خطبتي الجمعة
عن هادم اللذات (الموت)
الخطبة الأولى
الحمدلله المستحق لغاية التحميد, المتوحد في كبريائه من غير تكيف ولا تحديد, العلي القوي الولي الحميد, الغني المغني المعيد, المعطي الذي لا يفني عطاؤه ولا يبيد, المانع فلا معطي لما منع ولا راد لما يريد, خلق الخلائق وسلكهم أحسن الطريق إلى الأمر الرشيد, وصورهم فاحسن صورهم وبشرهم في الجنة بالنعيم والتخليد, وبصرهم بعين الإعتبار وحذرهم من عذاب النار والوعيد, والزمهم شكره وضمن لهم كنز فضله المديد, وحكم عليهم بالموت فما لاحد عنه محيص ولا محيد, قال تعالى (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) فكم أبكى خليلا بفراق خليله وكم أيتم وليدا وشغله ببكائه وعويله فهو لا يبدئ بفرط حزنه ولا يعيد, هدم بالموت مشيد الأعمار وحكم بالفناء على أهل هذه الدار الأحرار منهم والعبيد, و أوحش المنازل من أقمارها ونفر طيور الأرواح من أوكارها وعوضهم من لذة العيش بالتنغيص والتنكيد, فالملك والمملوك والغني والصعلوك, تساوت قبورهم في القفر والبيد.عن هادم اللذات (الموت)
الخطبة الأولى
أحمده تعالى أزل بالموت من الجبابرة كل جبار عنيد, وكسر به من الأكاسرة كل بطل صنديد, أخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور, وقطع حبل امدهم المديد بما أخذ به الإباء والجدود والأطفال من المهود فاسكنهم اللحود وعفر وجوههم في الصعيد, وساوى في الموت بين الصغير والكبير والغني والفقير والمامور والأمير والوالد والوليد, افنى به الذكور والإناث, فهم في سجن الأجداث إلى يوم الوعيد...
وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له, كتب لنفسه البقاء وعلى جميع خلقه الموت والفناء, كل من في الأرض أو في السماء, وأشهد أن محمداً عبد الله وحبيبه وخاتم أنبائه ورسله, وأشهد أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح لهذه الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه, فصلاة ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
ألا أيها الراجي المثوبة والأجرا *** وتكفير ذنب سالف أثقل الظهرا
عليك بإكثار الصلاة مواظباً ****على أحمد الهادي شفيع الورى طرا
وأفضل خلق الله من نسل آدم**** وأزكاهم فرعاً وأشرفهم نجرا
فقد صح أن الله جل جلاله **** يصلي على من قالها عشرا
صلى عليه الله ما جنت الدجا**** وأطلعت الأفلاك من بحرها فجرا
أما بعد:-أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته, فالتقوى خير زاد المؤمن وخير متاع له في سفره الطويل بعد الموت يقول الله عزوجل : {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} وقال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) وقال جل جلاله ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) ثم اعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
أحبتي في الله :
أننا اليوم إن شاء الله تعالى سنتكلم في خطبتنا هذه عن موضوع قلما يذكره الكثير منا , يتناسونه وينسونه عمدا, موضع يقلق الخوض فيه النفس البشرية ويزلزل أركانها, رغم علمها أن إليه مصيرها مهما طال بقائها في الدنيا فلا بد لها من أن تتجرع كاسه وتذوق مرارته وتدخل من بابه رضيت ذلك أم أبت, قرب ذلك اليوم أم بعد ..
موضوع خطبتنا اليوم هو الموت ذلك الجلل العظيم والحدث الآليم, وهادم اللذات ومفرق الجماعات ومرمل الزوجات وميتم البنين والبنات, ومذل الجبابرة وكاسر أنوف القياصرة...
