الركن الثانى: القتل نتيجة لفعل الجاني
28 - فعل مميت من الجانى: يشترط لتحقق هذا الركن أن يحدث القتل بفعل الجانى، وأن يكون من شأن هذا الفعل إحداث الموت، فإن كان القتل نتيجة لفعل لا يمكن نسبته إلى الجانى أو لم يكن فعل الجانى ما يحدث الموت فلا يمكن اعتبار الجانى قاتلاً.
29 - نوع الفعل: ولا يشترط أن يكون الفعل من نوع معين لاعتباره قتلاً. فيصح أن يكون ضربًا أو جرحًا أو ذبحًا أو حرقًا أو خنقًا أو تسميمًا
_________
(1) نهاية المحتاج ج7 ص264 وما بعدها.
(2/25)
________________________________________
أو غير ذلك، ويصح أن يقع الفعل من الجانى مرة واحدة، ويصح أن يقع على التوالى فى مدة طالت أو قصرت.
30 - أداة الفعل ووسيلته: ولما كان العرف قد خصص لكل آلة استعمالاً، ولكل فعل من الأفعال القاتلة أداة أو وسيلة تحدثه أو يحدث بها ولا يمكن أن يحدث الفعل القاتل بغيرها، ولما كانت الوسائل والأدوات القاتلة تختلف اختلافًا بينًا فى قوتها وضعفها وأوجه استعمالها وتأثيرها على الجسم وتأثر الجسم بها، فقد رأى أكثر الفقهاء أن يرتبوا على اختلاف طبائع هذه الوسائل وآثارها اختلاف أحكامها وشروطها. وسنبين فيما يلى آراء الفقهاء المختلفة.
31 - رأى مالك: ولا يشترط الإمام مالك شروطًا خاصة فى الفعل القاتل أو فى أداة القتل فعنده "أن كل ما تعمده الإنسان من ضربة بلطمة أو بلكزة أو ببندقية أو بحجر أو بقضيب أو بغير ذلك؛ كل هذا قتل عمد، إذا مات فيه المجنى عليه"، "وأن هناك أشياء يتعمد الإنسان فعلها مثل: الرجلين يصطرعان فيصرع أحدهما صاحبه، أو يتراميان بالشىء على وجه اللعب، أو يأخذ أحدهما برجل الآخر على حال اللعب، فيسقط فيموت من هذا كله، فهذا هو القتل الخطأ ولا يكون قتلاً عمدًا لأن الجانى تعمده على وجه اللعب، فإذا تعمده على وجه القتال والغضب فصرعه فمات أو أخذ برجله فسقط فمات، فهو قتل عمد" (1) .
هذا هو نص المدونة، وظاهر منه أنه لا يشترط فى الفعل القاتل أو أداة القتل شروطًا خاصة، فاللطمة وهى لا تقتل غالبًا ولا كثيرًا تعتبر قتلاً عمدًا إذا مات منها المجنى عليه، وكذلك الضرب بالقضيب - أى العصا - والأخذ برجل المجنى
_________
(1) راجع مدونة الإمام مالك ج16 ص108 , والعبارات التى وضعت بين قوسين هى نص المدونة مع تصرف اقتضاء ربط العبارات.
(2/26)
________________________________________
عليه ومصارعته وقذفه بحجر كبير أو صغير ولا يشترط لاعتبار كل هذا قتلاً عمدًا إلا أن يتعمد الجانى الفعل على وجه العدوان ولو لم يقصد القتل.
ولكن بعض فقهاء المالكية بالرغم من ذلك يعرفون القتل العمد بأنه إتلاف النفس بآلة تقتل غالبًا أيا كان نوعها، أو بإصابة المقتل كعصر الأنثيين وشدة الضغط والخنق (1) . وظاهر من هذا التعريف أنهم يرون أن تكون آلة القتل مما يقتل غالبًا.
ويرى البعض الآخر أن الفعل يعتبر قتلاً عمدًا سواء كانت أداة القتل مما يقتل غالبًا كالسيف أو مما لا يقتل غالبًا كالعصا وكل ما يشترطونه لاعتبار القتل عمدًا أن لا يكون الفعل قد وقع بقصد اللعب أو التأديب (2) . وهذا الرأى هو الذى يتفق مع ما يقول به مالك من تقسيم القتل إلى عمد وخطأ فقط؛ لأن الفعل إما أن يكون عمدًا أو خطأ ولا يمكن اعتبار القتل بآلة لا تقتل غالبًا كالعصا قتلاً خطأ مع تعمد الجانى الفعل وقصده القتل.
32 - رأى الشافعى وأحمد: ويشترط الإمامان الشافعى وأحمد أن يكون القتل مما يقتل غالبًا ولو كانت الأداة مثقلاً لا يجرح (3) ، فإن لم تكن الأداة قاتلة غالبًا فالقتل ليس عمدًا وإنما شبه عمد.
وأدوات القتل على ثلاثة أنواع: نوع يقتل غالبًا بطبيعته كالسيف والسكين والرمح والإبرة المسممة والبندقية والمسدس وعمود الحديد والعصا الخفيفة، ونوع يقتل نادرًا بطبيعته كالإبرة غير المسممة واللطمة واللكزة.
وما يقتل كثيرًا أو نادرًا بطبيعته قد يقتل غالبًا فى بعض الظروف؛ كمرض المجنى عليه أو صغره أو لوقوع الإصابة فى مقتل، ولمعرفة ما إذا كانت الأداة
_________
(1) مواهب الجليل ج6 ص240.
(2) الشرح الكبير للدردير ح4 ص215.
