شروط رئيس الدولة (الإمامة العظمى)
من كتاب السياسة الشرعية
مناهج جامعة المدينة العالمية
مرحلة الماجستير
الشروط التي يجب توافرها في رئيس الدولة، نقول:
أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن منصب الرئيس الأعلى للدولة لا يورث، وأنه لا بدّ من وجوب صفاتٍ معينة فيمن يُرشح لتولي هذا المنصب الخطير، سوى فرقة الإمامية؛ فإنهم شذّوا على إجماع الأمة، وذهبوا إلى التوارث فيه، وهو الرأي الذي سنتعرض إليه عند الكلام عن طرق انعقاد الرئاسة، وأما من عداهم من جماهير الأمة الإسلامية فلا يُجيزون أن تكون الوارثة طريقًا إلى تولى هذا المنصب.
وثمّة أمر هامّ يجب أن نلاحظه، هو أن الشروط التي اشترطها العلماء فيمن يراد توليته رياسة الدولة الإسلامية، هي شروط يجب مراعاتها في الحال، التي تكون صفة الاختيار متوافرة للأمة فيها، فيجب عليها في هذه الحال ألا تولِّي أمورَها إلا من تحقّقت فيه هذه الشروط، وأما إذا انتفت حال الاختيار، وألجئت الأمة إلى حالٍ لا اختيار لها فيها، كتغلب البعض ممن لا يصلحون للإمامة العظمة بالانقلابات العسكرية، فالعلماء في هذا الحال يبيّنون أن التمسك بالشروط الواجب هنا قد يؤدي إلى فتنٍ يجب أن تصان الأمة عن الدخول في شرورها، وحينئذٍ يجوز شرعًا إقرار هذه الحال مؤقتًا إلى أن تحين فرصة التغير لمن هو مستوفٍ للشروط المطلوبة، وسنبيّن هذه الشروط ووجهة النظر في اشتراطها فيما يلي:
أول شرط من الشروط التي يجب توافرها في الإمام هو
شرط: الإسلام:
يقول البعض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافرٍ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر -أي بعد تولى الخلافة- انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: من الآية: 141) وهل هناك من سبيل أعظم من ولاية الإمام الأعظم؟ وأيضا لأن الله -سبحانه وتعالى- أمر بقتال غير المسلمين حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فكيف يمكن لغير المسلم أن يتزعّم، ويقود الحرب التي يشنّها المسلمون على غير المسلمين؛ وعلى هذا فلا يجوز أن تعقد رياسة الدولة لكافرٍ أصليٍّ أو مرتدٍّ؛ لان معنى إقامة دولة إسلامية هو أن تلتزم بالقانون الإسلامي، تطبقه، وتعيش حياتها على وفق تعاليمه، وهذا القانون الإسلامي لا يُتَصوّر تطبيقه إلا من أناسٍ يدينون بالولاء والخضوع التام لهذا القانون، إن أيّ نظام -مهما كان نوعه- لا يمكن أن يقبل أن يسند المركز الأول فيه -أو أي مركز هام- إلّا إلى شخص يؤمن تمام الإيمان بهذا النظام ويسعى جاهدًا لنصرته.
***********
الشرط الثاني من الشروط التي يجب توافرها في الإمام أو رئيس الدولة، هو شرط أجمعت الأمة أيضًا عليه:
وهو البلوغ
إلا الإمامية فإنهم شذُّوا عن هذا الإجماع، وجوّزوا أن يكون الإمام طفلًا، لكن هذا القول من الإمامية إنما هو قولٌ لا يعتدّ به، ويبقى الإجماع قائمًا على أنه لا يجوز تولية رياسة الدولة لغير البالغ.
وهنا قد يرد سؤال هو: ما الحكم إذا فرض الصبي في حال ضرورةٍ فعلًا؟ يعني: إذا كان الفقهاء قد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يتولّى رياسة الدولة أو الإمامة العظمى طفلٌ غيرُ بالغٍ، فلو فرض أن هذا الطفل قد فرض عليهم ليكون إمامًا أعظم أو ليكون خليفةً ... فما العمل في هذه الحالة؟ ما الحكم إذا فُرِض هذا الصبي في حال ضرورة؟ أي بأن لم يكن هناك رضًا من الشعب، ولكنه فرض عليهم قسرًا وقهرًا، كأن ألزم الشعب به حاشية أبيه الذين يملكون السلطة ووسائل قهر الأمة؟
والجواب: أن هذه فعلًا هي حال ضرورة، وعندئذٍ يجب على أهل الحل والعقد في الأمة إعلان أن هذا أمر غير شرعي، ويجب على الأمة أن تؤيّدهم في هذا، والمطالبة بتولي مستوفي الشروط، فإذا استمرّ فرضُ هذا الصغير على الأمّة فعندئذٍ لا يُتصوّر تعطيلُ مصالح الأمة، فيجب نصب والٍ -كما يقول الحنفية- لهذا الصغير، ولكن يجب أن يكون مستوفيًا شروط الإمامة، فإن تمادى الذين لهم مقدرة فرض هذا الصغير ونصّبوا واليًا غير مستوفٍ للشروط، فيكون هذا أيضًا حال ضرورة تخضع لها الأمة مؤقتًا؛ حتى لا تتعطّل المصالح الدينية والدنيوية لأفراد الشعب، ولكن ليس للأمة أن ترضى بهذا الوضع باعتباره وضعًا يجب أن يستمر، بل على الأمة -وبخاصة أهل الحل والعقد- انتهاز كل فرصة يمكن أن تساعد على تغير هذا الوضع، وتوليه مستوفي الشروط، إذا لم تكن فتنة من محاولة التغيير هذه، أما أن ترضى الرعية وتتّفق على تولية ابنٍ صغيرٍ للإمام مكان والده بدون قسر ولا إكراه من السلطة، فهي ليست حال ضرورة، وهذا هو الخطأ الذي لا مبرِّر له.
***********************
ثم ننتقل الآن إلى الشرط الثالث من شروط الإمام:
وهو العقل:
وهذا شرط بدهيٌّ، فلا تنعقد رياسة ذاهب العقل بجنون أن بغيره كالخبل؛ إذ أن ذاهب العقل يحتاج هو نفسه إلى وليٍّ ليصرف له أموره، فكيف توكل إليه أمور غيره؟! وإذا كان الصبي محروم من تولي هذا المنصب لهذا السبب فذاهب العقل من باب أولى.
وقد قسّم الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) إلى سببين:
الأول: ما يُرجى زواله كالإغماء.
والثاني: ما لا يرجه زواله كالجنون.
فأما الأول -وهو ما يرجى زواله كالإغماء-: فهذا لا يمنع انعقاد الإمامة، وكذلك لا يمنع من استدامتها؛ لأنه مرض قليل اللّبث سريع الزوال.
وأما الثاني وهو اللازم -يعني الجنون اللازم الذي لا يرجى زواله كالجنون والخبل-: فهو على قسمين:
أحدهما: أن يكون مطبقًا لا تتخلله إفاقة، فهذا يمنع انعقاد الإمامة، وإذا طرأ على الإمام بعد توليه منصبه يعني إذا طرأ هذا الشيء أو هذا الجنون عليه بعد توليه منصبه، استحق العزل إذا تحققنا من وجوب هذا المرض وقطعنا به فيه.
والقسم الثاني من اللازم -يعني المرض اللازم الملازم للإنسان- الذي يرجى زواله، هو ألا يكون ذلك المرض ملازمًا له في كل أوقاته، بل تتخلّله أوقات إفاقة يعود بها إلى حال سلامته، وحينئذٍ ينظر؛ فإن كان زمن المرض أكثر من زمان الإفاقة، فهذا كالمرض الدائم يمنع انعقاد الإمامة، وإذا طرأ على الإمام بعد انعقاد الإمامة له سليمًا استحق العزل به، وإن كان العكس وهو الذي يحدث، بمعنى أن يكون زمان الإفاقة أكثر من زمان المرض، فقد اتفق العلماء على انعقاد الإمامة معه، واختلفوا فيما إذا طرأ على الإمام هذا المرض بعد توليه منصبه: هل يمنع استدامتها أو لا يمنع؟
رأيان في المسألة:
الأول يقول: بأنه يمنع من استدامتها -أي استدامة الإمامة- كما يمنع من ابتدائها؛ لأن من واجب الإمام النظر في مصالح الأمة، وهذا المرض مع تكرّره يخل بهذا الواجب.
الرأي الثاني: يرى أنه لا يمنع من استدامة الإمامة، وإن كان يمنع انعقادها في الابتداء؛ لأن المطلوب وقت عقد الإمامة هو السلامة الكاملة، وعند الخروج منها هو النقص الكامل.
ونرى أن الرأي الأول هو الأولى بالاعتبار؛ إذ أنه يجوز أن تجيء نوبة المرض في وقت تحتاج الأمة فيه إلى رأي الإمام، وبَتِّه في مسائل هامة، كأمور الحرب مثلًا، ولا يتصور أن تتعطل أمثال هذه الأمور حتى يفيق الإمام،
وقد بيّن الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) عند الكلام على الشروط التي يجب توافرها فيمن يتولّى القضاء -ومنها العقل-: أنه لا بد من توافر الفطنة فيه، ولا يُكتفى فيه بالعقل الذي يتعلّق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية؛ حتى يكون صحيح التميز، جيد الفطنة، بعيدًا عن السهو والغفلة، يتوصّل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل، وفصل ما أعضل، وإذا كان هذا هو الشرط في الاعتداد بصفة العقل في القاضي فالإمام الأعظم من باب أولى. فالإمام الماوردي يبيّن لنا أنه لا يكتفى بمجرد العقل الذي يميّز به صاحبه بين الأشياء والنافع والضار، بل لا بدّ أن يكون جيد الفطنة، يعني عقل من نوع خاص، له فطنة، وله ذكاء. إذا كان الأمام الماوردي يشترط ذلك في القاضي؛ فينبغي اشتراطه في الإمام الأعظم من باب أولى.
*********
والشرط الرابع من شروط الإمام:
الحرية:
فلا تنعقد إمامة العبد، سواء أكان قنًّا -يعني لا شيبة فيه من الحرية- أو مُبَعّضًا -يعني بعضه حر وبعضه عبد- أو معلّقًا عتقه بصفة؛ لأن المفروض في العبد شرعًا أن يكون كل وقته وجهده في خدمة سيده، وهو مكلّف بإطاعة الأوامر الصادرة له من هذا السيد ما دامت في طاقته، وإذا كانت أموره تسير بأوامر غيره: فكيف يمكن أن توكّل إليه أمور الأمة؟ يقول البعض: لئلّا يشغله خدمة السيد عن وظائف الإمامة، ولئلّا يحتقر فيعصى، فإنّ الأحرار يستحقرون العبيد ويستنكفون عن طاعتهم. ويقول البعض مبررًا لماذا اشترطت الحرية في الإمامة العظمى، يبين ذلك بقوله: أن العبد لا ولاية له على نفسه، فيكيف تكون له الولاية على غيره؟ والولاية المتعدية فرع للولاية القائمة؟ هذا هو الشرط اشترطه -كما قلنا- جمهور العلماء.
**********
الشرط الخامس من الشروط التي يجب توافرها في الإمام الأعظم أو رئيس الدولة:
الذكورة:
وقد اشترطها العلماء بالإجماع فيمن يرشّح لتولي منصب رياسة الدولة. يقول البعض: فلا تنعقد الإمامة لامرأة، وإن اتصفت بجميع خلال الكمال وصفات الاستقلال، وكيف تترشّح امرأة لمنصب الإمامة وليس لها منصب القضاء، ولا منصب الشهادة في أكثر الحكومات. وقد احتج العلماء على ذلك بما رواه البخاري من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أنه قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيام الجمل، بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لمّا بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أهل فارس ملّكوا بنت كسرى عليهم -أي جعلوها ملكةً- قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لن يفلح قوم ولّوْا أمرهم امرأة)) هذا حديث صحيح والمعنى في ذلك أو معنى الحديث أن الإمام لا يستغني على الاختلاط بالرجال والمشاورة معه في الأمور، يعني المعنى الذي من أجله أنه لا يجوز للمرأة أن تكون رئيسةً للدولة، المعنى في ذلك أن الإمام لا يستغني عن الاختلاط بالرجال والمشاورة في الأمور، والمرأة ممنوعة من ذلك؛ ولأن المرأة ناقصة في أمر نفسها، حتى لا تملك النكاح، فلا تُجعل إليها الولاية على غيرها.
ويقول البعض مبررًا لماذا لا تصلح النساء للإمامة العظمى أو لرئاسة الدولة، يبرر ذلك بقوله: بأن النساء أمرن بالقرار في البيوت، فكان مبنى حالهن على الستر، وإليه أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: ((كيف يفلح قوم تملِكهم امرأة)) واشتراط الذكورة لبيان أن إمامة المرأة لا تصح؛ إذ النساء ناقصات عقل ودين، كما ثبت به الحديث الصحيح، ممنوعاتٌ إلى الخروج إلى مشاهد الحكم ومعارك الحرب. ومع أن العلماء قد اختلفوا في جواز تولي المرأة القضاء، فبعضهم منعها بإطلاق، وبعضهم أباح لها القضاء في الأمور التي تشهد فيها، وبعضهم أباح لها القضاء بإطلاق، نقول: مع أن العلماء قد اختلفوا في هذا -وهو موضوع تولية المرأة القضاء- إلا أنّهم قد أجمعوا على عدم جواز توليتها منصب رياسة الدولة، وليس هذا تعصبًا من أئمة الفقه الإسلامي؛ بل لأن طبيعة المرأة وتكوينها الجسماني يتنافى مع قيامها بأعباء هذا المنصب الخطير؛ لأنه قد يُطلب من الرئيس أن يتولّى قيادةَ الجيوش بنفسه، والاشتراك في الحرب، وتحمل أهوالها ... وغير ذلك من الأعمال التي تتطلب قدرةً خاصّةً، وكفاءةً جسمانيّةً معيّنةً، وهو ما لا يتّفق مع طبيعة المرأة. والملاحظ أن هذا الرأي هو المتفق -يعني الرأي القائل بأنه لا يجوز أنه لا يجوز تولى المرأة رياسة الدولة- متفق مع طبيعة المرأة الجسمي، والنفسي، والعقلي، ولا أدلّ على ذلك من استقراء حال الناس في كافّة الأعصر قديمها وحديثها. وملاحظة أن النابغين في تولي القيادة العامّة في كافة الشعوب، كانت الغالبية العظمى منهم من الرجال، ولم يظهر نبوغ النساء في قيادة الشعوب إلا في ظروف نادرة، ولأسباب لا تتكرّر كثيرًا، ولا يصحّ إرجاع ذلك إلى أن الرّجل كان متفوِّقًا على المرأة في هذا الميدان باستعمال قوته التي يفوق المرأة فيها؛ مما أتاح له الفرص التي حُرمت المرأة منها، أو لأنه منعها من التعليم سنوات طويلة مما جعلها تقنع بدور التابع للرجل، لا يصح أن يقال هذا؛ لأن استعمال الرجل قوته في إبراز جانب التفوق، إن كان طريقًا عاديًّا متبعًا في العصور الماضية، فقد انعدم هذا الطريق -أو كاد أن ينعدم- في العصر الحديث، ومع ذلك فالقيادات ما زالت في أيدي الرجال إلا ما ندر، في الوقت الذي أتيحت للمرأة فرصة التعلم المتاحة للرجل. وكذلك لا يصحّ إرجاع قيادات أكثر للرجل إلى الكثرة العددية في لرجال دون النساء؛ إذ أنه في بعض البلاد التي تدل في إحصاءات على الكثرة العددية في اجانب النساء، كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية، فإن عدد الرجال كان قليلًا بالنسبة إلى عدد النساء؛ لأن الحرب أفنت من الرجال أكثر، ومع ذلك، ومع كون الفرصة متاحة للمرأة لإثبات تفوقها على الرجل، فالنبوغ القياديّ والفكريّ والعلميّ في جميع المجالات كان متحققًا في جانب الرجل أكثر منه في جانب المرأة، مع أن المرأة في ألمانيا بعد الحرب لم يقم أيّ مانع في سبيل تفتحها على جميع آفاق المعرفة، والتعليل الوحيد لتفوّق الرجل على المرأة في مجالات القيادة، والسياسة، والعلوم، والفنون، والآداب، إنما هو تكوين طبيعة كلٍّ من الرجل والمرأة، وليس عيبًا أن يطالب الإنسان بالأمور المتفقة مع طبيعته واستعداده، وإنما العيب أن يطالب بما يتعارض مع ذلك.
*********