يقول الله تعالى في سورة [آل عمران: 185] ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( يقرّر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنَّ كلَّ مخلوق سيموت إذ: ) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( [الرحمن: 26- 27] وقال تعالى في سورة ق (وجاءت سكرت بالموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد)
كل حي في الكون يموت كل صغير وكبير يموت كل أمير ووزير يموت كل عزيز وحقير يموت كل غني وفقير يموت كل نبي وولي يموت كل نجي وتقي يموت كل زاهد وعابد يموت كل مقر وجاحد يموت كل صحيح وسقيم يموت كل مريض وسليم كل نفس تموت غير ذي العزة والجبروت.
ألا كل مولود فللموت يولد**** ولست أرى حيا عليها يخلد
تجرد من الدنيا فإنك إنما **** خرجت من الدنيا وأنت مجرد
وأنت وإن خولت مالا وكثرة**** فإنك في الدنيا على ذاك أوحد
وأفضل شيء نلت منها فإنه **** متاع قليل يضمحل وينفد
فكم من عزيز أعقب الذل عزه ****فأصبح مذموما وقد كان يحمد
فلا تحمد الدنيا ولكن فذمها **** وما بال شيء ذمه الله يحمد
قيل لما نزل قوله تعالى{ كل نفس ذائقة الموت } آل عمران 185 قالت الملائكة متنا وعزة الله فعند ذلك أيقن كل ذي عقل وروح أنه هالك .
أيضحك من للموت فيه نصيب **** وينعم عيشا إن ذا لعجيب
ويأكل والأيام تأكل عمره **** وليس له جسم لذاك يذوب
ومن عرف الرحمن لم يهن قلبه **** نعيم ولم ينفك عنه نحيب
بعدت عن الورد الرضي بزلة **** وبي قطعت دون الوصول ذنوب
إخواني: أكثروا من ذكر هاذم اللذات وتفكروا في انحلال بناء اللذات وتصوروا مصير الأجساد إلى الرفات وأَعدوا عدةً تكفي في الكفات واعلموا أن الشيطان لا يتسلط على ذاكر الموت وإنما إذا غفل القلب عن ذكر الموت دخل العدو من باب الغفلة .
فقد روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال أكثروا ذكر هازم اللذات ومفرق الجماعات وتوسدوه إذا نمتم واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم واعمروا به مجالسكم فإنه معقود بنواصيكم يعني بما وكل به منكم ويفسد نعيمكم ويخرب مصانعكم ويفنيكم كما أفنى من كان قبلكم فلا تنسوه فإنه لا ينساكم ولا تغفلوا عنه فإنه ليس بغافل عنكم.
وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا)
وروى عن أبي سعيد قال:- "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاه فرأى ناسا كأنهم يكتشرون قال أما انكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى فأكثروا من ذكر هادم اللذات الموت فانه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيقول: أنا بيت الغربة أنا بيت الوحدة أنا التراب وأنا بيت الدود، فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر مرحبا وأهلا، وأما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري اليفإذا وليتك اليوم وصرت الي فسترى صنيعي بك فيتسع له مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة. وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر لا مرحبا ولا أهلا أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري اليفإذا وليتك اليوم وصرت الي فسترى صنيعي بكقال فيلتئم عليه حتى يلتقي عليه وتختلف أضلاعه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعه فأدخل بعضها في جوف بعض قال ويقيض له سبعون تنينا لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا، فينهشنه ويخدشنه حتى يقضى به إلى الحساب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار". رواه الترمذي والحاكم
ويروى أن عيسى عليه السلام كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما، وكان يقول للحواريين: ادعوا الله أن يخفف عني الموت، فلقد خفت الموت خوفا أوقفني مخافة الموت على الموت.
وقال يزيد بن تميم: من لم يردعه الموت والقرآن ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع .
أخواني :
ما أحسن حال من ذكر الموت فعمل لخلاصه قبل الفوت وأشغل نفسه بخدمة مولاه وقدم من دنياه لأخراه ورغب في دار لا يزول نعيمها ولا يهان كريمها
الموت لا شك آت فاستعد له**** إن اللبيب بذكر الموت مشغول
فكيف يلهو بعيش أو يلذ به **** من التراب على عينيه مجعول
قال الحسن: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا عيشا لا موت فيه. وقال: فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب بها فرحا. وقال غيره: ذهب الموت بلذاذة كل عيش وسرور كل نعيم ثم بكى، وقال: واها لدار لا موت فيها.
