تطلع النفس إلى ما يستر عنها من كلام مسموع أو شيء يدني إلى المدح وبقاء الذكر
هذا أمران لا يكاد يسلم منهما أحد إلا ساقط الهمة جداً أو من راض نفسه الرياضة التامة وقمع قوة نفسه الغضبية قمعاً كاملاً أو عانى مداواة شره النفس إلى سماع كلام تستر به عنها أو رؤية شيء أكتم به دونها أن يفكر فيما غاب عنها من هذا النوع في غير موضعه الذي هو فيه بل في أقطار الأرض المتباينة.
فإن اهتم بكل ذلك فهو مجنون تام الجنون عديم العقل ألبتة. وإن لم يهتم لذلك فهل هذا الذي اختفي به عنه إلا كسائر ما غاب عنه منه سواء بسواء ولا فرق.
ثم لنزد احتجاجاً على هواه فليقل بلسان عقله لنفسه: يا نفس أرأيت إن لم تعلمي أن ههنا شيئاً أخفي عليك أكنت تطلعين إلى معرفة ذلك أم لا فلا بد من لا. فليقل لنفسه: فكوني الآن كما كنت تكونين لو لم تعلمي بأن ههنا شيئاً ستر عنك فتربحي الراحة وطرد الهم وألم القلق وقبح صفة الشره وتلك غنائم كثيرة وأرباح جليلة وأغراض فاضلة سنية يرغب العاقل فيها. ولا يزهد فيها إلا تام النقص.
وأما من علق وهمه وفكره بأن يبعد اسمه في البلاد ويبقى ذكره على الدهر فليفكر في نفسه وليقل لها: يا نفس أرأيت لو ذكرت بأفضل الذكر في جميع أقطار المعمور أبد الأبد إلى انقضاء الدهر ثم لم يبلغني ذلك ولا عرفت به أكان لي في ذلك سرور أو غبطة أم لا؟ فلا بد من لا، ولا سبيل له إلى علم أنه يذكر أو أنه لا يذكر وكذلك إن كان حياً إذا لم يبلغه.
ثم ليتفكر أيضاً في معنيين عظيمين:
أحدهما كثرة من خلا من الفضلاء من الأنبياء والرسل صلى الله عليهم وسلم أولاً ، للذين لم يبق لهم على أديم الأرض عند أحد من الناس اسم ولا رسم ولا ذكر ولا خبر ولا أثر بوجه من الوجوه.
ثم من الفضلاء الصالحين من أصحاب الأنبياء السالفين والزهاد ومن الفلاسفة والعلماء والأخيار وملوك الأمم الدائرة وبناة المدن الخالية وأتباع الملوك الذين أيضاً قد انقطعت أخبارهم ولم يبق لهم عند أحد علم ولا لأحد بهم معرفة أصلاً ألبتة فهل ضر من كان فاضلاً منهم ذلك أو نقص من فضائلهم أو طمس من محاسنهم أو حط درجتهم عند بارئهم عز وجل؟
ومن جهل هذا الأمر فليعلم أنه ليس في شيء من الدنيا خبر عن ملوك من ملوك الأجيال السالفة أبعد مما بأيدي الناس من تاريخ ملوك بني إسرائيل فقط ثم ما بأيدينا من تاريخ ملوك اليونان والفرس وكل ذلك لا يتجاوز ألفي عام فأين ذكر من عمر الدنيا قبل هؤلاء أليس قد دثر وفني وانقطع ونسي ألبتة وكذلك قال الله تعالى: وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ".
وقال تعالى: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا.
وقال تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ".
فهل الإنسان وإن ذكر برهة من الدهر إلا كمن خلا قبل من الأمم الغابرة الذين ذكروا ثم نسوا جملة.
ثم ليتفكر الإنسان في من ذكر بخير أو بشر هل يزيده ذلك عند الله عز وجل درجة أو يكسبه فضيلة لم يكن حازها بفعله أيام حياته فإذا كان هذا كما قلناه فالرغبة في الذكر رغبة غرور ولا معنى له ولا فائدة فيه أصلاً.
لكن إنما ينبغي أن يرغب الإنسان العاقل في الاستكثار من الفضائل وأعمال البر التي يستحق من هي فيه الذكر الجميل والثناء الحسن والمدح وحميد الصفة. فهي التي تقر به من بارئه تعالى وتجعله مذكوراً عنده عز وجل الذكر الذي ينفعه ويحصل على بقاء فائدته ولا يبيد أبد الأبد وبالله تعالى التوفيق.
شكر المنعم فرض واجب وإنما ذلك بالمقارضة له بمثل ما أحسن فأكثر ثم بالتهمم بأموره وبالتأتي بحسن الدفاع عنه ثم بالوفاء له حياً وميتاً ولمن يتصل به من ساقة وأهل كذلك؛ ثم بالتمادي على وده ونصيحته ونشر محاسنه بالصدق وطي مساويه ما دمت حياً وتوريث ذلك عقبك وأهل ودك.
وليس من الشكر عونه على الآثام وترك نصيحته فيما يوتغ به دينه ودنياه بل من عاون من أحسن إليه على باطل فقد غشه وكفر إحسانه وظلمه وجحد إنعامه.
وأيضاً فإن إحسان الله تعالى وإنعامه على كل حال أعظم وأقدم وأهنأ من نعمة كل منعم دونه عز وجل فهو تعالى الذي شق لنا الأبصار الناظرة وفتق فينا الآذان السامعة ومنحنا الحواس الفاضلة ورزقنا النطق والتمييز اللذين بهما استأهلنا أن يخاطبنا وسخر لنا ما في السموات وما في الأرض من الكواكب والعناصر.
ثم و لم يفضل علينا من خلقه شيئاً غير الملائكة المقدسين الذين هم عمار السموات فقط فأين تقع نعم المنعمين من هذه النعم! فمن قدر أنه يشكر محسناً إليه بمساعدته على باطل أو بمحاباته فيما لا يجوز فقد كفر نعمة أعظم المنعمين وجحد إحسان أجل المحسنين إليه ولم يشكر ولي الشكر حقاً ولا حمد أهل الحمد أصلاً وهو الله عز وجل ومن حال بين المحسن إليه وبين الباطل وأقامه على مر الحق فقد شكره حقاً وأدى واجب حقه عليه مستوفى ولله الحمد أولاً وآخراً وعلى كل حال.
المصدر : كتاب الأخلاق والسير – إبن حزم الظاهري