أفتراض براءة المتهم
في الفقه الوضعي والشريعة الإسلامية
د.
أحمد لطفي السيد مرعي
أولاً : مبدأ افتراض البراءة في الفقه الوضعيرغم ما يبدو لمبدأ افتراض البراءة في
الإنسانوإن صار متهماً - من بداهة تتسق والفطرة الطبيعية ، إلا أنه
قد تعرض لنقد شديد من قبل العديد من الفقهاء ، ويأتي على رأس هؤلاء أنصار المدرسة
الوضعية ، ويشاركهم البعض من الفقهاء المعاصرين توجهم الرافض2- : :
.
[1] [2]كما قيل أنه لو فرض وسلمنا بافتراض البراءة
[3]هذا فضلاً عن أن قيمة هذا المبدأ لا تظهر – في رأي أنصار
تلك المدرسةإلا حينما تكون الأدلة ضد المتهم ضعيفة وافتراضية ، أما حين
تكون الجريمة متلبس بها ، أو حينما يدلي المتهم باعتراف تفصيلي ، فإن قيمة هذا
المبدأ تبدأ في التلاشي. فإذا أضيف إلى كل ذلك ما يكشف عنه الواقع العملي من أن
الكثير من المتهمين تتقرر إدانتهم ، لثبتت المبالغة التي يقيمها الفقه لمثل هذا
المبدأ.
. .
[5]كما لا يصح الادعاء بأن هذا المبدأ
لا يجد له قيمة حين تكون الجريمة في حالة تلبس ، أو عندما يدلي المتهم باعتراف
تفصيلي ، ذلك أن مبدأ أصل البراءة لا يقتصر أثره على إلزام هيئة الاتهام بإثبات
وقوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها فقط ، وإنما يفرض عليها ، إلى جانب ذلك ، معاملته
على أساس أنه برئ طوال فترة الاتهام حتى تثبت إدانته ثبوتاً قطعياً لا شك فيهوبدلالة أخرى ، فإن هذا المبدأ لا
يهيمن فقط على مشكلة توزيع عبئ الإثبات ، وإنما يهيمن أيضاً على مشكلة أخرى ، لها
النصيب الأكبر في مقام الإجراءات الجنائية ، ألا وهى مشكلة ضمان الحرية الفردية
لمن تعرض لاتهامحقاُ إن ضبط المتهم في حالة تلبس
يشكك في براءة المتهم ، الأمر الذي يبرر الخروج على بعض الأصول الكلية للإجراءات
الجنائية فيما يتعلق بعمل مأموري الضبط القضائي كي يتمكنوا من الحفاظ على أدلة
الجريمة وهى ساخنة ، غير أن ذلك لا يمكن له أن يدحض أصل البراءة المفترض ، الذي
يظل محتفظاً بقيمته كاملة ، سواء من حيث دوره في صيانة الحرية الشخصية ، أو من حيث
إلقاء عبء الإثبات على عاتق سلطة الاتهام. فلا يعدو التلبس إلا أن يكون قرينة
بسيطة على صحة الأمر المدعى به من قبل تلك الأخيرة ، الذي قد يدحضها وجود سبب من
أسباب الإباحة في حق من زعم نحوه بحالة التلبس ، أو تأكيد الأخير أن سبب ضبطه في
تلك الحالة إنما محاولته إنقاذ الجني عليه الذي استغاث به ، أو مجرد تصادف وجوده
في مكان الحادث.
