خطبتي الجمعة عن حقيقة الدنيا
الخطبة الأولىالحمد لله الذي عنت له الوجوه لعظمته، وذلت الصعاب لقدرته، وتوجهت الرغاب لفضله ومنته وأُنيخت الركائب عند أبوابه.أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إليه سبحانه توجهت السرائر، وبمناجاته وحده تلذذت الضمائر.. وأشهد أن سيدنا محمد عبدالله ورسوله، اللهم صلي وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان وإيمان إلى يوم الدين.. أما بعد.. فأوصيكم إخواني ونفسي بتقوى الله، لأنها وصية الله للأولين والآخرين، يقول: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} ثم اعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
إخواني المسلمين هذه الأيام مطايا، والناس راكبون عليها، ينزلون من مطية الليل، ويركبون مطية النهار، وينزلون من مطية النهار، ليركبوا مطية الليل، ومطية تحمل وأخرى تضع، حتى تنتهي الرحلة، وفي نهايتها يُعامل الإنسان على ضوء ما عمل في هذه الرحلة. يقول سبحانه: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} فيا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحاًُ تحمل عبئك وتجهد جهدك، وتشق طريقك لتصل في النهاية إلى ربك فإليه المرجع وإليه المآب بعد الكد، والكدح والجهاد.
ويا أيها الإنسان إنك كادح، حتى في متاعك فأنت لا تبلغه في هذه الأرض، إلا بجهد وكد، إن لم يكن جهد بدن وكد عمل فهو جهد تفكير وكد مشاعر الواجد والمحروم سواء إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان ثم إن النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء.
فيا أيها الإنسان إنك لا تجد الراحة في الأرض أبداً، وإنما الراحة هناك لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام، والتعب واحد في الأرض والكدح واحد، وإن اختلف لونه وطعمه، فبعض الناس يتعب لعمل الطاعة، وبعضهم الآخر يتعب لفعل المعصية، أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض وواحد إلى نعيم يمسح عنه آلام الدنيا وكأنه لم يكن قد كدح ولا كد.فيا أيها الإنسان، الذي امتاز بخصائص الإنسان، ألا فاختر لنفسك، ما يليق بهذا الامتياز، الذي خصك به الله، واختر لنفسك الراحة من الكدح عندما تلقاه، ولأن هذه اللمسة الكامنة في هذا النداء، فإنه يصل بها مصائر الكادحين، عندما يصلون إلى نهاية الطريق ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء.فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه وهو المنعم المسرور، ومنهم من يأخذ كتابه وراء ظهره بشماله وهو البعيد المعذب المثبور..
ولا يختلف اثنان على أن كل إنسان بهذه الدنيا، يعيش في تعب ونصب، وكد وكدر يحدثني أحد الناس بالأمس عن نفسه فيقول: بأنه يتناول تسع أنواع من القطرات لعيونه، واثنى عشر نوعاً من الحبوب لعلاج الضغط والسكر، فقلت: بالله أي حياة هذه، ومن يريد مثل هذه الحياة التي يعيشها البعض، وتسمى حياة، فأي حياة هي. وبعضهم يعيش حياته كلها، وهو يحمل أثقال الديون، وقلبه خجل وجل من دائنيه. وبعضهم يعيش حياته وهو بين القضبان، سواء أكان ظالماً أو مظلوماً. ومنهم من يعيش حياته في ظلام الفقر، وبين جدران المسكنة، ومنهم من يعيشها في تعب وكد
