جعفر
يتخلص من "سنباد" سنة 137هـ/ 756م، حتى واجه ثائرًا ينادى بخلع المنصور..
تعلمون من هو؟!
إنه "جمهور بن مرار العجلي" قائد جيوش المنصور التى هزمت "سنباد".. فكيف كان هذا؟
لما
هزم "جمهور" سنباد، واسترد الأموال، كانت خزائن أبى مسلم الخراسانى من
بينها، فطمع "جمهور"، فلم يرسل المال إلى الخليفة المنصور، بل ونقض البيعة
ونادى بخلع المنصور، فماذا كان؟
أرسل المنصور القائد الشجاع "محمد بن
الأشعث" على رأس جيش عظيم، فهزم "جمهورًا" وفر هاربًا إلى "أذربيجان"،
وكانت الموقعة فى سنة 137هـ/ 756م.
ثورات الخوارج:
ترى هل صفا الجو
للمنصور بعد هذا ؟ لا.. فلقد كانت هناك ثورات وثورات تهدد الحياة وتحول دون
الاستقرار والأمن. كما كانت هناك ثوارت للخوارج الذين أصبحوا مصدر إزعاج
للدولة العباسية.
لقد خرج آنذاك "مُلَبّد بن حرملة الشيبانى" فى ألف من
أتباعه بالجزيرة من العراق، وانضم إليه الكثيرون، فغلب بلادًا كثيرة، إلى
أن تمكنت جيوش المنصور بقيادة خازم بن خزيمة من هزيمته فى سنة 138هـ/ 757م.
وتحرك
الخوارج مرة ثانية فى خلافة المنصور سنة 148هـ بالموصل تحت قيادة "حسا بن
مجالد الهمدانى"، إلا أن خروجه هو الآخر قد باء بالفشل.
وواجه الخليفة
المنصور العباسى ثورات منحرفة لطوائف من الكافرين، ففى سنة 141هـ/ 759م..
واجه المنصور ثورة أخرى لطائفة من الخوارج يقال لها "الراوندية" ينتسبون
إلى قرية "راوند" القريبة من أصفهان.
إنهم يؤمنون بتناسخ الأرواح،
ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى واحد يسمى "عثمان بن نهيك" وأن جبريل هو
الهيثم بن معاوية -رجل من بينهم-، بل لقد خرجوا عن الإسلام زاعمين أن ربهم
الذى يطعمهم ويسقيهم هو "أبو جعفر المنصور"، فراحوا يطوفون بقصره قائلين:
هذا قصر ربنا. ولم يكن ينفع هؤلاء إلا القتال، فقاتلهم المنصور حتى قضى
عليهم جميعًا بالكوفة.
ثورة محمد "النفس الزكية":
من أخطر الثورات
التى واجهت المنصور خروج محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن على، وكان
من أشراف بنى هاشم علمًا ومكانة، وكان يلقب بـ "النفس الزكية" فاجتمع
العلويون والعباسيون معًا وبايعوه أواخر الدولة الأموية، وكان من المبايعين
"المنصور" نفسه، فلما تولى الخلافة لم يكن له هم إلا طلب محمد هذا خشية
مطالبته بطاعة هؤلاء الذين بايعوه من قبل، وهنا خرج "محمد" النفس الزكية
بالمدينة سنة 145هـ/763م، وبويع له فى كثير من ال**ار. وخرج أخوه
"إبراهيم" بالبصرة، واجتمع معه كثير من الفقهاء، وغلب أتباعه على "فارس"
و"واسط" و"الكوفة"، وشارك فى هذه الثورة كثير من الأتباع من كل الطوائف.
وبعث
المنصور إلى "محمد النفس الزكية" يعرض عليه الأمن والأمان له ولأولاده
وإخوته مع توفير ما يلزم له من المال، ويرد "محمد" بأن على المنصور نفسه أن
يدخل فى طاعته هو؛ ليمنحه الأمان.
وكانت المواجهة العسكرية هى الحل بعد
فشل المكاتبات، واستطاعت جيوش أبى جعفر أن تهزم "النفس الزكية" بالمدينة
وتقتله، وتقضى على أتباع إبراهيم فى قرية قريبة من الكوفة وتقتله.
ثورة كافر خراسان:
ويظل
مسلسل الثورات يتوالى على مر الأيام، ففى سنة 150هـ يخرج أحد الكفرة ببلاد
خراسان ويستولى على أكثرها، وينضم له أكثر من ثلاثمائة ألف، فيقتلون خلقًا
كثيرًا من المسلمين، ويهزمون الجيوش فى تلك البلاد، وينشرون الفساد هنا
وهناك، ويبعث أبوجعفر المنصور بجيش قوامه أربعون ألفا بقيادة "خازم بن
خزيمة"، فيقضى على هؤلاء الخارجين، وينشر الأمن والاستقرار فى ربوع خراسان.
بناء بغداد:
وراح
المنصور يواصل ما بدأ به.. راح يبنى ويعمر بعد أن خَلا الجو، ودانت له
البلاد والعباد، لقد فكر -منذ توليه- فى بناء عاصمة للدولة العباسية يضمن
من خلالها السيطرة على دولته، وإرساء قواعدَ راسخة لها.
فشرع فى بناء
بغداد سنة 145هـ على الضفة الغربية لنهر دجلة عند أقرب نقطة بين دجلة
والفرات، لتصبح ملتقى الطرق القادمة من الشام شمالا، ومن الصين شرقًا، ومن
طوائف مصر، ومن الحجاز جنوبًا، إلى جانب موقعها العسكرى الخطير، فهى بين
نهرى الفرات ودجلة، فلا وصول إليها إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطع الجسر
وخربت القنطرة لم يتمكن معتدٍ من الوصول إليها، ولبغداد مزايا أخرى عديدة،
أغرت المنصور بالإسراع فى بنائها، فراح أبو جعفر يأمر بإحضار الفعلة
والصناع من بلاد العالم؛ ليحققوا نهضة، وليقيموا حضارة، وليصنعوا المستقبل
لدولة الإسلام والمسلمين. وكان مِنْ بين مَنْ استعان بهم المنصور فى ضبط
العمل ببغداد: الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان.
