ساعة الموت والاحتضار
الشيخ عايض القرني
الشيخ عايض القرني
إن أعظم ساعة يمر بها الإنسان هي ساعة الموت، تلك الساعة التي تنسي ما قبلها، ولو كان أحد ينجو من هذه الساعة الرهيبة لنجا منها المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد ذاق سكرات الموت.
وفي هذا الدرس تحدث الشيخ عن شدة الموت وسكراته، وذكر أحوال بعض الذين ذاقوه من الصحابة والتابعين ثم تكلم عن أسباب تذكر الموت.
ساعة الموت والاحتضار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ومن واجب أهل الفضل علينا أن نشكر لهم فضلهم, ومن واجب أهل الإحسان أن نشكر لهم إحسانهم, فنشكر مدير هذه الثانوية بالغ الشكر, ونشكر الأساتذة الكرام، ونشكركم أيضاً لحسن استماعكم، ولتواضعكم أن تسمعوا هذه الكلمات, نسأل الله أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
أما بعد:
فهذه الكلمة تدور حول الموت، وحين أخبرت بهذا الموضوع تذكرت أبياتاً في الموت للشاب العالم الزاهد حافظ الحكمي إذ يقول رحمه الله:
والموت فاذكره وما وراءه فما لأحد منه براءة |
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه |
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران |
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده |
وإن يكن شراً فما بعد أشد ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صد |
تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا |
ساعة الموت الأليمة التي يمر بها الملك والمملوك, والرئيس والمرءوس, والغني والفقير, وكان من الجميل بنا أن نذكر بعض قصص المحتضرين، وأخبارهم وأنبائهم؛ علّنا أن نتذكر هذا المصرع الذي لن يفوتنا أبداً, وسوف نمر به ولو طالت أعمارنا, ولو تمتعنا بالشباب والصحة, ولو زهت لنا السيارات والعمارات، ولو سكنّا في الشقق الفاخرة, ولو لبسنا الملابس الجميلة, ولو تمتعنا بالمطاعم, وجلسنا على الموائد, وتزاورنا وضحكنا كثيراً, فإنها سوف تمر بنا هذه الساعة التي تنسي ما قبلها, والتي يتذكر فيها الإنسان حسابه مع الله, ماذا فعل؟! وماذا قدم؟! وماذا عمل في تلك الساعات التي أفناها في القيل والقال, وفي اللهو واللعب, وفي الجلوس -الذي لا طائل من ورائه- في مرافقة أقران السوء, وأصحاب الانحراف الذين ما زادوه إلا ضلالاً وإعراضاً عن الله.
تلك الساعة لا بد أن نحسب لها حسابها من الآن, ولا بد أن نقف معها وقفة طويلة جداً؛ لنتذكر بماذا سنلقى الله سبحانه وتعالى وبماذا سوف نرد على الملكين؟ وماذا سنقول إذا طُرحنا في تلك الحفرة التي تعرفونها؟
ففي تلك الحفرة يتجرد الإنسان من كل شيء إلا من الأعمال الصالحة؛ يتجرد من المنصب فيدخل في قبره بلا منصب, يدخل بلا: يا صاحب الفخامة! ولا يا صاحب المعالي! ولا يا صاحب السماحة! وإنما يُدخل جثمانه في قطع بيضاء ويوسد في هذه الحفرة, ويتولى عنه الناس, ويدخل بلا سيارة وبلا إخوان وبلا خلان, وبلا زوجة, وبلا صاحب, وبلا قرين.