[7]ويكفينا رداً على قول أنصار المدرسة
الوضعية أن الواقع العملي يكشف عن أن معظم من يتقرر اتهامهم تتأكد إدانتهم ، أن هذا
القول بذاته حجة عليهم ، إذ هم يقرون هكذا أن بعض من يتقرر اتهامهم يقضى ببراءتهم
، الأمر الذي يؤكد ضرورة تمتع كافة المتهمين بأصل البراءة منذ توجيه الاتهام. فما
دام أن العمل قد أثبت أن كثيرين قد ثبتت براءتهم بعض أن تعرضوا للاتهام وللحبس
الاحتياطي ، فإنه من الأحوط ، إن لم يكن من الضرورة ، معاملة جميع المتهمين على
أساس أنهم أبرياء إلى أن يقضى نحوهم بإدانة قاطعة. [9]والقول بغير ذلك يدفع بالمجتمع نحو التضحية بالأبرياء في
سبيل إدانة المذنبين ، الأمر الذي يمثل انتهاك للحرية وامتهان لكرامة الإنسان ،
وفرض طابع تسلطي على مجمل الإجراءات الجنائية بحجة ، هى في مبدأها ومبناها واهية ،
تسمى الدفاع عن المجتمع ضد الإجرام3- : :
Caractère fictif utopiqueفلدى
هؤلاء أنه إذا كان هناك ما يدعم هذا المبدأ في الماضي ، إلا أنه ليس هناك ما يدعمه
في الوقت الحاضر ، فميزان العدالة كان يميل في الماضي إلى جانب سلطة الاتهام على حساب
مصلحة المتهم ، إلى أن تحسن مركز الأخير ونال الكثير من حقوقه ، حتى غدت مدونات
الإجراءات الجنائية تنهض على أساس محاباة المتهم على حساب حقوق المجني عليه
والمضرور من الجريمة ، الأمر الذي أخل في النهاية بالتوازن الواجب بين حقوق المتهم
وما يتوجب للمجني عليه من حقوق. – .
[11] Simplement suspect [12].
[13]بل إننا لا نشطت في الحديث إذا قلنا
أن النص على هذا المبدأ في صلب الوثائق الدستورية يعني توجهه بالخطاب كذلك للسلطة
القائمة على أمر التشريع الجنائي ، بما يضع على عاتقها قيداً يوجب مراعاة قيم هذا
المبدأ ونتائجه حال تنظيم الإجراءات الجنائية التي يمكن اتخاذها إذا تم توجيه
الاتهام للأحد الأفراد. ولعل كل ذلك يؤكد ضرورة الإبقاء على قيم هذا المبدأ في
وقتنا الحاضر ، هذا الوقت الذي تتوجه فيه الأنظار نحو تعزيز واحترام حقوق الإنسانكما أن هذا الرأي يتغافل عن الخصوصية
التي تتمتع بها الدعوى العمومية ، وكونها دعوى تهم المجتمع بأسره ، ومن ثم فإن
تحديد مواقف الخصوم تمليه المصلحة العامة لا مصلحة الجني عليه. والمجتمع كما تهمه
معاقبة المتهم حال ثبوت الجرم في حقه ، تهمه أيضاً براءة من وجه إليه اتهام ظالم.
وهكذا فإن المجني عليه لا يظهر بحسبانه خصماً في الدعوى العمومية ، ولا تبدو
الأخيرة – على خلاف الدعوى المدنية – أنها تستهدف الوصول إلى تسوية عادلة بين
المتهم والمجني عليه ، ولا يمكن والحال كذلك القول بأن المجتمع يرى خيره في أن
يسارع بإدانة شخص قد تظهر براءته فيما بعدفالحرية
ليست منحة من المجتمع ، بل هى حق طبيعي يتقرر لكل فرد ، ومصلحة الفرد في الدفاع عن
حريته تعلو على مصلحة الجماعة في مواجهة الجريمة ، وذلك لما يترتب على الجزاء
الجنائي من مخاطر يتعذر في كثير من الأحيان تجاوزهايضاف إلى ذلك أن مبدأ أصل البراءة لا
يتعارض بحال مع الإجراءات الماسة بالحرية التي يمكن اتخاذها قبل المتهم في مرحلة
التحقيق الابتدائي أو في مرحلة المحاكمة ، فكما سبق القول أن عنصر الدفاع عن حرية
الفرد يتصادم منذ البداية مع مصلحة المجتمع في الدفاع عن نفسه ضد خطر الجريمة ،
وللتنسيق بين المصلحتين يتوجب السماح – بموجب غطاء شرعي من نص دستوري أو قانوني –
بالمساس بالحرية الفردية بما يمكن من الوصول للحقيقة حول جريمة ما ، مع وجوب