(3) المثقل ما ليس له حد يجرح ولا سن يطعن كالعصا والحجر.
(2/27)
________________________________________
من هذين النوعين تقتل غالبًا أم لا يجب أن لا ننظر إلى الأداة وحدها مجردة عن كل ظرف آخر، بل علينا أن نظر إلى الأداة وينظر معها إلى صورة الفعل وظروفه وإلى حال المجنى عليه وموقع الفعل من جسمه وأثر الفعل فيه.
فإذا كانت الأداة تقتل غالبًا مع إدخال أحد هذه العناصر أو كلها فى الحساب فالفعل قتل عمد، وإذا كانت الأداة لا تقتل غالبًا مع النظر إلى أى عنصر من هذه العناصر فالفعل قتل شبه عمد، فمثلاً السوط أداة عدوان والعصا الخفيفة كذلك والضرب بأيهما لا يقتل غالبًا وإن قتل كثيرًا، ولكن تعدد الضربات وموالاتها يقتل غالبًا والضرب بأيهما فى الحر الشديد والبرد الشديد يقتل غالبًا، والضرب بهما فى مقتل كالبطن يقتل غالبًا وكذلك الضرب فى غير مقتل إذا أدى إلى الموت فى الحال، أو ترك آثارًا وآلامًا انتهت بالموت، وإذا كانت أداة القتل لا تقتل إلا نادرًا كالإبرة غير المسممة فإنها تعتبر مما يقتل غالبًا إذا بولغ فى إدخالها فى غير مقتل، أو إذا غرزت فى مقتل كالحلق والخصارة والمثانة أو فى مكان حساس أو إذا أدى غرزها إلى الموت فى الحال، والموت فى الحال مختلف فيه، فيرى البعض أنه قتل عمد، ويراه البعض أنه شبه عمد لأن المفروض أن الآلة لا تقتل غالبًا، وما دامت الإصابة فى غير مقتل وليس فى ظروف الفعل أو صورته أو حال المجنى عليه ما يجعل الفعل قاتلاً فى الغالب أو ترك آلامًا وآثارًا انتهت بالموت (1) .
33 - رأى أبى حنيفة: ويشترط الإمام أبو حنيفة فى أداة القتل أكثر مما يشترطه الإمامان الشافعى وأحمد، فهو يشترط مثلهما أن تكون أداة القتل
_________
(1) راجع فى مذهب الشافعى: نهاية المحتاج ج7 ص238 وما بعدها , حاشية البجيرمى على المنهج ج4 ص130 وما بعدها , تحفة المحتاج ج4 ص3 وما بعدها , المهذب ج2 ص187 وما بعدها وراجع فى مذهب ابن حنبل: المغنى ج9 ص321 وما بعدها , الشرح الكبير ج9 ص320 وما بعدها , الإقناع ج4 ص163 وما بعدها.
(2/28)
________________________________________
ما يقتل غالبًا، ويشترط أكثر منهما أن تكون الأداة مما يُعَدُّ للقتل، ولا يغنى عنده الشرط الأول عن الأخير، والآلة المعدة للقتل عنده هى كل آلة جارحة أو طاعنة ذات حد لها مَورْ فى الجسم، سواء كانت من الحديد أو النحاس أو الخشب أو غير ذلك كالسيف والسكين والرمح والإبرة وما أشبه ذلك أو ما يعمل عمل هذه الأشياء فى الجرح والطعن كالنار والزجاج والمروة والرمح الذى لا سنان له ونحو ذلك. وهناك رواية أخرى عن أبى حنيفة بأن الأداة المعدة للقتل هى ما كانت من الحديد ولو لم تكن جارحة أو طاعنة كالعمود وصنجة الميزان وظهر الفأس ويلحق بالحديد ما هو فى معناه كالرصاص والنحاس وغيرهما من المعادن.
فعلى هذه الرواية العبرة بالحديد وما هو فى حكمه سواء جرح أو لم يجرح وعلى الرواية السابقة العبرة بالجارح أو الطاعن سواء كان من حديد أو غير حديد وهى الرواية الراجحة.
فإذا كانت الآلة مما يقتل غالبًا، وكانت معدة للقتل كالسيف أو البندقية فالفعل قتل عمد فى رأى أبى حنيفة، أما إذا كانت الآلة مما يقتل غالبًا ولكنها ليست جارحة ولا طاعنة فالفعل قتل شبه عمد فى رأيه ولو كانت الآلة مدققة مكسرة كالخشبة الكبيرة والحجر الثقيل. والصور الآتية لا تعتبر فى رأى أبى حنيفة قتلاً عمدًا ولو كانت نية الضارب منصرفة لقتل وإنما هى فى رأيه قتل شبه عمد:
1 - أن يقصد الجانى القتل بعصًا صغيرة أو بحجر صغير أو بلطمة مما لا يقتل غالبًا وبشرط أن لا تتوالى الضربات وذلك لأن الأداة لا تقتل غالبًا، ولأنها غير معدة للقتل ولكن هذه الصورة تعتبر قتلاً عمدًا عند مالك دون شرط وتعتبر قتلاً عمدًا عند الشافعى وأحمد إذا كانت صورة الفعل أو ظرفه أو حال المجنى عليه أو موقع الإصابة وأثرها فى جسمه مما يجعل الأداة قاتلة غالبًا.
