المبادئ والأصول القضائية (1)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وما زال الحديث موصولًا عن شروط المدعى به، وأنها ثلاثة شروط:
1- أن يكون فيه مصلحة مشروعة.
2- وأن يكون معلومًا، وقد سبق الحديث عن هذين الشرطين.
وأما الشرط الثالث للمدعى به، فهو أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت عقلًا، فلا تُقام الدعوى في شيء لا يقبله العقل أو العرف، كأن يدعي رجل فقير على رجل غني مطالبًا بمبلغ يسير مدعيًا أنه أقرضه إياه، أو يدعي رجل بنوَّة شخص أكبر منه سنًّا؛ إذ لا يُعقلُ أن يكون الابنُ أكبر من الأب، أو مساويًا له في العمر.
مستمعي الأفاضل: ما سبق كان حديثًا عن شروط الشيء المدعى به، وهناك شروط يلزم توفرها في الدعوى نفسها، كي تصح ويمكن سماعها، ومنها:
• ألا تكون الدعوى مناقِضة لأمر سبَقَ صدوره من المدعي، ومثال ذلك: لو ادعى رجل أن هذا البيت وقفٌ عليه، ثم بعد مدة يسيرة ادَّعى أن البيت مِلْك له، وطالَب بتسْليمِه له، فهذه الدعوى لا تُقبل؛ لما فيها مِن تناقض، وحقيقة هذا التناقض أن المدعي كذَّب نفسه فيها.
• ومثال آخر: لو شهد زيد في دعوى أن هذه الدار ملك للمدعي خالد، ثم بعد مدة تقدَّم زيد مدعيًا أن الدار مِلْك له، فهذه الدعوى لا تُقبل؛ لكونها تُناقِض ما سبق صدوره من المدعي؛ إذ إن شهادته بأن الدار ملك لخالد إقرارٌ منه على نفسه بأن الدار ليستْ له، أما لو ادعى أن خالدًا باعه إياها بعد الدعوى السابقة، فهي دعوى صحيحة قابلة للنظر فيها.
• وشرط آخر للدعوى: وهو أن تكونَ الدعوى بتعبيرات جازمة وقاطعة ليس فيها تردد، فلو قال في دعواه: أشك أنَّ لي مبلغًا عند المدعى عليه، وأطلب إلزامه بتسليمي إياه، فهذه دعوى غير مقبولة.
ويستثنى من هذا الشرط دعاوى الاتهام (الدعاوى الجنائية)، فإنها تجوز بالألفاظ المترددة، فلو قال: أتهمه بسرقة سيارتي، وكان هناك قرائن تشهد لقوله، فإنها دعوى مقبولة؛ لأن دعوى الاتهام ترجع في أساسها للشك والظن.
مستمعي الأفاضل:
القضاء في الشريعة الإسلامية يرتكز على أُصُولٍ جامعة، وقواعد كلية، ومبادئ راسخة، تُسهم في تحصيل مصالح العباد، وحِفْظ حقوقهم، وتجلب لهم الأمن، وتنشر العدل في ربوع بلادِهم.
وإن استعراض هذه الأصول والقواعد والمبادئ يجلِّي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عنايةٍ واهتمام، كما يبرز لنا عناية الشريعة بحِفْظ الحقوق، وضبط الأمور، ومنع التعدِّي على الناس وحقوقهم.
كما أن في استعراضها تأصيلًا لنظرة النظام القضائي الإسلامي، وموقفه من طرفي الدعوى، وبيان حقهما.
ولنشرع في المبدأ الأول الذي ينبغي ألا يغيبَ عن بال المتخاصمين، ومَن يتعاطى في الشأن القضائي من باحثين وكتَّاب وإعلاميين.
وهذا المبدأ يقوم على أنَّ النظر القضائي يتَّجه إلى الظواهِر دون البواطِن.
إذ إنَّ القضاء في الإسلام يقَع وفق الإثبات المظهر للواقعة والحق أمام القاضي، فإذا كان الإثبات صحيحًا في الظاهر والباطن، ومطابقًا للواقع، وصادقًا في نفس الأمر، فإنه يؤثر في المدعى به ظاهرًا وباطنًا، فيحكم للمدعي بالشيء ظاهرًا، ويحل له أخذه، واستعماله، واستغلاله، وتملكه والاستفادة منه باطنًا فيما بينه وبين الله تعالى؛ أي: ينفذ الحكم في الدنيا والآخرة.