افتراض براءة من خضع لتلك الإجراءات ، بحيث لا تتقرر إدانته في النهاية إلا بأدلة
قاطعة تبرر في النهاية ما عساه يكون اتخذ قبله من إجراءات ماسة بشخصه. ولم يكن
يمكن التوصل إلى قدر من التوازن بين مصلحة المتهم ومصلحة المجتمع إلا بتقرير
ضمانات وحقوق للمتهم ، لا بحسبانه متهماً ، ولكن بحسبان أن ما يتخذ قبله من
إجراءات ماسة بالحرية إنما يزيل البراءة المفترضة فيه. ولو قيل أن تلك الضمانات
تعود فقط لكونه متهماً ، فلنا أن نتساءل ، لماذا لم تتضمن التشريعات القديمة مثل
تلك الضمانات حماية لحقوق المتهم الذي كانت تفترض فيه الإدانة وقتئذ ؟ ولا شك أن
المبرر في ذلك يعود إلى أن الإنسانية لم تكن إلى ذاك الوقت لم تكن قد تلمست فكرة
افتراض البراءة بعد ، فالمبدأ آنذاك أن يسمح بالمساس بحرية الفرد ، قبضاً وتفتيشاً
وحبساً احتياطياً دون أن يكون لذلك أي مبرر من ضرورات تحقيقي أو أمن مجتمع. .
[15]4- :
[16]وفي مقام الاتهام تفترض براءة من توافرت في حقه دلائل على
ارتكاب جريمة ، ذلك أنه إن لم تفترض تلك البراءة ، فسوف يكون المتهم مطالباً
بإثبات موقف سلبي يتمثل في عدم ارتكابه للجريمة ، وهو أمر يتعذر في كثير من الأحول
تحقيقه ، ويوصل إلى انعقاد المسئولية في حق شخص على أساس الظن،
بما يعارض قول ربنا عز وجل "وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا
إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا
يَفْعَلُونَ،
وقوله عز من قائل "وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا
الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًاويتفرع عن ذلك أن البراءة شرعاً لا تزول بالشك ولا عقاب عند
الظن[url=http://cabinetmaitremouas.over-blog.com/article-109449319.html#_edn20]،
مصداقاً لقول الرسول الكريم "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم
للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله فإن الإمام يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبةولقد أسس الفقه الإسلامي أصل البراءة
على قاعدة استصحاب الحال ، أي بقاء كل شيء على ما كان حتى يوجد ما يغيره أو يثبت
خلافه[url=http://cabinetmaitremouas.over-blog.com/article-109449319.html#_edn22][i]. [23]وفي ذلك يقول العلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله ".
. [26] والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
* .
لمزيد من التفصيل حول هذا التوجه ، راجع مؤلفنا ، الظاهرة
الإجرامية ، الإشكاليات البحثية – النظريات التفسيريةالعوامل الإجرامية ، 2003-2004 ، ص102
وما بعدها[2][/url][3][/url][4][/i]
.
. .
M. J. Essaid, op. cit., p. 53 et s.
1984.
د. أحمد إدريس أحمد ، المرجع السابق ،
ص253 وما بعدها[7]
.
د. محمود مصطفى ، الإثبات في المواد
الجنائية ، المرجع السابق ، ص56G. Stéfani, Quelques aspects de
l’autonomie du droit pénal, Etudes de droit criminel, Dalloz, 1956, p. 19 et s.
[url=http://cabinetmaitremouas.over-blog.com/article-109449319.html#_ednref9][b]وهنا يردد قضاء النقض قوله "لا
يضير العدالة إفلات مجرم من العقاب بقدر ما يضيرها الافتئات على حريات الناس
والقبض عليهم بدون حق" ، نقض 21 أكتوبر 1958 ، مجموعة أحكام النقض ، س9 ، رقم
206 ، ص839 ، نقض ، 15 فبراير 1984 ، مجموعة أحكام النقض ، س35 ، رقم
، ص153[10]مشار إليه لدى د. أحمد إدريس أحمد ،
المرجع السابق ، ص261[11][/url]
.
