كتاب الأحكام السلطانية للماوردي
الْبَابُ التَّاسِعُ : فِي الْوِلَايَةِ عَلَى إمَامَةِ الصَّلَوَاتِ .
وَالْإِمَامَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا : الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ .
وَالثَّانِي : الْإِمَامَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ .
وَالثَّالِثُ : الْإِمَامَةُ فِي صَلَوَاتِ النَّدْبِ ,
فَأَمَّا الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَنَصْبُ الْإِمَامِ فِيهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الصَّلَوَاتُ , وَهِيَ ضَرْبَانِ : مَسَاجِدُ سُلْطَانِيَّةٌ وَمَسَاجِدُ عَامِّيَّةٌ . فَأَمَّا الْمَسَاجِدُ السُّلْطَانِيَّةُ فَهِيَ الْمَسَاجِدُ وَالْجَوَامِعُ وَالْمَشَاهِدُ , وَمَا عَظُمَ وَكَثُرَ أَهْلُهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ الَّتِي يَقُومُ السُّلْطَانُ بِمُرَاعَاتِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْتَدَبَ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا إلَّا مَنْ نَدَبَهُ السُّلْطَانُ لَهَا وَقَلَّدَهُ الْإِمَامَةَ فِيهَا لِئَلَّا يَفْتَئِتَ الرَّعِيَّةُ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَيْهِ , فَإِذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ فِيهَا إمَامًا كَانَ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ , وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَأَعْلَمَ . وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ طَرِيقُهَا طَرِيقُ الْأَوْلَى لَا طَرِيقُ اللُّزُومِ وَالْوُجُوبِ , بِخِلَافِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَالنِّقَابَةِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ تَرَاضَى النَّاسُ بِإِمَامٍ وَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ وَصَحَّتْ جَمَاعَتُهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنْ السُّنَنِ الْمُخْتَارَةِ وَالْفَضَائِلِ الْمُسْتَحْسَنَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ الْفُرُوضِ الْوَاجِبَةِ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إلَّا دَاوُد فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِإِيجَابِهَا إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ النَّدْبِ الْمُؤَكَّدِ وَنَدَبَ السُّلْطَانُ لِهَذِهِ الْمَسَاجِدِ إمَامًا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهَا مَعَ حُضُورِهِ ; فَإِنْ غَابَ وَاسْتَنَابَ كَانَ مَنْ اسْتَنَابَهُ فِيهَا أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ , وَإِنْ لَمْ يَسْتَنِبْ فِي غَيْبَتِهِ اُسْتُؤْذِنَ الْإِمَامُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ فِيهَا إنْ أَمْكَنَ . وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ تَرَاضَى أَهْلُ الْبَلَدِ فِيمَنْ يَؤُمُّهُمْ لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ جَمَاعَتُهُمْ , فَإِذَا حَضَرَتْ صَلَاةٌ أُخْرَى وَالْإِمَامُ عَلَى غَيْبَتِهِ فَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرْتَضَى لِلصَّلَاةِ الْأُولَى يَتَقَدَّمُ فِي الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْإِمَامُ الْمُوَلَّى , وَقِيلَ بَلْ يُخْتَارُ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ ثَانٍ يُرْتَضَى لَهَا غَيْرَ الْأَوَّلِ لِئَلَّا يَصِيرَ هَذَا الِاخْتِيَارُ تَقَلُّدًا سُلْطَانِيًّا , وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى مِنْ إطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : أَنْ يُرَاعَى حَالُ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ , فَإِنْ حَضَرَ لَهَا مَنْ حَضَرَ فِي الْأُولَى كَانَ الْمُرْتَضَى فِي الْجَمَاعَةِ الْأُولَى أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ , وَإِنْ حَضَرَهَا غَيْرُهُمْ كَانَ الْأَوَّلُ كَأَحَدِهِمْ وَاسْتَأْنَفُوا اخْتِيَارَ إمَامٍ يَتَقَدَّمُهُمْ فَإِذَا صَلَّى إمَامُ هَذَا الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ وَحَضَرَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ تِلْكَ الْجَمَاعَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ جَمَاعَةً وَصَلَّوْا فِيهِ فُرَادَى لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْمُبَايَنَةِ وَالتُّهْمَةِ بِالْمُشَاقَّةِ وَالْمُخَالَفَةِ , وَإِذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ لِهَذَا الْمَسْجِدِ إمَامَيْنِ فَإِنْ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ جَازَ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورًا عَلَى مَا خُصَّ بِهِ كَتَقْلِيدِ أَحَدِهِمَا صَلَاةَ النَّهَارِ وَتَقْلِيدِ الْآخَرِ صَلَاةَ اللَّيْلِ فَلَا يَتَجَاوَزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا رَدَّهُ إلَيْهِ , وَإِنْ قَلَّدَ الْإِمَامَةَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ لَكِنْ رَدَّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمًا غَيْرَ يَوْمِ صَاحِبِهِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَوْمِهِ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِيهِ مِنْ صَاحِبِهِ , فَإِنْ أَطْلَقَ تَقْلِيدَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَانَا فِي الْإِمَامَةِ سَوَاءً وَأَيُّهُمَا سَبَقَ إلَيْهَا كَانَ أَحَقَّ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَؤُمَّ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ بِقَوْمٍ آخَرِينَ , لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَامَ فِي الْمَسَاجِدِ السُّلْطَانِيَّةِ جَمَاعَتَانِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَاخْتُلِفَ فِي السَّبْقِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّقَدُّمُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : سَبْقُهُ بِالْحُضُورِ فِي الْمَسْجِدِ . وَالثَّانِي : سَبْقُهُ بِالْإِمَامَةِ فِيهِ , فَإِنْ حَضَرَ الْإِمَامَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ , فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا كَانَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ , وَإِنْ تَنَازَعَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا وَيَتَقَدَّمُ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا . وَالثَّانِي : يَرْجِعُ إلَى اخْتِيَارِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِأَحَدِهِمَا . وَيَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ هَذَا الْإِمَامِ تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِينَ مَا لَمْ يُصَرَّحْ لَهُ بِالصَّرْفِ مِنْهُ , لِأَنَّ الْأَذَانَ مِنْ سُنَنِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي وَلِيَ الْقِيَامَ بِهَا فَصَارَ دَاخِلًا فِي الْوِلَايَةِ , وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُؤَذِّنِينَ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ فِي الْوَقْتِ وَالْأَذَانِ . فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا يَرَى تَعْجِيلَ الصَّلَوَاتِ فِي أَوَّلِ الْأَوْقَاتِ وَتَرْجِيعَ الْأَذَانِ وَإِفْرَادَ الْإِقَامَةِ أَخَذَ الْمُؤَذِّنِينَ بِذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُمْ بِخِلَافِهِ , وَإِنْ كَانَ حَنَفِيًّا يَرَى تَأْخِيرَ الصَّلَوَاتِ إلَى آخِرِ الْأَوْقَاتِ إلَّا الْمَغْرِبَ وَيَرَى تَرْكَ التَّرْجِيعِ فِي الْأَذَانِ وَتَثْنِيَةِ الْإِقَامَةِ أَخَذَهُمْ بِذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُمْ بِخِلَافِهِ . ثُمَّ يَعْمَلُ الْإِمَامُ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي أَحْكَامِ صَلَاتِهِ , فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا يَرَى الْجَهْرَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا لِلْمَأْمُومِينَ أَنْ يُنْكِرُوهُ عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ حَنَفِيًّا يَرَى تَرْكَ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَتَرْكَ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ عُمِلَ عَلَى رَأْيِهِ وَلَمْ يُعَارَضْ فِيهِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ أَنَّهُ يُؤَدِّي الصَّلَاةَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَارَضَ فِي اجْتِهَادِهِ , وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يُعَارَضَ فِي اجْتِهَادِهِ , فَإِنْ أَحَبَّ الْمُؤَذِّنُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ عَلَى اجْتِهَادِهِ أَذَّنَ بَعْدَ الْأَذَانِ الْعَامِّ أَذَانًا خَاصًّا لِنَفْسِهِ عَلَى رَأْيِهِ يُسِرُّ بِهِ وَلَا يَجْهَرُ .