أما إذا كان الإثباتُ غير مطابق للواقع، وكان ظاهره يخالف باطنه، فإن حكم الحاكم المبني على الإثبات الحاصل أمامه لا يحل حلالًا، ولا يحرم حرامًا، ولا يغيِّر الشيء عما هو عليه في الواقع ونفس الأمر، وإنما ينفذ في الظاهر فقط عند مَن لا يعلم الحقيقة والباطن، وتترك البواطن لله تعالى، وترتبط بالحساب والعقاب الأخروي؛ لعموم حديث أم سلمة - رضي الله عنها - في الصحيحين: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: ((إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له بذلك، فمَن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها))، وفي رواية: ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمَن قضيتُ له بحق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار))
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:
"وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما أنا بشر)) معناه: التنبيه على حالة البشرية، وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئًا، إلا أن يطلعهم الله تعالى على شيء من ذلك، وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم، وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر، والله يتولى السرائر، فيحكم بالبينة وباليمين، ونحو ذلك من أحكام الظاهر، مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك، ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه، فأجرى الله تعالى أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره ليصح الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن، والله أعلم".
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
"لما كان - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - مشرعًا، كان يحكم بما شرع للمكلفين ويعتمده الحكام بعده، والحاصل أنَّ هنا مقامين:
أحدهما: طريق الحكم، وهو الذي كلف المجتهد بالتبصر فيه، وبه يتعلق الخطأ والصواب، وفيه البحث، والآخر: ما يبطنه الخصم، ولا يطلع عليه إلا الله، ومن شاء من رسله، فلم يقع التكليف به".
وقد سارت الأنظمةُ القضائية في المملكة العربية السعودية على هذا المبدأ واعتمدته، ففي المادة الثمانين بعد المائة من نظام الإجراءات الجزائية ما نصه: "تعتمد المحكمة في حكمها على الأدلة المقدمة إليها في أثناء نظر القضية، ولا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه ولا بما يخالف علمه"، ففي هذه المادة إفادة بأن القاضي يحكم استنادًا للأدلة المقدمة إليه، وما تنتجه من إنتاجات سليمة دون نظر إلى بواطن الأمور".
والخلاصة أيها الأكارم:
أن القاضي لا يعلم الغيب، وإنما له الظاهر من حال الخصمين وأقوالهما، ولذا لا لوم على القاضي إذا أصدر حكمه وفق ما أبرزه الخصمان من بينات وأقوال، ومن فرَّط في حفظ حقوقه وتوثيقها، ولم يوثقها ببينات قاطعة، فاللوم عليه لا على المحكمة فيما لو صدر الحكم لصالح خصمه.
كما أن في ذلك تنبيهًا لمن يظن أن صدور الحكم لصالحه كافٍ في الدلالة على أنه محق في الخصومة، وأن الشيء المحكوم به له حقٌ خالص لا شبهة فيه ولا حرمة؛ فحكم الحاكم لا يحلل حرامًا ولا يحرم حلالًا، وإنما يعلم الغيب الله تعالى، فمن حُكم له بحق أخيه فإنما هي قطعة من نار،وهل هناك عاقل يقبل أن يأكل قطعة نار؟!
أهم المراجع:
• نظرية الدعوى؛ لمحمد نعيم ياسين.
• المبادئ القضائية في الشريعة الإسلامية؛ للدكتور حسين آل الشيخ.
المبادئ والأصول القضائية (2)
بسم الله، والحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.أما بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وقد سبق الحديث في الحلقة الماضية عن الأصل الأول من الأصول الجامعة والقواعد الكلية والمبادئ الراسخة التي تجلي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام، كما تبرز لنا عناية الشريعة بحفظ الحقوق، وضبط الأمور، ومنع التعدِّي على الناس وحقوقهم.
والأصل الثاني من هذه الأصول والمبادئ: قيام القضاء على الحجة والبرهان:
فالإثبات في القضاء الشرعي هو المعيار في تمييز الحق من الباطل، وهو الحاجز أمام الأقوال الكاذبة والدعوى الباطلة، وعلى هذا: فكلُّ ادِّعاء يبقى في نظر القضاء الشرعي محتاجًا إلى دليل ولا يؤخذ به إلا بالحجة والبرهان، يقول - جل وعلا -: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111]، ويقول سبحانه: ﴿ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النور: 13]، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه))، وفي لفظ عند البيهقي: ((ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب)).
ووجه الدلالة: أنه لا يقبل الادعاء بدون دليل، وإلا تطاول الناس على الأعراض، وطالبوا بأموال الآخرين، واعتدوا على الأنفس والأرواح والأموال.
وأهمية الإثبات عامة في جميع الحقوق والدعاوى سواء ما كان منها عامًّاأو خاصًّا، ماديًّاأو معنويًّا؛لذا عنيت الشريعة الإسلامية بتنظيم أحكام الإثبات ووسائله الموصلة إليه، وكيفيَّة التعامل معها بما لم يوجد في غيرها من النظم السابقة أو اللاحقة، من حيث تكاملها في ذاتها، وتميزُها عن غيرها.
ومن أهم خصائص الإثبات في القضاء الشرعي ما يلي:
الميزة الأولى: أن طرق الإثبات ليستْ محصورةً في نوع أو عدد معين،بل تشمل كل ما يمكن أن يثبت به الحق ويظهر به ويستبين.
