الفصل الثاني عشر
عجباً لذكر الموت كيف يلهو? ولخائف الفوت وهو يسهو، ولمتيقن حلول الليل ثم يزهو، وإذا ذكرت له الآخر مر يلغو.لأبي العتاهية:
إني أرقت وذكر الموت أرَّقني | | فقلتُ للدمع: أسعدني فأسعدني |
إن لم أبك لنفسي مشعراً حزنـاً | | قبل الممات ولم آسف لها فمن |
يا من يموت ولم تحزنه موتتـه | | ومن يموت فما أولاه بالحـزن |
لمن أثْمِّرُ أموالي وأجمِّـعـهـا | | لمن أروح لمن أغدو لمن لمن |
لمن سيرفع بي نعشي ويتركني | | في حفرتي ترب الخدين والذقن |
قوض الموت طود عزهم الشا | | مخ قسراً والدهر ذو حدثـان |
واستـرد الـذي أعـار ولـلأ | | يام ظهراً خـشـونة ولـيان |
وإذا صاح صايح الموت في قو | | م غدوا كل واحد في مـكـان |
انتبه الاغتنام عمرك، فكم يعيش الحيوان? مد بحر القدرة، فجرى بمراكب الصور، فرست على ساحل إقليم الدنيا فعاملت في موسم الحياة مدة الجزر، ثم عاد المد فرد إلى برزخ الترب، فقذف محاسن الأبنية في حفر اللحود، وسيأتي طوفان البعث عن قرب، فاحذر أن تدفع دونك سفينة النجاة، فتستغيث وقت الفوت ولا عاصم كأنك بك في قبرك، على فراش الندم وأنه والله لأخشن من الجندل.
فازرع في ربيع حياتك قبل جدوبة أرض شخصك، وادخر من وقت قدرتك لزمان عجزك، واعتبر رحلك قبل رحيلك، مخالفة الفقر في القبر إلى لازم الأخذ "أن تقول نفسٌ يا حسرتا".
يا هذا. مثل لنفسك صرعة الموت، وما قد عزمت أن تفعل حينئذ وقت الأسر، فافعله وقت الإطلاق.
لقيس بن ذريح:
أتبكي على لبنى وأنت تركتهـا | | فكنت كآت حتفه وهو طـائع |
فيا قلب خبرني إذا شطت النوى | | بلبنى وبانت عنك ما أنت صانع |
للصمة القشيري:
تمتع من شميم عرار نجد | | فما بعد العشية من عرار |
يا هذا، مثل نفسك في زاوية من زوايا جهنم وأنت تبكي أبداً، وأبوابها مغلقة وسقوفها مطبقة وهي سوداء مظلمة، لا رفيق تأنس به، ولا صديق تشكو إليه، ولا نوم بريح ولا نفس، قال كعب إن أهل النار ليأكلون أيديهم إلى المناكب، من الندامة على تفريطهم، وما يشعرون بذلك. يا مطروداً عن الباب، يا مضروباً بسوط الحجاب، لو وفيت بعهودنا، ما رميناك بصدودنا، لو كاتبتنا بدمع الأسف، لعفونا عن كل ما سلف.
ولو أنهم عند كشف القنـاع | | وحل العقود ونقض العهودِ |
وخلعهم لـعـذار الـحـياء | | ولبسهم لبـرود الـصـدودِ |
أناخوا بأبـوابـنـا سـاعة | | وأجروا مدامعهم في الخدودِ |
لعدنا سراعاً إلى وصلـهـم | | وقلنا قلوب المحبين عودي |