القتل
من كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – الجزء الثاني
الدكتور عبد القادر عودة
المبحث الثاني
القتل شبه العمد
101- ذكرنا أن القتل شبه العمد مختلف عليه بين الفقهاء: فمالك يرى أن القتل صنفان: عمد وخطأ فمن زاد عليهما فقد زاد على النص، ويحتج بأن القرآن لم ينص إلا على العمد والخطأ فقط حيث قال الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
_________
(1) راجع الفقرات من 31 - 38 والفقرة 87.
(2/92)
________________________________________
مُّتَعَمِّدًا} [النساء: 93] ، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئا} [النساء: 92] . أما أبو حنيفة والشافعى وأحمد فيقولون بالقتل شبه العمد ويرون أن القتل على ثلاثة أنواع: عمد وشبه عمد، وخطأ، ويحتجون بقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن فى قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل"، وبأن عمر وعليًا وعثمان وزيد بن ثابت وأبا موسى الأشعرى والمغيرة قالوا بالقتل شبه العمد ولا مخالف لهم من الصحابة، كما يحتجون بأن القصد مسألة تتعلق بنية الجانى، ولا يطلع على النيات إلا الله تعالى، وإنما الحكم يدار على الظاهر وليس أدل على النية وأكثر إظهارًا لها من الآلة المستعملة فى القتل، فمن قصد ضرب آخر بآلة تقتل غالبًا كان حكمه كحكم الغالب أى حكم من قصد القتل، ومن قصد الضرب بآلة لا تقتل غالبًا كان حكمه مترددًا بين العمد والخطأ ففعله يشبه العمد لأنه قصد ضربه ويشبه الخطأ لأنه ضرب بما لا يقتل غالبًا وما لا يقتل غالبًا يدل على أنه لم يقصد القتل (1) , ولذلك سمى هذا النوع من القتل بشبه العمد (2)
؛ لأنه يمثل القتل العمد فى كل شىء ولا يختلف عنه إلا فى قصد الجانى، والمفروض أن مرتكب القتل العمد يعتدى على المجنى عليه بقصد قتله، أما مرتكب القتل شبه العمد فيعتدى على المجنى عليه بقصد الاعتداء دون أن يفكر فى قتله (3) , فالفرق بين النوعين هو فى نية الجانى التى يستدل عليها بالآلة المستعملة فى الجريمة ومن ثَمَّ تشابه القتلان تشابهًا شديدًا دعا لتسمية أحدهما بالقتل شبه العمد إذا كان الثانى يسمى بالقتل العمد.
102 - يعرف الحنفيون شبه العمد بأنه: ما تعمدت ضربه بالعصا أو السوط أو الحجر أو اليد أو غير ذلك ما يفضى إلى الموت، فإن فى هذا الفعل معنيين: أولهما: معنى العمد باعتبار قصد الفاعل إلى الضرب، وثانيهما: معنى الخطأ
_________
(1) يعبر أبو حنيفة عن هذه الفكرة بقوله: إن القتل بآلة غير معدة له دليل عدم القصد لأن تحصيل كل فعل بالآلة المعدة له فحصوله بغير ما أعد له دليل عدم القصد.
(2) بداية المجتهد ج2 ص332 , 333..
(3) راجع الفقرة 89 من هذا الجزء لتفهم جيداً الفرق بين العمد وشبه العمد فى القصد.
(2/93)
________________________________________
باعتبار انعدام قصد الفاعل إلى القتل فهو يشبه العمد صورة من حيث أنه قصد الفعل (1) .
ويعرفه الشافعيون بأنه: ما كان عمدًا فى الفعل خطأ فى القتل (2) ، أى كل فعل لم يقصد به القتل تولد منه القتل. ويعرفه بعضهم بأنه قصد الإصابة بما لا يقتل غالبًا فيموت منه، ولا تجب به عقوبة القتل العمد؛ لأن الجانى لم يقصد القتل (3) . ويعرفه أكثرهم بأنه قصد الفعل والشخص ولو كان غير معين بما لا يقتل غالبًا (4) .