2 - أن يقصد الجانى القتل بما لا يقتل غالبًا مع موالاة الضربات حتى يموت
(2/29)
________________________________________
المجنى عليه. فهذه الصورة لا تعتبر قتلاً عمدًا عند أبى حنيفة؛ لأن أداة القتل لا تقتل غالبًا، ولأنها غير معدة للقتل، أما عند مالك والشافعى وأحمد فهى قتل عمد، وقد اعتبرها مالك عمدًا لمجرد تعمد الفعل بقصد العدوان أما الشافعى وأحمد فقد اعتبرا هذه الصورة قتلاً عمدًا لأن موالاة الضرب حتى الموت تجعل أداة القتل قاتلة غالبًا، ويكفى عندهما كما قدمنا أن تكون الأداة قاتلة غالبًا ليكون الفعل قتلاً عمدًا.
3 - أن يقصد الجانى القتل بمثقل يقتل غالبًا أى بأداة ثقيلة ليست جارحة ولا طاعنة؛ كمدقة القصارين والحجر الكبير والعصا الغليظة وما أشبه وهذه الصورة أيضًا لا تعتبر عند أبى حنيفة قتلاً عمدًا لأن الأداة وإن كانت تقتل غالبًا إلا أنها ليست مما يعد للقتل.
ولكن مالكًا والشافعى وأحمد يعتبرون هذه الصورة من صور القتل العمد ويأخذ أبو يوسف ومحمد من فقهاء مذهب أبى حنيفة رأى الأئمة الثلاثة فيعتبران هذه الصورة قتلاً عمدًا مخالفين رأى أبى حنيفة ورأيهما هو الراجح فى المذهب (1) .
على أن موافقة أبى يوسف ومحمد للأئمة الثلاثة لا تعنى الآخذ برأى أحدهم وترك رأى صاحبهما أبى حنيفة فإنهما قد وافقا الأئمة الثلاثة على تمسكهما بقاعدة أبى حنيفة وهى اشتراط أن تكون الآلة مما يقتل غالبًا وأن تكون معدة للقتل، وكل ما فى الأمر أنهما اعتبرا المثقل أداة معدة للقتل على اعتبار أن المثقل يستعمل غالبًا فى القتل فأصبح بهذا الاستعمال أداة قاتلة، وما دام المثقل أداة تقتل غالبًا ومعدة للقتل فالقتل به قتل عمد على شرط أبى حنيفة وهكذا جاء اتفاقهما مع الأئمة الثلاثة نتيجة لمخالفة أبى حنيفة فى اعتبار المثقل أداة معدة للقتل لا نتيجه للأخذ برأى أحد من الأئمة الثلاثة.
34 - أساس الخلاف بين مالك والفقهاء الثلاثة: أساس الخلاف أن
_________
(1) راجع: بدائع الصنائع ج7 ص233 , البحر الرائق ج8 ص287, الزيلعى ح6 ص98.
(2/30)
________________________________________
مالكًا لا يعترف بالقتل شبه العمد، ويرى أنه ليس فى كتاب الله إلا العمد والخطأ فمن زاد قسمًا ثالثًا زاد على النص ذلك أن القرآن نص على القتل العمد والقتل الخطأ فقط ولم ينص على غيرهما فقال تعالى: {مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 92, 93] .
والقتل العمد عند مالك هو: كل فعل تعمده الإنسان بقصد العدوان فأدى للموت أيًا كانت الآلة المستعملة فى القتل أما ما تعمده على وجه اللعب أو التأديب فهو قتل خطأ إذا لم يخرج الفعل عن حدود اللعب والتأديب المعروفة وكان بآلة اللعب والتأديب المعدة لهما، فإن خرج عن ذلك فهو قتل عمد.
ومن طبيعة تقسيم القتل إلى عمد وخطأ أن يكتفى بتعمد الجانى الفعل على وجه العدوان دون النظر إلى الآلة المستعملة فى القتل، لأن اشتراط شروط فى الآلة كأن تكون قاتلة غالبًا أو معدة للقتل يقتضى أن تكون كل الأفعال المتعمدة التى تحصل بآلة لا تقتل غالبًا كالعصا الخفيفة والسوط فلا خطأ حتى مع تعدد الضرب وموالاته. كما يقتضى أن تكون الأفعال المتعمدة التى تحصل بما لم يعد للقتل كإسقاط حائط على إنسان أو إلقائه من شاهق أو ضربه بعصًا غليظة قتلاً خطأ وهذا ما لم يقل به أحد قط، فطبيعة تقسيم القتل إلى عمد وخطأ هى التى اقتضت من مالك أن لا يشترط فى الآلة القاتلة أى شرط وسواء كانت الآلة تقتل غالبًا أو تقتل كثيرًا أو نادرًا فالقتل عمدٌ ما دام الفعل عمدًا وبقصد العدوان. بل إن هذا التقسيم اقتضى أن لا يشترط حتى قصد القتل؛ لأن اشتراطه يخرج بكثير من حالات العمد ويجعلها خطأ، وهى ليست كذلك.
(2/31)
________________________________________
35- أما بقية الأئمة فيرون أن القتل عمد وشبه عمد وخطأ: وحجتهم فى شبه العمد حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن فى قتيل السوط.." الحديث. فاقتضت منهم طبيعة هذا التقسيم أن يفرقوا بين نوعين من الأفعال المتعمدة هما: القتل العمد، والقتل شبه العمد، زقد استعانوا فى التفرقة بين هذين النوعين بمميز صالح للتمييز هو قصد القتل، فإذا قصد الجانى القتل فالفعل قتل عمد، وإذا لم يقصده فهو قتل شبه عمد، لكنهم وجدوا أن القصد أمر داخلى يتعلق بنية الجانى وقلما يطلع الآخرون عليه، وأن وجوده يكون دائمًا مشكوكًا فيه ما لم يدل عليه دليل خارجى فإذا وجد هذا الدليل الخارجى زال الشك ومن ثم رأوا أن قيام قصد القتل فى نية الجانى لا يكفى وحده لثبوته واشترطوا لاعتبار القصد ثابتًا أن يكون من ثبوته دائمًا عن طريق الوسيلة أو الآلة التى ارتكبت بها الجريمة لأنها تعبر عن نية الجانب وقصده من الجريمة، ولأنها هى الدليل الخارجى الظاهر على نية الجانى.
