بسم الله الرحمن الرحيم
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1720)
وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة اللّه ، فيدين للّه وحده ولا يدين لسواه ، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه .. ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه للّه وحده ، وشريعة اللّه وحدها هي الحاكمة فيه ، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولا إلى الأمر بالمعروف الأكبر ، وهو تقرير ألوهية اللّه وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم. والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولا إلى النهي عن المنكر الأكبر. وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير اللّه عن طريق حكمهم بغير شريعة اللّه .. والذين آمنوا بمحمد - r - هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة اللّه ، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة. فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي. ولم ينفقوا قط جهدهم ، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع. فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر ، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم! «وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ» .. وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس. ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها .. ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم.
ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله وإلا الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه .. والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع. ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود اللّه فيه .. كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم! هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد اللّه معها بيعته. وهذه هي صفاتها ومميزاتها : توبة ترد العبد إلى اللّه ، وتكفه عن الذنب ، وتدفعه إلى العمل الصالح. وعبادة تصله باللّه وتجعل اللّه معبوده وغايته ووجهته. وحمد للّه على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل للّه والثقة المطلقة برحمته وعدله. وسياحة في ملكوت اللّه مع آيات اللّه الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق. وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة. وحفظ لحدود اللّه يرد عنها العادين والمضيعين ، ويصونها من التهجم والانتهاك ..
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة ، واشترى منها الأنفس والأموال ، لتمضي مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه ورسله ورسالاته. قتال في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه وقتل لأعداء اللّه الذين يحادّون اللّه أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل ، وبين الإسلام والجاهلية ، وبين الشريعة والطاغوت ، وبين الهدى والضلال.
وليست الحياة لهوا ولعبا. وليست الحياة أكلا كما تأكل الأنعام ومتاعا. وليست الحياة سلامة ذليلة ، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة .. إنما الحياة هي هذه : كفاح في سبيل الحق ، وجهاد في سبيل الخير ، وانتصار لإعلاء كلمة اللّه ، أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه .. ثم الجنة والرضوان ..
هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» ... وصدق اللّه. وصدق رسول اللّه ..والمؤمنون الذين اشترى اللّه منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، أمة وحدهم ، العقيدة في اللّه بينهم هي وشيجة الارتباط والتجمع الوحيدة. وهذه السورة التي تقرر العلاقات الأخيرة بين الجماعة المسلمة ومن عداها ، تحسم في شأن العلاقات التي لا تقوم على هذه الوشيجة. وبخاصة بعد ذلك التخلخل الذي أنشاه التوسع الأفقي الشديد في المجتمع المسلم عقب فتح مكة ، ودخول أفواج كثيرة في الإسلام لم يتم انطباعها بطابعه وما تزال علاقات القربى عميقة الجذور في حياتها. والآيات التالية تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا تلك البيعة وبين من لم يدخلوا معهم فيها - ولو كانوا أولي قربى - بعد ما اختلفت الوجهتان واختلفت العاقبتان في الدنيا والآخرة :
«ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ - وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى - مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يُحْيِي وَيُمِيتُ ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ».
والظاهر أن بعض المسلمين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون إلى رسول اللّه - r - أن يستغفر لهم فنزلت الآيات تقرر أن في هذا الاستغفار بقية من تعلق بقرابات الدم ، في غير صلة باللّه ، لذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يفعلوه .. ما كان لهم قطعا وليس من شأنهم أصلا .. أما كيف يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ، فالأرجح أن يكون ذلك بموتهم على الشرك ، وانقطاع الرجاء من أن تكون لهم هداية إلى الإيمان.
إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية. فإذا انبتّت وشيجة العقيدة انبتّت الأواصر الأخرى من جذورها ، فلا لقاء بعد ذلك في نسب ، ولا لقاء بعد ذلك في صهر. ولا لقاء بعد ذلك في قوم. ولا لقاء بعد ذلك في أرض .. إما إيمان باللّه فالوشيجة الكبرى موصولة ، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها. أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان
===============