ويعرفه الحنابلة بأنه: قصد الجناية بما لا يقتل غالبًا فيقتل إما لقصد العدوان عليه أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير أو يلكزه بيده أو يلقيه فى ماء يسير أو يصيح بصبى أو معتوه على سطح فيسقطان أو يغتفل عاقلاً فيصيح به فيسقط؛ فهو شبه عمد إذا قتل لأنه قصد الضرب دون القتل، ويسمى خطأ العمد وعمد الخطأ لاجتماع العمد والخطأ فيه فإنه عمد الفعل وأخطأ فى القتل (5) .
103 - مقارنة: وظاهر مما سبق أنه يدخل تحت شبه العمد كل الأفعال التى يقصد منها الجانى العدوان، ولم يقصد بها القتل، ولكنها أدت إلى موت المجنى عليه. فالقتل شبه العمد فى الشريعة يقابل الضرب المفضى إلى الموت فى القوانين الوضعية، ولكن تعبير الشريعة بالقتل شبه العمد أصح منطقًا من تعبير القوانين الوضعية ذلك أن القتل شبه العمد يندرج تحته الموت الناشئ عن الضرب والجرح وإعطاء المواد السامة والضارة والتغريق والتحريق والتردية والخنق وكل ما يدخل تحت القتل العمد إذا انعدمت نية القتل عند الجانى وتوفر قصد الاعتداء، ولفظ القتل يدخل تحته كل ما يؤدى للموت، فاختيار فقهاء الشريعة لهذا اللفظ للدلالة على هذه الأنواع المختلفة من الاعتداء والإيذاء هو اختيار موفق لأنها تنتهى جميعًا بالموت، أما لفظ الضرب الذى عبرت به القوانين الوضعية فإذا دخل تحته الضرب باليد أو بأداة أخرى فإنه لا يمكن أن يندرج تحته غير ذلك من أنواع الإيذاء والاعتداء المختلفة الصور والوسائل كالتغريق والتحريق والتردية والخنق وشراح القانون المصرى يعترفون بقصور لفظ الضرب عن استيعاب المعنى الذى يندرج تحته قانونًا ويلاحظون على نصوص الضرب عمومًا قصور ألفاظها عن الإحاطة بما يندرج تحتها.
* * *
أركان القتل شبه العمد
104 - أركان القتل شبه العمد ثلاثة:
أولها: أن يأتى الجانى فعلاً يؤدى لوفاة المجنى عليه.
ثانيهما: أن يأتى الجانى الفعل بقصد العدوان.
ثالثهما: أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية.
الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه
105 - يشترط لتوفير هذا الركن أن يأتى الجانى فعلاً يؤدى لوفاة المجنى عليه: أيًّا كان هذا الفعل ضربًا أو جرحًا أو غير ذلك من أنواع التعدى والإيذاء مما لا يعتبر ضربًا ولا جرحًا كالتغريق والتحريق وإعطاء مواد ضارة أو سامة بغير قصد القتل.
106 - وليس من الضرورى فى الضرب والجرح أن يستعمل الجانى آلة معينة: فقد يكون بغير أداة كاللطم واللكم والعض والرفس، وقد يكون بأداة راضةَّ أو حادة أو واخزة كالعصا والسيف والفأس والبلطة والسكين والرمح والمسلة، وقد يرمى الجانى المجنى عليه بشىء كالحجر والسهم والرصاص وقد يغرى
_________
(1) المبسوط ج6 ص64 , 65.
(2) الوجيز ج2 ص125.
(3) المهذب ج2 ص185.
(4) نهاية المحتاج ج7 ص237.
(5) الشرح الكبير ج9 ص331.
(2/94)
________________________________________
به حيوانًا مفترسًا كالدب أو أليفًا كالكلب (1) .
107 - ويستوى أن يحدث الفعل أثرًا ماديًا فى جسم المجنى عليه أو أن يحدث به أثرًا نفسيًا يودى بحياته: فمن شهر على إنسان سيفًا أو صوب إليه بندقية فمات رعبًا قبل أن يضربه، ومن دلى إنسانًا من شاهق فمات رهبة ورعبًا، ومن أفزع امرأة حاملاً فألقت حملها من الرعب وماتت بسبب الإجهاض - يسأل عن القتل شبه العمد ولو أن فعله لم يحدث أثرًا ماديًا بجسم المجنى عليه (2) .
