التحرش وهجوم القرش
معتز عبد الرحمن
قرأت مؤخرًا خبرًا عن تدشين موقع عن ظاهرة التحرش، قرأت عن الموقع
وأهدافه, والتي ينحصر معظمها في تحديد الأماكن التي يكثر فيها التحرش
لمساعدة رجال الأمن في تأمينها، وفي تقديم المساعدة النفسية والقانونية
للضحايا, وتعليمهم كيفية الدفاع عن النفس ضد التحرش, وكيفية عمل محضر
شرطة... إلخ.
وبعد تأملي في الخبر وفي الموقع قفزت إلى ذهني أحداث
هجوم القرش على السياح في شرم الشيخ -الهجوم الأول- والذي تعاملنا معه بنفس
الطريقة، فقد تم القبض على سمكتي قرش قيل حينها أنهما المتسببتان في
الهجوم وعادت الأمور إلى مجاريها، ليعود الفك المفترس مرة أخرى ليقتل سائحة
ألمانية, ليعلن للجميع أن أمراض "تغير السلوك" لا تعالج بالقمع الأمني
والقانوني وحسب, وأنه لا بد للباحث عن العلاج أن يعالج أسباب المرض لا
أعراضه، وهذا ما توصل له الخبراء بعد الهجوم الثاني, إذ أثبتوا أن تغير
سلوك القرش لم يكن وليد اللحظة, بل كان نتيجة لأسباب ومتغيرات تتراكم منذ
فترة -مثل الصيد الجائر وسلوكيات السائحين الخاطئة..
فبالتالي علاجها
يحتاج لوقت وجدية لإعادة تقويم السلوك ولا يصلح معه القمع والاستئصال،
وكذلك حال شبابنا فتغير سلوكهم لم يكن وليد اللحظة وليس ظاهرة مفاجئة،
وعلاجه لا يكون فقط بعمل محاضر للشرطة وسن القوانين، بل لا بد أن ينتج عن
خطة واضحة لتقويم السلوك والقضاء على الأسباب التي أدت إلى ذلك.
ضحايا غير بريئة
إن
هذه الظاهرة القديمة الحديثة -التي بدأ طرحها يزداد مع ازدياد حوادث
التحرش الجماعي خاصة- تعاني من فقر شديد في تناول أساليب العلاج، والسبب في
ذلك هو وجود تحيز مسبق عند المعالج لأحد الطرفين، فبين فريق يرى أن الشباب
معذور وأن الفتيات هن الشيطان الأعظم وأن ما يحدث لهن جزاءً وفاقًا، وبين
متحيز مطلق للفتيات, وأنهن بريئات تمامًا وليس لهن أي دور أو جريرة وأن
الشباب هم الذئاب، وهذا الاتجاه هو الغالب في هذه الأيام، حتى أني عندما
قرأت عن تنظيم وقفة احتجاجية ضد التحرش كتب على لافتاتها: "لا للخوف
هنتكلم، هنفضحهم، هنسجنهم".
وقرأت عن اقتراح أن تحمل كل فتاة "صاعق
كهربي" تصعق به كل شاب تشك فيه، شعرت وكأن هؤلاء الشباب من جيش الاحتلال
الإسرائيلي وليسوا من أبناء مجتمعنا ووطننا، بل وربما يكون هذا الشاب وهذه
الفتاة من أبناء بيت وأسرة واحدة، وهذا ما ينبغي الالتفات إليه، أن هذا
ابني كما أن هذه ابنتي، وهذه أختي كما أن هذا أخي، وهذه أول خطوات العلاج،
أن تدرس المشكلة من الطرفين سواء، وأن يعامل كل منهما على أنه "ضحية غير
بريئة" جاني ومجني عليه في آن واحد، فندفع عنه ما ليس له فيه يد، ونقومه
ونحاسبه على ما في استطاعته، أما المتهمون الحقيقيون فستعلمهم تباعًا خلال
الأسطر القادمة.