*************************
( فَصْلٌ ) وَالصِّفَاتُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي تَقْلِيدِ هَذَا الْإِمَامِ خَمْسٌ :
أَنْ يَكُونَ رَجُلًا عَادِلًا قَارِئًا فَقِيهًا سَلِيمَ اللَّفْظِ مِنْ نَقْصٍ أَوْ لَثَغٍ . فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ فَاسِقًا صَحَّتْ إمَامَتُهُ وَلَمْ تَنْعَقِدْ وِلَايَتُهُ ; لِأَنَّ الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْفِسْقَ يَمْنَعُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِمَامَةِ . { قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بْنَ مَسْلَمَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بِقَوْمِهِ وَكَانَ صَغِيرًا لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَأَهُمْ } . وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَ مَوْلًى لَهُ وَقَالَ : { صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَارٍّ وَفَاجِرٍ } . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِمَامُ امْرَأَةً وَلَا خُنْثَى وَلَا أَخْرَسَ وَلَا أَلْثَغَ , وَإِنْ أَمَّتْ امْرَأَةٌ أَوْ خُنْثَى فَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ ائْتَمَّ بِهِمَا مِنْ الرِّجَالِ وَالْخَنَاثَى , وَإِنْ أَمَّ أَلْثَغُ أَوْ أَخْرَسُ يُبَدِّلُ الْحُرُوفَ بِأَغْيَارِهَا بَطَلَتْ صَلَاةُ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِثْلِ خَرَسِهِ أَوْ لَثَغِهِ . وَأَقَلُّ مَا عَلَى هَذَا الْإِمَامِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِأُمِّ الْقُرْآنِ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ فِيهَا , وَإِنْ كَانَ حَافِظًا لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ كَانَ أَوْلَى . وَإِذَا اجْتَمَعَ فَقِيهٌ لَيْسَ بِقَارِئٍ , وَقَارِئٌ لَيْسَ بِفَقِيهٍ فَالْفَقِيهُ أَوْلَى مِنْ الْقَارِئِ إذَا كَانَ يَفْهَمُ الْفَاتِحَةَ , لِأَنَّ مَا يَلْزَمُ مِنْ الْقُرْآنِ مَحْصُورٌ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ الْحَوَادِثِ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ مَحْصُورٍ . وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ هَذَا الْإِمَامُ وَمَأْذُونُهُ رِزْقًا عَلَى الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ , وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الْعَامَّةُ الَّتِي يَبْنِيهَا أَهْلُ الشَّوَارِعِ وَالْقَبَائِلِ فِي شَوَارِعِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ فَلَا اعْتِرَاضَ لِلسُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ فِي أَئِمَّةِ مَسَاجِدِهِمْ وَتَكُونُ الْإِمَامَةُ فِيهَا لِمَنْ اتَّفَقُوا عَلَى الرِّضَا بِإِمَامَتِهِ , وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ الرِّضَا بِهِ أَنْ يَصْرِفُوهُ عَنْ الْإِمَامَةِ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ , وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ رِضَاهُمْ بِهِ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا مَكَانَهُ نَائِبًا عَنْهُ وَيَكُونُ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ حَقٌّ بِالِاخْتِيَارِ . وَإِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فِي اخْتِيَارِ إمَامٍ عُمِلَ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ فَإِنْ تَكَافَأَ الْمُخْتَلِفُونَ اخْتَارَ السُّلْطَانُ لَهُمْ قَطْعًا لِتَشَاجُرِهِمْ مَنْ هُوَ أَدْيَنُ وَأَسَنُّ وَأَقْرَأُ وَأَفْقَهُ وَهَلْ يَكُونُ اخْتِيَارُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْعَدَدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَوْ يَكُونُ عَامًّا فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ الْمُخْتَلِفِ فِي اخْتِيَارِهِ أَحَدُهُمْ وَلَا يَتَعَدَّاهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَرْكِ مَنْ عَدَاهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مَنْ يَرَاهُ لِإِمَامَتِهِ مُسْتَحِقًّا لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يُضَيَّقُ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارُ .
وَإِذَا بَنَى رَجُلٌ مَسْجِدًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْإِمَامَةَ فِيهِ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ جِيرَانِ الْمَسْجِدِ سَوَاءً فِي إمَامَتِهِ وَأَذَانِهِ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ فِيهِ .
وَإِذَا حَضَرَتْ جَمَاعَةٌ مَنْزِلَ رَجُلٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ كَانَ مَالِكُ الْمَنْزِلِ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْفَضْلِ , فَإِنْ حَضَرَهُ السُّلْطَانُ كَانَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَحَقَّ مِنْ الْمَالِكِ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ , وَالْمَالِكُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي أَحَقُّ لِاخْتِصَاصِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ .
**************************
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْإِمَامَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَقْلِيدِهَا , فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهَا مِنْ الْوِلَايَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِحُضُورِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ فِيهَا وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَفُقَهَاءُ الْحِجَازِ إلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا نَدْبٌ , وَأَنَّ حُضُورَ السُّلْطَانِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا . فَإِنْ أَقَامَهَا الْمُصَلُّونَ عَلَى شَرَائِطِهَا انْعَقَدَتْ وَصَحَّتْ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ فِيهَا عَبْدًا وَإِنْ لَمْ تَنْعَقِدْ وِلَايَتُهُ . وَفِي جَوَازِ إمَامَةِ الصَّبِيِّ قَوْلَانِ : وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا فِي وَطَنٍ مُجْتَمِعِ الْمَنَازِلِ يَسْكُنُهُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ سَوَاءٌ كَانَ مِصْرًا أَوْ قَرْيَةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَخْتَصُّ الْجُمُعَةُ بِالْأَمْصَارِ , وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي الْقُرَى وَاعْتُبِرَ الْمِصْرُ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ سُلْطَانٌ يُقِيمُ الْحُدُودَ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ ; فَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْهُمْ , وَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ إذَا سَمِعُوا نِدَاءَهَا مِنْهُ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ , فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه إلَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ لَيْسَ فِيهِمْ امْرَأَةٌ وَلَا عَبْدٌ وَلَا مُسَافِرٌ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي إمَامِهِمْ هَلْ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى الْعَدَدِ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ , فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِأَرْبَعِينَ سِوَى الْإِمَامِ , وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعِينَ مَعَ الْإِمَامِ . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْ عَشَرَ سِوَى الْإِمَامِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ أَحَدُهُمْ الْإِمَامُ , وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَبُو يُوسُفَ تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ أَحَدُهُمْ الْإِمَامُ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْنِ كَسَائِرِ الْجَمَاعَاتِ . وَقَالَ مَالِكٌ لَا اعْتِبَارَ بِالْعَدَدِ فِي انْعِقَادِهَا , وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ أَنْ يَكُونُوا عَدَدًا تُبْنَى لَهُ الْأَوْطَانُ غَالِبًا .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقَامَ الْجُمُعَةُ فِي السَّفَرِ وَلَا خَارِجَ الْمِصْرِ إلَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِنَاؤُهُ . وَإِذَا كَانَ الْمِصْرُ جَامِعًا لِقُرًى قَدْ اتَّصَلَ بِنَاؤُهَا حَتَّى اتَّسَعَ بِكَثْرَةٍ كَبَغْدَادَ جَازَ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مَوَاضِعِهِ الْقَدِيمَةِ , وَلَا يَمْنَعُ اتِّصَالُ الْبُنْيَانِ مِنْ إقَامَتِهَا فِي مَوَاضِعِهَا . وَإِنْ كَانَ الْمِصْرُ وَاحِدًا فِي مَوْضُوعِ الْأَصْلِ وَجَامِعُهُ يَسَعُ جَمِيعَ أَهْلِهِ كَمَكَّةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَامَ الْجُمُعَةُ فِيهِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ الْمِصْرُ وَاحِدًا مُتَّصِلَ الْأَبْنِيَةِ لَا يَسَعُ جَامِعُهُ جَمِيعَ أَهْلِهِ لِكَثْرَتِهِمْ كَالْبَصْرَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ لِلضَّرُورَةِ بِكَثْرَةِ أَهْلِهِ , فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى جَوَازِهَا وَأَبَاهُ آخَرُونَ وَقَالُوا إنْ ضَاقَ بِهِمْ اتَّسَعَتْ لَهُمْ الطُّرُقَاتُ فَلَمْ يُضْطَرُّوا إلَى تَفْرِيقِ الْجُمُعَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ . وَإِنْ أُقِيمَتْ الْجُمُعَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي مِصْرٍ قَدْ مُنِعَ أَهْلُهُ مِنْ تَفْرِيقِ الْجُمُعَةِ فِيهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ لِأَسْبَقِهِمَا بِإِقَامَتِهَا وَعَلَى الْمَسْبُوقِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ ظُهْرًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْجُمُعَةَ لِلْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَحْضُرُهُ السُّلْطَانُ سَابِقًا كَانَ أَوْ مَسْبُوقًا , وَعَلَى مَنْ صَلَّوْا فِي الْأَصْغَرِ إعَادَةُ صَلَاتِهِمْ ظُهْرًا .