لقي أحد الحكماء الشعراء أحد السلاطين فسأله عن حاله فأخبره بأن حاله منغص، وأن عيشه في كدر مهما رأى الناس من سلطانه وهيلمانه، وخدمه وحشمه، إلا أنه تعصف به رياح الهموم والغموم والأحزان. ثم تركه ولقي عالم فسأله عن حاله فأخبره بأنه يعيش في حياة صعبة وقال: أصبحنا وربنا يطالبنا بالفرائض، ورسولنا يحثنا على النوافل والأهل يطالبون بالنفقة والديانة يطالبون بالمال والموت ينتظرنا فمر على أحد التجار فسأله عن حاله فقال: والله إننا على خوف من تجارتنا، إن ارتفعت الأسعار خفنا من البطر، وإن انخفضت خفنا من الفقر. ففكر ساعة ثم قال:
كل من لاقيت يشكو دهره ***** ليت شعري هذه الدنيا لمن
إي والله الكل يشكو من هذه الدنيا ومن همومها وغمومها ومن أكدارها وغصصها فلمن تحلو هذه الدنيا ومن هو المتنعم في هذه الدنيا ومن هو المرتاح فيها بلا تعب ولا نصب ولا هم أو غم؟ ولذلك حينما توسد الإمام أحمد بن حنبل للنوم في تلك الغرفة البسيطة في البنيان، جاءه ولده عبدالله وسأله متى يرتاح المؤمن يا أبي؟ أنا رأيت الملوك والرؤساء والتجار والأغنياء والعلماء والفقراء والمساكين ولكن كلهم رأيتهم في تعب وهم وغم فمتى يرتاح المؤمن؟ فاتكأ الإمام أحمد على يده وقال: لا يرتاح المؤمن حتى يضع رجله اليمنى في الجنة. لا إله إلا الله المؤمن لا يرتاح حتى يطأ برجله اليمنى الجنة. فحينها يعلم علم اليقين أنه قد ارتاح من الهموم والغموم والأكدار والأمراض والأسقام والأوجاع والفقر والأحزان والآلام والخوف لأن الدنيا دار شقاء وليست دار هناء فلا تضمن فيها بقاء الأهل ولا الأولاد ولا الأموال ولا الصحة ولا العافية ولا بقاء الإخوان ولا الخلان ولا الجيران ولا بقاء حال من الأحوال بل الكل للزوال..
كل من لاقيت يشكو دهره***ليت شعري هذه الدنيا لمن.
وهذا الشاعر التهامي كان يسأل الله أن يرزقه ولداً صالحاً. فرزقه بولد أديباً نجيباً كفلقة القمر فكان يسير معه في كل مكان ويفتخر به في المجالس ويوم أن بلغ ست عشر سنة قبض الله روحه فجأة. فمن حبه وولعه به بكى عليه وحزن وقال: والله ما أدفنه في المقابر، ما أدفنه إلا في مجلسي هذا. وبعد أيام نظر وتفكر وقال وما الفائدة في أن يكون مدفوناً هنا أو هناك في المقابر فهو لا يكلمني ولا يدري بحالي ولا أرى وجهه ولا يجالسني.ثم رثاء ابنه بقصيدة ما سُمع بمثلها.قال:
حكم المنية في البرية جاري ***** ما هذه الدنيا بدار قرار
إلى أن قال: طُبِعَتْ على كَدَرٍ وأنت تريدُها ***** صفواً من الأحزان والأكدارومُكَلفُ الأيام غَيْرَ طِبَاعِهَا ***** مُتطلبٌ فِي المـــاء جَذوةَ نار
فهذه الدنيا إذا كست أو كست وإذا أينعت نعت وإذا جلت أوجلت وكم من قبور تُبنى وما إلى الله تُبنا، وكم من مريض عدنا وما إلى ربنا عدنا، وكم من ملك رفعت له علامات, فلما علا مات. يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرنَكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرنّكُم باللَّهِ الْغَرُورُ} ويقول على لسان مؤمن آل فرعون {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} فبقاء الدنيا من المحال، وحالها سيكون للزوال..