ووضع المنصور بنفسه أول
لبنة وهو يقول: باسم الله، والحمد لله، وإن الأرض لله يورثها من يشاء من
عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله.
وكان الإمام
الأعظم أبو حنيفة النعمان هو القائم على بناء المدينة والمتولى لضرب اللبن.
وأصبحت بغداد عاصمة لها شأنها بين عواصم العالم.
وكانت بغداد تتمتع
بالطرق الواسعة النظيفة التى تمتد إليها المياه من فروع نهر دجلة فى قنوات
مخصوصة تمتد بالشوارع صيفًا وشتاءً، وكانت شوارعها تكنس كل يوم، ويحمل
ترابها خارجها، وعيَّن المنصور على أبوابها جندًا يحفظون الأمن بها، فصانها
وحفظ لها نظامها ونظافتها من الداخل، وقد فرغ من بناء بغداد وسورها
وأسواقها وخندقها بعد 4 سنوات أى سنة 149هـ/ 766م.
وأمام كثرة النازحين
إلى عاصمة الخلافة أجمل مدن العالم آنذاك، كان لابد أن يهتمَّ المنصور
ببناء سوق يضم أصحاب الصناعات والتجار والباعة. وفعلا بنيت "الكرخ" سنة
157هـ/ 774م لتظل عاصمة الخلافة محتفظة بجمالها وسحرها وتألقها.
وكانت
الكرخ سوقًا نموذجية، فلكل تجارة سوق خاصة بها، ولم يبقَ إلا أن يبنى
المنصور مسجدًا جامعًا يجتمعون فيه حتى لايدخلوا بغداد، فبنى للعامة
جامعًا، وهو غير جامع المنصور الذى كان يلى القصر، وفى سنة 151هـ/ 768م
يبنى المنصور مدينة أخرى لابنه المهدى على الضفة الشرقية لنهر دجلة وهى
مدينة "الرصافة" ثم بنى "الرافقة" وكانت هاتان المدينتان صورة من بغداد.
العدل أساس الملك:
وإلى جانب هذه النهضة العمرانية راح المنصور يسهر على تنفيذ طائفة من الإصلاحات الداخلية على مستوى الدولة العباسية كلها.
وإذا
كان العدل أساس الملك، فإن الذين يقومون على العدل ينبغى أن يتم اختيارهم
بعيدًا عن الهوى والمصالح. روى أن "الربيع ابن يونس" وزير "أبى جعفر" قال
له ذات يوم: إن لفلان حقّا علينا؛ فإن رأيت أن تقضى حقه وتوليه ناحية.
فقال المنصور:
يا ربيع، إن لاتصاله بنا حقّا فى أموالنا لا فى أعراض
الناس وأموالهم. ثم بين للربيع أن لا يولى إلا الأكفاء، ولا يؤثر عليهم
أصحاب النسب والقرابة. وكان يقول: ما أحوجنى أن يكون على بابى أربعة نفر،
لا يكون على بابى أعف منهم، هم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم:
أما أحدهم: فقاض لا تأخذه فى الله لومة لائم.
والآخر: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوى.
والثالث: صاحب خراج، يستقضى ولا يظلم الرعية، فإنى عن ظلمها غنى.
ثم
عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول فى كل مرة: آه. آه. قيل: ما هو يا
أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصّحَّة (رجل يخبرنى
بما يفعل هؤلاء لا يزيد ولا ينقص).
هكذا كان المنصور حريصًا على إقامة
العدل، ووضع الرجل المناسب فى المكان المناسب، وإلى جانب هذا، فقد كان
يراقب عماله وولاته على الأقاليم، ويتتبع أخبارهم أولا بأول، ويتلقَّى
يوميّا الكتب التى تتضمن الأحداث والوقائع والأسعار ويبدى رأيه فيها، ويبعث
فى استقدام من ظُلم ويعمل على إنصافه متأسيًا فى ذلك بما كان يفعل الخليفة
الثانى عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-!
العناية بالمساجد:
وأعطى
المنصور كل العناية للمساجد، خاصة المسجد الحرام، فعمل على توسعته سنة
140هـ، وسار إلى بيت المقدس بعد أن أثر فيه ذلك الزلزال الذى حدث بالشام،
فأمر بإعادة بنائه مرة أخرى، وبنى المنصور مسجدًا بمنى وجعله واسعًا، يسع
الذين يقفون فى منى من حجاج بيت الله، وشهدت مدن الدولة الكبرى نهضة
إنشائية وعمرانية، روعى فيها بناء العديد من المساجد فى البصرة والكوفة
وبغداد وبلاد الشام وغيرها من أقاليم الدولة.
العناية بالاقتصاد:
يذكر
التاريخ للمنصور- إلى جانب هذه النهضة الإصلاحية العمرانية- اهتمامه
بالزراعة والصناعة وتشجيعه أصحاب المهن والصناعات، وتأمينه خطوط التجارة
والملاحة فى الخليج العربى حتى الصين من خطر القراصنة الهنود الذين كانوا
يقطعون طرق التجارة، ويقتلون التجار، ويستولون على الأموال، وراح قُواده
يؤدبون هؤلاء اللصوص. وكثيرًا ما يعود قواد البحر بالغنائم والأسرى حتى
انقطعت القرصنة بعد سنة 153هـ/ 770م، ولقد تم فى عهده إعادة فتح "طبرستان"
سنة 141هـ/ 759م، فيما وراء النهر.
العناية بالحدود:
أعطى المنصور
اهتمامًا بالغًا بجهة الشمال؛ فراح يأمر بإقامة التحصينات والرباطات على
حدود بلاد الروم الأعداء التقليديين للدولة الإسلامية.
وكانت الغزوات
المتتابعة سببًا فى أن ملك الروم راح يطلب الصلح، ويقدم الجزية صاغرًا سنة
155هـ. ولا ننسى للمنصور حملته التأديبية على قبرص لقيام أهلها بمساعدة
الروم، ونقضهم العهد الذى أخذوه على أنفسهم يوم أن فتح المسلمون قبرص.
هذا هو "المنصور"، وهذه هى إصلاحاته فى الداخل والخارج رحمه الله رحمة واسعة، لقد كان يعرف لنفسه حقها، وللناس حقهم، ولربه حقه.