يقول ابنُ القيِّم - رحمه الله -:
"وبالجملة، فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مرادًا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادًا بها الحجة والدليل والبرهان".
ويقول رحمه الله تعالى: "إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه".
الميزة الثانية: أن الشريعة حين قررت عدم حصر طرق الإثبات، فإنها لم تغفل المبدأ العام الذي تدور عليه أحكامها، وهو إقامة العدل بشتى أنواعه وصوره، ولذا لما كان القضاء أعظم أسباب تحقيق العدل، فإنَّ الشريعة الإسلامية قد ضبطت طرق الإثبات، ورسمت مساراتها؛ كي لا يُفتح الباب لقضاة الجور في العبث بحقوق الناس وبناء القضاء على أي دليل ولو كان واهيًا، ولم تعط القاضي الثقة المطلقة، وهو بشر يحتمل منه الميل والأغراض الخاصة والخطأ في الاستنتاج والاستنباط، لذا عنيت الشريعة الإسلامية بوسائل الإثبات وفق قواعد عامة وضوابط محددة لبيان قيمة كل دليل وكيفية تقديمه ليظهر الحق وتنكشف الواقعة، ومن ظواهر ذلك ما يلي:
1- أنه يشترط في البينة استنادها إلى العلم وغلبة الظن،فإن استندتْ إلى شك أو وهم فلا عبرة به؛ قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 86]، والظن الغالب يقوم مقام اليقين؛ لأنَّ الشريعة تقوم أحكامها على الظنِّ الغالب خاصة في الاجتهاد والقضاء وإنصاف المظلومين وتحقيق العدالة لاستحالة الوُصُول إلى القطع واليقين دائمًا.
2- منع الإسلام القاضي أن يقضي بعِلمه، وهو المختار عند كثيرٍ من فقهاء الإسلام، وفي ذلك تفصيل يرد ذكره لاحقًا- بإذن الله تعالى.
3- أن القاضي مكلَّف بتطبيق الأحكام الشرعية والأصول العامَّة على المسائل الجُزئيَّة التفصيلية الخاصة بالبينات في كلِّ دليلٍ يعرض عليه، وهو مُقيَّد بتلك الأحكام، ومع ذلك فعليه أن يؤدي دورًا إيجابيًّا فيما يعرض عليه منَ التأكُّد والاستيثاق من كل دليل؛ وقد ذكر الفقهاء من أمثلة ذلك: أن يسأل القاضي الشهود ويناقشهم فيما يظهر به الحق خاصة عند التهمة والشك، فيسألهم عن مصدر الشهادة وطريق العلم بها وكيفية تحمُّلها وصفة المشهود به والمشهود له وعليه، وله تفريق الشهود.
وله أيضًا أن يستنبط الأمارات والقرائن من جميع الأدلة المقدمة إليه والوقائع المعروضة عليه؛ لتتكون القناعة التامة بالحكم المبني على ما قدم إليه.
4- تحديد عدد الشهود الذين يثبت الحق بشهادتهم، فأحيانًا يثبت الحق بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، كما في الأموال ونحوها، وأحيانًا يثبت شهادة النساء كما في الأمور التي لا يطلع عليها إلا النساء، وأحيانًا لا بد مِن أربعة شهود كما في حدِّ الزِّنا.
وكل ذلك للاحتياط وشدة التثبُّت صونًا للحقوق، وحفظًا للضروريات الخمس، ومنعًا للدعاوى الباطلة والأقوال المزعومة؛ ليصل القضاء إلى الحقِّ والعدل اللذين تهدف إليهما الشريعة.
وقد راعتْ أنظمة المرافعات الشرعيَّة في المملكة العربية السعودية هذه الخصائص والشروط، ومن ذلك ما جاء في المادة السابعة والتسعين من نظام المرافعات: "يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها أثناء المرافعة متعلقة بالدعوى منتجة فيها جائزًا قبولها"، وفي المادة التاسعة عشر بعد المائة: "تسمع شهادة كل شاهد على انفراد بحضور الخصوم، وبدون حضور باقي الشهود الذين لم تسمع شهادتهم على أن تخلُّفهم لا يمنع من سماعها، وعلى الشاهد أن يذكر اسمه الكامل، وسنه، ومهنته، ومحل إقامته، وجهة اتِّصاله بالخصوم بالقرابة أو الاستخدام أو غيرها إن كان له اتصال بهم مع التحقق عن هويته".