قال الحريري: دار متى ما أضحكت في يومها*****أبكت غداً قبحاً لها من دار
وإذا هي قفزت إلى العصاد وهو يدوسها ***** فكأنها قفزت لأخذ الثار
يقول إن هذه الدنيا إذا أعطتك شيء باليمين أخذته بالشمال فإذا باركوا لك بمنصب فبعد قليل يعزونك بولدك وإذا نجحت البنت رسب الولد وإذا بشرك الطبيب بصحة العين أحزنك بارتفاع الضغط أو السكر أو انخفاضهما، وإذا سلم من الفشل الكلوي ومرض القلب والالتهاب الكبدي، فقد يأتيه السرطان، ويفرح بارتفاع الأسهم اليوم، ثم يحزن في الغد على انخفاضها وما أن تتم مباركة الناس له بالسيارة الجديدة فإذا به يصاب بحادث فهذه الدنيا متقلبة الأحوال ولا تدوم لإنسان على حال. قال النبي: ((لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء)أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين.. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد.. عباد الله ولقد عرف الإنسان بفطرته أنه لن يبقى على هذه الدنيا أحد وأن كل من خلق الله فسوف يموت وأنه كما قال: {كل نفس ذائقة الموت}ويقول: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}ولو كان هناك أحد باقياً لكان خير الخلق
وخير لباس المرء طاعة ربه ***** ولا خير فيمن كان لله عاصيا
فلو كانت الدنيا تدوم لأهلها ***** لكان رسول الله حيا وباقـيا
ولكنها تفنى ويفنى نعيمها ***** وتبقى الذنوب و المعاصي كما هي
ولقد ودع أمير الشعراء أحمد شوقي أمه مسافراً لفرنسا فما أن ركب الطائرة إلا وجاءه الخبر بموت أمه. فرجع وذهب إلى قبرها بحلوان وقال: الله يا قبر كم فيك من عجائب. ثم قال: كنز بحلوان عند الله نطلبه***خير الودائع من خير المؤدينا
ومعنى كلامه أننا قد استودعنا كنز ثمين بقبر في حلوان وهو من خير المؤتمنين والمؤدين للأمانات وسوف نطلبه منه في يوم القيامة لنلتقي في عرصات القيامة. وأنك إذا أردت وداعة تتركها في مكان أمين فاستودعها عند الله، وقد قال ابن عمر في الصحيح كان رسول الله إذا ودعنا يقول((استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)) وقال رجل لربيع ابن خثيمة: عندي مال فماذا تشير علي فيه؟ فقال له: إن النخل يفسد بالدود، والخيل قد يعلو سعرها أو تنخفض أو تموت، والأسواق غير مأمونة، والأرزاق آيبة وذاهبة، ولكن اجعلها عند أمين إذا استودعتها عنده حفظها لك.قال: فأين هو؟ قال: قدمها عند الله يحفظها لك.والمرء في حياته معرض للفتن والرزايا، والمحن والبلايا، ولا ينصع نور الإيمان ويرسخ اليقين إلا بالتمحيص والمماحلة، والحياة مبنية على المشاق وركوب الأخطار، ولا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم، ولكن ما بين مقلٍ ومستكثر، قال ابن الجوزي: من يريد أن تدوم له السلامة والنصر على من يعاديه، والعافية من غير بلاء، فما عرف التكليف ولا فهم التسليم ولا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت، والقواطع ممن يتبين بها الصادق من الكاذب.والمقاصد وخلاف الأماني والدنيا لا تصفو لأحد ولو نال منها ما عساه أن ينال. يقول النبي: ((من يرد الله به خيراً يُصب منه)) رواه البخاري.. والمرء يتقلب في زمانه في تحول من النعم واستقبال للمحن.قال ابن القيم: من خلقه الله للجنة لم تزل تأته المكارم، والمؤمن الحازم يثبت للعظائم، ولا يتغير فؤاده، ولا ينطق بالشكوى لسانه، وكتمان المصائب والأوجاع من شيم النبلاء. وما هلك الهالكون إلا من نفاد الجلد. فخفف المصائب عن نفسك بوعد الأجر وتسهيل الأمر لتذهب المحن بلا شكوى، وتذكر دوما أنك ما مُنعت إلا لتعطى، ولا ابتلاك إلا لتُعافى ولا امتحنك إلا لتُصفى.