الوصية
ضوابط وأحكام
عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
المملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
فهرس الموضوعات
المقدمة
تعريف الوصية
دليل مشروعية الوصية
الحكمة من مشروعيتها
حكم الوصية
1)الوصية الواجبة
2)الوصية المستحبة
3)الوصية المكروهة
4)الوصية المحرمة
5)الوصية المباحة
حكم تنفيذ الوصية
متى يشرع تنفيذ الوصية
الإضرار بالوصية
أركان الوصية
الشروط المعتبرة فيه
تنبيهات في الموصي
التنبيه الأول
التنبيه الثاني
الركن الثاني:-الموصى له
المراد به
الشروط المعتبرة فيه
التنبيه على هذا الركن
الركن الثالث:-الموصى به
تعريفه
الشروط المعتبرة في الموصى به
الركن الرابع:-الموصى إليه
تعريفه / الشروط المعتبرة فيه
التنبيه على هذا الركن
التنبيه الأول
التنبيه الثاني
التنبيه الثالث
مبطلات الوصية
الأمور المعتبرة في إثبات الوصية
أولاً:-الكتابة
ثانياً:-الإشهاد
الشروط المعتبرة في شاهدي الوصية
حكم الرجوع في الوصية
المسائل العامة في الوصية
المسألة الأولى:-في حكم الوصية للوارث
المسألة الثانية:-إذا أسقط عن من يرثه
ديناً أو أوصى بقضاء ما عليه من ديون
المسألة الثالثة:-الوصية لابن البنت
هل تصح
المسألة الرابعة:-إن أوصى لغير وارث
بأكثر من الثلث.
المسألة الخامسة:-إن أوصى لغير وارث
بأكثر من الثلث فأجاز الورثة قبل الموت ثم رجعوا بعد موته.
المسألة السادسة إذا مات الموصى له
قبل موت الموصي فما الحكم.
المسألة السابعة:-أيهما أفضل الوصية
بالثلث أم الأقل منه
المسألة الثامنة:-من كان في ذمته شيء
لزوجته فأوصى بذلك.
المسألة التاسعة:-من أوصى لأولاده
بسهام مختلفة وأشهد على ذلك.
المسألة العاشرة:-طريقة كتابة الوصية
المسألة الحادية عشرة من توفي وعليه
دين لمن تنتقل التركة.
المسألة الثانية عشرة:-إذا توفي الوصي
هل
يشرع إقامة غيره.
المسألة الثالثة عشرة:-في استثمار
أموال الوصايا وضوابطها الشرعية.
الضابط الأول
الضابط الثاني
الضابط الثالث
الضابط الرابع
بعض الأمور المتعلقة بهذه المسألة:-
الأمر الأول
الأمر الثاني
الأمر الثالث
الأمر الرابع
المسألة الرابعة عشرة: حكم زكاة
الموصى به
المسألة الخامسة عشرة: حكم الوصية
بتعيين من يصلي عليه إذا مات.
بعض الأمور المتعلقة بهذه المسألة:-
الأمر الأول: إذا كان الوصي فاسقاً.
الأمر الثاني:الأحق بالصلاة على الوصي
بالمسجد
المسألة السادسة عشرة: حكم المال المستفاد
للوصية قبل الموت وبعد تحديد الوصية.
المسألة السابعة عشرة: في الوصية
المطلقة والوصية المقيدة.
المسألة الثامنة عشرة: إذا أوصى
الرجلين فمن الأحق بها.
المسألة التاسعة عشرة: في حكم الوصية
بالنكاح
المسألة العشرون: هل يحق للموصي تزويج
ولد الموصي قبل بلوغه.
المسألة الحادية والعشرون: حكم نظر
الحاكم أو القاضي في الأوصياء.
المسألة الثانية والعشرون: في حكم
شهادة الوصي على الموصي عليهم أو شهادته لهم.
المسألة الثالثة والعشرون: حكم مال من
أُحيل إلى التقاعد ثم مات.
المسألة الرابعة والعشرون:هل يحق لمن
حضر مريضاً في مرض الموت أن يقول له أوص بمالك.
