كتاب الأحكام السلطانية للماوردي
الْبَابُ الْعَاشِرُ : فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْحَجِّ .
هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى الْحَجِّ ضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ عَلَى تَسْيِيرِ الْحَجِيجِ .
وَالثَّانِي : عَلَى إقَامَةِ الْحَجِّ ,
فَأَمَّا تَسْيِيرُ الْحَجِيجِ فَهُوَ وِلَايَةُ سِيَاسَةٍ وَزَعَامَةٍ وَتَدْبِيرٍ .
وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُوَلَّى : أَنْ يَكُونَ مُطَاعًا ذَا رَأْيٍ وَشَجَاعَةٍ وَهَيْبَةٍ وَهِدَايَةٍ .
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ :
أَحَدُهَا جَمْعُ النَّاسِ فِي مَسِيرِهِمْ وَنُزُولِهِمْ حَتَّى لَا يَتَفَرَّقُوا فَيَخَافُ النَّوَى وَالتَّغْرِيرَ .
وَالثَّانِي : تَرْتِيبُهُمْ فِي الْمَسِيرِ وَالنُّزُولِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مُقَادًا حَتَّى يَعْرِفَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مُقَادَهُ إذَا سَارَ وَيَأْلَفَ مَكَانَهُ إذَا نَزَلَ , فَلَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ وَلَا يَضِلُّونَ عَنْهُ .
وَالثَّالِثُ : يَرْفُقُ بِهِمْ فِي السَّيْرِ حَتَّى لَا يَعْجِزَ عَنْهُ ضَعِيفُهُمْ وَلَا يَضِلَّ عَنْهُ مُنْقَطِعُهُمْ , وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { الضَّعِيفُ أَمِيرُ الرُّفْقَةِ } يُرِيدُ أَنَّ مَنْ ضَعُفَتْ دَوَابُّهُ كَانَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسِيرُوا بِسَيْرِهِ .
الرَّابِعُ : أَنْ يَسْلُكَ بِهِمْ أَوْضَحَ الطُّرُقِ وَأَخْصَبَهَا , وَيَتَجَنَّبَ أَجَدْبَهَا وَأَوْعَرَهَا .
وَالْخَامِسُ : أَنْ يَرْتَادَ لَهُمْ الْمِيَاهَ إذَا انْقَطَعَتْ وَالْمَرَاعِيَ إذَا قَلَّتْ .
وَالسَّادِسُ : أَنْ يَحْرُسَهُمْ إذَا نَزَلُوا وَيَحُوطَهُمْ إذَا رَحَلُوا حَتَّى لَا يَتَخَطَّفَهُمْ دَاعِرٌ وَلَا يَطْمَعَ فِيهِمْ مُتَلَصِّصٌ .
وَالسَّابِعُ : أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُمْ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنْ الْمَسِيرِ وَيَدْفَعَ عَنْهُمْ مَنْ يَحْصُرُهُمْ عَنْ الْحَجِّ بِقِتَالٍ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَوْ بِبَذْلِ مَالٍ إنْ أَجَابَ الْحَجِيجُ إلَيْهِ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يُجْبِرَ أَحَدًا عَلَى بَذْلِ الْخَفَارَةِ إنْ امْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى يَكُونَ بَاذِلًا لَهَا عَفْوًا وَمُجِيبًا إلَيْهَا طَوْعًا , فَإِنْ بَذَلَ الْمَالَ عَلَى التَّمْكِينِ مِنْ الْحَجِّ لَا يَجِبُ .
وَالثَّامِنُ : أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ وَيُتَوَسَّطَ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ وَلَا يَتَعَرَّضَ لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمْ إجْبَارًا إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ , فَإِنْ دَخَلُوا بَلَدًا فِيهِ حَاكِمٌ جَازَ لَهُ وَلِحَاكِمِ الْبَلَدِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَأَيُّهُمَا حَكَمَ نَفَذَ حُكْمُهُ وَلَوْ كَانَ التَّنَازُعُ بَيْنَ الْحَجِيجِ وَأَهْلِ الْبَلَدِ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ إلَّا حَاكِمُ الْبَلَدِ .