وطريق الابتلاء معبر شاق، تعب فيه آدم ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وأُلقي في بطن الحوت يونس وقاسى الضر أيوب وبيع بثمن بخس يوسف وأُلقي في الجب إفكاً وفي السجن ظلماً وعالج أنواع الأذى نبينا محمد، وأنت على سنة الابتلاء سائر، والمؤمن يبتلا ليهذب، لا ليعذب. والمصيبة حقاً إنما هي مصيبة الدين، وما سواها من المصائب فهي عافية. ففيها رفع الدرجات، وحط السيئات، فلا تأس على ما فاتك من الدنيا، فزوالها أحداث، وأحاديثها غموم، وطوارقها هموم، فالأنبياء لما ابتلوا صبروا. فاصبر أيها المُبتلى كما صبر صفوة البشر، فلعل الله أن يحشرك معهم في الآخرة.قال النبي عن الدنيا:
((مالي وللدنيا, ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار, ثم راح وتركها)) رواه الترمذي. والدنيا فيها أيام تسر وأيام أخرى تضر.. لكل شيءٍ إذا ما تم نقصـان ***** فلا يُغر بطيب العيش إنسان
هي الحياة كما شاهدتـها دولٌ ***** من سره زمنٌ ساءته أزمان
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن هذه الدنيا دار ممر وليست دار مقر.وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وخير خلق الله أجمعين..
اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وعنا معهم بإيمان يا رب..
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وجميع أعضائنا وقواتنا واجعله الوارث منا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا واجعل الجنة مستقرنا.
اللهم اشف مرضى المسلمين واقض الدين عن المدينين وارحم موتانا وموتى.....
اللهم إنا نسألك عيشة هنية، وميتة سوية.. ونسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة..
عباد الله اذكروا الله يذكركم واشكروه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
الخطبة الأولىالحمد لله الذي عنت له الوجوه لعظمته، وذلت الصعاب لقدرته، وتوجهت الرغاب لفضله ومنته وأُنيخت الركائب عند أبوابه.أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إليه سبحانه توجهت السرائر، وبمناجاته وحده تلذذت الضمائر.. وأشهد أن سيدنا محمد عبدالله ورسوله، اللهم صلي وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان وإيمان إلى يوم الدين.. أما بعد.. فأوصيكم إخواني ونفسي بتقوى الله، لأنها وصية الله للأولين والآخرين، يقول: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} ثم اعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
إخواني المسلمين هذه الأيام مطايا، والناس راكبون عليها، ينزلون من مطية الليل، ويركبون مطية النهار، وينزلون من مطية النهار، ليركبوا مطية الليل، ومطية تحمل وأخرى تضع، حتى تنتهي الرحلة، وفي نهايتها يُعامل الإنسان على ضوء ما عمل في هذه الرحلة. يقول سبحانه: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} فيا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحاًُ تحمل عبئك وتجهد جهدك، وتشق طريقك لتصل في النهاية إلى ربك فإليه المرجع وإليه المآب بعد الكد، والكدح والجهاد.
ويا أيها الإنسان إنك كادح، حتى في متاعك فأنت لا تبلغه في هذه الأرض، إلا بجهد وكد، إن لم يكن جهد بدن وكد عمل فهو جهد تفكير وكد مشاعر الواجد والمحروم سواء إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان ثم إن النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء.