د. علاء الصاوي ، حق المتهم في محاكمة
عادلة ، دراسة مقارنة بين القانون المصري والفرنسي ، رسالة دكتوراه ، القاهرة ،
، ص505. قريب من ذات المعنىVu Shutong, La preuve en procédure
pénal comparée, RIDP. 1992, p. 323.
دعلاء الصاوي ، حق المتهم في محاكمة
عادلة ، المرجع السابق ، ص506. في ذات المعنى د. أحمد حامد البدري ، الضمانات
الدستورية للمتهم في مرحلة المحاكمة الجنائية ، دراسة مقارنة بين الشريعة
الإسلامية والقوانين الوضعية ، رسالة دكتوراه ، طنطا ، 2002 ، ص146[14]
.
G. Stéfani, Quelques aspects de l’autonomie du droit pénal, op. cit., p. 17
et s.
.
[b]الشيخ محمد أبو زهرة ، أصول الفقه ،
دار الفكر العربي ، 1957 ، ص291 وما بعدها ، أ. محمد الحسيني حنفي ، أساس حق
العقاب في الفكر الإسلامي والفقه الغربي ، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية ،
يوليو 1971 ، ص404 وما بعدها ، د. زكريا البري ، أصول الفقه الإسلامي ، دار النهضة
العربية ، 1977 ، ص169 وما بعدها[17]
.
.
سورة يونس ، الآية 36[19]
.
دمحمد محي الدين عوض ، درء الحدود
بالشبهات ، مجلة قضايا الحكومة ، س27 ، ع33 ، يوليو-ديسمبر 1978 ، د. مأمون سلامة
، المبادئ العامة للإثبات الجنائي في الفقه الإسلامي ، مقال في دراسات في حقوق
الإنسان في الشريعة الإسلامية ، مجلة القانون والاقتصاد ، عدد خاص ، س50 ، 1980 ،
ص152 وما بعدها[21]
.
الإحكام في أصول الأحكام ، الإمام
الحافظ أبو محمد على بن حزم الأندلسي الظاهري ، ج5 ، ط1 ، 1347هـ - 1927م ، مطبعة
ومكتبة الخانجي ، ص3 وما بعدها ، د. زكريا البري ، المرجع السابق ، ص164 ، الشيخ
محمد أبو زهرة ، المرجع السابق ، ص283[23]
.
الشيخ محمد أبو زهرة ، المرجع السابق
، ص291[25]
.
المحكمة الدستورية العليا ، جلسة 15
يونيو 1996 ، القضية رقم 49 لسنة 17ق دستورية ، مجموعة أحكام المحكمة الدستورية
العليا ، ج7 ، رقم 48 ، ص739. تؤمن على ذلك المحكمة الدستورية العليا في حكم أخر
بقولها أن "أصل البراءة مفترض في كل متهم ، فقد ولد الإنسان حراً ، مطهراً من
الخطيئة ودنس المعصية ، لم تنزلق قدماه إلى شر ، ولم تتصل يده بجور أو بهتان ،
ويفترض وقد كان سوياً حين ولد حياً أنه ظل كذلك متجنباً الآثام على تبيانها ،
نائياً عن الرذائل على اختلافها ، ملتزماً طريقاً مستقيماً لا يتبدل اعوجاجاً ،
وهو افتراض لا يجوز أن يهدم توهماً ، بل يتعين أن ينقض بدليل مستنبط من عيون
الأوراق وبموازين الحق ، وعن بصر وبصيرة ، ولا يكون ذلك إلا إذا أدين بحكم انقطع
الطريق إلى الطعن فيه ، فصار باتاً". المحكمة الدستورية العليا ، جلسة 5
أكتوبر 1996 ، القضية رقم 26 لسنة 12ق دستورية ، الجريدة الرسمية ، 17 أكتوبر 1996
، ع41ق دستورية[/b][/b]
في الفقه الوضعي والشريعة الإسلامية
د.
