غثاء الألسنة
الشيخ إبراهيم الدويش
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .... أما بعد ..أحبتي في الله ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... هذه محاضرة بعنوان " غثاء الألسنة ".
والغثاء بالمد والضم : ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره , وغثاء الألسنة من أراذل الناس وسقطهم , والغث هو الرديء من كل شيء، وغث حديث القوم أي فسد وردئ , وأغث فلان في الحديث أي جاء بكلام غث لا معنى له.
وما أكثر الكلام الفاسد الذي يدور في مجالس المسلمين أياً كانوا , كباراً أم صغاراً , رجالاً أو نساءً , إن غثاء الألسنة اليوم يزكم الأنوف ويصم الأذان ويصيبك بالدوار والغثيان , وأنت تسمع حديث المجالس اليوم لا نقول ذلك في مجالس العامة ودهماء الناس فقط , بل وللأسف وأقولها بكل أسى حتى في مجالس الصالحين ومجالس المعلمين والمتعلمين.
غثاء الألسنة في الكذب والغش والخداع والنفاق.
غثاء الألسنة في الغيبة والنميمة والقيل والقال.
غثاء الألسنة في أعراض الصالحين والمصلحين والدعاة والعلماء في الوقت الذي سلم فيه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والرافضين والمنافقين.
غثاء الألسنة في التدليس والتلبيس وتزييف الحقائق وتقليب الأمور.
غثاء الألسنة في التجريح والهمز واللمز وسوء الظن.
غثاء الألسنة في الدخول في المقاصد والنيات وفقه الباطن.
غثاء الألسنة في كل ما تحمله هذه الكلمة من غثائيةٍ وغث وغثيثٍ وغثيان , وما هي النتيجة ؟
النتيجة هي بث الوهن والفرقة والخصام والتنازع بين المسلمين وقطع الطريق على العاملين , وإخماد العزائم بالقيل والقال , إنك ما إن ترى الرجل حسن المظهر و سيماه الخير وقد تمسك بالسنة في ظاهره إلا وتقع الهيبة في قلبك والاحترام والتقدير في نفسك , وما أن يتكلم فيجرح فلان ويعرّض بعلان و ينتقص عمراً ويصنف زيداً , إلا وتنـزع مهابته من قلبك ويسقط من عينيك وإن كان حقاً ما يقول , وإن كان صادقاً فيه فلا حاجة شرعية دعت لذلك , وإن دعت الحاجة فبالضوابط الشرعية والقواعد الحديثية.
فإن لم تعلمها أخي المسلم فلا أستطيع أن أقول إلا "أمسك عليك لسانك" , إن المصنفات في الجرح والتعديل مئات المجلدات , لكن اقرأ فيها وتمعن فيها , وكيف كان الجرح فيها ؟ فشتان بين الجرحين .
لقد كان خوف الله عز وجل ميزاناً دقيقاً لألسنتهم رحمهم الله تعالى,وكان هدفهم هو تمييز صحيح السنة من سقيمها, ولكن ما هو الهدف اليوم ؟
نعوذ بالله من الهوى ومن الحسد ومن الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق.
أيها الأخ المسلم .. إلى متى ونحن نجهل أو نتجاهل أو نغفل أو نتغافل عن خطورة هذا اللسان ؟ مهما كان صلاحك ومهما كانت عبادتك ومهما كان خيرك ومهما كان علمك ومهما كانت نيتك ومهما كان قصدك.
فرحم الله ابن القيم رحمة واسعة يوم أن قال في "الجواب الكافي " :
(من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والسرقة وشرب الخمر والنظر المحرم وغير ذلك , ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه !! حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً , يزل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق والمغرب والعياذ بالله).
وقال أيضاً في الكتاب نفسه :
( إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها , ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله تعالى وما اتصل به ).
وما أجمل ذلك الكلام !! ولذلك أقول أيها الأخ الحبيب احذر لسانك وانتبه للسانك واحبس لسانك وأمسك عليك لسانك وهو جزء من حديث نبوي أخرجه الترمذي في سننه وأحمد في مسنده وابن المبارك والطبراني وغيره من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال :
( قلت : يا رسول الله ما النجاة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " املك عليك لسانك وليسعك بيتك وابكِ على خطيئتك " وفي لفظ : " أمسك عليك لسانك ) والحديث صحيح بشواهده.
وأنا هنا لا أدعوك للعزلة وإنما أقول أمسك عليك لسانك إلا من خير , كما في الحديث الآخر:
( فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير) والحديث رواه أحمد وابن حبان وغيرهما .