يا غافل القلب عن ذكر المنيات **اذكر الموت هادم اللذات
وتهيأ لمصرع سوف يأتي غيره **عما قليل ستلقى بين أموات
فاذكر محلك من قبل الحلول به** وتب إلى الله من لهو ولذات
إن الحمام له وقت إلى أجل **فاذكر مصائب أيام وساعات
لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها ** قد آن للموت يا ذا اللب أن يأتي
قال بعض السلف: شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا: ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل.
كيف يلذ العيش من كان موقنا * بأن المنايا بغتة ستعاجله
وكيف يلذ العيش من كان موقنا* بأن إله الخلق لا بد سائله
قال أبو الدرداء: كفى بالموت واعظا وكفى بالدهر مفرقا اليوم في الدور، وغدا في القبور.
اذكر الموت وداوم ذكره ** إن في الموت لذي اللب عبر
وكفى بالموت فاعلم واعظا ** لمن الموت عليه قد قدر
عجباً من غفلة الإنسان عن الموت مع أنه لا بد له منه، والموجب له طول الأمل..
كلنا في غفلة والمـ **** وت يغدو ويروح
لبنى الدنيا من المـ **** وت غبوق وصبوح
سيصير المرء يوما **** جسدا ما فيه روح
بين عيني كل حي **** علم الموت يلوح
نح على نفسك يا مسكـ **** ين إن كنت تنوح
لتموتن ولو عمـ **** رت ما عمر نوح
وقيل للربيع رحمه الله ألا تجلس معنا نتحدث فقال إن ذكر الموت إذا فارق قلبي ساعة فسد على قلبي.
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال لإبنه عند الموت ليتني ألقي رجلا عاقلا عند نزول الموت يخبرني بما يجد فقال له ابنه قد نزل بك الموت فصف لي الذي تجد فقال لي يا بني كأن في تحت وكأن غصن شوك يخرج من قدمي إلى هامتي وكأني أتنفس من سم إبرة ثم مد يده وقال اللهم لا قوي فأنتصر ولا بريء فأعتذر اللهم إني مقر مذنب مستغفر ثم مات رضي الله عنه
للموت فاعمل بجد أيها الرجل **** واعلم بأنك من دنياك مرتحل
إلى متى أنت في لهو وفي لعب *** تمسي وتصبح في اللذات مشتغل
كأنني بك يا ذا الشيب في كرب**** بين الأحبة قد أودى بك الأجل
لما رأوك صريعا بينهم جزعوا **** وودعوك وقالوا قد مضى الرجل
فاعمل لنفسك يا مسكين في مهل **** ما دام ينفعك التذكار والعمل
إن التقي جنان الخلد مسكنه **** ينال حورا عليها التاج والحلل
والمجرمين بنار لا خمود لها **** في كل وقت من الأوقات تشتعل
وقيل دخل المزني على الشافعي رضى الله عنه في مرضه الذي مات فيه , فقال له كيف أصبحت يا أبى عبدالله , فقال, أصبحت عن الدنيا راحلاً وللأخوان مفارقا, ولسوء عملي ملاقيا, ولكأس المنية شاربا, وعلى ربي سبحانه وتعالى واردا, ولا أدري روحي صائرة إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فاعزيها ثم أنشد قائلاً:
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجاء مني لعفوك سلما
تعاظمت ذنوبي فلما قرنتها *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفوا عن الذنب لم تزل*** تجود وتعفو منة وتكرما
فلولاك لم يغو بإبليس عابدا*** فكيف وقد أغوى صفيك أدما
فياليت شعري هل أصير لجنة*** فاهني وأما في السعير فأندما
وسئل بعض الزهاد وهو في مرض الموت, كيف حالك؟ فقال حال من يريد سفراً بلا زاد, ويسكن قبراً موحشا بلا مؤنس, ويقدم هلى مالك قادر بغير حجة.