وصية المنصور:
لقد
ذهب ليحج سنة 158هـ/ 775م، فمرض فى الطريق، وكان ابنه محمد "المهدى" قد
خرج ليشيعه فى حجه، فأوصاه بإعطاء الجند والناس حقهم وأرزاقهم ومرتباتهم،
وأن يحسن إلى الناس، ويحفظ الثغور، ويسدد دينًا كان عليه مقداره ثلاثمائة
ألف درهم، كما أوصاه برعاية إخوته الصغار، وقبل أن يدخل مكة لقى ربه ليقول
له: إننى تركت خزانة بيت مال المسلمين عامرة، فيها ما يكفى عطاء الجند
ونفقات الناس لمدة عشر سنوات.
رحمه الله، كان يلبس الخشن، ويرقع القميص
ورعًا وزهدًا وتقوى، ولم يُرَ فى بيته أبدًا لهو ولعب أو ما يشبه اللهو
واللعب، ويذهب المنصور إلى رحمة الله.
وتعالوا بنا نقرأ وصية أبى جعفر المنصور لولده وولى عهده المهدى، قال المنصور لولده المهدى:
"ولدت فى ذى الحجة، ووليت فى ذى الحجة، وقد هجس فى نفسى أنى أموت فى ذى
الحجة من هذه السنة، وإنما حدانى على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك
من أمور المسلمين بعدى، يجعل لك فى كربك وحزنك فرجًا ومخرجًا، ويرزقك
السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
يا بنى: احفظ محمدًا ( فى أمته،
يحفظك الله، ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام، فإنه حوبٌ (إثم) عند
الله عظيم، وعار فى الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود، فإن فيها خلاصك فى
الآجل، وصلاحك فى العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله تعالى لو علم
شيئًا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمرٍ به فى كتابه.
واعلم أن من
شدة غضب الله لسلطانه، أنه أمر فى كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى
فى الأرض فسادًا، مع ما ادّخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: (إِنَّمَا
جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ ) [المائدة: 33].
فالسلطان يا بنى حبل الله المتين، وعروته
الوثقى، ودينه القيم، فاحفظه وحصنه، وذُبَّ عنه، وأوقع بالملحدين فيه،
وأقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به
فى محكم القرآن، واحكم بالعدل ولا تشطط؛ فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو،
وأنجع فى الدواء، وعفّ عن الفىء، فليس بك إليه حاجة مع ما خلفه الله لك،
وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة، وإياك والأثرة والتبذير لأموال
الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمّن السبل، وسكن العامة، وأدخل
المرافق عليهم، وادفع المطاردة عنهم، وأعد الأموال واخزنها، وإياك
والتبذير، فإن النوائب غير مأمونة، وهى من شيم الزمان، وأعد الكراع والرجال
والجند ما استطعت، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد، فتتدارك عليك الأمور
وتضيع، جد فى إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا فأولا، واجتهد وشمر
فيها، وأعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما
يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن
بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتَّابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من تثبت على
بابك، وسهِّل إذنك للناس، وانظر فى أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينًا غير
نائمة، ونفسًا غير لاهية، ولا تنم، وإياك، فإن أباك لم ينم منذ ولى
الخلافة، ولا دخل عينه النوم إلا وقلبه مستيقظ.
يا بنى: لا يصلح
السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح الرعية إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل
العدل، هذه وصيتى إليك، والله خليفتى عليك".
دولة الخلافة العباسية
سميت الدولة العباسية بهذا الاسم، نسبة إلى العباس عم
الرسول (، فمؤسس الدولة العباسية وخليفتها الأول هو أبو العباس عبد الله بن
محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب عم رسول الله (، وقد اشتهر
أبو العباس بأبى العباس السفاح.
كيف آلت الخلافة إلى العباسيين؟
عندما
ضعفت الدولة الأموية، تطلع الناس إلى رجل يعود بالأمة إلى الجادة والطريق
الصحيح، يرفع عنهم الظلم، ويقيم فيهم العدل، ويرهب بهم الأعداء، فحسبوا أن
أصلح الناس لهذا الأمر، رجل يكون من بنى هاشم، فكتبوا فى هذا الشأن إلى
"أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية بن على بن أبى طالب" أحد العلماء
الثقات، وكان مقيمًا بالشام قريبًا من مركز الخلافة الأموية.. وما لبث أمر
تلك المكاتبة أن وصل الخليفة الأموى "سليمان بن عبد الملك"، فخشى أبو هاشم
على نفسه -وكانت قد تقدمت به السِّنّ- بطش الخليفة، فانتقل إلى "الحميمة"
من أرض الشام؛ حيث يقيم عمه "عليّ السَّجَّاد بن عبد الله بن عباس"، وهناك
حضرته منيته، فأوصى إلى "محمد بن على بن عبد الله بن عباس" بما كان من أمر
الناس معه، ودفع إليه الكتب التى كتبوها إليه، وقال له: أنت صاحب هذا
الأمر، وهو فى ولدك. ثم مات، وكان ذلك فى خلافة سليمان بن عبد الملك سنة
99هـ/ 718م.
وأخذ محمد العباسى فى تنفيذ ما أوصاه به أبوهاشم، فاتصل
بالناس، واختار من بينهم دعاة يخرجون وينتشرون فى ربوع الدولة الأموية،
يشهرون بها وينتقدون عيوبها، ويدعون إلى ضرورة أن يتولى أمر الخلافة رجل من
آل البيت قادر على أن يملأ الأرض عدلا، ووجدت تلك الدعوة صدى عند الناس
ورواجًا.
ويموت محمد بن على بن عبد الله بن عباس سنة 124هـ/742م، بعدما أوصى ابنه إبراهيم الملقب بالإمام بمواصلة المسيرة.
وتأخذ
الدعوة العباسية عند إبراهيم الإمام صورة أخرى غير التى كانت عليها قبل
ذلك، فهى لم تكن منظمة، أما الآن فقد صار لها نظام، وقادة معلومون، من
أمثال أبى سلمة الخلال على الكوفة، وأبى مسلم الخراسانى على خراسان.