1+1=2
خلق الله الإنسان وجعل فيه غرائز
ونزعات، منها وعلى رأسها ميل الرجل للمرأة وميل المرأة للرجل، وهذا الميل
هو سبب بقاء البشرية على الأرض وعدم انقراضها إلى الآن، وهذه الغريزة شأنها
شأن كل غريزة إن لم توجه وتقنن صارت وبالاً على أصحابها، وصارت نقمة لا
نعمة، لذا شرع الله لعباده الزواج وجعله آية من آياته، وحفظًا ووقاية، بل
وعبادة يثاب عليها المسلم، وأمر أولياء الأمور بتخفيف المهور وتيسير
الزواج، وأمر الشباب والفتيات بغض البصر؛ حفظًا لقلوبهم وتسكينًا
لغرائزهم..
وأمر النساء بالحجاب وجعل له شروطًا، ونهى عن الاختلاط،
وأمر غير القادر على الزواج بالاستعفاف والصوم، ونهى عن كل ما يؤدي
للفاحشة, وتوعد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأمر الآباء
والأمهات بحسن تربية الأولاد, وأن يقي كل إنسان نفسه وأهله نارًا وقودها
الناس والحجارة، كل هذه الأمور وغيرها جعلها الله أمانًا للمجتمع من
الانحدار السلوكي والخلقي.
وهي أمور كلها تتسم بالواقعية ومقبولة
عقلاً؛ إذ إن الوقاية دومًا خير من العلاج، وهذه الواقعية هي شأن كل فروع
وأوامر الشريعة الإسلامية، إذ إن الذي شرع هو الذي خلق، والذي خلق خبير
بطبيعة خلقه وما يصلحهم، لطيف بهم يريد لهم الخير في دنياهم وأخراهم, {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
لذا
فما نراه الآن هو نتيجة طبيعية لكسر كل صمامات الأمان في المجتمع، مثل
تعسير الزواج وغلاء الأسعار والمهور ورفع سن الزواج، وإطلاق الشباب
والفتيات أبصارهم وأبصارهن ليس في الشارع فقط، بل في الأفلام والكليبات
والإنترنت، ومثل انتشار التبرج و "الحجاب المتبرج"، والاختلاط والتبسط
الزائد بين الشباب والفتيات والخضوع بالقول، والأفلام والمسلسلات والبرامج
المليئة بالمواضيع والتلميحات والإفيهات التي لا تخدش الحياء فحسب, بل
تمزقه تمزيقًا، وقتل نزعة التدين ومراقبة الله في الشباب، واستقالة كثير من
الآباء والأمهات من وظيفتهم التربوية وتنازلهم عنها للإعلام والشارع
والأصدقاء.
كل هذه الأمور تكسر صمامات الأمان والاحترام, وتنطلق هذه
الغريزة بلا ضوابط وينتج عنها التحرش والاغتصاب والزواج العرفي، بل وينتج
عنها التحرش "الإرادي" الذي يشكو منه كورنيش النيل والبحر المتوسط, والذي
لا بد أن يحارب ويعالج هو الآخر؛ لأنه ليس أقل خطورة.
أما هذه
العبارات التي يروج لها الآن, كالتي خرجت تقول: "من حقي ألبس زي ما أنا
عايزة من غير ما حد يتحرش بيا أو يتعرض ليا", فهذا كلام غير منطقي؛ لأنه
يستحيل أن ألقي النار على البنزين وأطلب منه ألا يشتعل، ومن أدلة ذلك أن في
أثناء تصوير مشهد تحرش جماعي في أحد الأفلام، انقلب التمثيل إلى حقيقة,
ولم يستطع أحد السيطرة على الشباب الممثلين، والسبب ببساطة أن 1+1=2،
والاستثناء لا يقدر عليه كل أحد.
ولذلك فالشاب العفيف في السبعة
الذين يظلهم الله في ظله, يوم لا ظل إلا ظله، بل إن نبي الله يوسف -رمز
العفاف- فضل السجن على البقاء في هذا الاختبار, {قَالَ
رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ
تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ
الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33].
