اسباب قيام وسقوط وحدة مصر وسوريا
محمد عبد المولى
الفصل الأول
الأسباب الخارجية التي أدت الى الوحدة
المبحث الأول : حلف بغداد
أولاً : كسر احتكار السلاح
ثانيا : ضغط الحلف على سوريا
المبحث الثاني : مشروع ايزنهاور
أولاً : مؤتمر انقره عام 1957
ثانياً : " الأزمة السورية "
المبحث الأول
حلف بغداد
جاءت سياسة الأحلاف في المنطقة نتيجة لشعور الغرب الاستعماري بأن قيام اسرائيل في هذه المنطقة المتأججة بالروح الثورية لم يعد كافياً لتحقيق الأهداف التقليدية للاستعمار. كما أنها جاءت تحصيلا واقعياً لبروز دور الولايات المتحدة الأمريكية في توجيه سياسة المنطقة الى جانب بريطانيا ، وتصارعا معها في دولها أيضا. وكان حلف بغداد الذي تأكد وجوده عام 1954 تحت هيمنة بريطانيا ، ولكنه ما لبث أن سيطرت عليه الولايات المتحدد الأمريكية (1).
اعتمد حلف بغداد على عاملين من عوامل الواقع الموجود في العالم العربي، أولهما وجود فئات حاكمة تتمركز في بعض الدول العربية ولها مصالص ترتبط بشكل مباشر مع الاستعمار. وثانيهما وجود الأحزاب المحافظة والمستعدة للتعاون مع الغرب الاستعماري بحكم تركيبها الطبقي البورجوازي من جهة ، وارتباطاتها الاستعمارية منذ أيام الاستعمار الفرنسي- البريطاني من جهة ثانية. ولكن الحلف أكتشف عاملاً آخر في سبيل أن يوجد له قاعدة شعبية الى جانب قواعده الحكومية : وهي الجماعات الدينية الاسلامية التي كانت تحاول أن تتحول بالتدريج الى حزب سياسي يريد أن يستقل عن الأحزاب البورجوازية التقليدية دون أن يتخلى عن دعمها شعبيا وفي الأوساط الجماهيرية غير الواعية التي لم يدخل اليها مد التوعية الثورية بمضمونها العربى التقدمي (2).
تلك كانت أسباب قيام حلف بغداد، أما الخطوات التي أتخذت لابرازه الى الوجود فيمكن تلخيصها بالتالي:
في 24 فبراير عام 1954 صدر بيان تركي- باكستاني أعلن اتفاق الدولتين على دراسة وسائل التعاون السياسي والعسكري (3).
وفي 22 يناير عام 1955 صدر بلاغ عراقي- تركي جاء فيه :
" أ- دارت مباحثات بين الطرفين حول ايجاد تعاون بتأمين أستقرار منطقة الشرق الأوسط ، وقررت الدولتان عقد اتفاق يرمي الى تحقيق توسيع التعاون المذكور قريباً .
" ب- سوف يحتوي الاتفاق على التعهد بالتعاون لصد أي اعتداء قد يقع عليها من داخل أو خارج المنطقة.
" جـ ـ و من الضروري والمفيد أن تنضم إلى هذا الاتفاق دول غيرهما تؤمن بهذه الأهداف وتعمل لها بحكم موقعها الجغرافي " (4) .
وفي 24 فبراير عام 1955 تم توقيع حلف بغداد بين تركيا والعراق وانضمت اليه باكستان وإيران وبريطانيا ، وتكون المجلس الدائم للحلف في بغداد وانضم اليه ممثلون عن الولايات المتحدة بصفة مراقبين. وما لبثت الولايات المتحدة أن اشتركت في نشاط ثلاث لجان من الحلف وهي : اللجنة الاقتصادية واللجنة العسكرية ولجنة مكافحة التسلل الشيوعي والمباديء الهدامة.
ما يهمنا من حلف بغداد هو تأثيره المباشر على دفع مصر وسوريا الى الوحدة ، وقبلها التقارب فيما بينهما لمجابهة الحلف وأنصاره في المنطقة.
أشاع الغرب بأن الزعماء المصريين قد استاءوا من الاقتراح الذي قدم اليهم ، وهو أنهم سيلعبون دوراً ثانوياً وفق توجيهات تركيا في المنظمة الدفاعية الغربية المقترحة ، وادعى بأنهم كانوا خليقين بقبول الاشتراك في المنظمة لو أعطي لهم الدور الأول بدلاً من تركيا أو العراق ؟! ان مثل هذا الرأي يضرب عرض الحائط بالعداء المستحكم في العالم العربى نحو أي حلف مع الغرب (5).
أن الحياد الإيجابي لم يولد عام 1954 (6) ، فقد كان هذا موقف " الانتلجنسيا " (المثقفون) العربية وموقف الضباط وموقف الرأي العام على العموم أثناء الحرب العالمية الثانية وقبلها بكثير ، لم يكن ذلك العداء نتيجة تنظيم الغرب المنطقة، انما كان شيئاً وجد ما يعبر عنه في معارضة حلف بغداد (7).
واستمرارا لموقف مصر من منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط (8) ، وبناء لإعلان الحكومة المصرية رأيها صريحاً بالنسبة للأحلاف على أختلاف مصادرها فانها لم تقف عند حد المعارضة بالنسبة لقضية حلف بغداد ، وإنما خطت خطوتها في تحقيق السياسة التي خطتها وأعلنتها بالنسبة للبلاد العربية، وهو أن الدفاع عن هذه المنطقة انما هو واجب الدول العربية وحدها " (9).
أما موقف سوريا من الحلف ، وموقف الحلف من سوريا ، فهناك مذكرة من السفير الأمريكي في دمشق، كانت قد قدمت في شهر سبتمبر (أيلول) عام 1955 الى الحكومة السورية، تضمنت رأي الحكومة الأمريكية في الحلف وما تستطيعه بعض الدول العربية، من ضمنها سوريا بالطبع.