وما
تكاد سنة 129هـ/ 747م، تقبل حتى يصدر أمر الإمام العباسى "إبراهيم بن
محمد" أن يكون "أبو مسلم الخراسانى" رئيسًا للدعاة جميعًا فى خراسان وما
حولها، وكلَّفه أن يجهر بالدعوة للعباسيين علنًا، وأن يعمل على جعل خراسان
قاعدة للانطلاق بقواته ضد البيت الأموى.
انتقال الخلافة إلى العباسيين:
بعد هذا العرض يصبح فى مقدورنا أن نعرف كيف تحولت الخلافة من الأمويين إلى العباسيين.
لقد
صدر الأمر إلى أبى مسلم بالجهر بالدعوة للعباسيين فى عهد آخر خلفاء بنى
أمية "مروان بن محمد"، ولم يلبث أبو مسلم أن دخل "مرو " عاصمة خراسان، وكاد
أن يستولى عليها إلا أنه لم يتمكن من ذلك هذه المرة، وهنا أسرع الوالى على
خراسان من قبل بنى أمية، وهو "نصر بن سيار" يستغيث بمروان بن محمد ويطلب
منه مددًا، وينبه رجال الدولة إلى الخطر المحدق فيقول:
أَرى خَلَلَ الرَّمادِ وَميِضَ نــــارٍ ويُوشكُ أن يَكُونَ لَهَا ضِـرَامُ
فإن النارَ بالعودين تُذْكــــــى وإن الحربَ مبدؤها كـــــلامُ
فقلت من التعجب ليتَ شِعرى أأيقاظ أمية أم نيـــــــــام؟
ولم
يهتم بنو أمية بهذا الأمر بسبب انشغالهم بصراعات أنصارهم القدماء بالشام،
وانشقاق زعماء الأمويين على أنفسهم، ولم يمدُّوا واليهم على خراسان بشىء،
فأدرك أبو مسلم الخراسانى أن الوالى الأموى لن يصبر طويلا، وأن "مرو" ستفتح
يومًا ما قريبًا، فأخذ يجمع العرب من حوله، ثم انقضَّ بهم على "مرو" ففتحت
له، وهرب واليها "نصر بن سيار" وكان ذلك سنة 130هـ/ 748م.
وواصل أبو
مسلم فتوحاته، فدانت له "بلخ" و"سمرقند" و"طخارستان" و"الطبسين" وغيرها،
وتمكن من بسط سيطرته ونفوذه على خراسان جميعًا، وراح يتطلع إلى غيرها، وكان
كلما فتح مكانًا أخذ البيعة من أهله على كتاب الله-عز وجل-وسنة نبيه (
"وللرضا من آل محمد"، أى يبايعون إمامّا مرضيًا عنه من آل البيت من غير أن
يعِّيَنهُ لهم.
والواقع أن بنى أمية كانوا نيامًا فى آخر عهدهم، لا
يعلمون من أمر القيادة الرئيسية لهذه الدعوة العباسية شيئًا، ولما وقع فى
يد الخليفة (مروان بن محمد) كتاب من "الإمام إبراهيم العباسى" يحمل
تعليماته إلى الدعاة، ويكشف عن خطتهم وتنظيمهم، كان منشغلا بتوطيد سلطانه
المتزعزع وقمع الثائرين ضده، واكتفى الخليفة "مروان بن محمد" بأن أرسل إلى
القائم بالأمر فى دمشق للقبض على الإمام "إبراهيم بن محمد" "بالحميمة"
وإيداعه فى السجن، وتم القبض عليه وأودع السجن، فظل به حبيسًا إلى أن مات
فى خلافة مروان بن محمد سنة 132هـ/750م. ولما علم "إبراهيم" بالمصير الذى
ينتظره، وعلم أن أنصاره ومؤيديه قد واصلوا انتصاراتهم، وأن الكوفة قد دانت
لهم وصارت فى قبضتهم أوصى لأخيه "أبى العباس" بالإمامة طالبًا منه أن يرحل
إلى الكوفة ومعه أهل بيته؛ لينزل على داعى العباسيين بها وهو "أبو سلمة
الخلال" فهناك يكون فى مأمن من رقابة الأمويين وسلطانهم
مبايعة أبى العباس:
وهناك
فى الكوفة -بعد قليل من وصول آل العباس إليها- تمت مبايعة أبى العباس
خليفة للمسلمين، وتوجه "أبو العباس" إلى مسجد الكوفة عقب مبايعته بالخلافة
فى الثانى عشر من ربيع الأول سنة 132هـ/ 750م، وألقى على الملأ خطبة كانت
بمثابة الإعلان الرسمى عن قيام الدولة العباسية، ومما جاء فى تلك الخطبة:
"الحمد
لله الذى اصطفى الإسلام لنفسه، وكرمه وشرفه وعظَّمه، واختاره لنا، زعم
الشامية أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، شاهت وجوههم، بِمَ
ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم،
وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، ودحض الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان
فاسدًا، ورفع بنا الخسيسة، وتمم النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد
العداوة أهل التعاطف والبر والمواساة فى دنياهم، وإخوانًا على سرر متقابلين
فى آخرتهم، فتح الله ذلك -مِنَّةً وبهجة -لمحمد (، فلما قبضه الله إليه،
وقام بالأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، حَوَوْا مواريث الأمم،
فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصًا منها، ثم وثب
بنو حرب وبنو مروان فابتزُّوها وتداولوها، فجاروا فيها واستأثروا بها،
وظلموا أهلها، وقد أملى الله لهم حينًا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم
بأيدينا، وتدارك بنا أمتنا، وَوَلِىَ نصرنا والقيام بأمرنا، لَيمُنَّ بنا
على الذين استضعفوا فى الأرض، فختم بنا كما افتتح بنا، وإنى لأرجو ألا
يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح،
وماتوفيقنا أهل البيت إلا بالله، فاستعدوا أيها الناس، فأنا السَّفَّاح
المبيح والثائر المنيح (يقصد أنه كريم جواد) ".
ومن هذه المقولة التصقت به صفة السفاح، فقيل أبو العباس السفاح، مع أنه ما قصد ذلك المعنى الذى شاع على الألسنة.