ولما أرادوا تحديد هذا الدليل الخارجى اختلفوا: فرأى الشافعى وأحمد أن الدليل على قصد القتل هو استعمال آلة أو وسيلة تقتل غالبًا. ورأى أبو حنيفة أن الدليل الخارجى على قصد القتل هو استعمال آله أو وسيلة تقتل غالبًا على أن تكون الآلة والوسيلة مما يعد للقتل.
36- كيف يثبت قصد القتل؟: ويخلص مما سبق أن قصد القتل يثبت من وجهين:
أولاً: عن طريق الآلة المستعملة فى الجريمة. ثانيًا: عن طريق الأدلة العادية كالاعتراف، وشهادة الشهود. ولكن لا يمكن أن يعتبر القصد ثابتًا بأى حال ما لم يثبت قصد القتل عن الطريق الأول، لأن كل إثبات يجئ عن الطريق الثانى يعتبر مشكوكًا فيه حتى يزول الشك بثبوت القصد عن طريق الآلة أو الوسيلة المستعملة فى القتل.
واعتبار القصد الجنائى ثابتًا باستعمال آلة قاتلة ليس قرينة قاطعة ولا دليلاً غير قابل للنفى، فيجوز للجانى أن يثبت أنه لم يستعمل الآلة القاتلة بقصد القتل، فإذا استطاع إثبات دفاعه انتفى وجود قصد القتل واعتبر الفعل قتلاً شبه عمد.
(2/32)
________________________________________
37 - أساس الخلاف بين الشافعى وأحمد وبين أبى حنيفة: أما الخلاف بين الشافعى وأحمد من جهة وبين أبى حنيفة من جهة أخرى فأساسه اختلاف وجهة النظر فى تحديد معنى القتل العمد، فأبو حنيفة يرى أن عقوبة القتل العمد عقوبة متناهية فى الشدة، وهذا يستدعى أن تكون جريمة العمد متناهية فى العمد، بحيث يكون القتل عمدًا محضًا لا شبهة فيه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العمد قود" فشرط العمد مطلقًا من كل قيد والعمد المطلق هو العمد الكامل من كل وجهة، أو هو العمد الذى لا شبهة فيه, فلا يعتبر العمد كاملاً مع قيام الشبهة ووجودها ذلك أن الفرق بين العمد وشبه العمد هو قصد القتل فقط، فيجب أن يكون القصد بحيث لا شبهة فيه, والشبهة لا تكون إذا كان القتل بآلة تقتل غالبًا ومعدة للقتل لأن استعمال هذه الآلة يظهر بجلاء قصد الجانى بحيث لا يدخله الاحتمال ولا الشبهة فما كان هكذا اعتبر العمد فيه كاملاً من كل وجه وكان قتلاً عمدًا، ولهذا اعتبر أبو حنيفة القتل بضربة أو ضربتين على قصد القتل قتلاً شبه عمد, ولم يعتبره قتلاً عمدًا لأن الضربة أو الضربتين مما لا يقصد به القتل عادة، بل يقصد به التأديب والتهذيب عادة فكان هذا الاعتبار شبهة فى القصد، والقتل العمد لا يعتبر موجودًا مع قيام الشبهة فى القصد، وكذلك اعتبر الموالاة فى الضرب بقصد القتل قتلاً شبه عمد إذا أدى الضرب للموت، لأنه يحتمل حصول القتل بضربة أو ضربتين على سبيل الاستقلال دون حاجة إلى الضربات الأخرى، والقتل بضربة أو ضربتين لا يكون عمدًا كما تبين مما سبق لاحتمال أن الضربة والضربتين قصد بها التأديب والتهذيب، والقاعدة عند أبى حنيفة أنه إذا جاء الاحتمال جاءت الشبهة وإذا جاءت الشبهة امتنع القول بتوفر قصد القتل وبالتالى بتوفر القتل العمد.
أما فى المثقل: فيرى أبو حنيفة أن استعمال آلة تقتل غالبًا ولكنها غير معدة للقتل هو فى ذاته دليل على عدم القصد، لأن الأصل عنده أن كل فعل يحصل
(2/33)
________________________________________
بالآلة المعدة له، فإذا حدث بآلة لم تعد له احتمل أن الفاعل لم يقصد هذا الفعل بالذات، وهذا الاحتمال شبهة والشبهة تمنع القول بالقتل العمد.
38 - أما الشافعى وأحمد: فمن رأيهما أن الاكتفاء بأن تكون الآلة قاتلة غالبًا أيًا كان نوعها؛ لأنها إذا كانت كذلك فهى بذاتها دليل على توفر قصد القتل وانتفاء قصد التأديب والتهذيب فإذا انضم هذا إلى وجود قصد القتل فى نية الفاعل، كان العمد كاملاً لا شبهة فيه، ووجوب اعتبار الفعل قتلاً عمدًا.