فيا أيها الإنسان إنك لا تجد الراحة في الأرض أبداً، وإنما الراحة هناك لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام، والتعب واحد في الأرض والكدح واحد، وإن اختلف لونه وطعمه، فبعض الناس يتعب لعمل الطاعة، وبعضهم الآخر يتعب لفعل المعصية، أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض وواحد إلى نعيم يمسح عنه آلام الدنيا وكأنه لم يكن قد كدح ولا كد.فيا أيها الإنسان، الذي امتاز بخصائص الإنسان، ألا فاختر لنفسك، ما يليق بهذا الامتياز، الذي خصك به الله، واختر لنفسك الراحة من الكدح عندما تلقاه، ولأن هذه اللمسة الكامنة في هذا النداء، فإنه يصل بها مصائر الكادحين، عندما يصلون إلى نهاية الطريق ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء.فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه وهو المنعم المسرور، ومنهم من يأخذ كتابه وراء ظهره بشماله وهو البعيد المعذب المثبور..
ولا يختلف اثنان على أن كل إنسان بهذه الدنيا، يعيش في تعب ونصب، وكد وكدر يحدثني أحد الناس بالأمس عن نفسه فيقول: بأنه يتناول تسع أنواع من القطرات لعيونه، واثنى عشر نوعاً من الحبوب لعلاج الضغط والسكر، فقلت: بالله أي حياة هذه، ومن يريد مثل هذه الحياة التي يعيشها البعض، وتسمى حياة، فأي حياة هي. وبعضهم يعيش حياته كلها، وهو يحمل أثقال الديون، وقلبه خجل وجل من دائنيه. وبعضهم يعيش حياته وهو بين القضبان، سواء أكان ظالماً أو مظلوماً. ومنهم من يعيش حياته في ظلام الفقر، وبين جدران المسكنة، ومنهم من يعيشها في تعب وكد
لقي أحد الحكماء الشعراء أحد السلاطين فسأله عن حاله فأخبره بأن حاله منغص، وأن عيشه في كدر مهما رأى الناس من سلطانه وهيلمانه، وخدمه وحشمه، إلا أنه تعصف به رياح الهموم والغموم والأحزان. ثم تركه ولقي عالم فسأله عن حاله فأخبره بأنه يعيش في حياة صعبة وقال: أصبحنا وربنا يطالبنا بالفرائض، ورسولنا يحثنا على النوافل والأهل يطالبون بالنفقة والديانة يطالبون بالمال والموت ينتظرنا فمر على أحد التجار فسأله عن حاله فقال: والله إننا على خوف من تجارتنا، إن ارتفعت الأسعار خفنا من البطر، وإن انخفضت خفنا من الفقر. ففكر ساعة ثم قال:
كل من لاقيت يشكو دهره ***** ليت شعري هذه الدنيا لمن
إي والله الكل يشكو من هذه الدنيا ومن همومها وغمومها ومن أكدارها وغصصها فلمن تحلو هذه الدنيا ومن هو المتنعم في هذه الدنيا ومن هو المرتاح فيها بلا تعب ولا نصب ولا هم أو غم؟ ولذلك حينما توسد الإمام أحمد بن حنبل للنوم في تلك الغرفة البسيطة في البنيان، جاءه ولده عبدالله وسأله متى يرتاح المؤمن يا أبي؟ أنا رأيت الملوك والرؤساء والتجار والأغنياء والعلماء والفقراء والمساكين ولكن كلهم رأيتهم في تعب وهم وغم فمتى يرتاح المؤمن؟ فاتكأ الإمام أحمد على يده وقال: لا يرتاح المؤمن حتى يضع رجله اليمنى في الجنة. لا إله إلا الله المؤمن لا يرتاح حتى يطأ برجله اليمنى الجنة. فحينها يعلم علم اليقين أنه قد ارتاح من الهموم والغموم والأكدار والأمراض والأسقام والأوجاع والفقر والأحزان والآلام والخوف لأن الدنيا دار شقاء وليست دار هناء فلا تضمن فيها بقاء الأهل ولا الأولاد ولا الأموال ولا الصحة ولا العافية ولا بقاء الإخوان ولا الخلان ولا الجيران ولا بقاء حال من الأحوال بل الكل للزوال..