و نص المذكرة التالي :
" أ- ان وزارة الخارجية الأمريكية رحبت علنا بالاتفاق العراقي- التركي ، كخطوة انشائية لمنظمة دفاع حقيقية، يمكن مع الوقت أن تضم الباكستان وإيران- وبعض الدول العربية.
" ب- بعد تطور هذه المنظمة على غرار الاتفاق العراقي- التركي، ترى حكومة الولايات المتحدة مقدما احتمالا لأن تستطيع الدول العربية الواقعة " خلف المنظمة "، أي وراء الخط الشمالي ، القيام بدور مفيد في المنظمة الدفاعية ، وفي هذه الظروف اذا ارادت احدى الدول العربية الواقعة خلف المنظمة أن تنضم الى هذه المنظمة الدفاعية، فان الولايات المتحدة مستعدة للنظر في تقوية دفاع تلك الدول العربية.
" جـ - ان نمو الترتيبات الدفاعية وكذلك تحسين العلاقات العربية- الإسرائيلية، أمر ضروري للمساهمة الفعالة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في الدفاع عن منطقة الشرق الأوسط ، وان الولايات المتحدة لا تستطيع أن تبدد مواردها على قوى غير متجانسة داخل المنطقة ولاعلى سباق في التسلح بين العرب وإسرائيل (10).
يتضح من هذه المذكرة ارتباط حلف بغداد بأمرين : أولهما أي سلاح لا يقدم للدول العربية الا اذا انضمت الى الحلف ، وثانيهما ان المساعدة الأمريكية للدول العربية لا يمكن أن تكون الا على أساس الصلح مع اسرائيل. وبمعنى آخر، ان المساعدة الإقتصادية والمالية تساوي الصلح مع إسرائيل وان بطريق غير مباشر، أو بتحسين العلاقات معها على أبسط الفروض (البند جـ).
كان من أهم أهداف الحلف غير المباشرة تطويق سوريا وعزل مصر عن الشرق العربي . وبتحقيق هذا الهدف يقضي على الحياد العربي . " وكان حلف بغداد الذي تحقق به ادخال دولة عربية في الحلف هي العراق، وتحقق بالتالي شلها عربياً وجعلها نقطة ارتكاز لدفاع الاستعمار عن مصالحه ونفوذه، هو الأسلوب الذي أضطر الاستعمار أن يأخذ به بعد أن فشل في أن يزج في أحلافه منذ البداية دولا عربية أخرى كمصر وسوريا بصفة خاصة .
وسار الاستعمار في محاولاته لتوسيع الحلف ، عن طريق ضم دول أخرى له كالأردن، أملا أن يتبعها لبنان، لتطويق سوريا فتعزل مصر ، وبذلك يقضي على الحياد الإيجابي كاتجاه تبناه عدد من الدول العربية . (11) .
لقد كان شعب سوريا في تلك الحقبة من الزمان مطوقاً بأحزمة الملكيات المتعاونة مع الغرب. كما كان محوقاً في بعض أجزائه من الداخل بمؤسسات البورجوازية واليمينية التي كانت تستثمر جميع مصالحه ، من تأخر وضعف اقتصادي وعصبيات طائفية وإقليمية في سبيل أن تفتت وحدة النضال الشعبي ، وتعدد جبهاته الداخلية المتعارضة ، حتى يتم الاجهاز عليه ، وهو في أوج قوته وجبروته. وعلى ذلك فقد عملت الدول الاستعمارية جهدها أن تدخل سوريا لحلف بغداد هادفة من ذلك ، كما قلنا ، الى عزل مصر وكان القول الذي يتردد في تلك الآونة يقول : اذا كان للحلف أن يصبح منافسا " لناصر" فلا بد له أن يجذب أقطار عربية أخرى . وبا لفعل ما ان تم وجود هذا الحلف حتى بدأ التنافس بين الحلف ومصر على جر سوريا والأردن - مع اختلاف ومقاصد كل منهما .
ولقد كانت هذه المرحلة مريرة من النزاع بين الأقطار العربية ، ولم يدرك الغرب أهمية هذا النزاع حينذاك، وكان العراق في هذا النزاع متعرضاً لمساويء كثيرة، فهو في اتفاقه مع بريطانيا وتركيا يكون قد اتفق مع الاستعمار الذي احتل الوطن العربي أربعة قرون . وكان هناك بعض من سعى إلى لم شمل العرب في وحدة بين العراق والأردن وسوريا. ولكن هؤلاء أنفسهم رأوا في الحلف عقبة كأداء فاضطروا أن يهاجموا الحلف. وكان مصير سوريا في هذه المناورات ذي أهمية خاصة. فهي تمتاز بروح عربية قومية شديدة ، مع أن الحكومات السورية المتعاقبة لم تكن مستقرة. وبالنتيجة خسر حلفاء بغداد معركة سوريا مع أن تركيا والعراق حاولتا مرات عديدة القيام بتهديدات عسكرية على الحدود السورية. وطالما أن بغداد هي التي خسرت معركة سوريا ، فإن القاهرة تكون الرابحة. وبالفعل ، فان مصر نجحت في أن تجتذب سوريا الى جانبها وكذلك الحال مع الاردن ولو الى فترة بسيطة من الزمان.
وليس من نافلة القول أن حلف بغداد كان عاملاً جديداً ومربكاً للاستعمار ولأعوانه في المنطقة العربية . وكان للحلف تاريخ متميز انبثق في أوله من فكرة دالاس عندما أدرك ان مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط مات وليداً . وسبب موته وعدم قبوله هو أن هذا المشروع حاول جمع أقطار الشرق الأوسط في اتحاد منفرد موجه ضد روسيا . ولما كانت بعض هذه الأقطار بعيدة عن التهديد الروسي، فانها لم تشعر بالخطر الذي تواجهه ، وكانت مصر مثلا لذلك (12).