وعلى هذا الأساس اعتبرا الضربة والضربتين بعصًا خفيفة قتلاً عمدًا إذا كانت الآلة تقتل غالبًا لظروف المجنى عليه أو الفعل أو غير ذلك، كما أنهما اعتبرا الموالاة فى الضرب قتلاً عمدًا؛ لأن الموالاة تجعل الآلة قاتلة غالبًا واعتبرا الضرب بالمثقل قتلاً عمدًا لأنه يقتل غالبًا فكان اتعماله دليل القصد إلى القتل، فإذا انضم هذا إلى أصل القصد الكامن فى نية الجانى كان العمد كاملاً لا شبهة فيه.
39 - خلاف أبى يوسف ومحمد لأبى حنيفة: خالفاه فى المثقل واعتبرا القتل به قتلاً عمدًا، بينما اعتبر أبو حنيفة بالمثقل قتلاً شبه عمد كما بينا، وحجتهما أن الضرب بالمثقل مهلك غالبًا وأنه لا يستعمل فى الضرب إلا بقصد القتل، فجعله هذا الاستعمال أداة معدة للقتل ومن ثم كان استعماله باعتباره آلة تقتل غالبًا ومعدة للقتل دليلاً على قصد القتل كاستعمال السيف، ووجب اعتبار الفعل قتلاً عمدًا لانتفاء الشبهة فى القصد ولوجود العمد كاملاً (1) .
40 - بين الشريعة والقانون: لا تفترق آراء شراح القوانين كثيرًا عن آراء الفقهاء التى عرضناها فشراح القوانين يفرقون كما يفرق الفقهاء بين الفعل القاتل وسيلة القتل ويشترط الشراح عمومًا فى القتل الموقوف أو الخائب الأثر أن تكون الوسائل المستخدمة فيه مما يحدث الموت، لأن تخلف هذا الشرط يجعل الجريمة مستحيلة الوقوع بالوسيلة التى استخدمها الجانى.
_________
(1) راجع: بدائع الصنائع ج7 ص234 , البحر الرائق ج8 ص288.
(2/34)
________________________________________
41 - ويختلف الشراح فيما إذا كانت وسيلة القتل لا تحدث القتل غالبًا وكانت تحدثه فى الكثير أو النادر: كمن يلطم الآخر أو يلكزة أو يضربه بعصًا رفيعة أو يجرحه فى غير مقتل وهو قاصد قتله. فيرى البعض وهم أصحاب النظرية المستحيلة أن الفعل إذا لم يؤد للوفاة لا يعتبر شروعًا قى قتل عمد؛ لأن نية القتل عندهم لا تكفى وحدها لاعتبار القتل عمدًا بل يجب أن تكون أداة القتل من شأنها إحداث القتل؛ أى مما يقتل غالبًا لأن الجرح والضرب قد يقتل كثيرًا أو نادرًا وليس هذا الشأن اللطم واللكز والضرب الخفيف والجرح فى غير مقتل. وعلى هذا الأساس يعتبرون الضرب والجرح فى هذه الحالة ضربًا عاديًا.
ويرى البعض الآخر أن مثل هذه الأفعال يصح أن تكون شروعًا فى قتل لأنها تؤدى غالبًا للموت إذا تكرر وقوعها أى مع موالاة الضرب والجرح أو تعدد الإصابات.
ورأى الفريق الأول يتفق مع رأى أبى حنيفة فى الضرب البسيط وضرب الموالاة كما يتفق مع رأى أبى يوسف ومحمد فى الضرب بالمثقل، لأنهم ينظرون إلى طبيعة أداة القتل دون نظر إلى تعدد الفعل وظروفه وحال المجنى عليه وأثر الفعل فيه أما رأى الفريق الثانى فيتفق تمامًا مع رأى الشافعى وأحمد ومن باب أولى مع رأى مالك. ويلاحظ أن نفى الاتفاق فيما يختص بأداة القتل فقط لا فيما يختص بالمسئولية عن الفعل.
42 - أما إذا أعقب الضرب والجرح البسيط حدوث الموت: فعامة الشراح فى فرنسا على أن الفعل يعتبر ضربًا أفضى إلى الموت إذا أمكن القطع بأن الوفاة نشأت عن الضرب والجرح. أما إذا كان من المرجح أن مرض المجنى عليه السابق على الواقعة أو التالى لها وإهماله العلاج هو الذى سبب الموت، فلا يسأل الجانى إلا عن الضرب فقط دون الموت ولو أن المجنى عليه لم يمت إلا على أثر الضرب أو الجرح؛ لأن الموت فى نظر هؤلاء الشراح لم يكن نتيجة مباشرة لفعل الجاني؛ أى أن فعل الجانى لم يكن السبب المنتج، بل هو سبب
(2/35)
________________________________________
عارض فقط، وهذا يتفق كل الاتفاق مع رأى أبى حنيفة فى القتل العمد عمومًا كما يتفق مع رأى أبى يوسف ومحمد فى مسألة المثقل (1) .
43 - الأفعال المتصلة بالقتل: والأفعال التى تتصل بالقتل لا تعدو فعلاً من ثلاثة فهى: إما مباشرة، وإما سبب، وإما شرط. والتمييز بين هذه الأفعال ضرورى للتمييز بين القاتل وغير القاتل (2) .
44 - المباشرة: يعرف الفقهاء المباشرة بأنها ما أثر فى التلف وحصله؛ أى ما جلب الموت بذاته دون واسطة وكان علة له؛ كالذبح بسكين فإن الذبح يجلب الموت بذاته وهو فى الوقت نفسه علة الموت، وكالخنق فإنه متلف بذاته للمجنى عليه وهو فى الوقت نفسه عله تلفه، أى: ما أتلف المجنى عليه وكان علة تلفه.
