بسم الله الرحمن الرحيم
حق التشريع لله وحده
حق التشريع لله وحده
فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1650)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
هذا المقطع في السياق استطراد في إزالة المعوقات التي كانت قائمة في طريق النفرة إلى جهاد الروم وحلفائهم من نصارى العرب في شمال الجزيرة .. ذلك أن الاستنفار لهذه الغزوة - تبوك - كان في رجب من الأشهر الحرم. ولكن كانت هناك ملابسة واقعة. وهي أن رجب في هذا العام لم يكن في موعده الحقيقي! وذلك بسبب «النسي ء» الذي ورد ذكره في الآية الثانية - كما سنبين - فقد ورد أن ذا الحجة في هذا العام لم يكن في موعده كذلك ، إنما كان في ذي القعدة! فكأن رجب كان في جمادى الآخرة .. وسر هذا الاضطراب كله هو اضطراب الجاهلية في تقاليدها وعدم التزامها بالحرمات إلا شكلا والتأويلات والفتاوى التي تصدر عن البشر ، ما دام أن أمر التحليل والتحريم يوكل في الجاهلية إلى البشر! وبيان هذه القضية : أن اللّه حرم الأشهر الحرم الأربعة وهي الثلاثة المتوالية : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، والشهر الرابع المفرد : رجب .. والواضح أن هذا التحريم كان مع فرض الحج في أشهره المعلومات منذ إبراهيم وإسماعيل .. وعلى كثرة ما حرف العرب في دين إبراهيم ، وعلى شدة ما انحرفوا عنه في جاهليتهم قبل الإسلام فإنهم بقوا يعظمون الأشهر الحرم هذه لارتباطها بموسم الحج الذي كانت تقوم عليه حياة الحجازيين ، وبخاصة سكان مكة. كيما يكون هناك السلام الشامل في الجزيرة الذي يسمح بالموسم ، والانتقال إليه ، والتجارة فيه!
ثم كانت - بعد ذلك - تعرض حاجات لبعض القبائل العربية تتعارض مع تحريم هذه الأشهر .. وهنا تلعب الأهواء ويقوم من يفتي باستحلال أحد الأشهر الحرم عن طريق تأخيره في عام وتقديمه في عام آخر ، فتكون عدة الأشهر المحرمة أربعة ، ولكن أعيان هذه الأشهر تتبدل «ليواطئوا عدة ما حرم اللّه فيحلوا ما حرم اللّه» .. فلما كان هذا العام التاسع كان رجب الحقيقي غير رجب ، وكان ذو الحجة الحقيقي غير ذي الحجة! كان رجب هو جمادى الآخرة ، وكان ذو الحجة هو ذا القعدة! وكان النفير في جمادى الآخرة فعلا وواقعا ، ولكنه كان في رجب اسما بسبب هذا النسي ء! فجاءت هذه النصوص تبطل النسيء وتبين مخالفته ابتداء لدين اللّه ، الذي يجعل التحليل والتحريم (و التشريع كله) حقا خالصا للّه وتجعل مزاولته من البشر - بغير ما أذن اللّه - كفرا .. بل زيادة في الكفر .. ومن ثم تزيل العقبة التي تحيك في بعض النفوس من استحلال رجب. وفي الوقت ذاته تقرر أصلا من أصول العقيدة الأساسية وهو قصر حق التشريع في الحل والحرمة على اللّه وحده. وتربط هذه الحقيقة بالحق الأصيل في بناء الكون كله ، يوم خلق اللّه السماوات والأرض. فتشريع اللّه للناس إنما هو فرع عن تشريعه للكون كله بما فيه هؤلاء الناس. والحيدة عنه مخالفة لأصل تكوين هذا الكون وبنائه فهو زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا «1» ..
وحقيقة أخرى تقررها هذه النصوص ، تتعلق بما سبق تقريره في المقطع السابق مباشرة ، من اعتبار أهل الكتاب مشركين ، وضمهم في العداوة والجهاد إلى المشركين. والأمر بقتالهم كافة .. المشركين وأهل الكتاب ..
كما أنهم يقاتلون المسلمين كافة .. الأمر الذي يقرره الواقع التاريخي كله كما تقرره من قبل كلمات اللّه - سبحانه - وهي تعبر عن وحدة الهدف تماما بين المشركين وأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين ، وعن وحدة الصف التي تجمعهم كذلك عند ما تكون المعركة مع الإسلام والمسلمين ، مهما يكن بينهم هم من عداوات قبل ذلك وثارات واختلافات في تفصيلات العقيدة كذلك ، لا تقدم شيئا ولا تؤخر في تجمعهم جميعا في وجه الانطلاق الإسلامي وفي عملهم متجمعين لسحق الوجود الإسلامي.
وهذه الحقيقة الأخيرة الخاصة بأن أهل الكتاب مشركون كالمشركين ، وأن المشركين هؤلاء وهؤلاء يقاتلون المسلمين كافة فوجب على المسلمين أن يقاتلوهم كافة .. بالإضافة إلى الحقيقة الأولى : وهي أن النسيء زيادة في الكفر.
لأنه مزاولة للتشريع بغير ما أنزل اللّه ، فهو كفر يضاف إلى الكفر الاعتقادي ويزيد فيه .. هاتان الحقيقتان هما المناسبة التي تربط هاتين الآيتين بما قبلهما وما بعدهما في السياق الذي يعالج المعوقات دون النفير العام ، والانطلاق الإسلامي تجاه المشركين وأهل الكتاب ..
«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» ..