قبل أن يتحرشوا بالمحتشمة
سؤال
يزداد طرحه هذه الأيام، إذا كان ترك الاحتشام سببًا للتحرش، فلِمَ تتعرض
المحتشمات للتحرش؟ والإجابة في نقطتين: أولاً: ما هو تعريف الاحتشام
والحجاب؟ لأننا -وللأسف- اختصرنا الحجاب في قطعة قماش تغطي الرأس أو بعضه،
وسمينا هذا حجابًا، وصرنا نرى في ملابس المنتسبات للحجاب ما هو أقل
احتشامًا من غير المحجبات، فكما أن لكل عبادة شروطًا وأحكامًا, للحجاب شروط
وأحكام قلما تجدها مجتمعة في امرأة محجبة, بل حتى بعض المنتقبات لا يلتزمن
بها..
فمن شروط الحجاب, "أن يكون ساترًا لجميع البدن -على خلاف في
الوجه والكفين بين وجوب تغطية الوجه أو استحبابه- وألا يكون زينة في ذاته
ملفتًا للنظر، وأن يكون سميكًا لا يشف، واسعًا لا يصف، ألا يكون معطرًا،
ألا يكون به تشبه بالرجال أو غير المسلمات، وألا يكون ثوب شهرة وتميز".
فإذا
كانت هذه هي الشروط, فسأتركك أنت تحدد كم هي نسبة المحجبات الحقيقيات في
مصر؟ أما النقطة الثانية أنه ليس من العجيب أن يصل التحرش للمحتشمات؛ لأن
الفساد وأمراض المجتمعات عندما تعم لا تفرق بين الصالح والطالح {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].
وقال رسول الله [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]: "مثل
القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب
بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء
مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من
فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا
ونجوا جميعًا"[1]؛
فنجاة سفينة المجتمع مسئوليتنا جميعًا، وعلى الجميع التحرك لإنقاذها؛ لذلك
فالعفيف لا يتوقف دوره على كونه عفيفًا في نفسه, بل لا بد أن ينصح ويسعى
ويساهم في الحل، والمحتشمة لا يقف دورها على احتشامها ومحافظتها, بل لا بد
أن تنصح وتسعى وتشارك في الحل..
والأب المربي المحافظ على أولاده وبناته لا بد أن ينصح ويسعى ويشارك في الحل، قال رسول الله [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم"[2].
بطيء لكن أكيد
وأخيرًا،
هذا الكلام ليس تبريرًا لما يحدث، وليس مطالبة بوقف معاقبة المخطئ, وليس
إنكارًا لأهمية الدور الأمني والقانوني، فكلها بلا شك أمور ضرورية وعاجلة،
ولكنه دعوة لدراسة الموضوع بشكل أعمق وتناوله بشكل أشمل ودعوة للتكاتف
والتكامل والإيجابية لحل هذه المشكلة؛ لأننا لن نعين شرطيًّا لكل فتاة، ولن
نحول حقائب فتياتنا لترسانة من الصواعق والدبابيس..
وإن فعلنا كل
ذلك فلن يتحقق الأمان؛ لأن الأمان الحقيقي يأتي من شعور الفرد من أنه يعيش
في مجتمع مليء بالحب والاحترام لا الخصومة والترقب، وهذا يحتاج لإعادة
تربية المجتمع من جديد، يحتاج للتغيير لا للترقيع، يحتاج لعودة كل فرد إلى
مكانه الذي تركه, وقيامه بدوره الذي أهمله، وإن بدا هذا الحل بطيئًا ولكنه
أكيدًا، وكما استغرق الانحدار وقتًا، يحتاج الإصلاح وقتًا وصدقًا وإخلاصًا
وعزيمةً.
المصدر : موقع قصة الاسلام
[1] رواه البخاري.
[2] حسنه الألباني في صحيح الجامع.
