بسم الله الرحمن الرحيم
كشف القرآن الكريم لطبيعة أهل الكتاب وموقفهم من الرسول والرسالة
كشف القرآن الكريم لطبيعة أهل الكتاب وموقفهم من الرسول والرسالة
فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 413)
يكشف القرآن الكريم للجماعة المسلمة عما يريده بها أهل الكتاب من وراء كل جدال وكل مراء. ويواجه أهل الكتاب بألاعيبهم وكيدهم وتدبيرهم على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة أيضا. وهو يمزق عنهم الأردية التي يتخفون تحتها ، فيقفهم أمام الجماعة المسلمة عراة مفضوحين :
« وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ : آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ - قُلْ : إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ - أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ - قُلْ : إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».
إن الإحنة التي يكنها أهل الكتاب للجماعة المسلمة هي الإحنة المتعلقة بالعقيدة. إنهم يكرهون لهذه الأمة أن تهتدي. يكرهون لها أن تفيء إلى عقيدتها الخاصة في قوة وثقة ويقين. ومن ثم يرصدون جهودهم كلها لإضلالها عن هذا المنهج ، والإلواء بها عن هذا الطريق :
«وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ» ..
فهو ود النفس ورغبة القلب والشهوة التي تهفو إليها الأهواء من وراء كل كيد ، وكل دس ، وكل مراء ، وكل جدال ، وكل تلبيس.
وهذه الرغبة القائمة على الهوى والحقد والشر ، ضلال لا شك فيه. فما تنبعث مثل هذه الرغبة الشريرة الآثمة عن خير ولا عن هدى. فهم يوقعون أنفسهم في الضلالة في اللحظة التي يودون فيها إضلال المسلمين.
فما يحب إضلال المهتدين إلا ضال يهيم في الضلال البهيم : «وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَما يَشْعُرُونَ» ..
والمسلمون مكفيون أمر أعدائهم هؤلاء ما استقاموا على إسلامهم وما لهم عليهم من سبيل. واللّه سبحانه يتعهد لهم ألا يصيبهم كيد الكائدين ، وأن يرتد عليهم كيدهم ما بقي المسلمون مسلمين.
هنا يقرع أهل الكتاب بحقيقة موقفهم المريب المعيب : «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟» ..
ولقد كان أهل الكتاب وقتها - وما يزالون حتى اليوم - يشهدون الحق واضحا في هذا الدين. سواء منهم المطلعون على حقيقة ما جاء في كتبهم عنه من بشارات وإشارات - وكان بعضهم يصرح بما يجد من هذا كله وبعضهم يسلم بناء على هذا الذي يجده في كتبه ويشهده متحققا أمامه - وسواء كذلك غير المطلعين ، ولكنهم يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان .. غير أنهم يكفرون .. لا لنقص في الدليل. ولكن للهوى والمصلحة والتضليل .. والقرآن يناديهم : «يا أَهْلَ الْكِتابِ» .. لأنها الصفة التي كان من شأنها أن تقودهم إلى آيات اللّه وكتابه الجديد.
كذلك يناديهم مرة أخرى ليفضح ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل ، على علم وعن عمد وفي قصد .. وهو أمر مستنكر قبيح! وهذا الذي ندد اللّه به - سبحانه - من أعمال أهل الكتاب حينذاك ، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة .. فهذا طريقهم على مدار التاريخ .. اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى. ثم تابعهم الصليبيون! وفي خلال القرون المتطاولة دسوا - مع الأسف - في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله - اللهم إلا هذا الكتاب المحفوظ الذي تكفل اللّه بحفظه أبد الآبدين - والحمد للّه على فضله العظيم.
دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله. ودسوا ولبسوا في الحديث النبوي حتى قيض اللّه له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود. ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيها لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق. ودسوا ولبسوا في الرجال أيضا. فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي - وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها : إنهم مسلمون. والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية ، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين!
وما يزال هذا الكيد قائما ومطردا. وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون.
كذلك يعرض بعض المحاولات التي يبذلها فريق من أهل الكتاب لبلبلة الجماعة المسلمة في دينها ، وردها عن الهدى ، من ذلك الطريق الماكر اللئيم :
«وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ : آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ...» ..
وهي طريقة ما كرة لئيمة كما قلنا. فإن إظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه ، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته .. يوقعهم في بلبلة واضطراب. وبخاصة العرب الأميين ، الذين كانوا يظنون أن أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب. فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدون ، حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين. وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال.وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم. في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل ..
ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة ، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى ، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة.
إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشا جرارا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين - وأحيانا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين - يحملون أسماء المسلمين ، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة! وبعضهم من «علماء» المسلمين! هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب ، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة. وتوهين قواعدها من الأساس. والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء. وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق. والدق المتصل على «رجعيتها»! والدعوة للتلفت منها. وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها! وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها. وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية. وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثرا! ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص! وهم بعد مسلمون! أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟ وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار.
وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره .. ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم. لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم! وكان أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض : تظاهروا بالإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم.
وليكن هذا سرا بينكم لا تبدونه ولا تأتمنون عليه إلا أهل دينكم : «وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» ..
وفعل الإيمان حين يعدّى باللام يعني الاطمئنان والثقة. أي ولا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تفضوا بأسراركم إلا لهؤلاء دون المسلمين!
وعملاء الصهيونية والصليبية اليوم كذلك .. إنهم متفاهمون فيما بينهم على أمر .. هو الإجهاز على هذه العقيدة في الفرصة السانحة التي قد لا تعود .. وقد لا يكون هذا التفاهم في معاهدة أو مؤامرة. ولكنه تفاهم العميل مع العميل على المهمة المطلوبة للأصيل! ويأمن بعضهم لبعض فيفضي بعضهم إلى بعض .. ثم يتظاهرون - بعضهم على الأقل - بغير ما يريدون وما يبيتون .. والجو من حولهم مهيأ ، والأجهزة من حولهم معبأة .. والذين يدركون حقيقة هذا الدين في الأرض كلها مغيبون أو مشردون! «وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» ..
وهنا يوجه اللّه نبيه - r - أن يعلن أن الهدى هو وحده هدى اللّه وأن من لا يفيء إليه لن يجد الهدى أبدا في أي منهج ولا في أي طريق : «قُلْ : إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» ..
ويجيء هذا التقرير ردا على مقالتهم : «آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» تحذيرا للمسلمين من تحقيق الهدف اللئيم. فهو الخروج من هدى اللّه كله. فلا هدى إلا هداه وحده.
وإنما هو الضلال والكفر ما يريده بهم هؤلاء الماكرون.
يجيء هذا التقرير قبل أن ينتهي السياق من عرض مقولة أهل الكتاب كلها .. ثم يمضي يعرض بقية تآمرهم بعد هذا التقرير المعترض :«أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ ، أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ» ..
بهذا يعللون قولهم : «وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» .. فهو الحقد والحسد والنقمة أن يؤتي اللّه أحدا من النبوة والكتاب ما آتى أهل الكتاب. وهو الخوف أن يكون في الاطمئنان للمسلمين واطلاعهم على الحقيقة التي يعرفها أهل الكتاب ، ثم ينكرونها ، عن هذا الدين ، ما يتخذه المسلمون حجة عليهم عند اللّه! - كأن اللّه سبحانه لا يأخذهم بحجة إلا حجة القول المسموع! - وهي مشاعر لا تصدر عن تصور إيماني باللّه وصفاته ولا عن معرفة بحقيقة الرسالات والنبوات ، وتكاليف الإيمان والاعتقاد! ويوجه اللّه سبحانه رسوله الكريم ليعلمهم - ويعلم الجماعة المسلمة - حقيقة فضل اللّه حين يشاء أن يمن على أمة برسالة وبرسول : «قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ..
وقد شاءت إرادته أن يجعل الرسالة والكتاب في غير أهل الكتاب بعد ما خاسوا بعهدهم مع اللّه ونقضوا ذمة أبيهم إبراهيم وعرفوا الحق ولبسوه بالباطل وتخلوا عن الأمانة التي ناطها اللّه بهم وتركوا أحكام كتابهم وشريعة دينهم وكرهوا أن يتحاكموا إلى كتاب اللّه بينهم. وخلت قيادة البشرية من منهج اللّه وكتابه ورجاله المؤمنين .. عندئذ سلم القيادة ، وناط الأمانة ، بالأمة المسلمة. فضلا منه ومنة. «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» ..
«يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» .. عن سعة في فضله وعلم بمواضع رحمته .. «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .. وليس أعظم من فضله على أمة بالهدى ممثلا في كتاب. وبالخير ممثلا في رسالة .. وبالرحمة ممثلة في رسول.
فإذا سمع المسلمون هذا أحسوا مدى النعمة وقيمة المنة في اختيار اللّه لهم ، واختصاصه إياهم بهذا الفضل.
واستمسكوا به في إعزاز وحرص ، وأخذوه بقوة وعزم ، ودافعوا عنه في صرامة ويقين ، وتيقظوا لكيد الكائدين وحقد الحاقدين. وهذا ما كان يربيهم به القرآن الكريم والذكر الحكيم. وهو ذاته مادة التربية والتوجيه للأمة المسلمة في كل جيل.
===============