ولا يتفق القانون المصرى والفرنسى مع الشريعة فى هذا ولكن الكثيرين من الشراح يرون أنه من القصور أن لا يعاقب هذان القانونان على مثل هذه الحالات، أما القانون الإنجليزى فيعاقب على مثلها فعلاً.
108 - وليس ثمة ما يمنع عند الشافعى وأحمد عن مسئولية الجانى عن القتل شبه العمد ولو لم يكن الموت نتيجة مباشرة لفعله: كمن طلب إنسانًا بسيف مجرد أو بندقية أو ما يخيف فهرب منه فتلف فى هربه كأن سقط من شاهق أو انخسف به سقف أو غرق فى ماء أو احترق بنار أو سقط فتلف أو خرَّ فى مهواة من بئر أو غيره - ففى كل هذه الأحوال يعتبر الطالب مرتكبًا لجريمة القتل شبه العمد ولو أن فعله ليس هو الذى أدى مباشرة للموت، على خلاف فى الإطلاق والتقييد بين الشافعى وأحمد سبق بيانه (3) .
109 - ويشترط فى المجنى عليه أن يكون معصومًا: فإن لم يكن معصومًا فلا يعتبر الفعل جريمة قتل وإنما يمكن اعتبار ما وقع اعتداء على
_________
(1) يرى أبو حنيفة شخصياً أن من حرش كلباً أو غيره على آخر لا يكون متعمداً لأن للكلب اختياراً وإنما يكون مخطئاً فإذا قتله الكلب كان مسئولاً عن القتل الخطأ فقط. ويخالفه فى هذا أبو يوسف ومحمد ويريان الفعل قتلاً شبه عمد.
(2) راجع الفقرتين 59 , 60 من هذا الجزء.
(3) راجع الفقرة 67 من هذا الجزء.
(2/96)
________________________________________
السلطات العامة، وقد بينا معنى العصمة بمناسبة الكلام على القتل العمد (1) ، ولكنا لم نذكر من المهدرين إلا ما اقتضى الكلام عن القتل العمد ذكرهم فبقى منهم من لم نذكره وهم: السارق سرقة عقوبتها قطع اليد، والزانى غير المحصن، والقاذف، وشارب الخمر، فهؤلاء مهدرون فيما يختص بتنفيذ العقوبة عليهم؛ فمن قطع يد السارق لا يعاقب على قطعه ولكنه يعتبر معتديًا على السلطات العامة التى من اختصاصها قطع السارقين، ومن جلد الزانى غير المحصن أو القاذف أو شارب الخمر لا يعاقب على جريمة الضرب وإنما يعاقب على أنه افتات على السلطات العامة، وأتى بعمل اختصت به نفسها؛ والعلة فى إباحة هذه الأفعال أنها حدود لا يجوز العفو عنها، ولا التراخى فى تنفيذها، وهى واجبة على الجماعة، فكل فرد يعتبر مسئولاً عن تنفيذها، والأمر سهل إذا كان دم المجنى عليه مهدرًا إهدارًا كليًّا، ولكن إذا كان الإهدار جزئيًا لتنفيذ حد يقتل من الحدود التى ذكرناها الآن ثم مات المجنى عليه نتيجة لتنفيذ الحد من أحد الأفراد، فهل يعتبر الفعل قتلاً شبه عمد أم لا؟.
قطع السارق: يعتبر السارق الذى سرق سرقة يجب فيها القطع غير معصوم بالنسبة للعضو الذى يجب قطعه، أما باقى أعضائه فمعصوم وكذلك نفسه (2) ، فإذا عدا إنسان على السارق فقطع يده أو رجله التى يجب قطعها فلا يعاقب على القطع، لأنه قطع عضوًا غير معصوم، ويستوى عند أحمد أن يكون القطع قبل الحكم بالسرقة أو بعده مادامت السرقة ثبتت على السارق، ولكن يشترط أن تكون الدعوى مقامة، فإن لم تكن الدعوى رفعت اعتبر القاطع قاطعًا عمدًا، وإذا شهد الشهود بالسرقة ولم يحكم القاضى بالقطع انتظارًا لتعديل الشهود فقطعه قاطع فلا عقوبة عليه إذا عُدِّلت الشهود - أى ثبتت عدالتهم وصلاحهم -
_________
(1) راجع الفقرات من 17 إلى 27 من هذا الجزء.
(2) نهاية المحتاج ج7 ص254.