وفي المادة الحادية عشرة بعد المائة: "يجب أن يكونَ أداء اليمين في مُواجهة طالبها إلا إذا قرر تنازله عن حضور أدائها، أو تخلف دون عذر مقبول مع علمه بالجلسة"، وفي المادة الحادية والعشرين بعد المائة: "للقاضي مِن تلقاء نفسه أو بناء على طلب أحد الخصوم أن يُوَجِّه للشاهد ما يراه من الأسئلة في كشف الحقيقة، وعلى القاضي في ذلك إجابة طلب الخصم إلا إذا كان السؤال غير منتج"، وفي المادة الخامسة والخمسين بعد المائة: "يجوز للقاضي أن يستنتجَ قرينة أو أكثر من وقائع الدعوى أو مناقشة الخصوم أو الشهود لتكون مستندًا لحكمه أو ليكمل بها دليلًا ناقصًا ثبت لديه ليكون بهما معًا اقتناعه بثبوت الحق لإصدار الحكم".
كما تبرز تلك الخصائص في عددٍ مِن مواد نظام الإجراءات الجزائيَّة:
1- جاء في المادة الثانية والستين بعد المائة: (إذا اعترف المتهم في أي وقت بالتهمة المنسوبة إليه، فعلى المحكمة أن تسمع أقواله تفصيلًا وتناقشه فيها، فإذا اطمأنت إلى أن الاعتراف صحيح، ورأت أنه لا حاجة إلى أدلة أخرى، فعليها أن تكتفي بذلك وتفصل في القضية، وعليها أن تستكمل التحقيق إذا وجدت لذلك داعيًا).
2- جاء في المادة الثالثة والستين بعد المائة: "لكل من طرفي الدعوى مناقشة شهود الطرف الآخر وأدلته".
3- جاء في المادة الثامنة والستين بعد المائة: "إذا كان الشاهد صغيرًا، أو كان فيه ما يمنع من قبول شهادته فلا تعد أقواله شهادة، ولكن للمحكمة إذا وجدت أن في سماعها فائدة أن تسمعها، وإذا كان الشاهد مصابًا بمرض، أو بعاهة جسمية مما يجعل تفاهم القاضي معه غير ممكن فيستعان بمن يستطاع التفاهم معه، ولا يعد ذلك شهادة".
مستمعي الأفاضل، نُواصل الحديث في حلقتنا القادمة - بإذن الله تعالى - عن المبادئ والأصول في التقاضي، سائلين الله تعالى للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
برنامج فقه التقاضي الحلقة الخامسة عشرة المبادئ والأصول القضائية (3)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وقد سبق الحديث في الحلقات الماضية عن اثنين من الأصول الجامعة والقواعد الكلية، التي تجلي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام، كما تبرز لنا عناية الشريعة بحفظ الحقوق، وضبط الأمور، ومنع التعدي على الناس وحقوقهم.
ونواصل الحديث في هذه الحلقة بذكر الأصل الثالث من هذه الأصول والمبادئ:
وهو مبدأ المساواة والعدالة في القضاء الشرعي:
فمن الأصول المقرَّرة في الشريعة الإسلامية أن التشريع لله - سبحانه وتعالى - بما ورد في كتابه الكريم، وبما ورد عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - والناس مهما علتْ مقاماتهم، أو سَمَت منازلهم، فهم أمام شرع الله متساوون، لا امتياز لأحد على أحد بسبب الأصل أو الجنس أو اللون أو الدين.
وهذا مقتضى ما تدل عليه عمومات الشريعة المحكمة من تقرير قاعدة العدل المطلق الشامل؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [النحل: 90]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، وفي السُّنَّة أحاديثُ كثيرةٌ تنصُّ على وُجُوب العدل في جميع الأمور، ومنها ما هو في خصوص القضاء، ومن ذلك ما رواه بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذى في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار))؛ أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما.
وفي رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة يقول: "آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك"،
قال ابن القيم: "وهذا كتاب جليل تلقَّاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تعقله والتفقه فيه".
وإليكم مستمعي الأفاضل صورًا تبرز مظاهر المساواة أمام القضاء الإسلامي:
1- فمن ذلك حادثة المرأة من بني مخزوم التي سرقت حليًّا وقطيفة، فبعث قومها أسامة بن زيد بن حارثة ليشفع فيها، فرده الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلًا: ((يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله؟ وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))؛ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
2- وأنفذ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حد شرب المسكر في قدامة بن مظعون الجمحي، وكان صهر عمر بن الخطاب على أخته، وكان أميرًا على البحرين.
3- وفي حادثة جبلة بن الأيهم الذي داس على ردائه أعرابي وهو يطوف حول الكعبة، فكبر ذلك عليه وهو أمير في قومه، فلطم الأعرابيَّ المسلمُ، فشكا الأعرابي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقضى بلَطْم الأمير على الملأ.