45 - ويعرفون السبب: بأنه ما أثر فى التلف ولم يحصله أى ما كان علة للموت ولكنه لم يحصله بذاته وإنما بواسطة كشهادة الزور على برىء بالقتل فإنها علة للحكم عليه بالإعدام ولكنها لا تجلب بذاتها الإعدام، وإنما الذى يجلبه فعل الجلاد الذى يتولى تنفيذ الحكم، وكذلك حفر بئر وتغطيتها فى طريق المجنى عليه بحيث يسقط فيه ويموت من سقطته.
والسبب على ثلاثة أنواع:
1 - حسى: كالإكراه فإنه يولد فى المكره داعية القتل.
2 - شرعى: كشهادة الزور على القتل، فإنها تولد فى القاضى دواعى الحكم بالإعدام.
3 - ما يولد المباشرة توليدًا عرفيًا لا حسيًا ولا شرعيًا: كتقديم الطعام المسموم إلى الضيف وحفر بئر وتغطيتها فى طريق القتيل،
_________
(1) راجع: أحمد بك أمين ص309 الموسوعة الجنائية ج5 ص685, 687.
(2) راجع: نهاية المحتاج ج7 ص240, الوجيز للإمام الغزالى ج2 ص122 وما بعدها.
(2/36)
________________________________________
فإن حفر البئر علة للموت ولكن الحفر ليس هو الذى أمات المجنى عليه وإنما السقطة هى التى أماتت والسبب يشبه المباشرة من وجه فكلاهما علة للموت؛ فمعنى ذلك أن الفعل المباشر المؤدى للموت يتولد عن السبب.
46- الشرط: هو ما لا يؤثر فى التلف ولا يحصل بل يحصل التلف عنده بغيره ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه أى هو ما لا يكون علة للموت ولا يجلب الموت، أو هو كل فعل لم يتلف المجنى عليه، ولم يكن علة فى تلفه ولكن وجوده جعل فعلاً آخر متلفًا أو علة فى التلف ولولا وجوده ما كان لهذا الفعل الآخر ذلك التأثير. ومثل ذلك أن يلقى إنسان بآخر فى بئر حفره ثالث بغير غرض للقتل، فيموت الثانى، فإن ما أثر فى التلف وحصله هو الإلقاء لا حفر البئر ولكن الإلقاء ما كان يمكن أن يكون له الأثر الذى حدث لولا وجود البئر.
47 - المسئولية عن المباشرة والمتسبب والشرط: صاحب الشرط لا مسئولية عليه إطلاقًا لأن فعله ليس علة للموت ولم يؤد للموت لا بالذات ولا بالواسطة أما صاحب المباشرة وصاحب السبب فكلاهما مسئول عن فعله لأنه علة للموت وأدى إليه بالذات أو الواسطة، فيستوى بذلك لدى الفقهاء أن يكون القتل العمد مباشرة أو تسببًا إذ لا عبرة بالفرق الظاهر بين المباشرة والسبب وإذا كان فعل الجانى مباشرة سمى القتل قتلاً مباشرًا وإذا كان سببًا سمى القتل قتلاً بالتسبب.
48 - قدرة المجنى عليه على دفع أثر المباشرة والتسبب: ويدق الأمر فى تحديد المسئولية إذا كان المجنى عليه قادرًا على دفع أثر فعل الجانى، وقد وضع بعض الفقهاء القواعد الآتية بحكم هذه الحالة:
1 - إذا كان الفعل مهلكًا والدفع غير موثوق به كترك معالجة الجرح، اعتبر القاتل قاتلاً ولا عبرة بترك العلاج.
2 - إذا كان الفعل غير مهلك والدفع موثوق به كمن ألقى آخر فى ماء قليل فبقى مستلقيًا فيه حتى نام أو تصلبت أطرافه من البرد، فإن الفاعل لا يعتبر
(2/37)
________________________________________
قاتلاً إذ الموت نتيجة لبقاء المجنى عليه فى الماء وليس نتيجة إلقائه فيه. ويختلف الفقهاء فى تطبيق هذا المبدأ فالشافعية يرون أن من فُصد فلم يربط جرحه حتى مات لا يسأل من فصده عن القتل، والحنفية يرون أنه مسئول لأنه أحدث الجرح الذى أدى إلى الوفاة وأن الدفع لم يكن موثوقًا به (1) .
3 - إذا كان الفعل مهلكًا والدفع سهل كما لو أُلقى من يحسن السباحة فى ماء مُغرق فلم يسبح وترك نفسه يغرق، وكما أُلقى شخص فى نار قليلة يستطاع الخروج منها فبقى فيها حتى احترق، ففى هذه الحالة خلاف، فالبعض يرى أن الفاعل قاتل لأن الإلقاء فى الماء يدهش الملقَى عن السباحة فيغرق، ولأن أعصاب الملقى فى النار تشنج بإلقائه فى النار فتعسر عليه الحركة ولأن العادة ألا يستسلم الناس للموت، فيكون القتل نتيجة للإلقاء، ويرى البعض أن الفاعل لا يعتبر قاتلاً ما دام المجنى عليه كان يستطيع السباحة فلم يفعل والخروج من النار فبقى فيها مختارًا (2) .
وأسباب الخلاف هو اختلاف وجهة النظر فى تصور حال المجنى عليه فلو علم قطعًا أنه بقى مختارًا فالملقى لا يعتبر قاتلاً بلا خوف ولو علم قطعًا أنه لم يكن مختارًا فى بقائه فالملقى قاتل دون خلاف.