أحمد لطفي السيد مرعي
أولاً : مبدأ افتراض البراءة في الفقه الوضعيرغم ما يبدو لمبدأ افتراض البراءة في
الإنسانوإن صار متهماً - من بداهة تتسق والفطرة الطبيعية ، إلا أنه
قد تعرض لنقد شديد من قبل العديد من الفقهاء ، ويأتي على رأس هؤلاء أنصار المدرسة
الوضعية ، ويشاركهم البعض من الفقهاء المعاصرين توجهم الرافض2- : :
.
[1] [2]كما قيل أنه لو فرض وسلمنا بافتراض البراءة
[3]هذا فضلاً عن أن قيمة هذا المبدأ لا تظهر – في رأي أنصار
تلك المدرسةإلا حينما تكون الأدلة ضد المتهم ضعيفة وافتراضية ، أما حين
تكون الجريمة متلبس بها ، أو حينما يدلي المتهم باعتراف تفصيلي ، فإن قيمة هذا
المبدأ تبدأ في التلاشي. فإذا أضيف إلى كل ذلك ما يكشف عنه الواقع العملي من أن
الكثير من المتهمين تتقرر إدانتهم ، لثبتت المبالغة التي يقيمها الفقه لمثل هذا
المبدأ.
. .
[5]كما لا يصح الادعاء بأن هذا المبدأ
لا يجد له قيمة حين تكون الجريمة في حالة تلبس ، أو عندما يدلي المتهم باعتراف
تفصيلي ، ذلك أن مبدأ أصل البراءة لا يقتصر أثره على إلزام هيئة الاتهام بإثبات
وقوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها فقط ، وإنما يفرض عليها ، إلى جانب ذلك ، معاملته
على أساس أنه برئ طوال فترة الاتهام حتى تثبت إدانته ثبوتاً قطعياً لا شك فيهوبدلالة أخرى ، فإن هذا المبدأ لا
يهيمن فقط على مشكلة توزيع عبئ الإثبات ، وإنما يهيمن أيضاً على مشكلة أخرى ، لها
النصيب الأكبر في مقام الإجراءات الجنائية ، ألا وهى مشكلة ضمان الحرية الفردية
لمن تعرض لاتهامحقاُ إن ضبط المتهم في حالة تلبس
يشكك في براءة المتهم ، الأمر الذي يبرر الخروج على بعض الأصول الكلية للإجراءات
الجنائية فيما يتعلق بعمل مأموري الضبط القضائي كي يتمكنوا من الحفاظ على أدلة
الجريمة وهى ساخنة ، غير أن ذلك لا يمكن له أن يدحض أصل البراءة المفترض ، الذي
يظل محتفظاً بقيمته كاملة ، سواء من حيث دوره في صيانة الحرية الشخصية ، أو من حيث
إلقاء عبء الإثبات على عاتق سلطة الاتهام. فلا يعدو التلبس إلا أن يكون قرينة
بسيطة على صحة الأمر المدعى به من قبل تلك الأخيرة ، الذي قد يدحضها وجود سبب من
أسباب الإباحة في حق من زعم نحوه بحالة التلبس ، أو تأكيد الأخير أن سبب ضبطه في
تلك الحالة إنما محاولته إنقاذ الجني عليه الذي استغاث به ، أو مجرد تصادف وجوده
في مكان الحادث.