والناظر في القواعِد والمسائل التي قررها فقهاء الإسلام في نظر القاضي للخصومات يجدها منطلقة من قاعدة تحقيق المساواة، وأن على القاضي أن يكون حياديًّا، فلا ينحاز لأحد دون أحد، وأن يعتبر طرفي الخصومة على قدَم المساواة، وأن يتجرَّد عنْ كل مصلحة له أو علاقة مع أحدهما؛ ولذا وجب على القاضي أن يُساوي بين الخصوم في مجلس القضاء في كل شيء، بالجلوس والسلام والنظر والمخاطبة، ويمنع القاضي من النظر في دعوى أقاربه، ممن لا تقبل شهادته لهم، ويحرم على القاضي مسارة أحد الخصمين دون الآخر، أو تلقينه حجته، أو تعليمه كيف يدعي، إلا أن يترك ما يلزمه ذكره في الدعوى؛ ليتضح للقاضي تحرير الدعوى، ويحرم على القاضي أن يقبل الهدية ممن لم يكن يهديه قبل ولايته، أو ممن كانت له حكومة مطلقًا؛ لأن قبولها ممن لم تجرِ عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته.
وإذا تقرر لنا هذا المبدأ كقاعدة من قواعد القضاء في الإسلام، فإن نظام القضاء في المملكة العربية السعودية وهو الذي يعتمد الشريعة الإسلامية مصدرًا وعمدة، نجد أن نظام المرافعات الشرعية فيه يعتبر مبدأ المساواة بين الخصوم مبدأ أساسًا تجب مُراعاته تحقيقًا للعدالة.
فقد نصَّت المادةُ التسعون على ما يلي: "يكون القاضي ممنوعًا من نظر الدعوى وسماعها ولو لم يطلب ذلك أحد الخصوم في الأحوال الآتية:
أ- إذا كان زوجًا لأحد الخصوم، أو كان قريبًا، أو صهرًا إلى الدرجة الرابعة.
ب- إذا كان له أو لزوجته خصومة قائمة مع أحد الخصوم في الدعوى أو مع زوجته.
ج- إذا كان وكيلًا لأحد الخصوم، أو وصيًّا، أو قيمًا عليه، أو مظنونة وراثته له، أو كان زوجًا لوصي أحد الخصوم أو القيم عليه، أو كانت له صلة قرابة أو مصاهرة إلى الدرجة الرابعة بهذا الوصي أو القيم.
د- إذا كان له أو لزوجته أو لأحد أقاربه أو أصهاره على عمود النسب أو لمن يكون هو وكيلًا عنه، أو وصيًّا أو قيمًا عليه - مصلحة في الدعوى القائمة".
كما نصت المادة الثانية والتسعون على ما يلي: "يجوز رد القاضي لأحد الأسباب الآتية:
أ- إذا كان له أو لزوجته دعوى مُماثلة للدعوى التي ينظرها.
ب- إذا كان له أو لزوجته خُصُومة مع أحد الخصوم، أو مع زوجته بعد قيام الدعوى المنظورة أمام القاضي، ما لم تكنْ هذه الدعوى قد أُقيمتْ بقصد رده عن نظر الدعوى المنظورة أمامه.
ج- إذا كان أحد الخصوم خادمًا له، أو كان القاضي قد اعتاد مؤاكلة أحد الخصوم أو ساكنته، أو كان قد تلقَّى منه هدية قبل رفع الدعوى أو بعده.
د- إذا كان بينه وبين أحد الخصوم عَداوة أو مودَّة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بدون تحيز.
وفي المادة الستين بعد المائة: "لا يجوز للمحكمة أثناء المداولة أن تسمع توضيحات من أحد الخصوم إلا بحضور الخصم الآخر".
وقد أخذ بهذا المبدأ أيضًا نظام الإجراءات الجزائية، ومن ذلك ما جاء في المادة السابعة والأربعين بعد المائة: "يكون القاضي ممنوعًا من نظر الدعوى إذا كانت الجريمة قد وقعت عليه في غير أوقات انعقاد الجلسات".
وفي المادة الثمانين بعد المائة ما نصه: "تعتمد المحكمة في حكمها على الأدلة المقدمة إليها في أثناء نظر القضية، ولا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه ولا بما يخالف علمه".
الحديث عن المبادئ والأصول التي تراعيها الشريعة الإسلامية في التقاضي حديث جميل لا يُمل؛ إذ إنه حديث يبرز لنا سمو هذه الشريعة ومكانتها ورعايتها للحقوق، وهي دعوة صادقة للرجوع إلى هذا الينبوع الثري الذي لا ينضب.
وفي حلقتنا القادمة نواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن هذه المبادئ والأسس التي قام عليها النظام القضائي الإسلامي، سائلين الله تعالى للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
برنامج فقه التقاضي الحلقة السادسة عشرة المبادئ والأصول القضائية (4)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصَحبه، ومَن اهتدى بهداه.