الرسول صلى الله عليه وسلم في ساعة الاحتضار
ولو نجا أحد من الناس من ساعة الموت لكان جديراً أن ينجو محمد صلى الله عليه وسلم, ولكنه -والله- ما نجا, مر بها كما يمر بها الإنسان, ووقف معها كما يقف الإنسان، وهو أشرف الخلق على الله تبارك وتعالى, وهو أكرم الناس على ربِّ الناس, لكنه تلقاها برحابة صدر؛ لأنه أحسن العمل مع الله, يروي البخاري ومسلم في صحيحيهما : {أنه لما احتضر صلى الله عليه وسلم وضع خميصة -وهي قطعة قماش- على وجهه الشريف من شدة الكرب, وروحه تنتزع من بين جنبيه وهو يقول: لا إله إلا الله, لا إله إلا الله, لا إله إلا الله إن للموت لسكرات, اللهم أعني على سكرات الموت, اللهم خفف عليّ سكرات الموت، تقول عائشة : بأبي هو وأمي، والله إنه كان يضعها في الماء فيبلها -أي: الخميصة- ثم يضعها على وجهه ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت, ثم يقول صلى الله عليه وسلم وهو كذلك: بل الرفيق الأعلى, بل الرفيق الأعلى, بل الرفيق الأعلى } قال العلماء: إنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خير بين أن يمد له في عمره, وأن ينسأ له في أجله أو يلقى ربه, فقال: بل الرفيق الأعلى, أي: أريد اللقاء الآن, أريد الرحيل من هذه الدنيا الآن, أريد الموت في هذه الساعة؛ لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أنه مهما طال عمره، ومهما امتد أجله, فإنه سيلقى هذا المصرع، فمن الآن إذاً.
فإذا كانت هذه الحياة نهايتها هذه النهاية, فبدون كلفة ومشقة، وبدون هموم وغموم، الآن أنهيها, والآن أتجرع كأس الموت، والآن أرتاح من هذه الحياة.
وتوفي صلى الله عليه وسلم كما يتوفى الناس, ومات كما يموت الإنسان, ولكن بقي ذكره أبد الآبدين؛ لأنه أحسن العمل مع الله.
والإنسان يطمع في طول العمر, ويطمع في امتداد الأجل؛ لأن بعض الناس يرى أن هذه الحياة متعة, سكنى ومطعم، وملبس وزواج، وترق في المناصب؛ فيرى أن هذه الحياة أحسن من الحياة الأخرى, أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة, أولئك الذين ضلت أعمالهم, وأولئك الذين حبط مسعاهم وأولئك الذين خسروا الصفقة مع الله, فهم يريدون هذه الحياة فحسب.
وقف موسى عليه السلام فقال: يا رب! أريد عمراً طويلاًَ, قال الله سبحانه وتعالى: يا موسى! اختر ما شئت، وجاء ملك الموت -وهذه قصة صحيحة- فضربه موسى ففقأ عينه, فعاد ملك الموت إلى الله فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ففقأ عيني, فرد الله عليه عينه, وعاد ملك الموت ليقبض روحه, قال: يا موسى! تمنَّ ما شئت من العمر, قال: ثم ماذا؟ قال: ثم تموت, قال: الآن إذاً, فقبض روحه, ولذلك يقول أبو العتاهية :
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح |
أبو بكر في السكرات
روى أهل السير أن أبا بكر رضي الله عنه لما احتضر دخلت عليه ابنته عائشة فسلَّمت عليه وبكت طويلاً ونظرت إليه, خليفة المسلمين وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار, وصدِّيق الإسلام, يموت في ثوبين متواضعين مجرداً من الدنيا لا يملك إلا بدنه ولا يملك إلا بيتاً من طين، والعالم الإسلامي تحت إدارته وخلافته, فتدخل عليه عائشة في السكرات وتقول وهي تعزيه بروحه رضي الله عنه وعنها: صدق الشاعر يا أبتاه:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
معاوية في حال النزع
دخلوا على معاوية رضي الله عنه, وهو على سرير الملك في دمشق عاصمة الإسلام, فلما أتاه الموت قال: أنزلوني على التراب, فقالوا: يا خليفة المسلمين! ويا أمير المؤمنين! نرى السرير أرفق لك, قال: أنزلوني لا أبا لكم انتهى السرير وانتهى الملك, فأنزلوه فلما وضعوه في التراب, ووضع خده؛ وبكى طويلاً على التراب, وقال صدق الله سبحانه وتعالى بقوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16] نسي كل شيء, نسي جيشه وجنده, نسي ملكه وقصوره, وما كان يعد, وانتهى الأمر إلى هذا الموقف وهذا المصير المحتوم.