[7]ويكفينا رداً على قول أنصار المدرسة
الوضعية أن الواقع العملي يكشف عن أن معظم من يتقرر اتهامهم تتأكد إدانتهم ، أن هذا
القول بذاته حجة عليهم ، إذ هم يقرون هكذا أن بعض من يتقرر اتهامهم يقضى ببراءتهم
، الأمر الذي يؤكد ضرورة تمتع كافة المتهمين بأصل البراءة منذ توجيه الاتهام. فما
دام أن العمل قد أثبت أن كثيرين قد ثبتت براءتهم بعض أن تعرضوا للاتهام وللحبس
الاحتياطي ، فإنه من الأحوط ، إن لم يكن من الضرورة ، معاملة جميع المتهمين على
أساس أنهم أبرياء إلى أن يقضى نحوهم بإدانة قاطعة. [9]والقول بغير ذلك يدفع بالمجتمع نحو التضحية بالأبرياء في
سبيل إدانة المذنبين ، الأمر الذي يمثل انتهاك للحرية وامتهان لكرامة الإنسان ،
وفرض طابع تسلطي على مجمل الإجراءات الجنائية بحجة ، هى في مبدأها ومبناها واهية ،
تسمى الدفاع عن المجتمع ضد الإجرام3- : :
Caractère fictif utopiqueفلدى
هؤلاء أنه إذا كان هناك ما يدعم هذا المبدأ في الماضي ، إلا أنه ليس هناك ما يدعمه
في الوقت الحاضر ، فميزان العدالة كان يميل في الماضي إلى جانب سلطة الاتهام على حساب
مصلحة المتهم ، إلى أن تحسن مركز الأخير ونال الكثير من حقوقه ، حتى غدت مدونات
الإجراءات الجنائية تنهض على أساس محاباة المتهم على حساب حقوق المجني عليه
والمضرور من الجريمة ، الأمر الذي أخل في النهاية بالتوازن الواجب بين حقوق المتهم
وما يتوجب للمجني عليه من حقوق. – .
[11] Simplement suspect [12].
[13]بل إننا لا نشطت في الحديث إذا قلنا
أن النص على هذا المبدأ في صلب الوثائق الدستورية يعني توجهه بالخطاب كذلك للسلطة
القائمة على أمر التشريع الجنائي ، بما يضع على عاتقها قيداً يوجب مراعاة قيم هذا
المبدأ ونتائجه حال تنظيم الإجراءات الجنائية التي يمكن اتخاذها إذا تم توجيه
الاتهام للأحد الأفراد. ولعل كل ذلك يؤكد ضرورة الإبقاء على قيم هذا المبدأ في
وقتنا الحاضر ، هذا الوقت الذي تتوجه فيه الأنظار نحو تعزيز واحترام حقوق الإنسانكما أن هذا الرأي يتغافل عن الخصوصية
التي تتمتع بها الدعوى العمومية ، وكونها دعوى تهم المجتمع بأسره ، ومن ثم فإن
تحديد مواقف الخصوم تمليه المصلحة العامة لا مصلحة الجني عليه. والمجتمع كما تهمه
معاقبة المتهم حال ثبوت الجرم في حقه ، تهمه أيضاً براءة من وجه إليه اتهام ظالم.
وهكذا فإن المجني عليه لا يظهر بحسبانه خصماً في الدعوى العمومية ، ولا تبدو
الأخيرة – على خلاف الدعوى المدنية – أنها تستهدف الوصول إلى تسوية عادلة بين
المتهم والمجني عليه ، ولا يمكن والحال كذلك القول بأن المجتمع يرى خيره في أن
يسارع بإدانة شخص قد تظهر براءته فيما بعدفالحرية
ليست منحة من المجتمع ، بل هى حق طبيعي يتقرر لكل فرد ، ومصلحة الفرد في الدفاع عن
حريته تعلو على مصلحة الجماعة في مواجهة الجريمة ، وذلك لما يترتب على الجزاء
الجنائي من مخاطر يتعذر في كثير من الأحيان تجاوزهايضاف إلى ذلك أن مبدأ أصل البراءة لا
يتعارض بحال مع الإجراءات الماسة بالحرية التي يمكن اتخاذها قبل المتهم في مرحلة
التحقيق الابتدائي أو في مرحلة المحاكمة ، فكما سبق القول أن عنصر الدفاع عن حرية
الفرد يتصادم منذ البداية مع مصلحة المجتمع في الدفاع عن نفسه ضد خطر الجريمة ،
وللتنسيق بين المصلحتين يتوجب السماح – بموجب غطاء شرعي من نص دستوري أو قانوني –
بالمساس بالحرية الفردية بما يمكن من الوصول للحقيقة حول جريمة ما ، مع وجوب