أما بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله مُستمعي الأفاضل في برنامجكم "فقه التقاضي"، وقد سبَق الحديث في الحلقات الماضية عن ثلاثة من الأصول الجامعة والقواعد الكليَّة، التي تُجلِّي لنا ما حَظِي به جانب القضاء في الشريعة الإسلاميَّة من عناية واهتمامٍ، كما تُبرز لنا عناية الشريعة بحِفظ الحقوق وضَبْط الأمور ومَنْع التعدي على الناس وحقوقهم.
ونواصل الحديث في هذه الحلقة بذِكر الأصل الرابع من هذه الأصول والمبادئ:
وهو مبدأ وَحْدة المصدر في القضاء الإسلامي:
فالمرجع في نظر جميع القضايا والمخاصمات إلى أحكام الشريعة الإسلامية؛ فهي الأصل والأساس المُعتمَد في جميع أحكام القضاء، وليس ثَمَّة سلطان ذو هيمنة على القضاء والقُضاة، إلاَّ لحكم الشرع المُطهَّر؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [المائدة: 49]، وقال - جلَّ شأنه -: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
والمُعتمد في الحكم والقضاء بين الناس، كتاب الله تعالى، ثم سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ما أجمَع عليه العلماء، وإن لَم يَرِد في شيءٍ منها حكمٌ لنازلة أو واقعة، فإن القاضي يَجتهد في المسألة، وينظر في الأحكام السابقة له، مما هو مماثلٌ للقضية المعروضة عليه، ويَقيسها على أشباهها ونحو ذلك؛ فعن عبدالرحمن بن يزيد، قال: أكْثَروا على عبدالله [بن مسعود] ذات يومٍ، فقال عبدالله: "إِنه قد أتى علينا زمانٌ ولسنا نقضي، ولَسْنا هُنالك، ثم إِنَّ الله - عز وجل - قَدَّرَ علينا أَنْ بَلغنا ما تَرون، فمَن عرَض له منكم قضاءٌ بعد اليوم، فليَقضِ بما في كتاب الله، فإن جاءَه أمرٌ ليس في كتاب الله، فَلْيَقْضِ بما قضى به نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - فإن جاءَ أَمْرٌ ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيُّه، فَلْيَقْضِ بما قضى به الصالحون، فإِن جاءَه أمرٌ ليس في كتاب الله، ولا قضى به نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - ولا قضى به الصالحون، فليَجتهد رأيَه، ولا يَقُلْ: إني أخاف، فإن الحلال بَيِّين، والحرام بيِّين، وبين ذلك أمور مُتشابِهات، فَدَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَريبُك"؛ أخرجه النسائي، وقال: هذا الحديث جيِّد.
قال ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى - في هذا الأثر: "جامع بيان العلم وفضله" (2 / 123): "هذا يوضِّح لك أنَّ الاجتهاد لا يكون إلاَّ على أصول يُضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يَجتهد إلاَّ عالِم بها، ومَن أشكَل عليه شيءٌ، لَزِمه الوقوف، ولَم يَجز له أن يُحيل على الله قولاً في دينه لا نظيرَ له من أصلٍ، ولا هو في معنى أصلٍ، وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمَّة ال**ار - قديمًا وحديثًا - فتدبَّره".
وكَتَب شريح القاضي إِلى عمر يسأله، فكتب إليه: "أن اقْضِ بما في كتاب الله، فإن لَم يكن في كتاب الله، فبسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لَم يكن في كتاب الله تعالى، ولا في سنَّة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فاقْضِ بما قضى به الصالحون، فإن لَم [يكن في كتاب الله تعالى، ولا في سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولَم] يقضِ به الصالحون، فإن شِئْت فتَقَدَّمْ، وإن شِئْتَ فتأخَّر، ولا أَرى التأخُّر إلاَّ خيرًا لك، والسلام"؛ أخرَجه النسائي.
ومن فضْل الله تعالى على بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية، أن جعَلت التحاكم إلى الشريعة الإسلامية وأحكامها، ففي المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية: "المملكة العربية السعودية، دولة إسلامية، ذات سيادة تامَّة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم".
وفي المادة السابعة منه:
"يَستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سُلطته من كتاب الله تعالى، وسنَّة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة".
وفي المادة الثامنة والأربعين منه - أي: النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية - أيضًا:
"تُطبِّق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكامَ الشريعة الإسلامية، وَفقًا لِما دلَّ عليه الكتاب والسُّنة، وما يُصدره وَلِيُّ الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسُّنة".
كما نصَّ على ذلك نظام المرافعات الشرعية في المملكة العربية السعودية في المادة الأولى؛ حيث جاء فيها: "تُطبِّق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكامَ الشريعة الإسلامية، وَفقًا لِما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وما يُصدره وَلِيُّ الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة".
وقد ورَدت هذه المادة بنصها في نظام الإجراءات الجزائية في المادة الأولى منه.