ويروي أن عثمان بن عفان رضى الله عنه وقف على قبر فبكى فقيل له أنك تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي هذا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن القبر أول منازل الآخرة فإن ينج منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه.
وروي عن إبن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أغتنم خمساً قبل خمس, شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلم وحياتك قبل موتك)
فالله الله معاشر المسرفين لا تغتروا بالعز والمال فإن الموت لا يهاب الكبير الجليل ولا يرحم الحقير الذليل فكونوا منه على حذر وأعدوا له صالح الأعمال من قبل أن يأتي يوم لا حيلة فيه لمحتال .
يا أيها الناس كان لي أمل **** قصر عن بلوغه الأجل
ما أنا وحدي نقلت حيث تروا **** كل إلى مثله ينتقل
فليتق الله ربه رجل**** أمكنه في حياته العمل
وروي عن عيسى عليه السلام أنه قال ما من مولود يولد إلا وفي سرته من تراب الأرض التي يموت فيها
أمر على المقابر كل حين**** ولا أدري بأي الأرض قبري
وأفرح بالغني إن زاد مالي ****ولا ابكي على نقصان عمري
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لكعب يا كعب حدثنا عن الموت فقال يا أمير المؤمنين هو غصن كثير الشوك ادخل في جوف رجل حتى إذا أخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل شديد الجذب فقطع ما قطع وأبقى ما أبقى...
ألا أيها المغرور والموت نحوه**** خلقت له تحدو إليه الركائب
أغرك حلم الله أم لست موقنا ****بأنك مبعوث غدا ومحاسب
بأيسر من مثقال حبة خردل**** وإنك مجزي بما أنت كاسب
أحبتي في الله: لما كان الموت مكروها بالطبع لما فيه من الشدة والمشقة العظيمة، لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخير. ولذلك وقع التردد فيه في حق المؤمن، كما في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه) كما رواه البخاري.
قال ابن أبي مليكة: (لما قبض إبراهيم عليه السلام قال الله عز وجل له: كيف وجدت الموت ؟ قال: يا رب كأن نفسي تنزع بالبلى فقال: هذا وقد هونا عليك الموت)
وقال أبو إسحاق: قيل لموسى عليه السلام: كيف وجدت طعم الموت؟ قال: وجدته كسفود أدخل في صوف فاجتذب، قال: هذا وقد هونا عليك الموت.
كيف يطمع في البقاء وما من الأنبياء إلا مات! أم كيف يؤمن هجوم المنايا ولم يسلم الأصفياء والأحباء هيهات هيهات!.
قد مات كل نبي ****ومات كل بنيه
ومات كل شريف **** وعاقل وسيفه
لا يوحشنك طريق **** كل الخلائق فيه
وروى في كتب السنة النبوية الشريفة أنه لما احتضر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم اشتد به الأمر ،فقالت عائشة: ما أغبط أحدا يهوّن عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكان عنده قدح من ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول: (اللهم أعني على سكرات الموت). قالت: وجعل يقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) وفي حديث مرسل أنه قال: (اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل، اللهم فأعني على الموت وهوّنه عليّ) ولما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب، قالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه فقال لها: (لا كرب على أبيك بعد اليوم) وفي حديث خرجه ابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: (إنه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك منه أحدا الموافاة يوم القيامة)ومات كل شريف **** وعاقل وسيفه
لا يوحشنك طريق **** كل الخلائق فيه
فاذا كان هذا هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند احتضاره , يشكو شدة الموت وسكراته والآمه ووهو حبيب الله وخير خلقه وخاتم رسله, وشفيع أمته , فكيف بي وبك أخي المسلم ونحن نعاني من التقصير والبعد عن الله ونرتكب المعاصي والذنوب, والهتنا الدنيا وشغلتنا ملذاتها عن الاستعداد لذلك اليوم الذي سوف ينزل فيه علينا ملك الموت, ويجرعنا سكراته وأنستنا ذكر القبر والبعث والحساب..