وَلَيْسَ لِمَنْ قُلِّدَ إمَامَةَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَؤُمَّ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ . وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ قُلِّدَ إمَامَةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَمَنَعَهُ مِنْهَا مَنْ جَعَلَ الْجُمُعَةَ فَرْدًا مُبْتَدَأً , وَجَوَّزَهَا لَهُ مَنْ جَعَلَهَا ظُهْرًا مَقْصُورًا .
وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الْجُمُعَةِ . يَرَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَكَانَ الْمَأْمُومُونَ وَهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا يَرَوْنَ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَؤُمَّهُمْ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ , وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَالْمَأْمُومُونَ لَا يَرَوْنَهُ وَهُمْ أَقَلُّ لَمْ يَلْزَمْ الْإِمَامَ وَلَا الْمَأْمُومِينَ إقَامَتُهَا ; لِأَنَّ الْمَأْمُومِينَ لَا يَرَوْنَهُ وَالْإِمَامَ لَمْ يَجِدْ مَعَهُ مَنْ يُصَلِّيهَا .
وَإِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ الْإِمَامَ فِي الْجُمُعَةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ وَإِنْ كَانَ يَرَاهُ مَذْهَبًا , لِأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَمَصْرُوفٌ عَمَّا دُونَهَا : وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُصَلِّيهَا لِصَرْفِ وِلَايَتِهِ عَنْهَا , وَإِذَا أَمَرَهُ السُّلْطَانُ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ وَهُوَ لَا يَرَاهُ فَفِي وِلَايَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا بَاطِلَةٌ لِتَعَذُّرِهَا مِنْ جِهَتِهِ . وَالثَّانِي أَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَيَسْتَخْلِفُ عَلَيْهَا مَنْ يَرَاهُ مِنْهُمْ
**************************
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَسْنُونَةِ مِثْلِ الْجُمُعَةِ فَخَمْسٌ :
صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَالْخُسُوفَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ , وَتَقْلِيدُ الْإِمَامَةِ فِيمَا نُدِبَ لِجَوَازِهَا جَمَاعَةً وَفُرَادَى . وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ . وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ , وَلَيْسَ لِمَنْ قُلِّدَ إمَامَةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ إمَامَةَ الْجُمُعَةِ حَقٌّ فِي إقَامَتِهَا إلَّا أَنْ يُقَلَّدَ جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ فَتَدْخُلُ فِي غَيْرِهَا
فَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَوَقْتُهَا مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَزَوَالِهَا وَيُخْتَارُ تَعْجِيلُ الْأَضْحَى وَتَأْخِيرُ الْفِطْرِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ فِي لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ مِنْ بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى حِينِ أَخْذِهِمْ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَيَخْتَصُّ عِيدُ الْأَضْحَى بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ , وَيُصَلِّي الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَالْجُمُعَةَ بَعْدَهَا اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ فِيهِمَا وَيَخْتَصُّ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ بِالتَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِهَا ; فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه إلَى أَنَّهُ يَزِيدُ فِي الْأُولَى سَبْعًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا . وَقَالَ مَالِكٌ يَزِيدُ فِي الْأُولَى سِتًّا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَيُكَبِّرُ فِي الْأُولَى ثَلَاثًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْبَعًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ , وَيَعْمَلُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ , وَلَيْسَ لِمَنْ وَلَّاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ , بِخِلَافِ الْعَدَدِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَاصَّ الْوِلَايَةِ وَلَا يَصِيرُ بِذِكْرِ التَّكْبِيرِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ خَاصَّ الْوِلَايَةِ فَافْتَرَقَا .