كل من لاقيت يشكو دهره***ليت شعري هذه الدنيا لمن.
وهذا الشاعر التهامي كان يسأل الله أن يرزقه ولداً صالحاً. فرزقه بولد أديباً نجيباً كفلقة القمر فكان يسير معه في كل مكان ويفتخر به في المجالس ويوم أن بلغ ست عشر سنة قبض الله روحه فجأة. فمن حبه وولعه به بكى عليه وحزن وقال: والله ما أدفنه في المقابر، ما أدفنه إلا في مجلسي هذا. وبعد أيام نظر وتفكر وقال وما الفائدة في أن يكون مدفوناً هنا أو هناك في المقابر فهو لا يكلمني ولا يدري بحالي ولا أرى وجهه ولا يجالسني.ثم رثاء ابنه بقصيدة ما سُمع بمثلها.قال:
حكم المنية في البرية جاري ***** ما هذه الدنيا بدار قرار
إلى أن قال: طُبِعَتْ على كَدَرٍ وأنت تريدُها ***** صفواً من الأحزان والأكدارومُكَلفُ الأيام غَيْرَ طِبَاعِهَا ***** مُتطلبٌ فِي المـــاء جَذوةَ نار
فهذه الدنيا إذا كست أو كست وإذا أينعت نعت وإذا جلت أوجلت وكم من قبور تُبنى وما إلى الله تُبنا، وكم من مريض عدنا وما إلى ربنا عدنا، وكم من ملك رفعت له علامات, فلما علا مات. يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرنَكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرنّكُم باللَّهِ الْغَرُورُ} ويقول على لسان مؤمن آل فرعون {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} فبقاء الدنيا من المحال، وحالها سيكون للزوال..
قال الحريري: دار متى ما أضحكت في يومها*****أبكت غداً قبحاً لها من دار
وإذا هي قفزت إلى العصاد وهو يدوسها ***** فكأنها قفزت لأخذ الثار
يقول إن هذه الدنيا إذا أعطتك شيء باليمين أخذته بالشمال فإذا باركوا لك بمنصب فبعد قليل يعزونك بولدك وإذا نجحت البنت رسب الولد وإذا بشرك الطبيب بصحة العين أحزنك بارتفاع الضغط أو السكر أو انخفاضهما، وإذا سلم من الفشل الكلوي ومرض القلب والالتهاب الكبدي، فقد يأتيه السرطان، ويفرح بارتفاع الأسهم اليوم، ثم يحزن في الغد على انخفاضها وما أن تتم مباركة الناس له بالسيارة الجديدة فإذا به يصاب بحادث فهذه الدنيا متقلبة الأحوال ولا تدوم لإنسان على حال. قال النبي: ((لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء)أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين.. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد.. عباد الله ولقد عرف الإنسان بفطرته أنه لن يبقى على هذه الدنيا أحد وأن كل من خلق الله فسوف يموت وأنه كما قال: {كل نفس ذائقة الموت}ويقول: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}ولو كان هناك أحد باقياً لكان خير الخلق
وخير لباس المرء طاعة ربه ***** ولا خير فيمن كان لله عاصيا
فلو كانت الدنيا تدوم لأهلها ***** لكان رسول الله حيا وباقـيا
ولكنها تفنى ويفنى نعيمها ***** وتبقى الذنوب و المعاصي كما هي
ولقد ودع أمير الشعراء أحمد شوقي أمه مسافراً لفرنسا فما أن ركب الطائرة إلا وجاءه الخبر بموت أمه. فرجع وذهب إلى قبرها بحلوان وقال: الله يا قبر كم فيك من عجائب. ثم قال: كنز بحلوان عند الله نطلبه***خير الودائع من خير المؤدينا