حقيقة الموت والاستعداد له
لذلك وجب علينا أن نعود إلى السلف لندرس حقيقة الموت وفلسفته مع السلف الصالح , كيف استعدوا للموت وكيف عاشوا مع الموت؟
عمرو بن العاص حال الموت
روى مسلم في صحيحه أن عمرو بن العاص رضي الله عنه, حضرته الوفاة في مصر , وكان والي مصر ، وهو فاتح مصر , ومعلم أهل مصر .
عمرو بن العاص أرطبون العرب وداهية الإسلام عمرو بن العاص الذي دوخ ملوك الكفر والكفار وقاتلهم حتى دخلوا في هذا الدين, حضرته الوفاة فإذا هو متجرد من دهائه وذكائه, ذهب الذكاء والدهاء, وإذا هو متجرد من منصبه وأمواله وأولاده, ذهب المنصب والمال والأولاد, وإذا هو متجرد من كل شيء إلا من العمل.
وكان معه أناس من وزرائه وأولاده وأصحابه, فحول وجهه إلى الحائط وبكى بكاءً طويلاً, فجاء ابنه عبد الله -الزاهد العابد عبد الله بن عمرو - فقال: يا أبتاه! مالك تبكي؟ -وأراد أن يحسن ظنه بالله عز وجل- يا أبتاه! أما صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أما ولاك غزوة ذات السلاسل؟ أما مدحك؟ أما صحبت أبا بكر وعمر ؟ أما فتحت مصر , أما جاهدت أما فعلت؟ قال: فلما طال كلام عبد الله ابنه, وطال بكاء عمرو ؛ التفت عمرو إلى الناس, فقال: أيها الناس! إني عشت حياتي على طباق ثلاث- يتكلم عن سجل حياته, يعيد لهم التاريخ مرة ثانية, من يوم ولد إلى هذه الساعة- كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام, وكان أبغض الناس إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله لو تمكنت منه لقتلته غيلة, ولو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار, ثم رزقني الله الإسلام فهاجرت من مكة إلى المدينة , فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجده فلما رآني؛ هش وبش في وجهي، بأبي هو وأمي, واستقبلني وقال: أهلاً يا عمرو ! قال: فصحبته وأحسنت صحبته, والله ما كنت أملأ نظري منه صلى الله عليه وسلم حياءً منه, والله لو سألتموني الآن أن أصفه لكم -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم- لما استطعت, فيا ليتني مت على تلك الحالة! ولو مت على تلك الحالة لرجوت أن أكون من أهل الجنة, ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها وإن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ثم قبض يده هكذا على لا إله إلا الله, قال ابنه عبد الله : فأتينا لنغسله فأردنا فتح أصابعه فما استطعنا فتحها, وبقيت مضمومة, فأدخلناه كفنه وأصابعه مضمومة, وأدخلناه في قبره وأصابعه مضمومة رضي الله عنه وأرضاه.
فالعدة كل العدة أن تستعد لهذا المصرع, والحزم كل الحزم أن تحفظ وقتك وأن تستعد بعمل صالح لهذا المصرع, والزكاة كل الزكاة أن تحفظ هذه السويعات التي تمر بك مرَّ الرياح والبرق الخاطف، أن تستغلها بما يقربك من الله.
الله الله! لا يغتر الإنسان بشبابه, ولا بفراغه ولا بصحته, فإن الله سبحانه وتعالى إذا أخذ أخذَ أخْذ عزيز مقتدر, وأنتم رأيتموهم ورأيناهم، شباب مترفون أقوياء منعمون, أهل أموال خرجوا من بيوت أهلهم وما ودعوا أمهاتهم ولا آباءهم, وعادوا أمواتاً, عادوا جثثاً هامدة؛ حتى ما استطاعوا أن يقولوا: السلام عليكم أيها الأهل والجيران وإلى لقاء, ما استطاعوا أن يقولوا: وداعاً, عادوا منتهين من هذه الحياة!فالله الله لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور!أعدوا ما استطعتم من العمل الصالح, وهذه الدقائق تقول لك: إن الموت قريب:
دقات قلب المرء قائلة له **** ان الحياة دقائق وثوانِ