افتراض براءة من خضع لتلك الإجراءات ، بحيث لا تتقرر إدانته في النهاية إلا بأدلة
قاطعة تبرر في النهاية ما عساه يكون اتخذ قبله من إجراءات ماسة بشخصه. ولم يكن
يمكن التوصل إلى قدر من التوازن بين مصلحة المتهم ومصلحة المجتمع إلا بتقرير
ضمانات وحقوق للمتهم ، لا بحسبانه متهماً ، ولكن بحسبان أن ما يتخذ قبله من
إجراءات ماسة بالحرية إنما يزيل البراءة المفترضة فيه. ولو قيل أن تلك الضمانات
تعود فقط لكونه متهماً ، فلنا أن نتساءل ، لماذا لم تتضمن التشريعات القديمة مثل
تلك الضمانات حماية لحقوق المتهم الذي كانت تفترض فيه الإدانة وقتئذ ؟ ولا شك أن
المبرر في ذلك يعود إلى أن الإنسانية لم تكن إلى ذاك الوقت لم تكن قد تلمست فكرة
افتراض البراءة بعد ، فالمبدأ آنذاك أن يسمح بالمساس بحرية الفرد ، قبضاً وتفتيشاً
وحبساً احتياطياً دون أن يكون لذلك أي مبرر من ضرورات تحقيقي أو أمن مجتمع. .
[15]4- :
[16]وفي مقام الاتهام تفترض براءة من توافرت في حقه دلائل على
ارتكاب جريمة ، ذلك أنه إن لم تفترض تلك البراءة ، فسوف يكون المتهم مطالباً
بإثبات موقف سلبي يتمثل في عدم ارتكابه للجريمة ، وهو أمر يتعذر في كثير من الأحول
تحقيقه ، ويوصل إلى انعقاد المسئولية في حق شخص على أساس الظن،
بما يعارض قول ربنا عز وجل "وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا
إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا
يَفْعَلُونَ،
وقوله عز من قائل "وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا
الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًاويتفرع عن ذلك أن البراءة شرعاً لا تزول بالشك ولا عقاب عند
الظن[url=http://cabinetmaitremouas.over-blog.com/article-109449319.html#_edn20]،
مصداقاً لقول الرسول الكريم "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم
للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله فإن الإمام يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبةولقد أسس الفقه الإسلامي أصل البراءة
على قاعدة استصحاب الحال ، أي بقاء كل شيء على ما كان حتى يوجد ما يغيره أو يثبت
خلافه[url=http://cabinetmaitremouas.over-blog.com/article-109449319.html#_edn22][i]. [23]وفي ذلك يقول العلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله ".
. [26] والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
* .
لمزيد من التفصيل حول هذا التوجه ، راجع مؤلفنا ، الظاهرة
الإجرامية ، الإشكاليات البحثية – النظريات التفسيريةالعوامل الإجرامية ، 2003-2004 ، ص102
وما بعدها[2][/url][3][/url][4][/i]
.
. .
M. J. Essaid, op. cit., p. 53 et s.
1984.
د. أحمد إدريس أحمد ، المرجع السابق ،
ص253 وما بعدها[7]
.
د. محمود مصطفى ، الإثبات في المواد
الجنائية ، المرجع السابق ، ص56G. Stéfani, Quelques aspects de
l’autonomie du droit pénal, Etudes de droit criminel, Dalloz, 1956, p. 19 et s.
[url=http://cabinetmaitremouas.over-blog.com/article-109449319.html#_ednref9][b]وهنا يردد قضاء النقض قوله "لا
يضير العدالة إفلات مجرم من العقاب بقدر ما يضيرها الافتئات على حريات الناس
والقبض عليهم بدون حق" ، نقض 21 أكتوبر 1958 ، مجموعة أحكام النقض ، س9 ، رقم
206 ، ص839 ، نقض ، 15 فبراير 1984 ، مجموعة أحكام النقض ، س35 ، رقم
، ص153[10]مشار إليه لدى د. أحمد إدريس أحمد ،
المرجع السابق ، ص261[11][/url]
.