ولم يمض وقت طويل حتى اصبحت بريطانيا تتحدث عن حلف بغداد وكأنه حجر الزاوية السياسية في سياستها الجديدة في الشرق الأوسط . وهذا ما جعل اللورد ( سترانغ ) ، رئيس الدائرة الخارجية البريطانية ، يتحدث عن الحلف بأنه تنظيم رائع ، والمعاهدة في حد ذاتها توكيد على عزم الدول الغربية الاحتفاظ بمراكزها في الشرق الأوسط (13) . وفي نفس الوقت هذا ما جعل عزم روسيا يشتد للقضاء على هذه المراكز (14) . ولذلك يصح لنا أن نقول ان حلف بغداد قد عجل في تقدم روسيا في مجالات الشرق الأوسط ، وقد ازدادت قدرتها وتشجعت أكثر لأن الحلف أغضب الرأي العام العربي ، ولأن العرب رأوا فيه محاولة غربية لاستخدام الاقطار العربية في حربهم ضد الروس. وثاني نتيجة لظهور حلف بغداد هي التقاء مباشر بين السياسة الخارجية السوفييتية من جهة ، والسياسة الخارجية في كل من مصر وسوريا من جهة ثانية. فالاتحاد السوفييتي يهاجم الاحلاف الغربية اينما كانت ومصر وسوريا أعلنتا أن الدفاع عن المنطقة من اختصاص شعوب المنطقة ، ورفضتا الحلف وبدأتا بالهجوم عليه من القاهرة ودمشق بشدة متزايدة . ولم تقتصر ردة الفعل العربية العدائية على مصر وسوريا بل تعدتهما الى معظم الشعوب العربية.
ولقد كان حلف بغداد عبارة عن تعويض لبريطانيا حيث تهدد نفوذها في العراق بعد انتهاء معاهدة التحالف البريطانية- العراقية ، والتي كانت عملية داخلة في اطار متعدد الجوانب. وفي نفس الوقت، فالحلف، في هدف من أهدافه ، عبارة عن تعويض عن اتفاقية الجلاء التي وقعت بين مصر وبريطانيا، والتي تنسحب بموجبها القوات البريطانية من قناة السويس (15).
وبالنسبة للحكام العراقيين فلقد كانوا متشوقين لتجديد روابطهم مع بريطانيا، ولكن في نفس الوقت كانوا يواجهون صورة الانعزال داخل الجامعة العربية، ويواجهون عداوة الرأي العام العربي وعداوة مصر وسوريا بشكل خاص. هذه العداوة التي أرادوا أن يبتعدوا عنها بعد أن استطاعت مصر بثورتها أن تستقطب الرأي العام العربي.
أما ردود الفعل الفورية التي قامت في سوريا ضد حلف بغداد فهي اعطاء قوة دافعة للحياد وللمشاعر التي هي ضد الأسرة الهاشمية، هذه المشاعر العدائية التي بدأت في الحرب العالمية الأولى أثناء الثورة العربية، ووجدت جذورها في فشل الشريف حسين في قيادة الثورة وانحرافه بها. ومحاولات جر سوريا الى حلف بغداد هي محاولات متعددة المظاهر، ترتبت عليها العديد من الآثار في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم. ولقد أظهر حلف بغداد عجز بريطانيا الواضح عن مواجهة تصاعد حركة التحرر القومي، هذا العجز الذي دفع بريطانيا أيضاً الى أن تتلقف فكرة حلف بغداد وتقيم مع الامبريالية الأمريكية حلفاً يضم دولا واقعة تحت النفوذ الأمريكي، مضافاً إليها عراق نوري السعيد. وتعليق ايدن على حلف بغداد وانشائه تعبير صادق عن هذه الحقيقة. فبعد أن كان الصوت البريطاني هو الوحيد المسموع في المنطقة، يرى ايدن ان حلف بغداد هو طوق النجاة للمصالح الاستعمارية. " ان انضمامنا الى الحلف قد عزز نفوذنا ورفع صوتنا في منطقة الشرق الأوسط ، وأخذ نفوذ حلف بغداد يثبت قدرته على تثبيت الوضع واستقراره " (16).
قلنا ان العراق هو الدولة العربية الوحيدة التي ارتبطت رسميا بحلف بغداد ، وأصبحت ركناً أساسياً من أركانه. وفي نفس الوقت اتخذ منها الاستعمار الانجلو- أمريكي نقطة استناد وانطلاق في أعمال الضغط الموجهة ضد الدول العربية الأخرى بشكل عام وضد سوريا بشكل خاص. وكانت مصر وسوريا مركزين أساسيين في الهجوم المعاكس الذي شنته قوى التحرر العربي ضد حلف بغداد ومشاريعه. واستطاعت حركة التحرر العربي ، في النهاية، بفضل صمود القاهرة ودمشق ، أن تمنع ارتباط الدول العربية الأخرى رسمياً بحلف بغداد ، وان لم تستطع منع بعض الحكام العرب من العطف والانحياز بشكل واضح وسافر الى جانب حلف بغداد. وانقسم جزء من الشعب السوري يمثل الرأسمالية والاقطاع وقسم كبير من البورجوازية الكبيرة والمتوسطة عن القاعدة العامة للشعب السوري ، وهي ان هذا الشعب يتوحد داخلياً كلما هدده خطر خارجي طارئ . فلأول مرة تسفر البورجوازية والرأسمالية والاقطاع في سوريا عن وجوهها وتؤيد حلف بغداد.
ولم يكن هدف الاستعمار والعراق عن طريق كل المؤامرات ضد سوريا الا أضعاف القوى الثورية داخليا، بخلق قوي، ان لم تكن متساوية بقوتها الجماهيرية ، فعلى الأقل يمكنها أن تقف بوجهها حتى ولو بالارهاب والاغتيال والمؤامرات . وفعلاً فان المؤامرات التي شهدتها سوريا في الأعوام السابقة على الوحدة كانت تهدف الى تفتيت الاتجاه الوطني ، ثم تصفيته في الداخل. ولكن النضال الوطني والتضامن الفعال بين القاهرة ودمشق استطاعا أن يحبطا المؤامرة الاستعمارية تلو الأخرى (17).
