القضاء والهيئات القضائية عند الفراعنة
إن المعلومات التي لدينا عن القضاة المصريين(Laokritai) طفيف ، ولا تسمح لنا بأن نتبين بجلاء منشأ هذا النظام ولا كيفية تكوين محاكم هؤلاء القضاة ولا مدى اختصاصاتها .
غير أنه لما كان البطالمة قد احتفظوا والقانون المصري لرعاياهم المصريين ، ولما كانت هذه المحاكم المصرية ولتطبيق أحكام القانون المصري أي الفرعوني ، فلابد من أنها تمت بصلة إلى المحاكم القرعونية ، ومع ذلك لا نستطيع أن نقرر مدى هذه الصلة ولا مدى التعديلات التي صادفتها المحاكم المصرية في عهد البطالمة.
إن «محكمة الصدق» الفرعونية، التي يتحدث عنهاديودوروس كانت محكمة عليا يرأسها وزير فرعون، وتتألف من ثلاثين مندوبًا عن الهيئات الكهنوتية الكبرى في طيبة ومنف وهليوبوليس.وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة كانت توجد محكمتان من هذا النوع، تنعقد أحداهما في طيبة والأخرى في هليوبوليس. ويبدو أن المحكمة العليا كانت تعيد النظر في القضايا المستأنفة إليها بعد الفصل فيها أمام المحاكم الابتدائية، غير أنها كانت تستطيع أيضًا النظر مباشرة في القضايا التي تهم فئة ممتازة من الناس. ويذكر ديودوروس أن الإجراءات المتبعة في المحاكم المصية كات تتسم بخاصة حكيمة، وهي الاشتراط بعدم الفصل في الدعاوي إلا على أساس الوثائق المكتوبة، مما حدا بديودوروس إلى القول بأن المحكمة المصرية العليا كانت لا تسمح بالمرافعات الشفوية، لكنه لم يذكر أن القضاة المصريين في عهد البطالمة اقتفوا أثر المحكمة الفرعونية العليا في عدم السماح بالمرافعات الشفوية. وإزاء انتشار الإغريق في مصر وغرامهم بالخطابة والجدل، لا نستبعد أن المحاكم المصرية في عهد البطالمة أيضًا كانت تحتم إقامة الحجة على أساس الوثائق المكتوبة، إلا أنها كانت تسمح بالمرافعات الشفوية، إذ لابد من أن تكون عدوى الخطابة قد انتقلت من الإغريق إلى المصريين. وعلى كل حال لا نستطيع اعتبار المحاكم المصرية في عهد البطالمة سليلة المحاكم الفرعونية العليا، فكل القرائن تشير إلى أن تلك المحاكم المصرية البطلمية كانت أقل منها شأنًا.
ويستخلص من قضية ميس (Mes) أنه كانت توجد في عهد رمسيس الثاني ثلاث هيئات قضائية متفاوتة في المرتبة.
كانت أقلها مرتبة هي هيئة القضاة المحليين، ثم تأتي فوقها هيئة قضاة أو أعيان منف وكان يرأسها النومارك، ثم تعلوها جميعًا هيئة المحكمة العليا التي كان يرأسها وزير فرعون وتنعقد في منف أو هليبوبوليس، لكن اختصاصها كان يشمل المديرية كلها أو منطقة أكبر من ذلك. ومن المحتمل أن هذه المحكمة العليا هي محكمة الصدق التي يتحدث عنها ديودوروس أو محكمة شبيهة لها، لكن لا شك في أنه لم تكن هذه المحكمة الرفيعة هي التي احتفظ بها البطالمة، بل الأرجح أنهم لم يستبقوا سوى المحاكم المحلية في المدن أو عواصم المديريات. غير أنه من المحتمل أنه كان بين هذه المحاكم المتواضعة وبين المحكمة الفرعونية العليا وجه للشبه على الأقل في بعض المناطق، وهو أن قضاة هذه وتلك كانوا من الكهنة، لأن الوثائق الديموتيقية ترينا أن محكمة القضاة المصريين التي كانت تنعقد في طيبة كانت تتألف من كهنة آمون. أكان ذلك مقصورًا على طيبة وغيرها من مراكز العبادة الكبرى، لأن البطالمة اضطروا إلى مدارة الجماعات الكهنوتية القوية في تلك المدن باختيار القضاة المصريين هناك من الكهنة؟ أم الأصح أن يكون البطالمة قد اكتفوا بإلغاء المحاكم الفرعونية العليا، لكنهم سمحوا باستمرار تكوين محاكم القضاة المصريين التي تبقت من الكهنة، لأن ذلك كان تقليدًا قديمًا لم يكن في وسعهم إغفاله، ولاسيما أن الكهنة كانوا أكثر المصريين علمًا وحكمة ودراية بالتقاليد، وتبعًا لذلك كانوا أقدر من غيرهم على الفصل في مشاكل الناس؟ ويؤيد هذا الرأي ما نتبينه من أنه في قضيتين نظرتا أمام محكمة القضاة المصريين في مدينتي أسيوط وبطوليميس، اللتين لم تكونا من مراكز العبادة الكبرى، وكان القضاة أيضاً من الكهنة. وإذا كانت محاكم القضاة المصريين تتألف من رجال الدين، فإنه يجب ألا نستخلص من ذلك أنه كانت لهذه المحاكم صفة دينية.