لقد
أعلنها صريحة مدوية فى الآفاق بينما كان "مروان بن محمد" آخر خلفاء بنى
أمية يجلس على كرسى الخلافة، فكيف تمت المواجهة بين هؤلاء وأولئك؟ وكيف
تحققت الغلبة للعباسيين؟
اللقاء الحاسم:
يالها من لحظات حاسمة فى
تاريخ الأمم والشعوب، إن شمس الأمويين الغاربة تؤذن بالزوال، بينما شمس
العباسيين فى صعود، وهذه هى الدنيا، فيوم لنا ويوم علينا، والأيام دُوَل.
وكان اللقاء الحاسم بين الأمويين والعباسيين على أحد فروع دجلة بالقرب من الموصل وهو "نهر الزَّاب الأعلى".
فجيش العباسيين يقوده عم الخليفة، وهو "عبد الله بن على"، بينما يقود جيش الأمويين الخليفة نفسه "مروان بن محمد".
كان
ذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة 132هـ/ 750م، ولم
يجد "مروان" أمام جحافل العباسيين إلا أن يفر إلى "دمشق" مهزومًا أمام
مطاردة "عبد الله بن على".
لقد راح يُطارده، فاستولى على "دمشق"،
واستولى على مدن الشام واحدة بعد الأخرى، وكان استسلام دمشق العاصمة معناه
سقوط دولة بنى أمية، وانتهاء عهدها كعاصمة للدولة الإسلامية، لكن مروان قد
فرّ إلى مصر وتوجه إلى صعيدها، وقرب الفيوم، عند قرية "أبوصير" أُلقِىَ
القبضُ عليه، وقُتِلَ بعدما ظل هاربًا ثمانية أشهر، يفر من مكان إلى مكان.
ومضى عهد، وأقبل عهد جديد، وسيظل عام 132هـ/ 750م فاصلا بين عهدين، وتاريخًا لا يُنسى.
عصور الخلافة العباسية
بدأت الدولة الجديدة سنة
132هـ/ 750م، وقد بلغ عدد خلفائها نحو سبعة وثلاثين خليفة، تعاقبوا على
التوالى حكم هذه الدولة التى طال عمرها، واختلفت عصورها، وامتدت حتى سنة
656هـ/ 1100م ؛ حيث سقطت على أيدى التتار، بعد أن عاشت خمسة قرون وربع قرن ؛
اختلفت فيها العصور قوة وضعفًا!
فكيف كانت البداية؟
وكيف كانت النهاية؟
العصر العباسى الأول
( 132 - 232هـ / 750 - 847م )
اشتمل
العصر العباسى الأول على عهود تسعة خلفاء، بدأ حكمهم بأبى العباس السفاح،
وانتهى بتاسع الخلفاء العباسيين وهو الخليفة الواثق الذى توفى سنة 232هـ/
847م.
والعصر العباسى الأول هو العصر الذهبى للدولة العباسية، فقد
استطاع أولئك الخلفاء التسعة واحدًا بعد الآخر تحقيق ثلاثة منجزات كبرى،
هى:
* تأكيد قوة الخلافة العباسية، والقضاء على كل المحاولات التى كان هدفها النيل من تلك الخلافة وسلطانها.
* إقامة حكم إسلامى تحققت فيه المساواة بين جميع الشعوب الإسلامية.
* رعاية الحضارة الإسلامية، فهم الذين أتاحوا لها الازدهار والانتشار.
خلافة أبى العباس السفاح
( 132 - 136هـ / 750 - 754 م)
هو عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم.
ولم تطل مدة خلافته، إنما هى سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة.
انتشار الإسلام:
فقد
سكن الكوفة، ثم تركها وأقام بالحيرة، ثم اختار مدينة "الأنبار" فبنى بها
قصورًا وأحب الإقامة بها، وظل فيها حتى توفى. وكان لابد من تأمين الحدود،
ورفع راية الإسلام ونشره فى ربوع الأرض لتصبح كلمة الله هى العليا، فبدأت
من جديد تلك الحملات لتأديب الروم أعداء الإسلام والمسلمين.
عقد أبو العباس لعبد الله بن على أمر هذه المهمة سنة 136هـ/ 754م، فقاد عبد الله جيشًا من أهل الشام وخراسان.
ولم
يقف الأمر عند هذا الحد، بل سيطر الجيش الإسلامى فى عصره من جديد على بلاد
ما وراء النهر، وهى المنطقة الواقعة فى حوض نهرى جيحون وسيحون مما يعرف
الآن بالجمهوريات الإسلامية فى آسيا الوسطى التى استقلت عن الاتحاد
السوفيتى مؤخرًا.
قمع الثورات:
ولم يخل عهده من ثورات قام بها بعض
قواد الأمويين فى أول عهده بالخلافة وفى آخره، فقضى على ثورة "أبى الورد"
الذى انضم إليه أهل "قنسرين"، و"حمص"، و"دمشق"، وكان ذلك عام تولّيه الحكم.
وفى
آخر عهده، أعلن أهل دمشق تمردهم على خلافة العباسيين سنة 136 هـ، وبايعوا
أحد الأمويين، ولكنهم ما لبثوا أن هربوا أمام الجيش العباسى الذى داهمهم
وطاردهم.
ويموت أبو العباس فى هذا العام بعد أن أوصى لأخيه "أبى جعفر المنصور" بالخلافة من بعده.
خلافة أبى جعفر المنصور
(136 - 158هـ/ 754 - 775م)
يعتبر أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقى لدولة بنى العباس وإن تولَّى الخلافة بعد أخيه أبى العباس (سنة 136هـ/ 754م).
ترى لماذا يُعَدُّ أبو جعفر المنصور المؤسس الأول على الرغم من أنه الخليفة العباسى الثانى؟
إن
"أبا جعفر المنصور" بذل جهودًا عظيمة لتدعيم الأسرة العباسية فى الحكم،
وإعلاء شأن الخلافة، وإضفاء روح المهابة والإجلال على الدولة فى الداخل
والخارج.
لقد بُويع بالخلافة بعد عودته من الحج ووفاة أخيه أبى العباس،
بايعه أهل العراق وخراسان وسائر البلاد سوى الشام التى كان عمه "عبد الله
بن على" أميرًا، فقد رفض مبايعته اعتقادًا منه بأنه أولى بالخلافة، فما كان
من أبى جعفر إلا أن أرسل إليه القائد "أبا مسلم الخراسانى" ومعه جماعة من
أمراء بنى العباس فهزموهم هزيمة منكرة، وخضعت بلاد الشام لأبى جعفر.
نهاية أبى مسلم الخراسانى:
وبدأ
الجو يصفو لأبى جعفر بعد مقتل عمه "عبد الله" إلا من بعض الإزعاج الذى كان
يسببه له أبو مسلم الخراسانى؛ وبسبب مكانته القوية فى نفوس أتباعه،
واستخفافه بالخليفة المنصور، ورفضه المستمر للخضوع له؛ فأبو مسلم يشتد
يومًا بعد يوم، وساعده يقوى، وكلمته تعلو، أما وقد شم منه رائحة خيانة
فليكن هناك ما يوقفه عند حده، وهنا فكر المنصور جديّا فى التخلص منه.
وقد
كان، فأرسل إلى أبى مسلم حتى يخبره أن الخليفة ولاه على مصر والشام، وعليه
أن يوجه إلى مصر من يختاره نيابة عنه، ويكون هو بالشام ؛ ليكون قريبًا من
الخليفة وأمام عينيه وبعيدًا عن خراسان ؛ حيث شيعته وموطن رأسه، إلا أن أبا
مسلم أظهر سوء نيته، وخرج على طاعة إمامه، ونقض البيعة، ولم يستجب لنصيحة
أحد، فأغراه المنصور حتى قدم إليه فى العراق، وقتله فى سنة 137هـ/ 756م،
ولأن مقتل رجل كأبى مسلم الخراسانى قد يثير جدلا كبيرًا، فقد خطب المنصور
مبينًا حقيقة الموقف، قال: "أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة
المعصية، ولا تمشوا فى ظلمة الباطل بعد سعيكم فى ضياء الحق، إن أبا مسلم
أحسن مبتدئًا وأساء معقبًا، فأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح
باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبيث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم
لنا فيه لعذرنا فى قتله، وعنفنا فى إمهالنا، فما زال ينقض بيعته، ويخفر
ذمته حيث أحل لنا عقوبته، وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه لنا فى غيره، ممن
شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه". ومع ذلك فلم تهدأ
الأمور، ولم يصفُ الجو لأبى جعفر المنصور كما كان يتوقع.
ثورة سُنباد:
كان
ممن غضب لمقتل أبى مسلم الخراسانى، رجل مجوسى اسمه "سُنباد"، فثار والتف
حوله الكثيرون من أهل "خراسان"، فهجموا على ديار المسلمين فى "نيسابور"
و"قومس" و"الرى"، فنهبوا الأموال وقتلوا الرجال وسبوا النساء، ثم تبجحوا،
فقالوا: إنهم عامدون لهدم الكعبة، فأرسل إليهم المنصور جيشًا بقيادة جمهور
ابن مرار العجلى، فهزمهم واستردَّ الأموال والسبايا، ولا يكاد أبو جعفر
يتخلص من "سنباد" سنة 137هـ/ 756م، حتى واجه ثائرًا ينادى بخلع المنصور..
تعلمون من هو؟!
إنه "جمهور بن مرار العجلي" قائد جيوش المنصور التى هزمت "سنباد".. فكيف كان هذا؟
لما
هزم "جمهور" سنباد، واسترد الأموال، كانت خزائن أبى مسلم الخراسانى من
بينها، فطمع "جمهور"، فلم يرسل المال إلى الخليفة المنصور، بل ونقض البيعة
ونادى بخلع المنصور، فماذا كان؟
أرسل المنصور القائد الشجاع "محمد بن
الأشعث" على رأس جيش عظيم، فهزم "جمهورًا" وفر هاربًا إلى "أذربيجان"،
وكانت الموقعة فى سنة 137هـ/ 756م.
ثورات الخوارج:
ترى هل صفا الجو
للمنصور بعد هذا ؟ لا.. فلقد كانت هناك ثورات وثورات تهدد الحياة وتحول دون
الاستقرار والأمن. كما كانت هناك ثوارت للخوارج الذين أصبحوا مصدر إزعاج
للدولة العباسية.
لقد خرج آنذاك "مُلَبّد بن حرملة الشيبانى" فى ألف من
أتباعه بالجزيرة من العراق، وانضم إليه الكثيرون، فغلب بلادًا كثيرة، إلى
أن تمكنت جيوش المنصور بقيادة خازم بن خزيمة من هزيمته فى سنة 138هـ/ 757م.
وتحرك
الخوارج مرة ثانية فى خلافة المنصور سنة 148هـ بالموصل تحت قيادة "حسا بن
مجالد الهمدانى"، إلا أن خروجه هو الآخر قد باء بالفشل.
وواجه الخليفة
المنصور العباسى ثورات منحرفة لطوائف من الكافرين، ففى سنة 141هـ/ 759م..
واجه المنصور ثورة أخرى لطائفة من الخوارج يقال لها "الراوندية" ينتسبون
إلى قرية "راوند" القريبة من أصفهان.
إنهم يؤمنون بتناسخ الأرواح،
ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى واحد يسمى "عثمان بن نهيك" وأن جبريل هو
الهيثم بن معاوية -رجل من بينهم-، بل لقد خرجوا عن الإسلام زاعمين أن ربهم
الذى يطعمهم ويسقيهم هو "أبو جعفر المنصور"، فراحوا يطوفون بقصره قائلين:
هذا قصر ربنا. ولم يكن ينفع هؤلاء إلا القتال، فقاتلهم المنصور حتى قضى
عليهم جميعًا بالكوفة.
ثورة محمد "النفس الزكية":
من أخطر الثورات
التى واجهت المنصور خروج محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن على، وكان
من أشراف بنى هاشم علمًا ومكانة، وكان يلقب بـ "النفس الزكية" فاجتمع
العلويون والعباسيون معًا وبايعوه أواخر الدولة الأموية، وكان من المبايعين
"المنصور" نفسه، فلما تولى الخلافة لم يكن له هم إلا طلب محمد هذا خشية
مطالبته بطاعة هؤلاء الذين بايعوه من قبل، وهنا خرج "محمد" النفس الزكية
بالمدينة سنة 145هـ/763م، وبويع له فى كثير من ال**ار. وخرج أخوه
"إبراهيم" بالبصرة، واجتمع معه كثير من الفقهاء، وغلب أتباعه على "فارس"
و"واسط" و"الكوفة"، وشارك فى هذه الثورة كثير من الأتباع من كل الطوائف.