يمكن من العرض السابق تلخيص الأهداف العامة لحلف بغداد بالتالي :
أ- فرض حصار على سوريا.
ب- عزل مصر عن المشرق العربى.
وبالنسبة لعزل مصر عن المشرق العربي هناك عدة اعتبارات تستدعى ذلك العزل أهمها:
1- الثبات الذي يتمتع به الحكم في مصر والتفاف الجماهير العربية حوله بعد اعلانه الحياد ومحاربة الأحلاف
2- موقع مصر الجغرافي الذي يعكس أهميتها الاستراتيجية.
3- لا توجد لمصر حدود مشتركة مع أقطار المشرق العربي وأي اتصال بينهما سيكون على حساب اسرائيل
4- قوة مصر البشرية والمادية.
وكل تلك الاعتبارات قد جعلت خطة الاستعمار تقوم على عزل مصر عن المشرق العربي ، لأن نتيجة هذا العزل هي أن يؤدي ، أولا وأخيراً ، الى أضعاف القوى الثورية المعادية للاستعمار في سوريا، ويخفف فعالية مقاومتها وتصديها للحلف ، ويمهد بالتالي لضرب الاتجاه المعادي للاستعمار والامبريالية في الداخل .
على انه مع بداية عام 1956 كان مشروع حلف بغداد قد سجل تقدماً خطيراً مهدداً وحدة الأمة العربية، فشنت القاهرة ودمشق حملة عنيفة على تركيا والعراق والدول الغربية. وفي هذه الأثناء وقبلها، قررت الحكومة السوفييتية أن تفعل شيئا لوقف تقدم حلف بغداد في ربيع عام 1955. فأصدرت وزارة الخارجية في 16 ابريل (نيسان) عام 1955 بياناً رسمياً جاء فيه : أن الحالة العامة في الشرق الأوسط قد ازدادت خطورة في الأشهر الأخيرة نتيجة لمحاولة الدول الغربية جر الأقطار العربية الى الأحلاف العسكرية (18). وجاء البيان، بشكل خاص، على ذكر الضغط الذي تعرضت له سوريا ومصر من أجل الانضمام الى الأحلاف؟ وأكد في نفس الوقت، أن الاتحاد السوفييتي لن يقف مكتوف الأيدي في وجه هذه المؤامرة الغربية وأمثالها : " أن هذا الموقف لا يحتاج الى تفسير، لأن الاتحاد السوفييتي، خلافاً للولايات المتحدة، هو دولة مجاورة لأقطار الشرق الأوسط " (19)
وكما قلنا عن تأثير حلف بغداد على المجال الداخلي لسوريا، فاننا نلاحظ انه منذ أعلن الحلف في عام 1954 والنشاط الدبلوماسي الأنجلو- أمريكي يعمل ليل نهار لفرض سياسة الأحلاف على الأقطار العربية. ولقد استطاعت الدبلوماسية الغربية أن تكشف وجه حكام عمان عندما وافقوا على الانضمام للحلف . أما الدبلوماسية الأمريكية فلم تجد مجالا في سوريا نتيجة لقوة التيار الشعبي التحرري ، وان كانت بعض الفئات في سوريا لم تتوان أو تتأخر في اظهار عطفها على السياسة الاستعمارية الجديدة. وحين تحقق اجتماع الرؤساء في القاهرة لبحث اتجاهات السياسة الدولية في المنطقة واتخاذ موقف واحد من الأحلاف العسكرية ، ذهب فارس الخوري، رئيس وزراء سوريا آنذاك ، للمؤتمر، وبدل أن يقف ضد الأحلاف العسكرية موقفاً واضحاً وصريحاً ، وقف موقفاً مشبوهاً وعاد ليؤكد قائلاً بأن الحلف العراقي- التركي إذا لم يكن به نفع فليس به ضرر على كل حال (20). وكان أن سقطت وزارته نتيجة لهذا التصريح . وانتهت بذلك الحلقة الأولى من حلقات الضغط على السياسة العربية المتحررة في سوريا. وأخذ المد الشعبي يشتد قوة واتساعاً . واشترك حزب البعث العربي الاشتراكي في الحكم على أساس الابتعاد عن الاحلاف وإعلان الحياد واتباع سياسة عربية تحررية موحدة .
ونتج عن هذه السياسة :
أولا: البيان الثلاثي الذي وقعته مصر وسوريا والسعودية ، والذي ينص في مقدمته على زيادة الوعي زيادة ملحوظة . كما نص على انتهاج سياسة غير منحازة ، والتخطيط لمقاومة الصهيونية.
ثانيا : فشل سياسة الاحلاف في الاردن وتطهير الجيش الاردني من غلوب وأنصاره ، والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية التي تلت ذلك بين الاردن ومصر وسوريا والسعودية واليمن ، وأهم هذه الاتفاقيات اتفاقية التضامن العربي ، التي جعلت الاردن قادرا على الاستغناء عن المعونة البريطانية (21).
ثالثاً : عزل حكام بغداد عن الشعب وحصر السياسة الحلفية في العراق ، وحشد القوى الجماهيرية لمقاومتها
رابعاً : ادى انتهاج السياسة الاستقلالية في مصر وسوريا الى تحطيم طوق التوازن الذي فرضه الغرب على العرب للحد من قوتهم العسكرية وضمان تفوق اسرائيل عليهم ، ومكنهم من شراء الاسلحة السوفييتية الحديثة (22) .
وأهم ما ارتبط بحلف بغداد من أحداث كان لها أكبر الآثار على العلاقات السورية المصرية والتقريب بينهما حدثان :
1- كسر احتكار السلاح ، واتجاه الدولتان الى الكتلة الشرقية .
2- ضغط حلف بغداد على سوريا وجعلها تمد يدها أكثر الى مصر .