وتشير الوثائق إلى أنه في خلال القرن الثالث قبل الميلاد كان القائد يأمر بإحالة القضايا إلى هذه المحاكم إذا فشل ابيستانس (الحاكم الإداري) المركز أو القرية في التوفيق بين المتخاصمين، وإلى أنه في خلال القرن الثاني قبل الميلاد أصبحت كل محكمة من هذه المحاكم تتألف من ثلاثة كهنة وكذلك من مدع عام (eisagogeus) يتضح جليًا من لقبه أن وظيفته قد اقتبست من النظام الإغريقي. وكان المدعي العام يقوم بتلخيص القضايا وتحضيرها وتلاوة الوثائق أمام المحكمة عند انعقادها وتنفيذ ما تصدره من أحكام.
ويرى تاوبنشلاج أنه في القرن الثالث كان قائد المديرية برأس محكمة القضاة المصريين في ميديريته. وإذا كان يتعذر علينا أن نتبين من الوثائق ما يؤكد ذلك، فإنه مع ذلك غير مستبعد نظرًا إلى أنه في عصر الفراعنة كانت محكمة المدينة تحت رياسة النومارك وهو الذي آلت أغلب وأهم اختصاصاته إلى القائد بعد الفتح المقدوني. بيد أنه من ناحية أخرى لو صح أن القائد الإغريقي كان في القرن الثالث برأس محكمة القضاة المصريين في مديريته، لكان ادعى أن يفعل ذلك في القرن الثاني، لأنه في خلال هذا القرن ازدادت سلطته واتسعت اختصاصاته إلى مدى بعيد. غير أنه لا تاوبنشلاج يقول بذلك ولا يوجد في الوثائق ما يدل عليه، مما يضعف الرأي القائل بأن القائد كان يرأس محكمة القضاة المصريين في القرن الثالث.
ويعتقد كثيرون من المؤرخون أن محاكم القضاة المصريين كانت لا تفصل إلا في القضايا المدنية، على عكس المحاكم الفرعونية التي كانت تنظر في قضايا المصريين المدنية والجنائية. ويرى فريق ثالث أن الأدلة غير كافية للإدلاء برأي حاسم في هذا الموضوع. ويجب أن نستعرض أولاً الأدلة التي لدينا قبل أن ندلي برأي في هذا الموضوع. وتتلخص هذه الأدلة في وثيقتين من عام 221 ق.م.، وإحداهما عبارة عن شكوى قدمها شخص يدعى باسيس بن هاريوس، لأن شخصًا آخر اسمه حورس بن حورس ادعى على الطرف الأول بأنه أعطى تسنامونيس(Tesnamounis) ابنة الطرف الثاني إيصالاً على نفسه بأنه تسلم مبلغًا قدره 420 دراخمة، ولما كان الطرف الأول لم يعط مثل على ما ارتكبه. ونرى القائد الذي أرسلت إليه الشكوى بأمر الابيستانس بمحاولة التوفيق بين الطرفين إلى محكمة القضاة المصريين.
أما الوثيقة الأخرى فهي شكوى من سيدة تدعى ثامونيس ضد سيدة أخرى تدعى ثوتورتايس(Thotoratais)، لأنه بينما كانت السيدة الأولى تستحم في حمام السيدات حضرت السيدة الثانية وطلبت إليها الخروج من الحمام، ولما لم تستجب لرغبتها انهالت عليها ضربًا وقطعت العقد الذي كانت تحلى به جيدها، فقدمت شكوى إلى بتوسيريس عمدة القرية لكنه انحاز إلى جانب المعتدية وسجن المعتدي عليها أربعة أيام ونزع عنها معطفها وأعطاه للمعتدية وبعد ذلك أطلق سراحها. ولذلك تقدمت المعتدى عليها بهذه الشكوى لاسترداد معطفها أو قيمته المبينة في الشكوى، ولمعاقبة المعتدية على ما اقترفته، فأمر القائد الابيستاتس بأن يحاول مصالحة الطرفين وإلا فإن الأمر يجب عرضه على محكمة القضاة المصريين.