49 - ولا يشترط الفقهاء أن يكون القتل العمد حاصلاً بيد الجانى مباشرة: فيستوى عندهم فى القتل العمد أن يكون مباشرة أو تسببًا فإذا ذبح الجانى المجنى عليه بسكين فهو قاتل عمدًا وإذا أعد الجانى وسائل الموت وهيأ أسبابه للمجنى عليه فهو قاتل عمدًا، ولو كان الموت معلقًا على ظرف معين أو على مشيئة المجنى عليه، فُيعَدُّ قاتلاً عمدًا من يحفر بئرًا فى طريق المجنى عليه ويسترها عن نظره أو جسرًا فى طريقه، ولو كان المرور فى الطرق معلقًا على ظرف خاص أو على مشيئة المجنى عليه، وهكذا فى غير ذلك من الصور ما دام الفعل يحدث الموت بذاته أو ما دام بين الفعل والموت رابطة السببية (3) .
_________
(1) المغنى ج9 ص326.
(2) الوجيز ج2 ص122 وما بعدها.
(3) نهاية المحتاج ج7 ص240 , المغنى ج9 ص332 وما بعدها, مواهب الجليل ج6 ص241 , 242, بدائع الصنائع ج7 ص239.
(2/38)
________________________________________
50 - رأى لأبى حنيفة: وأبو حنيفة كبقية الفقهاء لا يفرق بين القتل المباشر والقتل بالتسبب ويعتبر كليهما قتلاً عمدًا، ولكنه يجعل عقوبة القصاص للقتل المباشر ويدرؤها عن القاتل بالتسبب ويجعل بدلاً منها الدية، وحجته فى هذا أن عقوبة القتل العمد هى القصاص، ومعنى القصاص المماثلة، والقصاص فى ذاته قتل بطريق المباشرة، فيجب أن يكون الفعل المقتص عنه قتلاً بطريق المباشرة ما دام أساس عقوبة القصاص المماثلة فى الفعل، فمن حفر بئرًا ليسقط فيها آخر بقصد لا يقتص منه لأن الحفر سبب القتل ولكنه لم يؤد إليه مباشرةً، ومن شهد على آخر بأنه ارتكب جريمة عقوبتها القتل فحكم عليه بالقتل على أساس هذه الشهادة لا يقتص منه لأن الشهادة وإن كانت سبب الحكم بالإعدام إلا أنها لم تؤد إلى إعدام المشهود عليه مباشرة (1) .
51 - تعدد المباشرة والسبب: وإذا كان الجانى واحدًا كان فعله إما مباشرة أو تسببًا إذا كان فعلاً واحدًا فإذا تعددت أفعال الجانى أو تعدد الجناة تعددت تبعًا لذلك أفعال المباشرة والتسبب، وقد تكون الأفعال جميعها مباشرة، وقد تكون جميعها تسببًا، وقد يكون بعضها مباشرة وبعضها تسببًا.
52- اجتماع مباشرتين فأكثر: إذا تعددت أفعال الجانى المباشرة فسواء كانت كلها قاتلة إذا انفردت أو بعضها فقط هو القاتل، وسواء وقعت مجتمعة أو متعاقبة فالجانى مسئول عن القتل العمد ما دام فعله أو أفعاله من شأنها إحداث الموت وما دام أنها قد أدت إليه فعلاً.
أما إذا كانت الأفعال المباشرة من أشخاص متعددين فالحكم يختلف بحسب ما إذا كانت قد وقعت منهم مجتمعين متمالئين أو وقعت منهم على التعاقب، وقبل الكلام على هاتين الحالتين يجب أن نعرف أولاً معنى التمالؤ.
53- التمالؤ: الأصل فى التمالؤ هو قضاء عمر رضى الله عنه، فقد كان
_________
(1) بدائع الصنائع ج7 ص239.
(2/39)
________________________________________
بمدينة صنعاء امرأة غاب عنها زوجها وترك فى حجرها ابنًا له من غيرها يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقلته، فأبى، فامتنعت عنه فطاوعها فاجتمع على قتل الغلام خليل المرأة ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثم قطعوه أعضاء وألقوا به فى بئر، ولما ظهر أمر الحادث وفشا بين الناس، أخذ أمير اليمن خليل المرأة فاعترف ثم اعترف الباقون، فكتب إلى عمر بن الخطاب بخبر ما حصل، فكتب إليه عمر أن اقتلهم جميعًا، وقال: "والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا".
وروى على على أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلاً وعن ابن عباس قتل جماعة بواحد، ولم يعرف لهم فى عصرهم مخالف فكان قتل الجماعة بالواحد إجماعًا لأنه عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد عل الجماعة كعقوبة القذف للواحد على الجماعة، فضلاً عن أن القصاص لا يتبعض فلو سقط بالاشتراك لأدى ذلك إلى التسارع إلى القتل وضاعت حكمة الوضع والزجر.
ومع أن الأئمة الأربعة يسلمون بأن الجماعة تقتل بالواحد إلا أنهم اختلفوا فى معنى التمالؤ، فأبو حنيفة يرى أن التمالؤ هو توافق إرادات الجناة على الفعل دون أن يكون بينهم اتفاق سابق، بحيث يجتمعون على ارتكاب الفعل فى فَوْر واحد دون سابقة من تدبير أو اتفاق، ويأخد بهذا الرأى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد كما هو الظاهر (1) . ولا يرتب أبو حنيفة على التمالؤ نتيجة ما، فإذا لم يكن فعل الجانى قاتلاً فلا أثر للتمالؤ عليه.