محمد عبد المولى
الفصل الأول
الأسباب الخارجية التي أدت الى الوحدة
المبحث الأول : حلف بغداد
أولاً : كسر احتكار السلاح
ثانيا : ضغط الحلف على سوريا
المبحث الثاني : مشروع ايزنهاور
أولاً : مؤتمر انقره عام 1957
ثانياً : " الأزمة السورية "
المبحث الأول
حلف بغداد
جاءت سياسة الأحلاف في المنطقة نتيجة لشعور الغرب الاستعماري بأن قيام اسرائيل في هذه المنطقة المتأججة بالروح الثورية لم يعد كافياً لتحقيق الأهداف التقليدية للاستعمار. كما أنها جاءت تحصيلا واقعياً لبروز دور الولايات المتحدة الأمريكية في توجيه سياسة المنطقة الى جانب بريطانيا ، وتصارعا معها في دولها أيضا. وكان حلف بغداد الذي تأكد وجوده عام 1954 تحت هيمنة بريطانيا ، ولكنه ما لبث أن سيطرت عليه الولايات المتحدد الأمريكية (1).
اعتمد حلف بغداد على عاملين من عوامل الواقع الموجود في العالم العربي، أولهما وجود فئات حاكمة تتمركز في بعض الدول العربية ولها مصالص ترتبط بشكل مباشر مع الاستعمار. وثانيهما وجود الأحزاب المحافظة والمستعدة للتعاون مع الغرب الاستعماري بحكم تركيبها الطبقي البورجوازي من جهة ، وارتباطاتها الاستعمارية منذ أيام الاستعمار الفرنسي- البريطاني من جهة ثانية. ولكن الحلف أكتشف عاملاً آخر في سبيل أن يوجد له قاعدة شعبية الى جانب قواعده الحكومية : وهي الجماعات الدينية الاسلامية التي كانت تحاول أن تتحول بالتدريج الى حزب سياسي يريد أن يستقل عن الأحزاب البورجوازية التقليدية دون أن يتخلى عن دعمها شعبيا وفي الأوساط الجماهيرية غير الواعية التي لم يدخل اليها مد التوعية الثورية بمضمونها العربى التقدمي (2).
تلك كانت أسباب قيام حلف بغداد، أما الخطوات التي أتخذت لابرازه الى الوجود فيمكن تلخيصها بالتالي:
في 24 فبراير عام 1954 صدر بيان تركي- باكستاني أعلن اتفاق الدولتين على دراسة وسائل التعاون السياسي والعسكري (3).
وفي 22 يناير عام 1955 صدر بلاغ عراقي- تركي جاء فيه :
" أ- دارت مباحثات بين الطرفين حول ايجاد تعاون بتأمين أستقرار منطقة الشرق الأوسط ، وقررت الدولتان عقد اتفاق يرمي الى تحقيق توسيع التعاون المذكور قريباً .
" ب- سوف يحتوي الاتفاق على التعهد بالتعاون لصد أي اعتداء قد يقع عليها من داخل أو خارج المنطقة.
" جـ ـ و من الضروري والمفيد أن تنضم إلى هذا الاتفاق دول غيرهما تؤمن بهذه الأهداف وتعمل لها بحكم موقعها الجغرافي " (4) .
وفي 24 فبراير عام 1955 تم توقيع حلف بغداد بين تركيا والعراق وانضمت اليه باكستان وإيران وبريطانيا ، وتكون المجلس الدائم للحلف في بغداد وانضم اليه ممثلون عن الولايات المتحدة بصفة مراقبين. وما لبثت الولايات المتحدة أن اشتركت في نشاط ثلاث لجان من الحلف وهي : اللجنة الاقتصادية واللجنة العسكرية ولجنة مكافحة التسلل الشيوعي والمباديء الهدامة.
ما يهمنا من حلف بغداد هو تأثيره المباشر على دفع مصر وسوريا الى الوحدة ، وقبلها التقارب فيما بينهما لمجابهة الحلف وأنصاره في المنطقة.
أشاع الغرب بأن الزعماء المصريين قد استاءوا من الاقتراح الذي قدم اليهم ، وهو أنهم سيلعبون دوراً ثانوياً وفق توجيهات تركيا في المنظمة الدفاعية الغربية المقترحة ، وادعى بأنهم كانوا خليقين بقبول الاشتراك في المنظمة لو أعطي لهم الدور الأول بدلاً من تركيا أو العراق ؟! ان مثل هذا الرأي يضرب عرض الحائط بالعداء المستحكم في العالم العربى نحو أي حلف مع الغرب (5).
أن الحياد الإيجابي لم يولد عام 1954 (6) ، فقد كان هذا موقف " الانتلجنسيا " (المثقفون) العربية وموقف الضباط وموقف الرأي العام على العموم أثناء الحرب العالمية الثانية وقبلها بكثير ، لم يكن ذلك العداء نتيجة تنظيم الغرب المنطقة، انما كان شيئاً وجد ما يعبر عنه في معارضة حلف بغداد (7).
واستمرارا لموقف مصر من منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط (8) ، وبناء لإعلان الحكومة المصرية رأيها صريحاً بالنسبة للأحلاف على أختلاف مصادرها فانها لم تقف عند حد المعارضة بالنسبة لقضية حلف بغداد ، وإنما خطت خطوتها في تحقيق السياسة التي خطتها وأعلنتها بالنسبة للبلاد العربية، وهو أن الدفاع عن هذه المنطقة انما هو واجب الدول العربية وحدها " (9).
أما موقف سوريا من الحلف ، وموقف الحلف من سوريا ، فهناك مذكرة من السفير الأمريكي في دمشق، كانت قد قدمت في شهر سبتمبر (أيلول) عام 1955 الى الحكومة السورية، تضمنت رأي الحكومة الأمريكية في الحلف وما تستطيعه بعض الدول العربية، من ضمنها سوريا بالطبع.