وَالتَّاسِعُ أَنْ يُقَوِّمَ زَائِغَهُمْ وَيُؤَدِّبَ خَائِنَهُمْ , وَلَا يَتَجَاوَزَ التَّعْزِيرَ إلَى الْحَدِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِيهِ فَيَسْتَوْفِيَهُ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ . فَإِنْ دَخَلَ بَلَدًا فِيهِ مَنْ يَتَوَلَّى إقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَى أَهْلِهِ نَظَرَ , فَإِنْ كَانَ مَا أَتَاهُ الْمَحْدُودُ قَبْلَ دُخُولِ الْبَلَدِ ; فَوَالِي الْحَجِيجِ أَوْلَى بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ مِنْ وَالِي الْبَلَدِ , وَإِنْ كَانَ مَا أَتَاهُ الْمَحْدُودُ فِي الْبَلَدِ فَوَالِي الْبَلَدِ أَوْلَى بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ مِنْ وَالِي الْحَجِيجِ .
وَالْعَاشِرُ ; أَنْ يُرَاعِيَ اتِّسَاعَ الْوَقْتِ حَتَّى يُؤْمَنَ الْفَوَاتَ وَلَا يُلْجِئَهُمْ ضِيقُهُ إلَى الْحَثِّ فِي السَّيْرِ , فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمِيقَاتِ أَمْهَلَهُمْ لِلْإِحْرَامِ وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ , فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا عَدَلَ بِهِمْ إلَى مَكَّةَ لِيَخْرُجُوا مَعَ أَهْلِهَا إلَى الْمَوَاقِفِ وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا عَدَلَ بِهِمْ عَنْ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِهَا فَيَفُوتَ الْحَجُّ بِهَا فَإِنَّ زَمَانَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ , فَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ , وَإِنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَعَلَيْهِ إتْمَامُ مَا بَقِيَ مِنْ أَرْكَانِهِ وَجُبْرَانِهِ بِدَمٍ وَقَضَاؤُهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ إنْ أَمْكَنَهُ وَفِيمَا بَعْدَهُ إنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ , وَلَا يَصِيرُ حَجُّهُ عُمْرَةً بِالْفَوَاتِ وَلَا يَتَحَلَّلُ بَعْدَ الْفَوَاتِ إلَّا بِإِحْلَالِ الْحَجِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَصِيرُ إحْرَامُهُ بِالْفَوَاتِ عُمْرَةً , وَإِذَا أَوْصَلَ الْحَجِيجَ إلَى مَكَّةَ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَوْدِ مِنْهُمْ فَقَدْ زَالَتْ عَنْهُ وِلَايَةُ الْوَالِي عَلَى الْحَجِيجِ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ , وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى الْعَوْدِ فَهُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَمُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ طَاعَتِهِ , فَإِذَا قَضَى النَّاسُ حَجَّهُمْ أَمْهَلَهُمْ الْأَيَّامَ الَّتِي جَرَتْ بِهَا الْعَادَةُ فِي إنْجَازِ عَلَائِقِهِمْ وَلَا يُرْهِقُهُمْ فِي الْخُرُوجِ فَيَضُرَّ بِهِمْ , فَإِذَا عَادَ بِهِمْ سَارَ بِهِمْ طَرِيقَ الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ حَجِّ بَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَزِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رِعَايَةً لِحُرْمَتِهِ وَقِيَامًا بِحُقُوقِ طَاعَتِهِ , وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ فَهُوَ مَنْ نُدِبَ الشَّرْعِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَعَادَاتِ الْحَجِيجِ الْمُسْتَحْسَنَةِ .
رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } .
وَحَكَى الْعُتْبِيُّ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَقْبَلَ وَسَلَّمَ فَأَحْسَنَ ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي وَجَدْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } . وَقَدْ جِئْتُكَ تَائِبًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إلَى رَبِّي ; ثُمَّ بَكَى وَأَنْشَأَ يَقُولُ ( مِنْ الْبَسِيطِ ) :
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَانْصَرَفَ قَالَ الْعُتْبِيُّ فَأَغْفَيْتُ إغْفَاءَةً فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي : يَا عُتْبِيُّ الْحَقْ الْأَعْرَابِيَّ وَأَخْبِرْهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ . ثُمَّ يَكُونُ فِي عَوْدِهِ بِهِمْ مُلْتَزِمًا فِيهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ مَا الْتَزَمَهُ فِي صَدْرِهِمْ حَتَّى يَصِلَ بِهِمْ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي سَارَ بِهِمْ مِنْهُ فَتَنْقَطِعُ وِلَايَتُهُ عَنْهُمْ بِالْعَوْدِ إلَيْهِ
وَإِنْ كَانَتْ الْوِلَايَةُ عَلَى إقَامَةِ الْحَجِّ فَهُوَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ فِي إقَامَةِ الصَّلَوَاتِ , فَمِنْ شُرُوطِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ مَعَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَئِمَّةِ الصَّلَوَاتِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ وَأَحْكَامِهِ , عَارِفًا بِمَوَاقِيتِهِ وَأَيَّامِهِ وَتَكُونُ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ مُقَدَّرَةً بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ أَوَّلُهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَآخِرُهَا يَوْمُ الْحَلَّاقِ وَهُوَ النَّفْرُ الثَّانِي فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ , وَهُوَ فِيمَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا أَحَدُ الرَّعَايَا وَلَيْسَ مِنْ الْوُلَاةِ وَإِذَا كَانَ مُطْلَقَ الْوِلَايَةِ عَلَى إقَامَةِ الْحَجِّ فَلَهُ إقَامَتُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَا لَمْ يُصْرَفْ عَنْهُ , وَإِنْ عُقِدَتْ لَهُ خَاصَّةً عَلَى عَامٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى غَيْرِهِ إلَّا عَنْ وِلَايَةٍ .
وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِوِلَايَتِهِ وَيَكُونُ نَظَرُهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا وَسَادِسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ :
أَحَدُهَا إشْعَارُ النَّاسِ بِوَقْتِ إحْرَامِهِمْ وَالْخُرُوجُ إلَى مَشَاعِرِهِمْ لِيَكُونُوا لَهُ مُتَّبِعِينَ وَبِأَفْعَالِهِ مُقْتَدِينَ .
وَالثَّانِي : تَرْتِيبُهُمْ لِلْمَنَاسِكِ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ فِيهَا فَلَا يُقَدِّمُ مُؤَخَّرًا وَلَا يُؤَخِّرُ مُقَدَّمًا سَوَاءٌ كَانَ التَّرْتِيبُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مُسْتَحَبًّا .
وَالثَّالِثُ : تَقْدِيرُ الْمَوَاقِفِ بِمَقَامِهِ فِيهَا وَمَسِيرِهِ عَنْهَا كَمَا تُقَدَّرُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ .
وَالرَّابِعُ : اتِّبَاعُهُ فِي الْأَرْكَانِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا وَالتَّأْمِينُ عَلَى أَدْعِيَتِهِ بِهَا لِيَتَّبِعُوهُ فِي الْقَوْلِ كَمَا اتَّبَعُوهُ فِي الْعَمَلِ وَلِيَكُونَ اجْتِمَاعُ أَدْعِيَتِهِمْ أَفْتَحَ لِأَبْوَابِ الْإِجَابَةِ .
وَالْخَامِسُ : إمَامَتُهُمْ فِي الصَّلَوَاتِ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي شُرِعَتْ خُطَبُ الْحَجِّ وَجَمْعُ الْحَجِيجِ عَلَيْهَا وَهُنَّ أَرْبَعٌ : فَالْأُولَى مِنْهُنَّ وَهِيَ أَوَّلُ شُرُوعِهِ فِي مَسْنُونَاتِهِ وَمَنْدُوبَاتِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ إحْرَامِهِ وَإِنْ كَانَ لَوْ أَخَّرَ إحْرَامَهُ أَجْزَأَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ بِمَكَّةَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ , وَيَخْطُبَ بَعْدَهَا وَهِيَ الْأُولَى مِنْ خُطَبِ الْحَجِّ الْأَرْبَعِ مُفْتَتِحًا لَهَا بِالتَّلْبِيَةِ إنْ كَانَ مُحْرِمًا , وَالتَّكْبِيرِ إنْ كَانَ مُحِلًّا , وَيُعَلِّمُ النَّاسَ أَنَّ مَسِيرَهُمْ فِي غَدٍ إلَى مِنًى لِيَخْرُجُوا إلَيْهَا فِيهِ وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ الْعَشْرِ فَيَنْزِلُ بِخَيْفِ مِنًى بِبَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ وَيَبِيتُ بِهَا وَيَسِيرُ بِهِمْ مِنْ غَدِهِ وَهُوَ التَّاسِعُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى عَرَفَةَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ وَيَعُودُ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَلْيَكُنْ عَائِدًا مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ ; فَإِذَا أَشْرَفَ عَلَى عَرَفَةَ نَزَلَ بِبَطْنِ عَرَفَةَ وَأَقَامَ بِهِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ ثُمَّ سَارَ مِنْهُ إلَى مَسْجِدِ إبْرَاهِيمَ صلوات الله عليه بِوَادِي عَرَفَةَ يَخْطُبُ بِهِمْ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ خُطَبِ الْحَجِّ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَالْجُمُعَةِ , فَإِنَّ جَمِيعَ الْخُطَبِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَّا خُطْبَتَيْنِ خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ وَخُطْبَةُ عَرَفَةَ , فَإِذَا خَطَبَهَا ذَكَّرَ النَّاسَ فِيهَا مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ , ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَعْدَ الْخُطْبَةِ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ , وَيَقْصُرُهُمَا الْمُسَافِرُونَ وَيُتِمُّهَا الْمُقِيمُونَ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَمْعِهِ وَقَصْرِهِ , ثُمَّ يَسِيرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُمَا إلَى عَرَفَةَ وَهُوَ الْمَوْقِفُ الْمَفْرُوضُ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ أَدْرَكَ الْحَجَّ , وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ } .
وَحَدُّ عَرَفَةَ مَا جَاوَزَ وَادِي عَرَفَةَ الَّذِي فِيهِ الْمَسْجِدُ , وَلَيْسَ الْمَسْجِدُ وَلَا وَادِي عَرَفَةَ مِنْ عَرَفَةَ إلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ عَلَى عَرَفَةَ كُلِّهَا فَيَقِفُ مِنْهَا عِنْدَ الْجِبَالِ الثَّلَاثَةِ النَّبْعَةُ وَالنُّبَيْعَةُ وَالتَّائِبُ , فَقَدْ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضِرْسٍ مِنْ التَّائِبِ وَجَعَلَ رَاحِلَتَهُ إلَى الْمِحْرَابِ , فَهَذَا أَحَبُّ الْمَوَاقِفِ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ فِيهِ , وَأَيْنَمَا وَقَفَ مِنْ عَرَفَةَ وَالنَّاسُ أَجْزَأَهُمْ , وَوُقُوفُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ أَوْلَى , ثُمَّ يَسِيرُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى مُزْدَلِفَةَ مُؤَخِّرًا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ , وَيَؤُمُّ النَّاسَ فِيهِمَا وَيَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَحَدُّهَا مِنْ حَيْثُ يَفِيضُ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ وَلَيْسَ الْمَأْزِمَانِ مِنْهَا إلَى أَنْ يَأْتِيَ إلَى قَرْنِ مُحَسِّرٍ وَلَيْسَ الْقَرْنُ مِنْهَا , وَيَلْتَقِطُ النَّاسُ مِنْهَا حَصَى الْجِمَارِ بِقَدْرِ الْأَنَامِلِ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ وَيَسِيرُ مِنْهَا بَعْدَ الْفَجْرِ , وَلَوْ سَارَ قَبْلَهُ وَبَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْزَأَ وَلَيْسَ الْمَبِيتُ بِهَا رُكْنًا , وَيَجْبُرُهُ دَمٌ إنْ تَرَكَهُ وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ الْأَرْكَانِ الْوَاجِبَةِ , ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَيَقِفُ مِنْهُ بِقُزَحَ دَاعِيًا , وَلَيْسَ الْوُقُوفُ بِهِ فَرْضًا , ثُمَّ يَسِيرُ إلَى مِنًى فَيَبْدَأُ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ تِسْعَ حَصَيَاتٍ ثُمَّ يَنْحَرُ : وَمَنْ سَاقَ مَعَهُ هَدْيًا مِنْ الْحَجِيجِ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ يَفْعَلُ مِنْهُمَا مَا شَاءَ , وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ , ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ بِهَا طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ الْفَرْضُ , وَيَسْعَى بَعْدَ طَوَافِهِ إنْ لَمْ يَسْعَ قَبْلَ عَرَفَةَ , وَيُجْزِئُهُ سَعْيُهُ قَبْلَ عَرَفَةَ وَلَا يُجْزِئُهُ طَوَافُهُ قَبْلَهَا , ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَيَخْطُبُ بَعْدَهَا وَهِيَ الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ خُطَبِ الْحَجِّ الْأَرْبَعِ , وَيَذْكُرُ لِلنَّاسِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنَاسِكِهِمْ وَحُكْمِ إحْلَالِهِمْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَمَا يَسْتَبِيحُونَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ , إنْ كَانَ فَقِيهًا قَالَ : هَلْ مِنْ سَائِلٍ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسُّؤَالِ , وَيَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَتَهُ وَيَرْمِي مِنْ غَدِهِ - وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ يَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ - الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةٍ , كُلُّ جَمْرَةٍ سَبْعُ حَصَيَاتٍ وَيَبِيتُ بِهَا لَيْلَتَهُ الثَّانِيَةَ وَيَرْمِي مِنْ غَدِهَا - وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ - الْجِمَارَ الثَّلَاثَ , ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ الْخُطْبَةَ الرَّابِعَةَ وَهِيَ آخِرُ الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْحَجِّ , وَيُعْلِمُ النَّاسَ أَنَّ لَهُمْ فِي الْحَجِّ نَفْرَتَيْنِ خَيَّرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا بِقَوْلِهِ : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى } . وَيُعْلِمُهُمْ أَنَّ مَنْ نَفَرَ مِنْ مِنَى قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِهِ هَذَا سَقَطَ عَنْهُ الْمَبِيتُ بِهَا وَالرَّمْيُ لِلْجِمَارِ مِنْ غَدِهِ وَمَنْ أَقَامَ بِهَا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ ; لَزِمَهُ الْمَبِيتُ بِهَا وَالرَّمْيُ فِي غَدِهِ , وَلَيْسَ لِهَذَا الْإِمَامِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ أَنْ يَنْفِرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَيُقِيمَ لِيَبِيتَ بِهَا , وَيَنْفِرُ فِي النَّفْرِ الثَّانِي مِنْ غَدِهِ فِي يَوْمِ الْحَلَّاقِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ فَلَمْ يَنْفِرْ إلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْمَنَاسِكِ , فَإِذَا اسْتَقَرَّ حُكْمُ النَّفْرِ الثَّانِي انْقَضَتْ وِلَايَتُهُ وَقَدْ أَدَّى مَا لَزِمَهُ , فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوِلَايَتِهِ . وَأَمَّا السَّادِسُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا إنْ فَعَلَ أَحَدُ الْحَجِيجِ مَا يَقْتَضِي تَعْزِيرًا أَوْ يُوجِبُ فِعْلُهُ حَدًّا , فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعْزِيرُهُ وَلَا حَدُّهُ ; وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ فَلَهُ تَعْزِيرُهُ زَجْرًا وَتَأْدِيبًا وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يَحُدُّهُ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ , وَفِي الْآخَرِ لَا يَحُدُّهُ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْحَجِيجِ فِيمَا تَنَازَعُوهُ مِنْ غَيْرِ أَحْكَامِ الْحَجِّ وَفِي حُكْمِهِ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَنَازَعُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ كَالزَّوْجَيْنِ إذَا تَنَازَعَا فِي إيجَابِ كَفَّارَةٍ لِلْوَطْءِ وَمُؤْنَةِ الْقَضَاءِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا , وَالثَّانِي لَا يَحْكُمُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُ الْحَجِيجِ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ فَلَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ بِوُجُوبِهَا وَيَأْمُرَهُ بِإِخْرَاجِهَا , وَهَلْ يَسْتَحِقُّ إلْزَامُهُ لَهَا وَيَصِيرُ خَصْمًا لَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ أَمْ لَا ؟ . عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ وَيَجُوزُ لِوَالِي الْحَجِّ أَنْ يُفْتِيَ مَنْ اسْتَفْتَاهُ إذَا كَانَ فَقِيهًا , وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ مَا يَسُوغُ فِعْلُهُ إلَّا فِيمَا يَخَافُ أَنْ يَجْعَلَهُ الْجَاهِلُ قُدْوَةً , فَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ لُبْسَ الْمُضَرَّجِ فِي الْحَجِّ وَقَالَ : أَخَافُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِكَ الْجَاهِلُ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ فِي الْمَنَاسِكِ عَلَى مَذْهَبِهِ , وَلَوْ أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ وَهُوَ حَالٌّ غَيْرُ مُحْرِمٍ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَصَحَّ الْحَجُّ مَعَهُ , وَهُوَ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّهُمْ فِيهَا وَهُوَ غَيْرُ مُصَلٍّ لَهَا , وَلَوْ قَصَدَ النَّاسُ فِي الْحَجِّ التَّقَدُّمَ عَلَى إمَامِهِمْ فِيهِ وَالتَّأْخِيرَ عَنْهُ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ مُخَالَفَةُ الْمَتْبُوعِ مَكْرُوهَةً وَلَوْ قَصَدُوا مُخَالَفَتَهُ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ عَلَيْهِمْ صَلَاتُهُمْ لِارْتِبَاطِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَانْفِصَالِ حَجِّ النَّاسِ عَنْ حَجِّ الْإِمَامِ