وحفظ اللسان على الناس أشد من حفظ الدراهم والدنانير كما يقول محمد بن واسع رحمه الله تعالى , ولأن كثرة الكلام تذهب بالوقار ومن كثر كلامه كثر سقطه ولأننا نرى الناس قد أطلقوا العنان لألسنتهم فأصبح ذلك اللسان سلاحاً لبث الفرقة والنـزاع والخصام وفي مجالات الحياة كلها وبين النساء والرجال على السواء ولكثرة الجلسات والدوريات والاستراحات , ولأن الكلام فاكهة هذه الجلسات , كان لا بد من وضع ضابط ولا بد من تحذيرٍ وتذكيرٍ للناس في مثل هذه الجلسات ولأنك ستسمع الكثير إن شاء الله من الأسباب التي جعلتني أختار مثل هذا الموضوع من خلال هذه العناصر :
- خطر اللسان.
- أدلة من السنة والكتاب.
- السلف الصالح مع اللسان.
- صور من الواقع.
- النتيجة النهائية.
واسمع قبل ذلك كلاماً جميلاً جداً للإمام النووي رحمه الله في كتاب الأذكار يوم أن قال فصل:
( اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلام تظهر المصلحة فيه ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة ). انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
اسمع للفقه، اسمع لفقههم رحمهم الله تعالى " ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة " يعني كان قول الكلام أو تركه بمصلحةٍ واحدة، فالسنة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه , بل هذا كثير وغالباً في العادة والسلامة لا يعدلها شيء.
خطر اللسان :- أدلة من الكتاب والسنة :
هل قرأت القرآن ومرّ بك قوله عز وجل : ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18)
هل تفكرت في هذه الآية ؟ إنها الضابط الشرعي ( لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (قّ:37).
أسمعت أيها الإنسان ؟ أسمعت أيها المسكين ؟ إنها رقابة شديدة دقيقة رهيبة تطبق عليك إطباقاً شاملاً كاملاً , لا تـُغفل من أمرك دقيقاً ولا جليلاً , ولا تفارقك كثيراً ولا قليلاً , كل نفَس معدود , وكل هاجسة معلومة وكل لفظ مكتوب وكل حركة محسوبة في كل وقت وكل حال وفي أي مكان , عندها قل ما شئت وحدث بما شئت وتكلم بمن شئت ولكن اعلم أن هناك من يراقبك , اعلم أن هناك من يسجل وأنه يعد عليك الألفاظ :
( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:17- 18).
إنها تعنيك أيها الإنسان إنها تعنيك أنت أيها المسلم , ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) هذه الآيات والله إنها لتهز النفس هزاً وترجها رجاً وتثير فيها رعشة الخوف,الخوف من الله عز وجل , قال ابن عباس :
( يكتب كل ما تكلم به من خير وشر حتى أنه ليكتب قولك : أكلتُ , شربتُ , ذهبت, جئت, رأيت .. حتى إذا كان يوم الخميس عُرض قوله وعمله فأقِر منه ما كان من خير وشر وألقي سائره ).
واسمع للآيات من كتاب الله عز وجل تقرع سمعك وتهز قلبك إن كان قلباً مؤمناً يخاف الله عز وجل:
( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار: 12)
( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58).
( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36).
( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور:24).
وأخيرا قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر:14). فربك راصد ومسجل لكلماتك ولا يضيع عند الله شيء.
أما أنت أيها المؤمن , أما أنت يا من يقال عنك ويدور عنك الحديث في المجالس , أما أنت أيها المظلوم فإن لك بهذه الآية تطميناً فلا تخف ولا تجزع فإن ربك بالمرصاد لمن أطلقوا العنان لألسنتهم في أعراض العباد , بالمرصاد للطغيان والفساد والشر , فلا تجزع بعد ذلك أيها الأخ الحبيب.
ولتـزداد بيّنة في خطر هذا اللسان الذي بين لحييك فاسمع لهذه الأحاديث باختصار:
فعن بلال بن حارث المزني رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه , وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة )." والعياذ بالله .. والحديث أخرجه البخاري.
وكان علقمة يقول كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث)، أي هذا الحديث، اسمع لحرصهم رضي الله عنهم وأرضاهم، كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره فأين أنت يا علقمة من الذين يلقون الكلمات على عواهلها فلا يحسبون لها حساباً , كم نلقي أيها الأحبة , كم نلقي أيها المسلم من كلمات نظن أنها ذهبت أدراج الرياح وهي عند ربك في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى فاحسب لهذا الأمر حسابه حتى تعلم أن كل كلمة مسجلة عليك أيها الأخ الحبيب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق) والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وفي رواية مسلم ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
أسألك العفو يا إلهي .. إن شغلنا الشاغل في مجالسنا اليوم أيها الأحبة هو بث الكلمات ونشر الشائعات وكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم , ولا شك أن فساد المجالس بسبب قلة العلم والاطلاع , إذ لو وُجد أو أوجد هذا العلم لاستغلت المجالس أحسن استغلال ولسمعت النكت العلمية والفوائد الشرعية والمسائل الفقهية بدلاً عن القيل والقال والغرائب والعجائب ولكن فاقد الشيء لا يعطيه.
وهذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى اليوم بين كثير من الناس , إسهال فكري وإسهال كلامي أصاب مجالس المسلمين اليوم إنك تجلس الكثير من المجالس وربما لم يمر عليك يوم من الأيام وليلة من الليالي إلا وجلست مجلساً فبماذا خرجت من هذه المجالس؟
ما هي النتيجة ؟
ما هي الثمرة من هذه المجالس التي جلستها ؟
أيها الأخ الحبيب , لا شك أن هذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى في صفوف المسلمين اليوم وقلة البركة حيث أصبح العلم مصدر رزق الكثير من الناس ولذلك تجد في المجلس الواحد عشرات المدرسين والمتعلمين ومع ذلك يذهب المجلس هباءً بدون فائدة , بل ربما ذهب والعياذ بالله بالآثام وجمع السيئات.
وفي حديث معاذ الطويل قال رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟" قال معاذ : بلى يا رسول الله , فأخذ بلسانه ثم قال).
انظر الوصية .. أخذ بلسانه ثم قال :
( "كف عليك هذا" قلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟)
بعض الناس قد يجهل أنه سيؤاخذ بكل كلمة تكلم بها سواءً خير أو شر.
(وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟" قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ثكلتك أمك يا معاذ , وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟" والحديث أخرجه الترمذي في سننه وقال حسن صحيح.
وفي حديث سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه.
وفي آخر حديث سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال في آخره قلت يا رسول الله , ما أخوف ما تخاف عليّ ؟ فأخذ بلسان نفسه وقال :"هذا" ) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده والترمذي في سننه وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
ثم يوجه المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته تلك القاعدة الشرعية والمعيار الدقيق ولمن اختلطت عليه الأوراق وليقطع الشك باليقين وليسلم من الحيرة والتردد فيقول كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
قاعدة شرعية تربوية منهجية نبوية ميزان معيار دقيق لك أيها المسلم ولكِ أيتها المسلمة يوم تجلس مجلساً "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" انظر للتربية ربط هذه القلوب باليوم الآخر "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" .. ولأن النفوس اليوم غفلت عن اليوم الآخر وتعلقت بالدنيا وشهواتها ولذاتها غفلت عن هذه القاعدة الشرعية النبوية ونسيت الحساب والعذاب ونسيت الجنة والنار وغفلت عنها .. وبالتالي انطلق اللسان يفري في لحوم العباد فرياً بدون ضوابط وبدون خوفٍ ولا وجل .. لماذا هذه القاعدة ؟
لأنه لا يصح أبداً أن يؤذي المسلم إخوانه بلسانه ولأن المسلم الصادق المحب الناصح هو من سلم المسلمون من لسانه ويده (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) كما في حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه.
والأحاديث في الباب كثيرة مستفيضة.
وكم نحن بحاجة لمن يردد هذه الأحاديث على مسامع الناس , كم نحن بحاجة أيها الأخيار , يا طلبة العلم , أيها الصالحون , كم نحن بحاجة أيتها الصالحات , يا أيتها القانتات الخائفات العابدات الساجدات , كم نحن بحاجة إلى من يردد على المسلمين والمسلمات أمثال هذه الأحاديث ليتذكروها ويعوها وليفهموها جيداً , حتى تتذكر النفس كلما أراد اللسان أن ينطلق بكلمة يحسب لها حسابها قبل أن يخرج لسانه بهذه الكلمات.
واسمع لرواة هذه الأحاديث من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يوم أن سمعوها علماً وعملاً وامتثالاً للمصادر الشرعية "الكتاب والسنة" .. وإليك الأدلة من حياتهم العملية رضوان الله عليهم.
السلف الصالح مع اللسان :
أسوق إليك أيها الأخ الحبيب مواقف قليلة جداً عن حال السلف مع ألسنتهم:
ذكر الإمام مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه دخل على أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وهو يجبذ لسانه أي يجره بشدة، فقال عمر: ( مَـه !! غفر الله لك " فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه : "إن هذا أوردني الموارد"). من القائل ؟ الرجل الأول بعد الأنبياء والرسل رضي الله عنه وأرضاه , القائل أبو بكر , انظر إلى حرصه على لسانه رضي الله عنه وأرضاه ..
قال رجل : رأيت ابن عباس آخذاً بثمرة لسانه وهو يقول: ( ويحك , قل خيراً تغنم واسكت عن شرٍ تسلم. قال : فقال له الرجل : يا ابن عباس , مالي أراك آخذاً بثمرة لسانك وتقول كذا وكذا ؟ .. قال ابن عباس : بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيءٍ أحنق منه على لسانه، يعني لا يغضب على شيءٍ من جوارحه أشد من غضبه على لسانه)، والأثر أخرجه ابن المبارك وأحمد وأبو نعيم وأيضاً أخرجه أحمد في كتاب الزهد , والمتن بجميع طرقه حسن والله أعلم.
وقال عبد الله بن أبي زكريا: ( عالجت الصمت عشرين سنة – انظر للحساب .. انظر محاسبة النفس – عالجت الصمت عشرين سنة فلم أقدر منه على ما أريد )، وكان لا يدع يعاتب في مجلسه أحد , ويقول : ( إن ذكرتم الله أعنـّاكم , وإن ذكرتم الناس تركناكم )، انظر للضابط " إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم.
وكان طاووس بن كيسان رضي الله عنه يعتذر من طول السكوت ويقول: ( إني جربت لساني فوجدته لئيماً راضعاً). هؤلاء هم رضي الله عنهم .. فماذا نقول نحن عن ألسنتنا ؟!
وذكر هناد ابن السري في كتابه الزهد بسنده إلى الحسن أنه قال : ( يخشون أن يكون قولنا "حميد الطويل" غيبة لأنهم بينوه ونسبوه أنه طويل ). حميد الطويل يخشون أن تكون غيبة, رحمة الله عليهم أجمعين.
وأخرج وكيع في الزهد وأبو نعيم في الحلية من طريق جرير بن حازم قال : ( ذكر ابن سيرين رجلاً فقال : ذلك الرجل الأسود .. يريد أن يعرّفه .. ثم قال : أستغفر الله , إني أراني قد اغتبته).
وكان عبد الله بن وهب رحمه الله يقول : ( نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً فأجهدني – يعني تعبت – فكنت أغتاب وأصوم أغتاب وأصوم .. فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة)، جرب هذا , كلما اغتبت أحداً أو ذكرته بسوءٍ فادفع ولو ريالاً واحداً .. الله أعلم بحالنا .. في آخر الشهر لن يبقى من الراتب ولو ريال واحد .. لأنا أعرف بأنفسنا في المجالس أيها الأحبة، والله المستعان !
قال النووي في الأذكار : بلغنا أن قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا , فقال أحدهما لصاحبه : (كم وجدت في ابن آدم من العيوب ؟ فقال : هي أكثر من أن تحصى , والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب, فوجدت خصلة إن استعملتها سترت العيوب كلها .. قال : ما هي ؟ قال : حفظ اللسان !!)
قال إبراهيم التيمي : (أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمع منه كلمة تعاب).
وقيل للربيع : ( ألا تذم الناس ؟ قال : والله إني ما أنا عن نفسي براضٍ فأذم الناس ؟ إن الناس خافوا الله على ذنوب الناس , وأمنوه على ذنوبهم)، وصدق رحمه الله , صدق.
ألا ترون أيها الأحبة في مجالسنا نقول : نخشى عذاب الله من فعل فلان , ونخاف من عقاب الله من قول علان , ولا نخشى الله من قولنا وفعلنا .. وهذا ظاهر في مجالسنا نقول : نخشى من عذاب الله من عمل فلان وعلان , ولكننا ننسى أن نخاف على أنفسنا من عذاب الله من ذنوبنا وأفعالنا وأقوالنا.
ارجع لنفسك وانظر لعيوبها قبل أن تنظر لعيوب الآخرين وتتكلم فيهم.
وقال حماد بن زيد : ( بلغني أن محمد بن واسع كان في مجلس فتكلم رجل فأكثر الكلام , فقال له محمد : ما على أحدهم لو سكت فتنقى وتوقى). أي اختار كلماته وحسب لها حسابها.
وقال بكر بن المنير سمعت أبا عبد الله البخاري يقول ( أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً )، اسمع للثقة، والبخاري له كتب في الجرح والتعديل، ويقول الذهبي في السير معلقاً على قول البخاري هذا صدق رحمه الله .. ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه في من يضعفه فإن أكثر ما يقول – يعني أشد ما يقول البخاري إذا أراد أن يجرح رجلاً – يقول : منكر الحديث , سكتوا عنه , فيه نظر , ونحو هذا، وقلّ أن يقول فلان كذاب , أو كان يضع الحديث ,حتى أنه قال : إذا قلت "فلان في حديثه نظر" فهو متهم واهن , وهذا معنى قوله " لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً " وهذا هو والله غاية الورع ) انتهى كلام الذهبي.
هذا موقف السلف الصالح رضوان الله عليهم مع اللسان , والآن تعال إلى صورٍ من الواقع وهي عبارة عن مواقف مبعثرة وأحداثٍ متعددة تتكرر في مجالسنا كثيراً , اخترت منها عشرة مشاهد , أسوقها إليك فأصغ لي سمعك وفهمك وأحسن الظن فيّ فلعلي لا أحسن التصوير أو ربما خانني التعبير , ما أريد يعلم الله إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.