و نص المذكرة التالي :
" أ- ان وزارة الخارجية الأمريكية رحبت علنا بالاتفاق العراقي- التركي ، كخطوة انشائية لمنظمة دفاع حقيقية، يمكن مع الوقت أن تضم الباكستان وإيران- وبعض الدول العربية.
" ب- بعد تطور هذه المنظمة على غرار الاتفاق العراقي- التركي، ترى حكومة الولايات المتحدة مقدما احتمالا لأن تستطيع الدول العربية الواقعة " خلف المنظمة "، أي وراء الخط الشمالي ، القيام بدور مفيد في المنظمة الدفاعية ، وفي هذه الظروف اذا ارادت احدى الدول العربية الواقعة خلف المنظمة أن تنضم الى هذه المنظمة الدفاعية، فان الولايات المتحدة مستعدة للنظر في تقوية دفاع تلك الدول العربية.
" جـ - ان نمو الترتيبات الدفاعية وكذلك تحسين العلاقات العربية- الإسرائيلية، أمر ضروري للمساهمة الفعالة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في الدفاع عن منطقة الشرق الأوسط ، وان الولايات المتحدة لا تستطيع أن تبدد مواردها على قوى غير متجانسة داخل المنطقة ولاعلى سباق في التسلح بين العرب وإسرائيل (10).
يتضح من هذه المذكرة ارتباط حلف بغداد بأمرين : أولهما أي سلاح لا يقدم للدول العربية الا اذا انضمت الى الحلف ، وثانيهما ان المساعدة الأمريكية للدول العربية لا يمكن أن تكون الا على أساس الصلح مع اسرائيل. وبمعنى آخر، ان المساعدة الإقتصادية والمالية تساوي الصلح مع إسرائيل وان بطريق غير مباشر، أو بتحسين العلاقات معها على أبسط الفروض (البند جـ).
كان من أهم أهداف الحلف غير المباشرة تطويق سوريا وعزل مصر عن الشرق العربي . وبتحقيق هذا الهدف يقضي على الحياد العربي . " وكان حلف بغداد الذي تحقق به ادخال دولة عربية في الحلف هي العراق، وتحقق بالتالي شلها عربياً وجعلها نقطة ارتكاز لدفاع الاستعمار عن مصالحه ونفوذه، هو الأسلوب الذي أضطر الاستعمار أن يأخذ به بعد أن فشل في أن يزج في أحلافه منذ البداية دولا عربية أخرى كمصر وسوريا بصفة خاصة .
وسار الاستعمار في محاولاته لتوسيع الحلف ، عن طريق ضم دول أخرى له كالأردن، أملا أن يتبعها لبنان، لتطويق سوريا فتعزل مصر ، وبذلك يقضي على الحياد الإيجابي كاتجاه تبناه عدد من الدول العربية . (11) .
لقد كان شعب سوريا في تلك الحقبة من الزمان مطوقاً بأحزمة الملكيات المتعاونة مع الغرب. كما كان محوقاً في بعض أجزائه من الداخل بمؤسسات البورجوازية واليمينية التي كانت تستثمر جميع مصالحه ، من تأخر وضعف اقتصادي وعصبيات طائفية وإقليمية في سبيل أن تفتت وحدة النضال الشعبي ، وتعدد جبهاته الداخلية المتعارضة ، حتى يتم الاجهاز عليه ، وهو في أوج قوته وجبروته. وعلى ذلك فقد عملت الدول الاستعمارية جهدها أن تدخل سوريا لحلف بغداد هادفة من ذلك ، كما قلنا ، الى عزل مصر وكان القول الذي يتردد في تلك الآونة يقول : اذا كان للحلف أن يصبح منافسا " لناصر" فلا بد له أن يجذب أقطار عربية أخرى . وبا لفعل ما ان تم وجود هذا الحلف حتى بدأ التنافس بين الحلف ومصر على جر سوريا والأردن - مع اختلاف ومقاصد كل منهما .
ولقد كانت هذه المرحلة مريرة من النزاع بين الأقطار العربية ، ولم يدرك الغرب أهمية هذا النزاع حينذاك، وكان العراق في هذا النزاع متعرضاً لمساويء كثيرة، فهو في اتفاقه مع بريطانيا وتركيا يكون قد اتفق مع الاستعمار الذي احتل الوطن العربي أربعة قرون . وكان هناك بعض من سعى إلى لم شمل العرب في وحدة بين العراق والأردن وسوريا. ولكن هؤلاء أنفسهم رأوا في الحلف عقبة كأداء فاضطروا أن يهاجموا الحلف. وكان مصير سوريا في هذه المناورات ذي أهمية خاصة. فهي تمتاز بروح عربية قومية شديدة ، مع أن الحكومات السورية المتعاقبة لم تكن مستقرة. وبالنتيجة خسر حلفاء بغداد معركة سوريا مع أن تركيا والعراق حاولتا مرات عديدة القيام بتهديدات عسكرية على الحدود السورية. وطالما أن بغداد هي التي خسرت معركة سوريا ، فإن القاهرة تكون الرابحة. وبالفعل ، فان مصر نجحت في أن تجتذب سوريا الى جانبها وكذلك الحال مع الاردن ولو الى فترة بسيطة من الزمان.
وليس من نافلة القول أن حلف بغداد كان عاملاً جديداً ومربكاً للاستعمار ولأعوانه في المنطقة العربية . وكان للحلف تاريخ متميز انبثق في أوله من فكرة دالاس عندما أدرك ان مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط مات وليداً . وسبب موته وعدم قبوله هو أن هذا المشروع حاول جمع أقطار الشرق الأوسط في اتحاد منفرد موجه ضد روسيا . ولما كانت بعض هذه الأقطار بعيدة عن التهديد الروسي، فانها لم تشعر بالخطر الذي تواجهه ، وكانت مصر مثلا لذلك (12).