المسألة الخامسة والعشرون: في حكم
جواز جعل المرأة وصياً.
المسألة السادسة والعشرون: إذا تنازل
الورثة للميت عن حقهم
المسألة السابعة والعشرون: إذا أوصى
الموصي بأن ماله له ولعياله وعيال عياله
المسألة الثامنة والعشرون: إذا أوصى
لشخص ثم أوصى لآخر ومن دون ذكر هذا الشخص
المسألة التاسعة والعشرون: إذا أوصى
الموصي لشخص وأولاده محتاجون
المسألة الثلاثون: إذا قال الموصي
للموصى له تصرف في مالي كيف شئت
المسألة الحادية والثلاثون: من مات
ولم يوصي
المسألة الثانية والثلاثون: فيما إذا
أوصى بأمر مبتدع فأين يصرف ماله.
المسألة الثالثة والثلاثون: إذا أوصى
بمنع بعض أولاده من الإرث.
المسألة الرابعة والثلاثون: إذا أوصى
بذبح شاة إذا مات.
المسألة الخامسة والثلاثون: في ذكر
بعض الوجوه التي تصرف بها الوصية.
المسألة السادسة والثلاثون: في
قوله-تعالى-:((من بعد وصية يوصي بها أو دين)).
المسألة السابعة والثلاثون: إذا أوصى
بأن يحج عنه.
المسألة الثامنة والثلاثون: إذا أوصى
بسهم ولم يعين هذا السهم.
المسألة التاسعة والثلاثون: هل يؤجر
الوصي إذا قبل الوصية
.
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا
هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ).آل عمران آية (102).
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً
كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تساءلون بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).النساء آية (1)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً) الأحزاب آية (70)
أما بعد:-
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي
هدي محمد-صلى الله عليه وسلم-
وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة
وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وما قل وكفى خير مما كثر وألهى وإنما توعدون
لآت وما أنتم بمعجزين.
إن من محاسن شريعتنا أن شرعت لأهلها
ما ينفعهم ديناً ودنياً ليس هذا حال كونهم أحياء بل شرعت لهم ما ينفعهم بعد موتهم
حرصاً منها على إيصال النفع الذي به يصلون إلى أرفع الدرجات فإذا كانت صحيفة العبد
تطوى بعد موته فإن هناك من لم تطو صحائف أعمالهم بعد موتهم بل هناك حسنات ترصد
وتكتب لهم بعد موتهم وهذا من فضل الله -سبحانه وتعالى-.
وإن من أعظم ما شرعته هذه الشريعة
الغراء لأتباعها الوصية فقد حثت عليها ورغبت فيها وحينما شرعت ذلك حذرت من الغلو
فيها والإضرار بها بل بينت أن خير الأمور أوسطها فمن حاد عن الوسط فهو على خطر عظيم.
ولما كانت الوصية لها دورها الفعال في
حياة الناس ويكثر السؤال عنها وعن بعض المسائل المتعلقة بها جعلت هذه الرسالة
القليلة الحجم لكي يستفاد منها وقد كانت بدايتها خطبة جمعة ألقيتها في جامع )
العذل ( عبد الله بن مسعود في عام 1420هـ وألح علي بعض من حضروا الخطبة بنشرها على
شكل مطوية لكنني فضلت أن أضيف إليها لتكون رسالة صغيرة لعل الله أن ينفع بها
كاتبها وقارئها كما أسأله سبحانه أن يعظم الأجر لصاحب الاقتراح الذي دفعني
لإخراجها فكان سبباً لبث العلم ونشره في المجتمع وقد بحثت مسائل ذات أهمية بالغة
في الوصية منها:
تعريف الوصية – أدلة مشروعيتها –
الحكمة من تشريعها – حكمها – حكم تنفيذها – الإضرار في الوصية.
أركان الوصية:-
الركن الأول:-الموصي.
الركن الثاني:-الموصى له.
الركن الثالث:-الموصى به.
الركن الرابع:-الموصى إليه.