(2/97)
________________________________________
فإن لم تعدَّل الشهود فهو قاطع ليد معصومة عمدًا. ويرى الشافعى مثل ما يراه أحمد.
أما مالك وأبو حنيفة فيشترطان أن يكون القطع بعد الحكم، فإن كان بعده فلا مسئولية على القاطع بسبب القطع، وإنما يؤاخذ على الافتيات على السلطات، أما إذا كان القطع قبل الحكم فهو مسئول عن القطع (1) .
وإذا أدى القطع إلى الوفاة فلا يسأل القاطع عن موته إلا إذا كان مسئولاً عن قطعه، فإن كان مسئولاً عن القطع فهو مسئول عن قتله عمدًا، وإن لم يكن مسئولاً فلا مسئولية.
والحجة فى عدم المسئولية: أن الموت تولد عن قطع واجب وأن إقامة الحدود واجبة ولا تحتمل التأخير، فالضرورة تقتضى التسامح فيما ينشا عن تنفيذ الحد حتى لا يتعطل تنفيذ الحدود.
والفرق عند أبى حنيفة بين هذه الحالة وحالة القصاص، أن القصاص حق للمقتص وليس واجبًا عليه وهو مخير فى حقه إن شاء عفا وإن شاء اقتص، بل هو مندوب إلى العفو، واستعمال الحق مقيد بشرط السلامة. أما الواجب فلا يتقيد بشرط السلامة.
ولا شك أن إقامة الحد واجب على كل فرد من الجماعة ولو أن الذى خصص لإقامته هو نائب الجماعة (2) .
110 - ويشترط أن يؤدى الفعل لوفاة المجنى عليه: ويستوى أن تكون الوفاة على أثر الفعل أو بعده بزمن طال هذا الزمن أو قصر فإذا لم يمت المجنى عليه من الفعل وشفى عوقب الجانى باعتباره ضاربًا أو جارحًا أو قاطعًا بحسب ما انتهت إليه حالة المجنى عليه، فإن فقد من المجنى عليه عضو أو زالت منفعته عوقب الجانى على هذه النتيجة، وتتفق القوانين الوضعية مع الشريعة فى هذا المبدأ فهى لا تعتبر الجانى شارعًا فى جريمة ضرب مفض إلى الموت إذا لم يؤد
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص231 , البحر الرائق ج5 ص62.
(2) بدائع الصنائع ج7 ص315 , البحر الرائق ج5 ص319.
(2/98)
________________________________________
الضرب للموت، وإنما تعتبره محدثًا لعاهة أو ضاربًا بحسب ما تنتهى إليه حالة المجنى عليه.
111 - ويصح أن يصدر الفعل من الجانى مباشرة: كأن يضرب المجنى عليه بعصًا أو يرميه بحجر، ويصح أن يتسبب فى الفعل دون أن يباشره كأن يغرى به كلبًا فيعضه فيموت من العضة أو يضع له مزلقًا فى الطريق فيسقط فيه فيموت من سقطته، فالجانى مسئول عن القتل شبه العمد فى حالتى المباشرة والتسبب، ولا فرق عند أبى حنيفة فى القتل شبه العمد بين عقوبة القتل المباشر والقتل بالتسبب كما هو الحال فى القتل العمد.
112 - وتنطبق على القتل شبه العمد كل القواعد التى ذكرت فى باب القتل: عن المباشرة، والسبب، والشرط، والمسألة عنها، وتعدد المباشرة، والسبب، والتمالؤ، والقتل على الاجتماع، والقتل على التعاقب، واجتماع المباشرة مع السبب (1) . وقد تكلمنا عن هذه القواعد بما فيه الكفاية فلا داعى لإعادة الكلام عنها.
ومن كان عليه قصاص متلف كقطع أصبع أو يد أو رجل أو أُذُن فهو غير معصوم بالنسبة لمستحق القصاص فى حدود ما يستحقه، فليس للمستحق أن يقطع غير العضو المماثل، فإن فعل فهو قاطع عمدًا، وإن قطع العضو المماثل فلا يسأل عن القطع وإنما يسأل عن افتياته على السلطات العامة وتعجله بالقصاص، أما لو كان القاطع أجنبيًا فهو مسئول عن القطع لأن المقطوع معصوم فى حقه.