يا ابن آدم عن مصيرك ما أغفلك, وعن الصواب ما أبعدك, كأنك بالموت قد فاجأك وبملك الموت قد وافاك فيأئس منك الطبيب وفارقت الصاحب والحبيب وتفجع لفقدك كل قريب فوقعت في الحسرة وجفتك العبرة وبطل منك اللسان بعد الفصاحة والبيان وأدرجت في الأكفان وأزعجت عن الأوطان وصار القبر مأواك وإلى يوم القيامة مثواك وفارقك الأهل والإخوان ووقع بهم عنك السلو والنسيان, فإن كان لك منزل سكنوه أو كنت ذا مال اقتسموه.
يا عجبا للأرض ما تشبع ****وكل حي فوقها يفجع
ابتلعت عادا فأفنتهم ****وبعد عاد أهلكت بتبع
وقوم نوح أدخلت بطنها **** فظهرها من جمعهم بلقع
يا أيها الراضي بما قد مضى ****هل لك فيما قد مضى مطمع
يا ابن آدم كأنك بالموت قد حل بساحتك وحال بينك وبين ما تريد وأنت في النزع والكرب الشديد لا والد يدفع عنك ولا وليد ولا عدة تنجيك ولا عديد ولا عشيرة تحميك ولا قصر مشيد أليس ذلك نازل بك على كل حال أي وعزة الكبير المتعال فإنك الآن حين ينفعك البكاء والاستكانة قبل حلول الحسرة والندامة
يا من يموت ويسأل ****عما يقول ويفعل
إن الموكل بالنفوس ****إذا أتى لا يمهل
والنار منزل من عصى ****والنار بئس المنزل
فاذكر حالك أيها الغافل يوم تقلبك على المغتسل بين يدي الغاسل, وقد زال عزك عنك وسلب مالك منك وأخرجت من بين أحبابك وجهزت لترابك وأسلمت إلى الدود وصرت رهنا بين اللحود وبكى عليك الباكون قليلا ثم نسوك دهرا طويلا فتغيرت منك المحاسن والمحلى وتحكم في أعضائك البلى وقطعت في الأكفان وسعى إليك الديدان فبلى منك اللسان وسالت الحدق كأنك لم تكن قط ممن رأى ولا نطق:
فلو أنا إذا متنا تركنا ****لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ****ونسأل بعدها عن كل شيء
أخواني: قد حام الحمام حول حماكم، وصاح بكم إذ خلا النادي وناداكم، وأولاكم من النصح حقكم، فما أحقكم بالتدبر وأولاكم، وهو عازم على اقتناصكم، وما المقصود سواكم. كم أخلى الموت داراً فدارا? أما استلب كسرى بن دارا? أدارى لما أخذ داراً? أما ترك العامر قفاراً? أما أذاق الغصص المر مراراً? لقد جال يميناً ويساراً? فما حابى فقراً ولا يساراً.فلو أنا إذا متنا تركنا ****لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ****ونسأل بعدها عن كل شيء
افلا يعتبر الغافل بمصرع من سبقه من أبائه وأجداده واسلافه, وقد أفناهم الموت باجمعهم وفرق شملهم بالتبديد.
وكيف يغتر الإنسان وهو عالم بان الله تعالى يملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ولم يكن عنه محيد, إن أخذه اليم شديد, أين أهل المدن والحصون؟ اين أرباب المعاني والفنون؟ أين المحصنون بكل حصن منيع وقصر مشيد؟ اين الأمم الماضية؟ اين أرباب القصور العالية؟ حق عليهم الوعيد, فلو عاينتهم في قبورهم, لعجبت من أمورهم, قد غير البلى أحوالهم, ومزق أوصالهم, ولم يعرف منهم الأحرار من العبيد, أما أصبح منهم ذو الشدة والباس بعد القرب والإيناس في ظلمة اللحود وحيد, أما أوعظهم الموت بمن أخذ من شقي وسعيد وقريب وبعيد, أما أنذرهم قول الملك الحميد, وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد.
أقول ما سمعتم واستغفروا الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين ويا نجاة التائبين