إن الشكوى الأولى خاصة بتهمة تزوير، والثانية بتهمة ضرب وسرقة وقد اتبع فيهما الأول الأمر الإجراء الذي سنجده في معظم القضايا، وهو محاولة التوفيق بين الخصوم ثم الالتجاء إلى المحكمة المختصة بنظر القضية إذا تعذر فض الخلاف قبل ذلك. وجلى أن موضوع التهمة في هاتين القضيتين جنائي وتحويل الأمر إلى محكمة القضاة المصريين يعني حتمًا أن اختصاصها لم يكن مقصورًا على القضايا المدنية فقط. وتأييدًا للرأي القائل بأنه لم يكن لهذه المحكمة اختصاص جنائي، يرى البعض أن القضية الثانية كانت قسمين أحدهما جنائي وكان من اختصاص القائد الفصل فيه، والآخر مدني ومن أجل ذلك أحيلت القضية إلى المحكمة المصرية لكننا لا نجد في الوثيقة سواء في الشكوى نفسها أم في توقيع القائد ما يفيد هذا التقسيم، بل إن تحويل الموضوع مباشرة إلى المحكمة المصرية إذ عجز الابيستاتس عن فض الخلاف بني الخصمين ليثبت قطعًا اختصاص المحكمة المصرية الجنائي، إذ لابد من إثبات الجناية أو الجنحة قبل المطالبة بالتعويض المدني. والقضية الأولى قاطعة مانعة في الموضوع. لأن المدعي فيها لم يطلب أي تعويض وإنما طالب بمعاقبة المتهم على تزويره، فإذا لم يكن للمحكمة المصرية اختصاص جنائي فلماذا حولت القضية إليها، اللهم إلا إذا كانت المعاقبة على التزوير من اختصاص جنائي، يرى البعض أن القضية الثانية كانت قسمين أحدهما جنائي وكان من اختصاص القائد الفصل فيه، والآخر مدني ومن أجل ذلك أحيلت القضية إلى المحكمة المصرية لكننا لا نجد في الوثيقة سواء في الشكوى نفسها أم في توقيع القائد ما يفيد هذا التقسيم، بل إن تحويل الموضوع مباشرة إلى المحكمة المصرية إذا عجز الابيستاتس عن فض الخلاف بين الخصمين ليثبت قطعًا اختصاص المحكمة المصرية الجنائي، إذ لابد من اثبات الجناية أو الجنحة قبل المطالبة بالتعويض المدني. والقضية الأولى قاطعة مانعة في الموضوع، لأن المدعي فيها لم يطلب أي تعويض وإنما طالب بمعاقبة المتهم على تزويره، فإذا لم يكن للمحكمة المصرية اختصاص جنائي فلماذا حولت القضية إليها، اللهم إلا إذا كانت المعاقبة على التزوير من اختصاص القضاء المدني وهو ما لم يقل به أحد. ومن الغريب أن المؤرخ الذي يقسم القضية الثانية قسمين ويسند الفصل في كل قسم منهما إلى هيئة قضائية مختلفة يحدثنا قبل ذلك بأنه لم يوجد في القضاء الإغريقي ولا في القضاء المصري محاكم لبعضها اختصاص مدني بحث ولبعضها الآخر اختصاص جنائي بحت.
وعلى كل حال فإن الوثائق الديموتيقية تحدثنا بأن محاكم القضاة المصريين كانت كغيرها من المحاكم البطلمية الأخرى، من حيث أنها كانت لا تفصل في القضايا فحسب بل كان أيضًا يمكن عقد الصلح أمامها بين طرفي الخصومة.
ويرى البعض أنه كان يمكن الاستئناف من أحكام محاكم القضاة المصريين إلى محكمة عليا في الإسكندرية يرأسها الأرخيديكاستس(archidikastes)، لكنه لا يوجد أي دليل على ذلك، بيد أنه لما كان قانون الإسكندرية يعترف بحق الاستئناف من أحكام المحاكم فإنه لا يبعد أنه كان يمكن الاستئناف لا من أحكام القضاة المصريين فحسب بل أيضاً من أحكام سائر القضاة. وإذا صح ذلك فلا يبعد أن القضايا المستأنفة كانت تعرض على محكمة الملك في الإسكندرية بعد أن يحضرها الأرخيديكاستس للملك.