مبطلات الوصية،الأمور المعتبرة في
إثبات الوصية،حكم الرجوع في الوصية.
المسائل الهامة في الوصية ومن هذه
المسائل:-
مسألة في طريقة كتابة الوصية-مسألة في
حكم الزكاة في المال الموصى به-مسألة في استثمار أموال الوصايا وضوابطه
الشرعية-حكم المال المستفاد بعد تعيين الوصية.
وهناك مسائل أخرى هامة في موضوعها
أسأل الله-تعالى-بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما
ينفعنا وأن يجعل ما تعلمناه حجة لنا لا علينا إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
والمرجو والمؤمل ممن قرأ هذه الرسالة
ألا يحرمنا من ملاحظاته واقتراحاته وله مني الدعاء والمثوبة والأجر من رب العالمين
إن شاء الله-تعالى-.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين.
تعريفها:
في اللغة:-مأخوذة من وصيت الشيء إذا
وصلته سميت بذلك لأنها وصل لما كان في الحياة بعد الموت(
).
أما في الشرع:-فقد اختلفت عبارات
الفقهاء فيها:-
فقال بعض العلماء / الوصية هي هبة
الإنسان غيره عيناً أو ديناً أو منفعة على أن يملك الموصى له الهبة بعد الموت( ).
أو بعبارة أخرى:-هي التبرع بالمال بعد
الموت.
وهناك أقوال أخرى في تعريفها وإن كانت
كلها تؤدي إلى معنى واحد هذا المعنى يتمثل في كونها((تمليك مضاف إلى ما بعد الموت
بطريقة التبرع))
( ).
ومن هذا التعريف يتبين لنا الفرق بين
الوصية والهبة.
فالتمليك المستفاد من الهبة يثبت في
الحال أما التمليك المستفاد من الوصية فلا يثبت إلا بعد الموت.
ومن الفروق بين الهبة والوصية أن
الهبة لا تكون إلا بالعين.والوصية تكون بالعين وبالدين وبالمنفعة.
دليل مشروعية الوصية:-
جاءت نصوص الكتاب والسنة على مشروعية
الوصية وعلى مشروعيتها انعقد إجماع الأمة:-
أما دليل الكتاب:-
فقول الله تعالى-(كتِبَ عليكم إذا حضر
أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين) ( ).
وقوله-تعالى-(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ)(
).
وقال أيضاً ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ
الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ
) ( ).
أما دليل مشروعيتها من السنة:-
ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر-رضي
الله عنهما-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-((ما حق امرئ مسلم له شئ يوصى
فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده قال ابن عمر: ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت
رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول ذلك إلا وعندي وصيتي))
( ).
أما عن الإجماع فقد نقل ابن قدامة في
المغني الإجماع على جواز الوصية حيث قال.((وأجمع العلماء في جميع ال**ار والأعصار
على جواز الوصية))
( ).
تمهيد:
مما ينبغي التنبيه عليه أن
الله-تعالى-حينما تعبدنا بما أمرنا به فقد يبين لنا الحكمة من هذا الأمر أو هذا
النهي وهذا موجود في كتاب الله-تعالى-كثير وقد لا يبين الحكمة في بعض الأوامر أو
في بعض المنهيات لكن ليس معنى ذلك أننا نتوقف في فعل ما أمرنا به لعدم بيان الحكمة
بل نقوم بفعله وإن لم تظهر لنا الحكمة من تشريعه.
ولما كانت الوصية من هذا النوع الأخير
التي لم تأت نصوص الكتاب والسنة في بيان الحكمة من تشريعها أحببت أن أنبه على هذا
الجانب فلو لم تظهر للبعض الحكمة من تشريعها فإن التشريع لها باقٍ مع العلم بأنه
من نظر بعين البصيرة والفقه في الوصية وجد الكثير من جوانب الحكمة في تشريعها.
فمن هذه الجوانب:-
(1) قال الله-تعالى-عن يعقوب عليه السلام:-
(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ
قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ
آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
البقرة آية (133).