ولم يمض وقت طويل حتى اصبحت بريطانيا تتحدث عن حلف بغداد وكأنه حجر الزاوية السياسية في سياستها الجديدة في الشرق الأوسط . وهذا ما جعل اللورد ( سترانغ ) ، رئيس الدائرة الخارجية البريطانية ، يتحدث عن الحلف بأنه تنظيم رائع ، والمعاهدة في حد ذاتها توكيد على عزم الدول الغربية الاحتفاظ بمراكزها في الشرق الأوسط (13) . وفي نفس الوقت هذا ما جعل عزم روسيا يشتد للقضاء على هذه المراكز (14) . ولذلك يصح لنا أن نقول ان حلف بغداد قد عجل في تقدم روسيا في مجالات الشرق الأوسط ، وقد ازدادت قدرتها وتشجعت أكثر لأن الحلف أغضب الرأي العام العربي ، ولأن العرب رأوا فيه محاولة غربية لاستخدام الاقطار العربية في حربهم ضد الروس. وثاني نتيجة لظهور حلف بغداد هي التقاء مباشر بين السياسة الخارجية السوفييتية من جهة ، والسياسة الخارجية في كل من مصر وسوريا من جهة ثانية. فالاتحاد السوفييتي يهاجم الاحلاف الغربية اينما كانت ومصر وسوريا أعلنتا أن الدفاع عن المنطقة من اختصاص شعوب المنطقة ، ورفضتا الحلف وبدأتا بالهجوم عليه من القاهرة ودمشق بشدة متزايدة . ولم تقتصر ردة الفعل العربية العدائية على مصر وسوريا بل تعدتهما الى معظم الشعوب العربية.
ولقد كان حلف بغداد عبارة عن تعويض لبريطانيا حيث تهدد نفوذها في العراق بعد انتهاء معاهدة التحالف البريطانية- العراقية ، والتي كانت عملية داخلة في اطار متعدد الجوانب. وفي نفس الوقت، فالحلف، في هدف من أهدافه ، عبارة عن تعويض عن اتفاقية الجلاء التي وقعت بين مصر وبريطانيا، والتي تنسحب بموجبها القوات البريطانية من قناة السويس (15).
وبالنسبة للحكام العراقيين فلقد كانوا متشوقين لتجديد روابطهم مع بريطانيا، ولكن في نفس الوقت كانوا يواجهون صورة الانعزال داخل الجامعة العربية، ويواجهون عداوة الرأي العام العربي وعداوة مصر وسوريا بشكل خاص. هذه العداوة التي أرادوا أن يبتعدوا عنها بعد أن استطاعت مصر بثورتها أن تستقطب الرأي العام العربي.
أما ردود الفعل الفورية التي قامت في سوريا ضد حلف بغداد فهي اعطاء قوة دافعة للحياد وللمشاعر التي هي ضد الأسرة الهاشمية، هذه المشاعر العدائية التي بدأت في الحرب العالمية الأولى أثناء الثورة العربية، ووجدت جذورها في فشل الشريف حسين في قيادة الثورة وانحرافه بها. ومحاولات جر سوريا الى حلف بغداد هي محاولات متعددة المظاهر، ترتبت عليها العديد من الآثار في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم. ولقد أظهر حلف بغداد عجز بريطانيا الواضح عن مواجهة تصاعد حركة التحرر القومي، هذا العجز الذي دفع بريطانيا أيضاً الى أن تتلقف فكرة حلف بغداد وتقيم مع الامبريالية الأمريكية حلفاً يضم دولا واقعة تحت النفوذ الأمريكي، مضافاً إليها عراق نوري السعيد. وتعليق ايدن على حلف بغداد وانشائه تعبير صادق عن هذه الحقيقة. فبعد أن كان الصوت البريطاني هو الوحيد المسموع في المنطقة، يرى ايدن ان حلف بغداد هو طوق النجاة للمصالح الاستعمارية. " ان انضمامنا الى الحلف قد عزز نفوذنا ورفع صوتنا في منطقة الشرق الأوسط ، وأخذ نفوذ حلف بغداد يثبت قدرته على تثبيت الوضع واستقراره " (16).
قلنا ان العراق هو الدولة العربية الوحيدة التي ارتبطت رسميا بحلف بغداد ، وأصبحت ركناً أساسياً من أركانه. وفي نفس الوقت اتخذ منها الاستعمار الانجلو- أمريكي نقطة استناد وانطلاق في أعمال الضغط الموجهة ضد الدول العربية الأخرى بشكل عام وضد سوريا بشكل خاص. وكانت مصر وسوريا مركزين أساسيين في الهجوم المعاكس الذي شنته قوى التحرر العربي ضد حلف بغداد ومشاريعه. واستطاعت حركة التحرر العربي ، في النهاية، بفضل صمود القاهرة ودمشق ، أن تمنع ارتباط الدول العربية الأخرى رسمياً بحلف بغداد ، وان لم تستطع منع بعض الحكام العرب من العطف والانحياز بشكل واضح وسافر الى جانب حلف بغداد. وانقسم جزء من الشعب السوري يمثل الرأسمالية والاقطاع وقسم كبير من البورجوازية الكبيرة والمتوسطة عن القاعدة العامة للشعب السوري ، وهي ان هذا الشعب يتوحد داخلياً كلما هدده خطر خارجي طارئ . فلأول مرة تسفر البورجوازية والرأسمالية والاقطاع في سوريا عن وجوهها وتؤيد حلف بغداد.
ولم يكن هدف الاستعمار والعراق عن طريق كل المؤامرات ضد سوريا الا أضعاف القوى الثورية داخليا، بخلق قوي، ان لم تكن متساوية بقوتها الجماهيرية ، فعلى الأقل يمكنها أن تقف بوجهها حتى ولو بالارهاب والاغتيال والمؤامرات . وفعلاً فان المؤامرات التي شهدتها سوريا في الأعوام السابقة على الوحدة كانت تهدف الى تفتيت الاتجاه الوطني ، ثم تصفيته في الداخل. ولكن النضال الوطني والتضامن الفعال بين القاهرة ودمشق استطاعا أن يحبطا المؤامرة الاستعمارية تلو الأخرى (17).