وإذا اقتص المستحق فى طرف، فسرى القصاص إلى النفس، ومات المقتص منه، فلا يسأل الوالى عن القتل شبه العمد، لأنه مات من فعل مباح (2) وهو تنفيذ العقوبة.
وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد، أما أبو حنيفة فيرى أن المقتص مسئول عن القتل شبه العمد، وحجة الفريق الأول أن الموت
_________
(1) راجع الفقرات من 43 - 57 من هذا الجزء.
(2) المهذب ج2 ص200 , تحفة المحتاج ج4 ص28 , المغنى ج9 ص443.
(2/99)
________________________________________
حدث بفعل مأذون فيه، ولا يعتبر جريمة فما تولد منه لا يعتبر جريمة، فإن ما تولد من المباح مباح. وحجة أبى حنيفة أن الفعل المأذون له فيه هو القطع وهو حقه، ولكنه استوفى أكثر من حقه وجاء بالقتل ففيه مسئولية (1) .
113 - ويشترط أن يكون الفعل الذى أتاه الجانى محرمًا عليه: فإن كان حقه أو من واجبه أن يأتى الفعل فأدى الفعل للموت فالمسئولية تختلف بحسب حدود الحق وباختلاف أصحاب الحق، كما تختلف بحسب اختلاف الشخص المحمل بالواجب، وسنفصل ذلك فيما يأتى فى:
حق التأديب، حق التطيب، الألعاب الرياضية، حق القصاص، التعزير، قطع السارق، الجلد فى حد.
* * *
الركن الثانى: أن يتعمد الجانى الفعل
114 - يشترط أن تعمد الجانى إحداث الفعل المؤدى للوفاة دون أن يتعمد قتل المجنى عليه: وهذا هو المميز الوحيد بين جريمتى القتل العمد وشبه العمد، ففى الأول يتعمد الجانى إصابة المجنى عليه وفى الوقت ذاته يقصد من الإصابة قتله، وفى الثانى يتعمد إصابة المجنى عليه ولا يتعمد قتله، فالفاصل بين الجريمتين أصلاً هو قصد الجانى، فإن قصد القتل فالفعل قتل عمد وإن قصد مجرد العدوان ولم يقصد القتل فالفعل شبه عمد، ويستدل على نية الجانى قبل كل شىء بالآلة أو الوسيلة التى يستعملها فى القتل، فإن كانت الآلة تقتل غالبًا فالفعل قتل عمد ما لم يثبت الجانى أنه لم يقصد القتل، وإن كانت الآلة لا تقتل غالبًا فالفعل قتل شبه عمد ولو توجه قصد الجانى فعلاً للقتل؛ لأن القتل لا يكون إلا بالآلة الصالحة لإحداثه، فإن لم تكن الآلة صالحة لإحداثه كانت نية القتل
_________
(1) بدائع الصنائع ج9 ص305.
(2/100)
________________________________________
عبثًا (1) ، ويستدل على القصد بعد الآلة المستعملة بشهادة الشهود واعتراف الجانى، وتتميز جريمة القتل شبه العمد عن القتل الخطأ بقصد الفاعل أيضًا؛ ففى شبه العمد يأتى الفاعل الفعل لقصد العدوان دون أن يقصد القتل، أما فى القتل الخطأ فيأتى الفعل دون أن يقصد عدوانًا أو يقع عدوانًا أو يقع منه الفعل نتيجة لإهماله أو عدم احتياطه دون أن يقصد الفعل بالذات.
115 - القصد الاحتمالى: والجانى فى القتل شبه العمد مأخوذ بقصده الاحتمالى، فإن نيته لا تتجه لقتل المجنى عليه عند ارتكاب الحادث، وما كان يتوقع أن يؤدى الحادث للقتل، ولكنه يسأل عن القتل باعتباره نتيجة لعمله وكان فى وسعه أن يتوقعها أو كان يجب عليه أن يتوقعها (2) .
116 - القصد المحدود أو غير المحدود: ويستوى عند الفقهاء فى القتل شبه العمد أن يقصد الجانى شخصًا معينًا بالفعل الذى أدى لقتل، أو يقصد شخصًا غير معين أيًّا كان فالجانى مسئول فى الحالين عن فعله، ويعاقب عليه بعقوبة القتل شبه العمد إذا أدى لموت (3) .