وبعث
المنصور إلى "محمد النفس الزكية" يعرض عليه الأمن والأمان له ولأولاده
وإخوته مع توفير ما يلزم له من المال، ويرد "محمد" بأن على المنصور نفسه أن
يدخل فى طاعته هو؛ ليمنحه الأمان.
وكانت المواجهة العسكرية هى الحل بعد
فشل المكاتبات، واستطاعت جيوش أبى جعفر أن تهزم "النفس الزكية" بالمدينة
وتقتله، وتقضى على أتباع إبراهيم فى قرية قريبة من الكوفة وتقتله.
ثورة كافر خراسان:
ويظل
مسلسل الثورات يتوالى على مر الأيام، ففى سنة 150هـ يخرج أحد الكفرة ببلاد
خراسان ويستولى على أكثرها، وينضم له أكثر من ثلاثمائة ألف، فيقتلون خلقًا
كثيرًا من المسلمين، ويهزمون الجيوش فى تلك البلاد، وينشرون الفساد هنا
وهناك، ويبعث أبوجعفر المنصور بجيش قوامه أربعون ألفا بقيادة "خازم بن
خزيمة"، فيقضى على هؤلاء الخارجين، وينشر الأمن والاستقرار فى ربوع خراسان.
بناء بغداد:
وراح
المنصور يواصل ما بدأ به.. راح يبنى ويعمر بعد أن خَلا الجو، ودانت له
البلاد والعباد، لقد فكر -منذ توليه- فى بناء عاصمة للدولة العباسية يضمن
من خلالها السيطرة على دولته، وإرساء قواعدَ راسخة لها.
فشرع فى بناء
بغداد سنة 145هـ على الضفة الغربية لنهر دجلة عند أقرب نقطة بين دجلة
والفرات، لتصبح ملتقى الطرق القادمة من الشام شمالا، ومن الصين شرقًا، ومن
طوائف مصر، ومن الحجاز جنوبًا، إلى جانب موقعها العسكرى الخطير، فهى بين
نهرى الفرات ودجلة، فلا وصول إليها إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطع الجسر
وخربت القنطرة لم يتمكن معتدٍ من الوصول إليها، ولبغداد مزايا أخرى عديدة،
أغرت المنصور بالإسراع فى بنائها، فراح أبو جعفر يأمر بإحضار الفعلة
والصناع من بلاد العالم؛ ليحققوا نهضة، وليقيموا حضارة، وليصنعوا المستقبل
لدولة الإسلام والمسلمين. وكان مِنْ بين مَنْ استعان بهم المنصور فى ضبط
العمل ببغداد: الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان.
ووضع المنصور بنفسه أول
لبنة وهو يقول: باسم الله، والحمد لله، وإن الأرض لله يورثها من يشاء من
عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله.
وكان الإمام
الأعظم أبو حنيفة النعمان هو القائم على بناء المدينة والمتولى لضرب اللبن.
وأصبحت بغداد عاصمة لها شأنها بين عواصم العالم.
وكانت بغداد تتمتع
بالطرق الواسعة النظيفة التى تمتد إليها المياه من فروع نهر دجلة فى قنوات
مخصوصة تمتد بالشوارع صيفًا وشتاءً، وكانت شوارعها تكنس كل يوم، ويحمل
ترابها خارجها، وعيَّن المنصور على أبوابها جندًا يحفظون الأمن بها، فصانها
وحفظ لها نظامها ونظافتها من الداخل، وقد فرغ من بناء بغداد وسورها
وأسواقها وخندقها بعد 4 سنوات أى سنة 149هـ/ 766م.
وأمام كثرة النازحين
إلى عاصمة الخلافة أجمل مدن العالم آنذاك، كان لابد أن يهتمَّ المنصور
ببناء سوق يضم أصحاب الصناعات والتجار والباعة. وفعلا بنيت "الكرخ" سنة
157هـ/ 774م لتظل عاصمة الخلافة محتفظة بجمالها وسحرها وتألقها.
وكانت
الكرخ سوقًا نموذجية، فلكل تجارة سوق خاصة بها، ولم يبقَ إلا أن يبنى
المنصور مسجدًا جامعًا يجتمعون فيه حتى لايدخلوا بغداد، فبنى للعامة
جامعًا، وهو غير جامع المنصور الذى كان يلى القصر، وفى سنة 151هـ/ 768م
يبنى المنصور مدينة أخرى لابنه المهدى على الضفة الشرقية لنهر دجلة وهى
مدينة "الرصافة" ثم بنى "الرافقة" وكانت هاتان المدينتان صورة من بغداد.
العدل أساس الملك:
وإلى جانب هذه النهضة العمرانية راح المنصور يسهر على تنفيذ طائفة من الإصلاحات الداخلية على مستوى الدولة العباسية كلها.
وإذا
كان العدل أساس الملك، فإن الذين يقومون على العدل ينبغى أن يتم اختيارهم
بعيدًا عن الهوى والمصالح. روى أن "الربيع ابن يونس" وزير "أبى جعفر" قال
له ذات يوم: إن لفلان حقّا علينا؛ فإن رأيت أن تقضى حقه وتوليه ناحية.
فقال المنصور:
يا ربيع، إن لاتصاله بنا حقّا فى أموالنا لا فى أعراض
الناس وأموالهم. ثم بين للربيع أن لا يولى إلا الأكفاء، ولا يؤثر عليهم
أصحاب النسب والقرابة. وكان يقول: ما أحوجنى أن يكون على بابى أربعة نفر،
لا يكون على بابى أعف منهم، هم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم:
أما أحدهم: فقاض لا تأخذه فى الله لومة لائم.
والآخر: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوى.
والثالث: صاحب خراج، يستقضى ولا يظلم الرعية، فإنى عن ظلمها غنى.
ثم
عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول فى كل مرة: آه. آه. قيل: ما هو يا
أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصّحَّة (رجل يخبرنى
بما يفعل هؤلاء لا يزيد ولا ينقص).