يمكن من العرض السابق تلخيص الأهداف العامة لحلف بغداد بالتالي :
أ- فرض حصار على سوريا.
ب- عزل مصر عن المشرق العربى.
وبالنسبة لعزل مصر عن المشرق العربي هناك عدة اعتبارات تستدعى ذلك العزل أهمها:
1- الثبات الذي يتمتع به الحكم في مصر والتفاف الجماهير العربية حوله بعد اعلانه الحياد ومحاربة الأحلاف
2- موقع مصر الجغرافي الذي يعكس أهميتها الاستراتيجية.
3- لا توجد لمصر حدود مشتركة مع أقطار المشرق العربي وأي اتصال بينهما سيكون على حساب اسرائيل
4- قوة مصر البشرية والمادية.
وكل تلك الاعتبارات قد جعلت خطة الاستعمار تقوم على عزل مصر عن المشرق العربي ، لأن نتيجة هذا العزل هي أن يؤدي ، أولا وأخيراً ، الى أضعاف القوى الثورية المعادية للاستعمار في سوريا، ويخفف فعالية مقاومتها وتصديها للحلف ، ويمهد بالتالي لضرب الاتجاه المعادي للاستعمار والامبريالية في الداخل .
على انه مع بداية عام 1956 كان مشروع حلف بغداد قد سجل تقدماً خطيراً مهدداً وحدة الأمة العربية، فشنت القاهرة ودمشق حملة عنيفة على تركيا والعراق والدول الغربية. وفي هذه الأثناء وقبلها، قررت الحكومة السوفييتية أن تفعل شيئا لوقف تقدم حلف بغداد في ربيع عام 1955. فأصدرت وزارة الخارجية في 16 ابريل (نيسان) عام 1955 بياناً رسمياً جاء فيه : أن الحالة العامة في الشرق الأوسط قد ازدادت خطورة في الأشهر الأخيرة نتيجة لمحاولة الدول الغربية جر الأقطار العربية الى الأحلاف العسكرية (18). وجاء البيان، بشكل خاص، على ذكر الضغط الذي تعرضت له سوريا ومصر من أجل الانضمام الى الأحلاف؟ وأكد في نفس الوقت، أن الاتحاد السوفييتي لن يقف مكتوف الأيدي في وجه هذه المؤامرة الغربية وأمثالها : " أن هذا الموقف لا يحتاج الى تفسير، لأن الاتحاد السوفييتي، خلافاً للولايات المتحدة، هو دولة مجاورة لأقطار الشرق الأوسط " (19)
وكما قلنا عن تأثير حلف بغداد على المجال الداخلي لسوريا، فاننا نلاحظ انه منذ أعلن الحلف في عام 1954 والنشاط الدبلوماسي الأنجلو- أمريكي يعمل ليل نهار لفرض سياسة الأحلاف على الأقطار العربية. ولقد استطاعت الدبلوماسية الغربية أن تكشف وجه حكام عمان عندما وافقوا على الانضمام للحلف . أما الدبلوماسية الأمريكية فلم تجد مجالا في سوريا نتيجة لقوة التيار الشعبي التحرري ، وان كانت بعض الفئات في سوريا لم تتوان أو تتأخر في اظهار عطفها على السياسة الاستعمارية الجديدة. وحين تحقق اجتماع الرؤساء في القاهرة لبحث اتجاهات السياسة الدولية في المنطقة واتخاذ موقف واحد من الأحلاف العسكرية ، ذهب فارس الخوري، رئيس وزراء سوريا آنذاك ، للمؤتمر، وبدل أن يقف ضد الأحلاف العسكرية موقفاً واضحاً وصريحاً ، وقف موقفاً مشبوهاً وعاد ليؤكد قائلاً بأن الحلف العراقي- التركي إذا لم يكن به نفع فليس به ضرر على كل حال (20). وكان أن سقطت وزارته نتيجة لهذا التصريح . وانتهت بذلك الحلقة الأولى من حلقات الضغط على السياسة العربية المتحررة في سوريا. وأخذ المد الشعبي يشتد قوة واتساعاً . واشترك حزب البعث العربي الاشتراكي في الحكم على أساس الابتعاد عن الاحلاف وإعلان الحياد واتباع سياسة عربية تحررية موحدة .
ونتج عن هذه السياسة :
أولا: البيان الثلاثي الذي وقعته مصر وسوريا والسعودية ، والذي ينص في مقدمته على زيادة الوعي زيادة ملحوظة . كما نص على انتهاج سياسة غير منحازة ، والتخطيط لمقاومة الصهيونية.
ثانيا : فشل سياسة الاحلاف في الاردن وتطهير الجيش الاردني من غلوب وأنصاره ، والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية التي تلت ذلك بين الاردن ومصر وسوريا والسعودية واليمن ، وأهم هذه الاتفاقيات اتفاقية التضامن العربي ، التي جعلت الاردن قادرا على الاستغناء عن المعونة البريطانية (21).
ثالثاً : عزل حكام بغداد عن الشعب وحصر السياسة الحلفية في العراق ، وحشد القوى الجماهيرية لمقاومتها
رابعاً : ادى انتهاج السياسة الاستقلالية في مصر وسوريا الى تحطيم طوق التوازن الذي فرضه الغرب على العرب للحد من قوتهم العسكرية وضمان تفوق اسرائيل عليهم ، ومكنهم من شراء الاسلحة السوفييتية الحديثة (22) .
وأهم ما ارتبط بحلف بغداد من أحداث كان لها أكبر الآثار على العلاقات السورية المصرية والتقريب بينهما حدثان :
1- كسر احتكار السلاح ، واتجاه الدولتان الى الكتلة الشرقية .
2- ضغط حلف بغداد على سوريا وجعلها تمد يدها أكثر الى مصر .