117 - الخطأ فى الشخص والخطأ فى الشخصية: وإذا قصد الجانى شخصًا معينًا فأخطأه وأصاب غيره، كأن رماه بحجر فلم يصبه وأصاب الآخر، وقصد شخصًا على أنه زيد فتبين أنه عمرو فإن الجانى يسأل عن القتل الخطأ إذا توفى المجنى عليه ولا يسأل عن القتل شبه العمد. وهذا هو الرأى فى مذهب أبى حنيفة والشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، أما البعض الآخر فيرى أن الجانى يسأل عن القتل شبه العمد إذا كان الفعل الذى قصده محرمًا أما إذا كان غير محرم فيسأل عن القتل الخطأ (4) .
_________
(1) راجع الفقرة 89 من هذا الجزء.
(2) راجع الفقرة 98 من هذا الجزء.
(3) راجع الفقرة 95 من هذا الجزء.
(4) راجع الفقرة 96 من هذا الجزء.
(2/101)
________________________________________
118- رضاء المجنى عليه: وإذا كان المجنى عليه قد أذن بالفعل المؤدى للموت، فيرى أبو حنيفة مسئولية الجانى عن القتل شبه العمد؛ لأن الجانى أذن بالجرح ولم يأذن بالقتل فلما مات المجنى عليه تبين أن الفعل وقع قتلاً لا جرحًا ويخالفه أبو يوسف ومحمد فى هذا الرأى كما يخالفه الشافعى وأحمد ويرون أن لا مسئولية على الجانى. وقد تكلمنا عن هذا بتفصيل بمناسبة الكلام على القتل العمد (1) .
ولا عبرة بالبواعث التى دفعت الجانى لارتكاب الفعل، فسواء كانت هذه البواعث شريفة أو وضيعة فلا أثر لها على الجريمة ولا أثر لها على العقوبة؛ لأن العقوبة حد لا يجوز تخفيفها ولا إيقافها ولا العفو عنها.
* * *
الركن الثالث: أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية
119 - يشترط أن يكون بين الفعل الذى ارتكبه الجانى وبين الموت رابطة السببية: أى: أن يكون الفعل علة مباشرة للموت أو أن يكون سببًا فى علة الموت، فإذا انعدمت رابطة السببية فلا يسأل الجانى عن موت المجنى عليه، وإنما يسأل باعتباره جارحًا أو ضاربًا.
120 - ويكفى أن يكون فعل الجانى هو السبب الأول فى إحداث الوفاة ولو تعاونت معه أسباب أخرى على إحداث الوفاة: كإهمال العلاج أو إساءة العلاج أو ضعف المجنى عليه أو مرضه أو غير ذلك. وقد تكلمنا على ذلك بما فيه الكفاية بمناسبة الكلام على القتل العمد، وما قلناه هناك ينطبق هنا مما
_________
(1) راجع الفقرة 93 من هذا الجزء.
(2/102)
________________________________________
هو خاص بتعدد الأسباب وتواليها، وانقطاع آثارها، وتغلب بعضها على البعض الآخر (1) .
121 - والقضاء المصرى يتجه اتجاه الشريعة مخالفا بذلك النظرية الفرنسية: ومن المبادئ التى قررتها محكمة النقض المصرية: أنه لا يقبل من المتهم الاحتجاج بأن وفاة المجنى عليه الذى أصابته ضربة من الغير مطالبًا بأن يعمل كل احتياط لما عساه أن يحدث من هذه الضربة طالما أنه لم يعمل عملاً إيجابيًا ساءت به حالته (2) . وحكمت أيضًا محكمة النقض بأنه إذا كان سبب الوفاة هو التسمم الصديدى الناشىء من الإصابة مع الضعف الشيخوخى فلا يقبل من المتهم القول لعدم توفر رابطة السببية بين الضرب والوفاة، لأنه متى كان الضرب الذى وقع من المتهم هو السبب الأول المحرك للعوامل الأخرى المتنوعة التى تعلونت بطريق مباشر أو غير مباشر على إحداث النتيجة النهائية، فإن المتهم مسئول عن كافة النتائج التى ترتبت على فعله، ومأخوذ فى ذلك بقصده الاحتمالى ولو لم يكن يتوقع هذه النتائج لأنه كان يجب عليه قانونًا أن يتوقعها (3) .
* * *