فَأَمَّا صَلَاةُ الْخُسُوفَيْنِ فَيُصَلِّيهِمَا مَنْ نَدَبَهُ السُّلْطَانُ لَهُمَا أَوْ مَنْ عَمَّتْ وِلَايَتُهُ فَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمَا وَهِيَ رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ وَقِيَامَانِ يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا فَيَقْرَأُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى سِرًّا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ بِقَدْرِهَا مِنْ غَيْرِهَا وَيَرْكَعُ مُسَبِّحًا بِقَدْرِ مِائَةِ آيَةٍ ثُمَّ يَرْفَعُ مُنْتَصِبًا وَيَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَوْ بِقَدْرِهَا وَيَرْكَعُ مُسَبِّحًا بِقَدْرِ ثَمَانِينَ آيَةً يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ , ثُمَّ يَصْنَعُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ يَقْرَأُ فِي قِيَامِهَا وَيُسَبِّحُ فِي رُكُوعِهَا بِثُلُثَيْ مَا قَرَأَ أَوْ سَبَّحَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ . وَيُصَلِّي لِخُسُوفِ الْقَمَرِ كَصَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ جَهْرًا لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ . وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُصَلِّي لِخُسُوفِ الْقَمَرِ كَصَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ .
فَأَمَّا صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ فَمَذْهُوبٌ إلَيْهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ وَخَوْفِ الْجَدْبِ يَتَقَدَّمُ مَنْ قُلِّدَهَا بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَهَا وَالْكَفِّ فِيهَا عَنْ التَّظَالُمِ وَالتَّخَاصُمِ , وَيُصْلِحُ فِيهَا بَيْنَ الْمُتَشَاجِرَيْنِ وَالْمُتَخَاصَمِينَ وَالْمُتَهَاجِرَيْنِ وَهِيَ كَصَلَاةِ الْعِيدِ فِي وَقْتِهَا . وَإِذَا قُلِّدَ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي عَامٍ جَازَ مَعَ إطْلَاقِ وِلَايَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ عَامٍ مَا لَمْ يُصْرَفْ . وَإِذَا قُلِّدَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فِي عَامٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ إطْلَاقِ وِلَايَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُقَلَّدَ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ رَاتِبَةٌ وَصَلَاةَ الْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ عَارِضَةٌ وَإِذَا مُطِرُوا وَهُمْ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ أَتَمُّوهَا وَخَطَبَ بَعْدَهَا شُكْرًا , وَلَوْ مُطِرُوا قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا لَمْ يُصَلُّوا وَشَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ خُطْبَةٍ , وَكَذَلِكَ فِي الْخُسُوفِ إذَا انْجَلَى , وَلَوْ اقْتَصَرَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ أَجْزَأَ . وَرَوَى أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : { أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَتَيْنَاكَ وَمَا لَنَا بَعِيرٌ يَئِطُّ وَلَا صَبِيٌّ يَصْطَبِحُ ثُمَّ أَنْشَدَهُ . أَتَيْنَاكَ وَالْعَذْرَاءُ يَدْمَى لَبَانُهَا وَقَدْ شُغِلَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَنْ الطِّفْلِ وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الصَّبِيُّ اسْتِكَانَةً مِنْ الْجُوعِ ضَعْفًا لَا يُمِرُّ وَلَا يُحْلِي وَلَا شَيْءَ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ عِنْدَنَا سِوَى الْحَنْظَلِ الْعَامِّيِّ وَالْعِلْهِزِ الْغِسْلِ وَلَيْسَ لَنَا إلَّا إلَيْكَ فِرَارُنَا وَأَيْنَ فِرَارُ النَّاسِ إلَّا إلَى الرُّسُلِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا غَدَقًا مُغِيثًا سَحًّا طَبَقًا غَيْرَ رَائِثٍ يَنْبُتُ بِهِ الزَّرْعُ وَيُمْلَى بِهِ الضَّرْعُ وَتَحْيَا بِهِ الْأَرْضُ بَعْدَ مَوْتِهَا , وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ . فَمَا اسْتَتَمَّ الدُّعَاءَ حَتَّى أَلْقَتْ السَّمَاءُ بِأَرْوَاقِهَا فَجَاءَ أَهْلُ الْبِطَانَةِ يَصِيحُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْغَرَقُ فَقَالَ : حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا . فَانْجَابَتْ السَّحَابُ عَنْ الْمَدِينَةِ كَالْإِبِلِ , فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ : لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ , لَوْ كَانَ حَيًّا لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ الَّذِي يَنْشُدُ شِعْرَهُ ؟ . فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ كَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتَ قَوْلَهُ مِنْ الطَّوِيلِ . وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلِ كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَبْزِي مُحَمَّدًا وَلَمَّا نُقَاتِلْ دُونَهُ وَنُنَاضِلْ وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ فَأَنْشَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم . مِنْ الْمُتَقَارَبِ : لَكَ الْحَمْدُ وَالْحَمْدُ مِمَّنْ شَكَرْ سُقِينَا بِوَجْهِ النَّبِيِّ الْمَطَرْ دَعَا اللَّهَ خَالِقَهُ دَعْوَةً وَأَشْخَصَ مَعَهَا إلَيْهِ الْبَصَرْ فَلَمْ يَكُ إلَّا كَإِلْقَاءِ الرِّدَاءِ وَأَسْرَعَ حَتَّى رَأَيْنَا الْمَطَرْ دِفَاقَ الْعَزَالِي جَمَّ الْبُعَاقِ أَغَاثَ بِهِ اللَّهُ عَلِيًّا مُضَرْ وَكَانَ كَمَا قَالَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ أَبْيَضَ ذَا غُرَرْ بِهِ اللَّهُ أَرْسَلَ صَوْبَ الْغَمَامِ وَهَذَا الْعِيَانُ وَذَاكَ الْخَبَرْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إنْ يَكُنْ شَاعِرٌ يُحْسِنُ فَقَدْ أَحْسَنْتَ } .
وَلِبْسُ السَّوَادِ مُخْتَصٌّ بِالْأَئِمَّةِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا دَعْوَةُ السُّلْطَانِ اتِّبَاعًا لِشِعَارِهِ الْآنَ . وَتُكْرَهُ مُخَالَفَتُهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ تَحَرُّزًا مِنْ مُبَايَنَتِهِ . وَإِذَا تَغَلَّبَ مَنْ مُنِعَ الْجَمَاعَةَ كَانَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْمُجَاهَرَةِ بِهَا , وَإِذَا أَقَامَهَا الْمُتَغَلِّبُ مَعَ سُوءِ مُعْتَقَدِهِ اُتُّبِعَ فِيهَا , وَلَا يُتَّبَعُ عَلَى بِدْعَةٍ يُحْدِثُهَا .