بسم الله الرحمن الرحيم
أهمية الذكر والتضرع إلى الله
أهمية الذكر والتضرع إلى الله
فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1426)
إنها نقلة بعيدة ، تتجلى فيها نعمة اللّه ورحمته لو كان الناس يعلمون ..!
وبعد ، فإن ذكر اللّه - كما توجه إليه هذه النصوص - ليس مجرد الذكر بالشفة واللسان. ولكنه الذكر بالقلب والجنان. فذكر اللّه إن لم يرتعش له الوجدان ، وإن لم يخفق له القلب ، وإن لم تعش به النفس ..
إن لم يكن مصحوبا بالتضرع والتذلل والخشية والخوف .. لن يكون ذكرا .. بل قد يكون سوء أدب في حق اللّه سبحانه. إنما هو التوجه إلى اللّه بالتذلل والضراعة ، وبالخشية والتقوى .. إنما هو استحضار جلال اللّه وعظمته ، واستحضار المخافة لغضبه وعقابه ، واستحضار الرجاء فيه والالتجاء إليه .. حتى يصفو الجوهر الروحي في الإنسان ، ويتصل بمصدره اللدني الشفيف المنير ..
فإذا تحرك اللسان مع القلب وإذا نبست الشفاه مع الروح فليكن ذلك في صورة لا تخدش الخشوع ولا تناقض الضراعة. ليكن ذلك في صوت خفيض ، لا مكاء وتصدية ، ولا صراخا وضجة ، ولا غناء وتطرية! «واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول» ..
«بالغدو والآصال».
في مطالع النهار وفي أواخره. فيظل القلب موصولا باللّه طرفي النهار. وذكر اللّه لا يقتصر على هذه الآونة ، فذكر اللّه ينبغي أن يكون في القلب في كل آن ومراقبة اللّه يجب أن تكون في القلب في كل لحظة. ولكن هذين الآنين إنما تطالع فيهما النفس التغير الواضح في صفحة الكون .. من ليل إلى نهار .. ومن نهار إلى ليل. ويتصل فيهما القلب بالوجود من حوله وهو يرى يد اللّه تقلب الليل والنهار وتغير الظواهر والأحوال ..
وإن اللّه - سبحانه - ليعلم أن القلب البشري يكون في هذين الآنين أقرب ما يكون إلى التأثر والاستجابة ..
ولقد كثر في القرآن التوجيه إلى ذكر اللّه سبحانه وتسبيحه في الآونة التي كأنما يشارك الكون كله فيها في التأثير على القلب البشري وترقيقه وإرهافه وتشويقه للاتصال باللّه .. «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ» .. «وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى » .. «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» ..
ولا داعي للقول بأن هذا الأمر بالذكر في هذه الآونة قد كان قبل فرض الصلاة المكتوبة في أوقاتها المعلومة.
مما يوحي بأن فرض الصلاة المكتوبة قد أغنى عن هذا الأمر في هذه الآونة. فهذا الذكر أشمل من الصلاة ، وأوقاته ليست مقصورة على مواقيت الصلاة المكتوبة. كما أنه قد يكون في صور غير صورة الصلاة - المكتوبة وغير المكتوبة - في صورة الذكر بالقلب ، أو بالقلب واللسان دون بقية حركات الصلاة .. بل إنه لأشمل من ذلك كذلك. إنه التذكر الدائم والاستحضار الدائم لجلال اللّه - سبحانه - ومراقبته في السر والعلن ، وفي الصغيرة والكبيرة ، وفي الحركة والسكنة ، وفي العمل والنية .. وإنما ذكر البكرة والأصيل والليل .. لما في هذه الآونة من مؤثرات خاصة يعلم اللّه ما تصنع في القلب البشري ، الذي يعلم خالقه فطرته وطبيعة تكوينه! «وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ» ..
الغافلين عن ذكر اللّه .. لا بالشفة واللسان ، ولكن بالقلب والجنان .. الذكر الذي يخفق به القلب فلا يسلك صاحبه طريقا يخجل أن يطلع عليه اللّه فيه ويتحرك حركة يخجل أن يراه اللّه عليها ولا يأتي صغيرة أو كبيرة إلا وحساب اللّه فيها .. فذلك هو الذكر الذي يرد به الأمر هنا وإلا فما هو ذكر للّه ، إذا كان لا يؤدي إلى الطاعة والعمل والسلوك والاتباع.
اذكر ربك ولا تغفل عن ذكره ولا يغفل قلبك عن مراقبته فالإنسان أحوج إلى أن يظل على اتصال بربه ، ليتقوى على نزغات الشيطان : «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». ولقد كانت السورة من قبل معرضا للمعركة بين الإنسان والشيطان في أوائلها ، وظل سياقها يعرض موكب الإيمان وشياطين الجن والإنس تعترض طريقه ، كما ذكر الشيطان في نبأ الذي آتاه اللّه آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. وكما ذكر في أواخرها نزغ الشيطان والاستعاذة منه باللّه السميع العليم .. وهو سياق متصل ، ينتهي بالتوجيه إلى ذكر اللّه تضرعا وخيفة ، والنهي عن الغفلة .. ويأتي هذا الأمر وهذا النهي في صدد توجيه اللّه سبحانه لرسوله - r - أن يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين .. فإذا هو تكملة لمعالم الطريق ، وتزويد لصاحب الدعوة بالزاد الذي يقوى به على مشاق الطريق ..
ثم يضرب اللّه مثلا بالذين عنده من الملائكة المقربين : الذين لا ينزغ في أنفسهم شيطان ، فليس له في تركيب طبيعتهم مكان! ولا تستبد بهم نزوة ، ولا تغلبهم شهوة. ومع هذا فهم دائبون على تسبيح اللّه وذكره ، لا يستكبرون عن عبادته ولا يقصرون. وللإنسان أحوج منهم إلى الذكر والعبادة والتسبيح. وطريقه شاق! وطبيعته قابلة لنزغ الشيطان! وقابلة للغفلة المردية! وجهده محدود. لولا هذا الزاد في الطريق الكؤود : «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ. وَيُسَبِّحُونَهُ. وَلَهُ يَسْجُدُونَ» ..
إن العبادة والذكر عنصر أساسي في منهج هذا الدين .. إنه ليس منهج معرفة نظرية. وجدل لاهوتي.
إنه منهج حركة واقعية لتغيير الواقع البشري. وللواقع البشري جذوره وركائزه في نفوس الناس وفي أوضاعهم سواء. وتغيير هذا الواقع الجاهلي إلى الواقع الرباني الذي يريده اللّه للناس وفق منهجه مسألة شاقة عسيرة تحتاج إلى جهد طويل ، وإلى صبر عميق. وطاقة صاحب الدعوة محدودة. ولا قبل له بمواجهة هذه المشقة دون زاد يستمده من ربه. إنه ليس العلم وحده ، وليست المعرفة وحدها. إنما هي العبادة للّه والاستمداد منه ..
هي الزاد ، وهي السند ، وهي العون في الطريق الشاق الطويل! ومن ثم هذا التوجيه الأخير في السورة التي بدأت بقول اللّه سبحانه لرسوله الكريم ، «كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين» .. والتي تضمن سياقها عرض موكب الإيمان ، بقيادة الرهط الكريم من رسل اللّه الكرام وما يعترض طريقه من كيد الشيطان الرجيم ، ومن مكر شياطين الجن والإنس ومن معارضة المتجبرين في الأرض ، وحرب الطواغيت المتسلطين على رقاب العباد.
إنه زاد الطريق. وعدة الموكب الكريم في هذا الطريق ..
===============