وأمَّا الأصل والمبدأ الخامس من الأصول والمبادئ والقواعد الكلية التي تُجلِّي لنا ما حَظِي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام، فهو:
المبدأ الخامس: مبدأ استقلال القضاء في الإسلام:
إذ يُعد استقلال القضاء ركيزة أساسية لحياده وبُعده عن المؤثرات المُخِلة بمسيرته، وبقدر ما تكون العناية بترسيخ هذا المبدأ وتطبيقه، تتحقَّق غايته المقصودة منه، وهي إقامة العدل والقسط بين الناس في سائر الحكومات والخصومات؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].
وقد شَهِد تاريخ الأمة الإسلامية شواهدَ كثيرة، تَحاكَم فيها أمراء وذَوُو سلطة وجاهٍ مع أناس من عامة الناس، وربما حُكِم على الأمير والوجيه وصاحب السلطة، ويَكفينا من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وايْم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرَقت، لقَطَعت يدها))؛ أخرجه البخاري، ومسلم.
هذا وقد نصَّت الأنظمة في المملكة العربية السعودية على تقرير مبدأ استقلال القضاء، ومن ذلك
ما جاء في المادة السادسة والأربعين من النظام الأساسي للحكم:
"القضاء سُلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية".
وجاء في المادة الأولى من نظام القضاء ما نصُّه:
"القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحدٍ التدخُّل في القضاء"
ونصَّت المادة الحادية والخمسون من هذا النظام أيضًا:
على أنه "لا يجوز الجمعُ بين وظيفة القضاء ومُزاولة التجارة، أو أي وظيفة، أو عمل لا يتَّفق مع استقلال القضاء وكرامته، ويجوز للمجلس الأعلى للقضاء أن يقرِّر مَنْع القاضي من مباشرة أيِّ عملٍ يرى أنَّ القيام به يتعارض مع واجبات الوظيفة وحُسن أدائها".
وهذا يُفيد تقرير مبدأ إبعاد القاضي عن كلِّ ما لا يتَّفق مع استقلال القضاء، ومع إعزازه والحفاظ على حِياده.
وفي المادة الرابعة من نظام المُرافعات:
"لا تجوز مخاصمة القاضي، إلاَّ وَفْق الشروط والقواعد الخاصة بتأديبهم"، وهي إشارة واضحة إلى تقرير مبدأ استقلال القاضي.
الحديث عن المبادئ والأصول التي تُراعيها الشريعة الإسلامية في التقاضي، حديثٌ جميل، لا يُمَلُّ؛ إذ إنه حديث يُبرز لنا سموَّ هذه الشريعة ومكانتها، ورعايتها للحقوق، وهي دعوة صادقة للرجوع إلى هذا الينبوع الثري الذي لا يَنضب.
وفي حلقتنا القادمة نواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن هذه المبادئ والأُسس التي قام عليها النظام القضائي الإسلامي، سائلين الله تعالى للجميع العلمَ النافع، والعمل الصالح.
والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ.
المرجع:
المبادئ القضائية في الشريعة الإسلامية؛ للدكتور حسين آل الشيخ، كتب الحديث وشروحه.
برنامج فقه التقاضي الحلقة السابعة عشرة المبادئ والأصول القضائية (5)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وقد سبق الحديث في الحلقات الماضية عن خمسة من المبادئ الرئيسة والأصول الجامعة والقواعد الكلية، التي تجلي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام، كما تبرز لنا عناية الشريعة بحفظ الحقوق، وضبط الأمور، ومنع التعدِّي على الناس وحقوقهم.
ونواصل الحديث في هذه الحلقة بذكر الأصل السادس من هذه الأصول والمبادئ:
المبدأ السادس: مبدأ تسبيب الأحكام القضائية.
المراد بتسبيب الحكم القضائي: "ذكر القاضي ما بنى عليه حكمه القضائي من الأحكام الكلية وأدلتها الشرعية، وذكر الوقائع القضائية المؤثرة، وصفة ثبوتها بطرق الحكم المعتد بها"، ذكر ذلك فضيلة شيخنا عبدالله بن محمد آل خنين - وفقه الله تعالى.
وبيان الحكم بالدليل والتعليل مبدأ جارٍ في التشريع القضائي في الإسلام، وهي طريقة القرآن الكريم والسنة المطهرة في بيان الأحكام، وبيان عللها المؤثرة، وأوصافها المعتبرة، فكثيرًا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّل للأحكام التي يحكم بها، فقد قضى - صلى الله عليه وسلم - بحضانة ابنة حمزة لخالتها، وقال: ((الخالة بمنزلة الأم))، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "وفيه منَ الفوائد أنَّ الحاكم يُبَيِّن دليل الحكم للخَصْم".
من ذلك ما في الصحيحَيْن مِن نداء مُنادي النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس)).
وفي الصحيحين قوله - صلى الله عليه وسلم - في الثمرة تصيبها الجائحة: ((أرأيت إن منع الله الثمرة، بم تستحل مال أخيك؟)).