معتز عبد الرحمن
قرأت مؤخرًا خبرًا عن تدشين موقع عن ظاهرة التحرش، قرأت عن الموقع
وأهدافه, والتي ينحصر معظمها في تحديد الأماكن التي يكثر فيها التحرش
لمساعدة رجال الأمن في تأمينها، وفي تقديم المساعدة النفسية والقانونية
للضحايا, وتعليمهم كيفية الدفاع عن النفس ضد التحرش, وكيفية عمل محضر
شرطة... إلخ.
وبعد تأملي في الخبر وفي الموقع قفزت إلى ذهني أحداث
هجوم القرش على السياح في شرم الشيخ -الهجوم الأول- والذي تعاملنا معه بنفس
الطريقة، فقد تم القبض على سمكتي قرش قيل حينها أنهما المتسببتان في
الهجوم وعادت الأمور إلى مجاريها، ليعود الفك المفترس مرة أخرى ليقتل سائحة
ألمانية, ليعلن للجميع أن أمراض "تغير السلوك" لا تعالج بالقمع الأمني
والقانوني وحسب, وأنه لا بد للباحث عن العلاج أن يعالج أسباب المرض لا
أعراضه، وهذا ما توصل له الخبراء بعد الهجوم الثاني, إذ أثبتوا أن تغير
سلوك القرش لم يكن وليد اللحظة, بل كان نتيجة لأسباب ومتغيرات تتراكم منذ
فترة -مثل الصيد الجائر وسلوكيات السائحين الخاطئة..
فبالتالي علاجها
يحتاج لوقت وجدية لإعادة تقويم السلوك ولا يصلح معه القمع والاستئصال،
وكذلك حال شبابنا فتغير سلوكهم لم يكن وليد اللحظة وليس ظاهرة مفاجئة،
وعلاجه لا يكون فقط بعمل محاضر للشرطة وسن القوانين، بل لا بد أن ينتج عن
خطة واضحة لتقويم السلوك والقضاء على الأسباب التي أدت إلى ذلك.
ضحايا غير بريئة
إن
هذه الظاهرة القديمة الحديثة -التي بدأ طرحها يزداد مع ازدياد حوادث
التحرش الجماعي خاصة- تعاني من فقر شديد في تناول أساليب العلاج، والسبب في
ذلك هو وجود تحيز مسبق عند المعالج لأحد الطرفين، فبين فريق يرى أن الشباب
معذور وأن الفتيات هن الشيطان الأعظم وأن ما يحدث لهن جزاءً وفاقًا، وبين
متحيز مطلق للفتيات, وأنهن بريئات تمامًا وليس لهن أي دور أو جريرة وأن
الشباب هم الذئاب، وهذا الاتجاه هو الغالب في هذه الأيام، حتى أني عندما
قرأت عن تنظيم وقفة احتجاجية ضد التحرش كتب على لافتاتها: "لا للخوف
هنتكلم، هنفضحهم، هنسجنهم".
وقرأت عن اقتراح أن تحمل كل فتاة "صاعق
كهربي" تصعق به كل شاب تشك فيه، شعرت وكأن هؤلاء الشباب من جيش الاحتلال
الإسرائيلي وليسوا من أبناء مجتمعنا ووطننا، بل وربما يكون هذا الشاب وهذه
الفتاة من أبناء بيت وأسرة واحدة، وهذا ما ينبغي الالتفات إليه، أن هذا
ابني كما أن هذه ابنتي، وهذه أختي كما أن هذا أخي، وهذه أول خطوات العلاج،
أن تدرس المشكلة من الطرفين سواء، وأن يعامل كل منهما على أنه "ضحية غير
بريئة" جاني ومجني عليه في آن واحد، فندفع عنه ما ليس له فيه يد، ونقومه
ونحاسبه على ما في استطاعته، أما المتهمون الحقيقيون فستعلمهم تباعًا خلال
الأسطر القادمة.