هكذا كان المنصور حريصًا على إقامة
العدل، ووضع الرجل المناسب فى المكان المناسب، وإلى جانب هذا، فقد كان
يراقب عماله وولاته على الأقاليم، ويتتبع أخبارهم أولا بأول، ويتلقَّى
يوميّا الكتب التى تتضمن الأحداث والوقائع والأسعار ويبدى رأيه فيها، ويبعث
فى استقدام من ظُلم ويعمل على إنصافه متأسيًا فى ذلك بما كان يفعل الخليفة
الثانى عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-!
العناية بالمساجد:
وأعطى
المنصور كل العناية للمساجد، خاصة المسجد الحرام، فعمل على توسعته سنة
140هـ، وسار إلى بيت المقدس بعد أن أثر فيه ذلك الزلزال الذى حدث بالشام،
فأمر بإعادة بنائه مرة أخرى، وبنى المنصور مسجدًا بمنى وجعله واسعًا، يسع
الذين يقفون فى منى من حجاج بيت الله، وشهدت مدن الدولة الكبرى نهضة
إنشائية وعمرانية، روعى فيها بناء العديد من المساجد فى البصرة والكوفة
وبغداد وبلاد الشام وغيرها من أقاليم الدولة.
العناية بالاقتصاد:
يذكر
التاريخ للمنصور- إلى جانب هذه النهضة الإصلاحية العمرانية- اهتمامه
بالزراعة والصناعة وتشجيعه أصحاب المهن والصناعات، وتأمينه خطوط التجارة
والملاحة فى الخليج العربى حتى الصين من خطر القراصنة الهنود الذين كانوا
يقطعون طرق التجارة، ويقتلون التجار، ويستولون على الأموال، وراح قُواده
يؤدبون هؤلاء اللصوص. وكثيرًا ما يعود قواد البحر بالغنائم والأسرى حتى
انقطعت القرصنة بعد سنة 153هـ/ 770م، ولقد تم فى عهده إعادة فتح "طبرستان"
سنة 141هـ/ 759م، فيما وراء النهر.
العناية بالحدود:
أعطى المنصور
اهتمامًا بالغًا بجهة الشمال؛ فراح يأمر بإقامة التحصينات والرباطات على
حدود بلاد الروم الأعداء التقليديين للدولة الإسلامية.
وكانت الغزوات
المتتابعة سببًا فى أن ملك الروم راح يطلب الصلح، ويقدم الجزية صاغرًا سنة
155هـ. ولا ننسى للمنصور حملته التأديبية على قبرص لقيام أهلها بمساعدة
الروم، ونقضهم العهد الذى أخذوه على أنفسهم يوم أن فتح المسلمون قبرص.
هذا هو "المنصور"، وهذه هى إصلاحاته فى الداخل والخارج رحمه الله رحمة واسعة، لقد كان يعرف لنفسه حقها، وللناس حقهم، ولربه حقه.
وصية المنصور:
لقد
ذهب ليحج سنة 158هـ/ 775م، فمرض فى الطريق، وكان ابنه محمد "المهدى" قد
خرج ليشيعه فى حجه، فأوصاه بإعطاء الجند والناس حقهم وأرزاقهم ومرتباتهم،
وأن يحسن إلى الناس، ويحفظ الثغور، ويسدد دينًا كان عليه مقداره ثلاثمائة
ألف درهم، كما أوصاه برعاية إخوته الصغار، وقبل أن يدخل مكة لقى ربه ليقول
له: إننى تركت خزانة بيت مال المسلمين عامرة، فيها ما يكفى عطاء الجند
ونفقات الناس لمدة عشر سنوات.
رحمه الله، كان يلبس الخشن، ويرقع القميص
ورعًا وزهدًا وتقوى، ولم يُرَ فى بيته أبدًا لهو ولعب أو ما يشبه اللهو
واللعب، ويذهب المنصور إلى رحمة الله.
وتعالوا بنا نقرأ وصية أبى جعفر المنصور لولده وولى عهده المهدى، قال المنصور لولده المهدى:
"ولدت فى ذى الحجة، ووليت فى ذى الحجة، وقد هجس فى نفسى أنى أموت فى ذى
الحجة من هذه السنة، وإنما حدانى على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك
من أمور المسلمين بعدى، يجعل لك فى كربك وحزنك فرجًا ومخرجًا، ويرزقك
السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
يا بنى: احفظ محمدًا ( فى أمته،
يحفظك الله، ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام، فإنه حوبٌ (إثم) عند
الله عظيم، وعار فى الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود، فإن فيها خلاصك فى
الآجل، وصلاحك فى العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله تعالى لو علم
شيئًا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمرٍ به فى كتابه.
واعلم أن من
شدة غضب الله لسلطانه، أنه أمر فى كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى
فى الأرض فسادًا، مع ما ادّخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: (إِنَّمَا
جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ ) [المائدة: 33].
فالسلطان يا بنى حبل الله المتين، وعروته
الوثقى، ودينه القيم، فاحفظه وحصنه، وذُبَّ عنه، وأوقع بالملحدين فيه،
وأقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به
فى محكم القرآن، واحكم بالعدل ولا تشطط؛ فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو،
وأنجع فى الدواء، وعفّ عن الفىء، فليس بك إليه حاجة مع ما خلفه الله لك،
وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة، وإياك والأثرة والتبذير لأموال
الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمّن السبل، وسكن العامة، وأدخل
المرافق عليهم، وادفع المطاردة عنهم، وأعد الأموال واخزنها، وإياك
والتبذير، فإن النوائب غير مأمونة، وهى من شيم الزمان، وأعد الكراع والرجال
والجند ما استطعت، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد، فتتدارك عليك الأمور
وتضيع، جد فى إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا فأولا، واجتهد وشمر
فيها، وأعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما
يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن
بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتَّابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من تثبت على
بابك، وسهِّل إذنك للناس، وانظر فى أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينًا غير
نائمة، ونفسًا غير لاهية، ولا تنم، وإياك، فإن أباك لم ينم منذ ولى
الخلافة، ولا دخل عينه النوم إلا وقلبه مستيقظ.
يا بنى: لا يصلح
السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح الرعية إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل
العدل، هذه وصيتى إليك، والله خليفتى عليك".