ومعنى كلامه أننا قد استودعنا كنز ثمين بقبر في حلوان وهو من خير المؤتمنين والمؤدين للأمانات وسوف نطلبه منه في يوم القيامة لنلتقي في عرصات القيامة. وأنك إذا أردت وداعة تتركها في مكان أمين فاستودعها عند الله، وقد قال ابن عمر في الصحيح كان رسول الله إذا ودعنا يقول((استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)) وقال رجل لربيع ابن خثيمة: عندي مال فماذا تشير علي فيه؟ فقال له: إن النخل يفسد بالدود، والخيل قد يعلو سعرها أو تنخفض أو تموت، والأسواق غير مأمونة، والأرزاق آيبة وذاهبة، ولكن اجعلها عند أمين إذا استودعتها عنده حفظها لك.قال: فأين هو؟ قال: قدمها عند الله يحفظها لك.والمرء في حياته معرض للفتن والرزايا، والمحن والبلايا، ولا ينصع نور الإيمان ويرسخ اليقين إلا بالتمحيص والمماحلة، والحياة مبنية على المشاق وركوب الأخطار، ولا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم، ولكن ما بين مقلٍ ومستكثر، قال ابن الجوزي: من يريد أن تدوم له السلامة والنصر على من يعاديه، والعافية من غير بلاء، فما عرف التكليف ولا فهم التسليم ولا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت، والقواطع ممن يتبين بها الصادق من الكاذب.والمقاصد وخلاف الأماني والدنيا لا تصفو لأحد ولو نال منها ما عساه أن ينال. يقول النبي: ((من يرد الله به خيراً يُصب منه)) رواه البخاري.. والمرء يتقلب في زمانه في تحول من النعم واستقبال للمحن.قال ابن القيم: من خلقه الله للجنة لم تزل تأته المكارم، والمؤمن الحازم يثبت للعظائم، ولا يتغير فؤاده، ولا ينطق بالشكوى لسانه، وكتمان المصائب والأوجاع من شيم النبلاء. وما هلك الهالكون إلا من نفاد الجلد. فخفف المصائب عن نفسك بوعد الأجر وتسهيل الأمر لتذهب المحن بلا شكوى، وتذكر دوما أنك ما مُنعت إلا لتعطى، ولا ابتلاك إلا لتُعافى ولا امتحنك إلا لتُصفى.وطريق الابتلاء معبر شاق، تعب فيه آدم ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وأُلقي في بطن الحوت يونس وقاسى الضر أيوب وبيع بثمن بخس يوسف وأُلقي في الجب إفكاً وفي السجن ظلماً وعالج أنواع الأذى نبينا محمد، وأنت على سنة الابتلاء سائر، والمؤمن يبتلا ليهذب، لا ليعذب. والمصيبة حقاً إنما هي مصيبة الدين، وما سواها من المصائب فهي عافية. ففيها رفع الدرجات، وحط السيئات، فلا تأس على ما فاتك من الدنيا، فزوالها أحداث، وأحاديثها غموم، وطوارقها هموم، فالأنبياء لما ابتلوا صبروا. فاصبر أيها المُبتلى كما صبر صفوة البشر، فلعل الله أن يحشرك معهم في الآخرة.قال النبي عن الدنيا:
((مالي وللدنيا, ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار, ثم راح وتركها)) رواه الترمذي. والدنيا فيها أيام تسر وأيام أخرى تضر.. لكل شيءٍ إذا ما تم نقصـان ***** فلا يُغر بطيب العيش إنسان
هي الحياة كما شاهدتـها دولٌ ***** من سره زمنٌ ساءته أزمان
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن هذه الدنيا دار ممر وليست دار مقر.وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وخير خلق الله أجمعين..
اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وعنا معهم بإيمان يا رب..
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وجميع أعضائنا وقواتنا واجعله الوارث منا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا واجعل الجنة مستقرنا.
اللهم اشف مرضى المسلمين واقض الدين عن المدينين وارحم موتانا وموتى.....
اللهم إنا نسألك عيشة هنية، وميتة سوية.. ونسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة..
عباد الله اذكروا الله يذكركم واشكروه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون