الفكاهة من أسباب الاقتراب
قاضي القضاة والمتوكل
قال الفتح بن خاقان: ما رأيت أحلى من ابن أبي دواد، كنت يوماً ألاعب المتوكل الشطرنج فاستؤذن له، وهو يومئذ قاضي القضاة، لم يتغير عما كان عليه أيام الواثق بعد، وله جلالة الشرف والعلم؛ فأمرنا بعض الغلمان برفعها استحياء منه، فقال له المتوكل: والله ما ترفع، وما كنت لأستتر من ابن أبي دواد بشيء لا أستتر به من الله عز وجل؛ فدخل وهي بين أيدينا، فقال له المتوكل: أيها القاضي؛ إن الفتح استحيا منك، فأراد رفع الشطرنج، فقال: ما استحيا مني؛ إنما كره أن أعلم عليه، فاستحلاه المتوكل، وخف على قلبه.
روح بن زنباع وعبدالملك بن مروان
رب مستثقل ازور له الجناب، وطال به الاجتناب، كانت له الفكاهة من أسباب الاقتراب. وذكر أن روح بن زنباع بعد ما بينه وبين عبد الملك بن مروان حتى استثقل جانبه؛ وأحس روح منه التغير؛ فقال لبعض جلساء عبد الملك: إذا حضرنا مجلس الأنس عند أمير المؤمنين فسلني: هل كان ابن عمر يسمع المزاح ? فلما اجتمعوا سأل الرجل روحاً فقال: نعم ! وإن أذن أمير المؤمنين تحدثت.
فقال عبد الملك: قل.
فقال: إن ابن أبي عتيق كان صاحب لهو وغزل وعلى عفافه وشرفه؛ وكانت له امرأة من أشراف قريش، فغاضبته في بعض الأمر، فقالت:
ذهب الإله بما تعيش بـه | وقمرت مالك أيّما قمـر | |
أنفقت مالك غير مـتّـئدٍ | في كل زانيةٍ وفي الخمر |
فقال عبد الملك: ما أملحك يا روح ! إنك كل يوم لتأتينا بطريفة.
جبن روح
كان روح مفرطاً في الجبن، فلما ولى عبد الملك أخاه بشراً على الكوفة أصحبه روحاً، وقال له: يا بني، روح مثل عمك فلا تقطع أمراً دونه لصدقه وعفافه وصحبته لنا أهل البيت. وقال لروح: اخرج مع ابن أخيك.
فخرج معه وكان بشر ظريفاً أديباً، يحب الشعر والسمر والسماع والشرب؛ فراقب روحاً، وقال لأصحابه: أخاف أن يكتب بأخبارنا إلى أمير المؤمنين، فضمن له بعض ندمائه أن يكفيه أمره من غير سخط ولا لائمة، وكان روح غيوراً إذا خرج من منزله أغلقه ثم ختمه بخاتمه حتى يعود فيفضه بيده، فأخذ الفتى دواة وقلماً، وأتى ممسياً فقعد بالقرب من دار روح مستخفياً، وخرج روح إلى الصلاة، فتوصل الفتى حتى دخل الدهليز وكمن تحت درجة فيه وكتب في الحائط:
يا روح من لـبـنـيّات وأرمـلة | إذا نعاك لأهل المشرق النـاعـي | |
إن ابن مروان قد حانت مـنـيّتـه | فاحتل لنفسك يا روح بن زنبـاع | |
فلا تغرنّـك أبـكـار مـنـعّـمة | فاسمع هديت مقال الناصح الداعي |
فلما أسفر الصبح دخل روح فتأمل الكتابة فراعه وقال: ما كتب هذا إنسي، وما يدخل هذه الدار سواي، ولا حظ في المقام بالعراق؛ ثم نهض من ساعته ودخل على بشر وقال: يابن أخي، أوصني بما أحببت من حاجة أو سبب عند أمير المؤمنين. فقال له: هل رأيت منا ما تكره؛ أو أنكرت شيئاً من سيرتنا فلم يسعك المقام ? فقال: لا والله، جزاك الله عن نفسك وعن سلطانك خيراً، ولكن حدث أمر لا بد لي من الشخوص فيه. فأقسم عليه ليخبرنه بالخبر. فقال: إن أمير المؤمنين قد مات أو هو ميت. فقال بشر: ومن أين علمت ذلك ? فأخبره بخبر الكتابة، وقال: ليس يدخل داري أحد غيري، وما كتبه إلا الملائكة أو الجن. فقال بشر: أقم فإني لأرجو ألا يكون لهذا حقيقة. فأبى.
وقدم على عبد الملك فقال له: ما أقدمك ? أنكرت شيئاً من حال بشر ? قال: لا والله، وذكر حسن سيرته، وقال: إنما جئت في أمر لا يمكنني ذكره إلا خالياً.
فقال عبد الملك: إن شئتم، وخلا بروح فأخبره القصة، وأنشد الأبيات؛ فضحك عبد الملك حتى فحص برجليه، وقال: ثقلت والله على بشر؛ فاحتال عليك ليخلوا له أمره.
-----------------
المصدر : كتاب جمع الجواهر في الملح والنوادر – للحصري