د. علاء الصاوي ، حق المتهم في محاكمة
عادلة ، دراسة مقارنة بين القانون المصري والفرنسي ، رسالة دكتوراه ، القاهرة ،
، ص505. قريب من ذات المعنىVu Shutong, La preuve en procédure
pénal comparée, RIDP. 1992, p. 323.
دعلاء الصاوي ، حق المتهم في محاكمة
عادلة ، المرجع السابق ، ص506. في ذات المعنى د. أحمد حامد البدري ، الضمانات
الدستورية للمتهم في مرحلة المحاكمة الجنائية ، دراسة مقارنة بين الشريعة
الإسلامية والقوانين الوضعية ، رسالة دكتوراه ، طنطا ، 2002 ، ص146[14]
.
G. Stéfani, Quelques aspects de l’autonomie du droit pénal, op. cit., p. 17
et s.
.
[b]الشيخ محمد أبو زهرة ، أصول الفقه ،
دار الفكر العربي ، 1957 ، ص291 وما بعدها ، أ. محمد الحسيني حنفي ، أساس حق
العقاب في الفكر الإسلامي والفقه الغربي ، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية ،
يوليو 1971 ، ص404 وما بعدها ، د. زكريا البري ، أصول الفقه الإسلامي ، دار النهضة
العربية ، 1977 ، ص169 وما بعدها[17]
.
.
سورة يونس ، الآية 36[19]
.
دمحمد محي الدين عوض ، درء الحدود
بالشبهات ، مجلة قضايا الحكومة ، س27 ، ع33 ، يوليو-ديسمبر 1978 ، د. مأمون سلامة
، المبادئ العامة للإثبات الجنائي في الفقه الإسلامي ، مقال في دراسات في حقوق
الإنسان في الشريعة الإسلامية ، مجلة القانون والاقتصاد ، عدد خاص ، س50 ، 1980 ،
ص152 وما بعدها[21]
.
الإحكام في أصول الأحكام ، الإمام
الحافظ أبو محمد على بن حزم الأندلسي الظاهري ، ج5 ، ط1 ، 1347هـ - 1927م ، مطبعة
ومكتبة الخانجي ، ص3 وما بعدها ، د. زكريا البري ، المرجع السابق ، ص164 ، الشيخ
محمد أبو زهرة ، المرجع السابق ، ص283[23]
.
الشيخ محمد أبو زهرة ، المرجع السابق
، ص291[25]
.
المحكمة الدستورية العليا ، جلسة 15
يونيو 1996 ، القضية رقم 49 لسنة 17ق دستورية ، مجموعة أحكام المحكمة الدستورية
العليا ، ج7 ، رقم 48 ، ص739. تؤمن على ذلك المحكمة الدستورية العليا في حكم أخر
بقولها أن "أصل البراءة مفترض في كل متهم ، فقد ولد الإنسان حراً ، مطهراً من
الخطيئة ودنس المعصية ، لم تنزلق قدماه إلى شر ، ولم تتصل يده بجور أو بهتان ،
ويفترض وقد كان سوياً حين ولد حياً أنه ظل كذلك متجنباً الآثام على تبيانها ،
نائياً عن الرذائل على اختلافها ، ملتزماً طريقاً مستقيماً لا يتبدل اعوجاجاً ،
وهو افتراض لا يجوز أن يهدم توهماً ، بل يتعين أن ينقض بدليل مستنبط من عيون
الأوراق وبموازين الحق ، وعن بصر وبصيرة ، ولا يكون ذلك إلا إذا أدين بحكم انقطع
الطريق إلى الطعن فيه ، فصار باتاً". المحكمة الدستورية العليا ، جلسة 5
أكتوبر 1996 ، القضية رقم 26 لسنة 12ق دستورية ، الجريدة الرسمية ، 17 أكتوبر 1996
، ع41ق دستورية[/b][/b]