1+1=2
خلق الله الإنسان وجعل فيه غرائز
ونزعات، منها وعلى رأسها ميل الرجل للمرأة وميل المرأة للرجل، وهذا الميل
هو سبب بقاء البشرية على الأرض وعدم انقراضها إلى الآن، وهذه الغريزة شأنها
شأن كل غريزة إن لم توجه وتقنن صارت وبالاً على أصحابها، وصارت نقمة لا
نعمة، لذا شرع الله لعباده الزواج وجعله آية من آياته، وحفظًا ووقاية، بل
وعبادة يثاب عليها المسلم، وأمر أولياء الأمور بتخفيف المهور وتيسير
الزواج، وأمر الشباب والفتيات بغض البصر؛ حفظًا لقلوبهم وتسكينًا
لغرائزهم..
وأمر النساء بالحجاب وجعل له شروطًا، ونهى عن الاختلاط،
وأمر غير القادر على الزواج بالاستعفاف والصوم، ونهى عن كل ما يؤدي
للفاحشة, وتوعد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأمر الآباء
والأمهات بحسن تربية الأولاد, وأن يقي كل إنسان نفسه وأهله نارًا وقودها
الناس والحجارة، كل هذه الأمور وغيرها جعلها الله أمانًا للمجتمع من
الانحدار السلوكي والخلقي.
وهي أمور كلها تتسم بالواقعية ومقبولة
عقلاً؛ إذ إن الوقاية دومًا خير من العلاج، وهذه الواقعية هي شأن كل فروع
وأوامر الشريعة الإسلامية، إذ إن الذي شرع هو الذي خلق، والذي خلق خبير
بطبيعة خلقه وما يصلحهم، لطيف بهم يريد لهم الخير في دنياهم وأخراهم, {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
لذا
فما نراه الآن هو نتيجة طبيعية لكسر كل صمامات الأمان في المجتمع، مثل
تعسير الزواج وغلاء الأسعار والمهور ورفع سن الزواج، وإطلاق الشباب
والفتيات أبصارهم وأبصارهن ليس في الشارع فقط، بل في الأفلام والكليبات
والإنترنت، ومثل انتشار التبرج و "الحجاب المتبرج"، والاختلاط والتبسط
الزائد بين الشباب والفتيات والخضوع بالقول، والأفلام والمسلسلات والبرامج
المليئة بالمواضيع والتلميحات والإفيهات التي لا تخدش الحياء فحسب, بل
تمزقه تمزيقًا، وقتل نزعة التدين ومراقبة الله في الشباب، واستقالة كثير من
الآباء والأمهات من وظيفتهم التربوية وتنازلهم عنها للإعلام والشارع
والأصدقاء.
كل هذه الأمور تكسر صمامات الأمان والاحترام, وتنطلق هذه
الغريزة بلا ضوابط وينتج عنها التحرش والاغتصاب والزواج العرفي، بل وينتج
عنها التحرش "الإرادي" الذي يشكو منه كورنيش النيل والبحر المتوسط, والذي
لا بد أن يحارب ويعالج هو الآخر؛ لأنه ليس أقل خطورة.
أما هذه
العبارات التي يروج لها الآن, كالتي خرجت تقول: "من حقي ألبس زي ما أنا
عايزة من غير ما حد يتحرش بيا أو يتعرض ليا", فهذا كلام غير منطقي؛ لأنه
يستحيل أن ألقي النار على البنزين وأطلب منه ألا يشتعل، ومن أدلة ذلك أن في
أثناء تصوير مشهد تحرش جماعي في أحد الأفلام، انقلب التمثيل إلى حقيقة,
ولم يستطع أحد السيطرة على الشباب الممثلين، والسبب ببساطة أن 1+1=2،
والاستثناء لا يقدر عليه كل أحد.
ولذلك فالشاب العفيف في السبعة
الذين يظلهم الله في ظله, يوم لا ظل إلا ظله، بل إن نبي الله يوسف -رمز
العفاف- فضل السجن على البقاء في هذا الاختبار, {قَالَ
رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ
تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ
الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33].