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "والمقصود: أنَّ الشارع مع كون قوله حجة بنفسه، يرشد الأمة إلى عِلَل الأحكام ومداركها وحكمها، فورثته من بعده كذلك"، ولهذا فالراجحُ من قولي أهل العلم أنه يجب على القاضي ذكر مستنده في ضبط الحكم، وذكر الواقعة المؤثرة، وكيفية ثبوتها في جميع الأحكام من المعاملات والجنايات وغيرها.
وأمَّا إذا كان الحكمُ الكلي ظاهرًا مُشتهرًا، فلا يلزم ذكر مُستنده.
وفي ذكر سبب الحكم من الفوائد ما يلي:
1- أن فيه بيانًا لحدود أثر الحكم وحجته، فالحكم المبني على البينة يختلف عن الحكم المبني على الإقرار من حيث الآثار.
2- أن التسبيب أطيب لنفس المحكوم عليه، ليعلم أن القاضي إنما قضى عليه بعد الفهم عنه، ويدفع عن القاضي الريبة، وتهمة الميل إلى أحد الخصوم.
3- أن التسبيب يحمل القاضي على الاجتهاد، وبذْل الوسْعِ في تقرير الأحكام للوقائع القضائية.
4- تمكين الخصم المحكوم عليه مِن الطعن في الحكم، وما بني عليه عند الاعتراض على الحكم وعدم القناعة به.
5- تمكين المحكمة المختصة بتدقيق الحكم مِن دراسة أحكام القضاة وتدقيقها، فيسهل عليها أداء مُهمتها في مُراجعة الحكم وتمييزه.
مستمعي الأفاضل، هذا المبدأ أصلٌ مقرَّر في الأنظِمة القضائيَّة في المملكة العربية السعودية.
ومن ذلك ما ورد في المادة الثانية والستين بعد المائة من نظام المرافعات الشرعية:
(بعد قفل باب المرافَعة والانتهاء إلى الحكم في القضية، يجب تدوينه في ضبط المرافعة، مَسْبوقًا بالأسباب التي بُني عليه، ثم يوقع عليه القاضي أو القضاة الذين اشتركوا في نظر القضية).
وفي المادة الثالثة والستين بعد المائة:
(ينطق بالحكم في جلسة علنية بتلاوة منطوقة أو بتلاوة منطوقة مع أسبابه... إلخ).
وذكر المستند مطلوب في الحكم الابتدائي، ومطلوب أيضًا من المحكمة التي تتولَّى تدقيق الحكم، ففي المادة الثامنة والثمانين بعد المائة مِن نظام المرافعات ما نصه:
(على المحكمة التمييز في حال اقتناعها بإجابة القاضي عن ملحوظاتها أن تصدق الحكم، وفي حال عدم إقناعها، وتمسك القاضي برأيه، فلها أن تنقض الحكم كله أو بعضه بحسب المال مع ذكر المستند).
كما أنَّ هذا المبدأ منْصُوص عليه في نظام الإجراءات الجزائيَّة، ففي المادَّة الثانية والثمانين بعد المائة منه ما نصه:
(يتلى الحكم في جلسة علنية، ولو كانت الدعوى نُظرت في جلسات سرية، وذلك بحضور أطراف الدعوى، ويجب أن يكون القضاة الذين اشتركوا في الحكم قد وقَّعوا عليه، ولا بد مِن حضورهم جميعًا وقت تلاوته ما لم يحدثْ لأحدهم مانعٌ مِن الحضور، ويجب أن يكونَ الحكم مُشتملًا على اسم المحكمة التي أصدرته، وتاريخ إصداره، وأسماء القضاة، وأسماء الخصوم، والجريمة موضوع الدعوى، وملخص لما قدمه الخصوم من طلبات، أو دفاع، وما استند عليه من الأدلة والحجج، ومراحل الدعوى، ثم أسباب الحكم ونصه ومستنده الشرعي، وهل صدر بالإجماع، أو بالأغلبية).
مستمعي الأفاضل
الحديث عن المبادئ والأصول التي تراعيها الشريعة الإسلامية في التقاضي حديث جميل لا يُملّ؛ إذ إنه حديث يبرز لنا سمو هذه الشريعة ومكانتها ورعايتها للحقوق، وهي دعوة صادقة للرُّجوع إلى هذا الينبوع الثري الذي لا ينضب.
وفي حلقتنا القادمة نواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن هذه المبادئ والأسس التي أكد عليها النظامُ القضائي الإسلامي، سائلين الله تعالى للجميع العلم النافع، والعمل الصالح.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد.
المرجع:
• المبادئ القضائية في الشريعة الإسلامية؛ للدكتور حسين آل الشيخ.
• التسبيب للشيخ عبدالله آل خنين.
• كتب الحديث وشروحه.