ويرى مالك أن التمالؤ عنى الاتفاق السابق على ارتكاب الفعل والتعاون على ارتكابه، وأن التوافق على الاعتداء لا يعتبر تمالؤًا ويأخذ بهذا الرأى بعض فقهاء مذهب الشافعى ومذهب أحمد ولكنهم يخالفون مالكًا فى أنهم
_________
(1) الزيلعى ج6 ص114, البحر الرائق ج8 ص310, المغنى ج9 ص366, الشرح الكبير ج9 ص335 وما بعدها , المهذب ج2 ص186.
(2/40)
________________________________________
لا يعتبرون متمالئًا إلا من اشترك فى ارتكاب الفعل بصفته فاعلاً له (1) .
أما مالك فيعتبر متمالئًا كل من حضر الحادث وإن لم يباشر الفعل إلا أحدهم أو بعضهم، لكن بحيث إذا لم يباشره هذا لم يتركه الآخر فهو فيعتبر متمالئًا كل من حضر ولو كان ربيئة - أى رقيبًا - بشرط أن يكون مستعدًا لتنفيذ ما اتفقوا عليه (2) .
54 - القتل المباشر على الاجتماع: من المتفق عليه بين الفقهاء الأربعة أنه إذا قام جماعة بقتل شخص فى فور واحد بأن توافقت إرادتهم على القتل وقت الحادث فقط دون اتفاق سابق فإن كلاً منهم يعتبر قاتلاً عمدًا له إذا كان فعل كل منهم يمكن تميزه وكان على انفراده له دخل فى إحداث الموت؛ كأن جرحه كل منهم جرحًا أو جراحًا قاتلة لها دخل فى زهوق روحه ولا عبرة بالتفاوت بين الجناة فى عدد الجراح وفُحشْها، فإذا أحدث أحدهم جرحا والآخر عشرة، وإذا أحدث أحدهم جرحًا فاحشًا وأحدث الآخر جرحًا أقل فحشًا فكل منهم مسئول عن القتل العمد ما دام قد أحدث جرحًا له دخل فى إحداث الوفاة.
وإذا كان فعل أحدهم لا دخل له فى الزهوق فلا يعتبر قاتلاً وإنما يسأل فقط عن الجرح أو الضرب، والعبرة بقول الخبراء فى كون الفعل له دخل فى الزهوق أم لا، فمن قرر الخبراء أن لفعله دخلاً فى الزهوق فهو قاتل عمدًا، ومن قرروا أن فعله لا دخل له فى الزهوق فهو جارح أو ضارب، وإذا لم تتميز أفعالهم فلم يعرف المزهق من غير المزهق فهم جارحون أو ضاربون ولا يسألون عن القتل لأن الجرح والضرب هو المتيقن منهم.
وهذا هو رأى الأئمة ما عدا مالكًا، ويرى بعض فقهاء الحنفية مسئوليتهم جميعًا عن القتل إذا لم تتميز أفعالهم (3) .
_________
(1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217, 218, نهاية المحتاج ج7 ص261, 263, تحفة المحتاج ج4 ص14,15 حاشية البيجرمى على المنهج ج4 ص140, الإقناع ج4 ص175.
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) حاشية ابن عابدين ج3 ص490.
(2/41)
________________________________________
وإذا كان فِعل كل منهم منفردًا لا دخل له فى الزهوق ولكن أفعالهم مجتمعة أدت إليه، فيرى بعض الشافعية أن كلاً منهم يعتبر قاتلاً عمدًا.
وقد أخذت محكمة النقض المصرية بهذا الرأى فى حكم لها قضت فيه بأنه متى كان الثابت أن كلاً من المتهمين قد ضرب القتيل وأن ضربته ساهمت فى إحداث الوفاة كان كل منهم مسئولاً عن الوفاة ولو لم يكن بينهم اتفاق سابق ولو كانت الضربة الحاصلة من أحدهم ليست بذاتها قاتلة، فإذا كان الثابت أن كلاً منهم قد قصد القتل كان مسئولاً أيضًا عن جناية القتل (1) .
ولا يرى البعض ذلك وهو متفق مع مذهب أبى حنيفة وأحمد (2) .
أما مالك فيرى أنه إذا لم تتميز الضربات أو تميزت سواء تساوت أو اختلفت ولكن لم يعلم عن مَنْ أحدثت ضربته الموت، فهم جميعًا قاتلون إذا ضربوه عمدًا عدوانًا، وفى المذهب يرى سقوط القصاص وإحلال الدية محلة إذا لم تتميز الضربات ولم يعلم من أيها مات، وهو رأى مرجوح (3) .
هذا هو حكم القتل على الاجتماع عند القائلين بأن التمالؤ هو التوافق فهم يعتبرون القتل على الاجتماع مصحوبًا دائمًا بتوافق الإرادات أى التمالؤ.
أما من يرون أن التمالؤ هو الاتفاق السابق وليس التوافق فيعطون الأحكام السابقة للجماعة غير المتمالئين فإن كانوا متمالئين على القتل فإنهم يسألون جميعًا عن القتل العمد، سواء كان فعل كل منهم له دخل فى الزهوق منفردًا أو مجتمعًا أو لا دخل له وسواء تميزت الأفعال أو لم تتميز ولو ضربوه بسياط أو عصًا خفيفة أو بأيديهم ولو كان ضرب كل منهم غير قاتل نحو أن يضربه كل
_________
(1) نقض فى 7 نوفمبر 1938 , المحاماة س19 ص615.
(2) نهاية المحتاج ح7 ص263 , الإقناع ج4 ص170.
(3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217 , 218.
(2/42)
________________________________________
منهم سوطًا أو نحو أن يضربوه على التوالى (1) .