قبل أن يتحرشوا بالمحتشمة
سؤال
يزداد طرحه هذه الأيام، إذا كان ترك الاحتشام سببًا للتحرش، فلِمَ تتعرض
المحتشمات للتحرش؟ والإجابة في نقطتين: أولاً: ما هو تعريف الاحتشام
والحجاب؟ لأننا -وللأسف- اختصرنا الحجاب في قطعة قماش تغطي الرأس أو بعضه،
وسمينا هذا حجابًا، وصرنا نرى في ملابس المنتسبات للحجاب ما هو أقل
احتشامًا من غير المحجبات، فكما أن لكل عبادة شروطًا وأحكامًا, للحجاب شروط
وأحكام قلما تجدها مجتمعة في امرأة محجبة, بل حتى بعض المنتقبات لا يلتزمن
بها..
فمن شروط الحجاب, "أن يكون ساترًا لجميع البدن -على خلاف في
الوجه والكفين بين وجوب تغطية الوجه أو استحبابه- وألا يكون زينة في ذاته
ملفتًا للنظر، وأن يكون سميكًا لا يشف، واسعًا لا يصف، ألا يكون معطرًا،
ألا يكون به تشبه بالرجال أو غير المسلمات، وألا يكون ثوب شهرة وتميز".
فإذا
كانت هذه هي الشروط, فسأتركك أنت تحدد كم هي نسبة المحجبات الحقيقيات في
مصر؟ أما النقطة الثانية أنه ليس من العجيب أن يصل التحرش للمحتشمات؛ لأن
الفساد وأمراض المجتمعات عندما تعم لا تفرق بين الصالح والطالح {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].
وقال رسول الله [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]: "مثل
القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب
بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء
مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من
فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا
ونجوا جميعًا"[1]؛
فنجاة سفينة المجتمع مسئوليتنا جميعًا، وعلى الجميع التحرك لإنقاذها؛ لذلك
فالعفيف لا يتوقف دوره على كونه عفيفًا في نفسه, بل لا بد أن ينصح ويسعى
ويساهم في الحل، والمحتشمة لا يقف دورها على احتشامها ومحافظتها, بل لا بد
أن تنصح وتسعى وتشارك في الحل..
والأب المربي المحافظ على أولاده وبناته لا بد أن ينصح ويسعى ويشارك في الحل، قال رسول الله [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم"[2].
بطيء لكن أكيد
وأخيرًا،
هذا الكلام ليس تبريرًا لما يحدث، وليس مطالبة بوقف معاقبة المخطئ, وليس
إنكارًا لأهمية الدور الأمني والقانوني، فكلها بلا شك أمور ضرورية وعاجلة،
ولكنه دعوة لدراسة الموضوع بشكل أعمق وتناوله بشكل أشمل ودعوة للتكاتف
والتكامل والإيجابية لحل هذه المشكلة؛ لأننا لن نعين شرطيًّا لكل فتاة، ولن
نحول حقائب فتياتنا لترسانة من الصواعق والدبابيس..
وإن فعلنا كل
ذلك فلن يتحقق الأمان؛ لأن الأمان الحقيقي يأتي من شعور الفرد من أنه يعيش
في مجتمع مليء بالحب والاحترام لا الخصومة والترقب، وهذا يحتاج لإعادة
تربية المجتمع من جديد، يحتاج للتغيير لا للترقيع، يحتاج لعودة كل فرد إلى
مكانه الذي تركه, وقيامه بدوره الذي أهمله، وإن بدا هذا الحل بطيئًا ولكنه
أكيدًا، وكما استغرق الانحدار وقتًا، يحتاج الإصلاح وقتًا وصدقًا وإخلاصًا
وعزيمةً.
المصدر : موقع قصة الاسلام
[1] رواه البخاري.
[2] حسنه الألباني في صحيح الجامع.