إن هذا النص القرآني يرد معيار الزمن ، وتحديد دورانه إلى طبيعة الكون التي فطرة اللّه عليها. وإلى أصل الخلقة. خلقة السماوات والأرض. ويشير إلى أن هناك دورة زمنية ثابتة ، مقسمة إلى اثني عشر شهرا. يستدل على ثباتها بثبات عدة الأشهر فلا تزيد في دورة وتنقص في دورة. وأن ذلك في كتاب اللّه - أي في ناموسه الذي أقام عليه نظام هذا الكون. فهي ثابتة على نظامها ، لا تتخلف ولا تتعرض للنقص والزيادة. لأنها تتم وفق قانون ثابت ، هو ذلك الناموس الكوني الذي أراده اللّه يوم خلق السماوات والأرض :
هذه الإشارة إلى ثبات الناموس يقدم بها السياق لتحريم الأشهر الحرم وتحديدها ، ليقول : إن هذا التحديد والتحريم جزء من نواميس اللّه ثابت كثباتها ، لا يجوز تحريفه بالهوى ، ولا يجوز تحريكه تقديما وتأخيرا ، لأنه يشبه دورة الزمن التي تتم بتقدير ثابت ، وفق ناموس لا يتخلف :«ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» ..
فهذا الدين مطابق للناموس الأصيل ، الذي تقوم به السماوات والأرض ، منذ أن خلق اللّه السماوات والأرض.
وهكذا يتضمن ذلك النص القصير سلسلة طويلة من المدلولات العجيبة .. يتبع بعضها بعضا ، ويمهد بعضها لبعض ، ويقوي بعضها بعضا. ويشتمل على حقائق كونية يحاول العلم الحديث جاهدا أن يصل إليها بطريقته ومحاولاته وتجاربه. ويربط بين نواميس الفطرة في خلق الكون وأصول هذا الدين وفرائضه ، ليقر في الضمائر والأفكار عمق جذوره ، وثبات أسسه ، وقدم أصوله .. كل أولئك في إحدى وعشرين كلمة تبدو في ظاهرها عادية بسيطة قريبة مألوفة.
«ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» ..
لا تظلموا أنفسكم في هذه الأشهر الحرم التي يتصل تحريمها بناموس كوني تقوم عليه السماوات والأرض.
ذلك الناموس هو أن اللّه هو المشرع للناس كما أنه هو المشرع للكون .. لا تظلموا أنفسكم بإحلال حرمتها التي أرادها اللّه لتكون فترة أمان وواحة سلام فتخالفوا عن إرادة اللّه. وفي هذه المخالفة ظلم للأنفس بتعريضها لعذاب اللّه في الآخرة ، وتعريضها للخوف والقلق في الأرض ، حين تستحيل كلها جحيما حربية ، لا هدنة فيها ولا سلام.
«وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» ..ذلك في غير الأشهر الحرم ، ما لم يبدأ المشركون بالقتال فيتعين رد الاعتداء في تلك الأشهر ، لأن الكف عن القتال من جانب واحد يضعف القوة الخيرة ، المنوط بها حفظ الحرمات ، ووقف القوة الشريرة المعتدية ويشيع الفساد في الأرض والفوضى في النواميس. فرد الاعتداء في هذه الحالة وسيلة لحفظ الأشهر الحرم ، فلا يعتدى عليها ولا تهان.
«وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» ..
قاتلوهم جميعا بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة ، فهم يقاتلونكم جميعا لا يستثنون منكم أحدا ، ولا يبقون منكم على جماعة. والمعركة في حقيقتها إنما هي معركة بين الشرك والتوحيد. وبين الكفر والإيمان وبين الهدى والضلال. معركة بين معسكرين متميزين لا يمكن أن يقوم بينهما سلام دائم ، ولا أن يتم بينهما اتفاق كامل.
لأن الخلاف بينهما ليس عرضيا ولا جزئيا. ليس خلافا على مصالح يمكن التوفيق بينها ، ولا على حدود يمكن أن يعاد تخطيطها. وإن الأمة المسلمة لتخدع عن حقيقة المعركة بينها وبين المشركين - وثنيين وأهل كتاب - إذا هي فهمت أو أفهمت أنها معركة اقتصادية أو معركة قومية ، أو معركة وطنية ، أو معركة استراتيجية ..
كلا. إنها قبل كل شيء معركة العقيدة. والمنهج الذي ينبثق من هذه العقيدة .. أي الدين .. وهذه لا تجدي فيها أنصاف الحلول. ولا تعالجها الاتفاقات والمناورات. ولا علاج لها إلا بالجهاد والكفاح الجهاد الشامل والكفاح الكامل. سنة اللّه التي لا تتخلف ، وناموسه الذي تقوم عليه السماوات والأرض ، وتقوم عليه العقائد والأديان ، وتقوم عليه الضمائر والقلوب. في كتاب اللّه يوم خلق اللّه السماوات والأرض.
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ..
فالنصر للمتقين الذين يتقون أن ينتهكوا حرمات اللّه ، وأن يحلوا ما حرم اللّه ، وأن يحرفوا نواميس اللّه.
فلا يقعد المسلمون عن جهاد المشركين كافة ، ولا يتخوفوا من الجهاد الشامل. فهو جهاد في سبيل اللّه يقفون فيه عند حدوده وآدابه ويتوجهون به إلى اللّه يراقبونه في السر والعلانية. فلهم النصر ، لأن اللّه معهم ، ومن كان اللّه معه فهو المنصور بلا جدال.
===============