فهذه وصية من يعقوب لأبنائه بالتمسك
بعبادة الله وحده لا شريك له فهذه وصية جامعة للموصي والموصى إليه بل هي من أنفع
الوصايا على الإطلاق وللأسف غفل الكثير عن هذه الوصية ونظروا لما هو دونها في
النفع فهي وصية الأولين والآخرين لأبنائهم وأتباعهم بل هي وصية رب العالمين لعباده
فمما ينبغي التفطن له أن يوصي أحدنا
أولاده إذا حضرته الوفاة بما وصى به يعقوب أولاده لكي يثبتوا عليه حتى يلقوا ربهم
سبحانه و-تعالى-.
(2) ومن الحكمة في تشريعها أنها تبرأ بها ذمة الموصي مما يحدث بعد موته
وبخاصة إذا كان في أماكن يكثر فيها الجهل بعقيدة التوحيد فالموصي يوصي أولاده مثلاً
وكذا أقاربه ببراءته من الحالقة والشاقة واللاطمة وكذا براءته من دعوى الجاهلية
الممقوتة فإذا وصى الموصي بعدم شق الجيوب ولطم الخدود وحلق الرؤوس وغيرها من
الأمور المنهية شرعاً فإنه ينجو من عذاب القبر فإن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال((إن
الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)) والمراد بالبكاء هنا هو المصحوب بما ذكرناه آنفاً
فإذا وصى بعدم هذه الأشياء وبراءته منها نجا بلا شك من عذاب القبر.
(3) ومن حكمها أنها عمل ينتفع به الميت بعد موته فلو أن أحد
الموصين أوصى بعمل خيري دائم النفع فهذا بلا شك ينتفع به الميت فهو رصيد دائم يزيد
له في حسناته بعد مماته.
قال-صلى الله عليه وسلم-((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم
ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)).
(4) ومن حكمها أنها أبرأ للذمة وعدم انشغالها بالديون التي على
الموصي وفيها الحفاظ على مال الدائن وبراءة ذمة المدين وبهذا تظهر الحكمة بأن حقوق
الآدميين محفوظة حتى وإن مات من عليه الدين
.
(5) ومن حكمها أنها حماية للأموال ورعاية للقصر فلو أن رجلاً مات
وترك ثروة مالية للورثة وبين هؤلاء الورثة قُصّر لا يحسنون التصرف في أموالهم وقد
أوصى هذا الرجل بأن يكون زيد من الناس وصياً على أولاده فإن هذا الوصي يقوم مقام
والدهم فيحافظ على هؤلاء القصر ويحافظ على أموالهم.
(6) ثم إنها صدقة تصدق الله بها على الموصي بعد وفاته فينبغي إذا
كان صاحب مال ألا يحرم نفسه من الخير.
حكم الوصية:
يدور حكم الوصية بين الإيجاب
والاستحباب والكراهة والتحريم.
(1) الوصية الواجبة:-
تجب الوصية إذا كان على الإنسان دين
لا بينة به أي أنه يكون مديناً ولا أحد يعلم إلا الله والموصي وصاحب الدين هنا تجب
الوصية لأن وفاء الدين واجب ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وكذا تجب الوصية للأقربين الذين ليس
لهم حق في الإرث وكانوا فقراء والموصي غني فهنا تجب عليه الوصية لهؤلاء الأقارب.
دليل ذلك قوله-تعالى-((كتب عليكم إذا
حضر أحدكم الموت إن ترك خيراًُ الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على
المتقين)) ( ).
قال العلامة ابن سعدي-رحمه
الله-تعالى-في تفسيره لهذه الآية:-
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ) أي فرض الله عليكم يا معشر المؤمنين (إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ) أي أسبابه كالمرض المشرف على الهلاك وحضور أسباب المهالك
وكان قد(تَرَكَ خَيْراً) وهو المال الكثير عرفاً فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب
الناس إليه بالمعروف على قدر حاله من غير سرف ولا اقتصار على الأبعد دون الأقرب بل
يرتبهم على القرب والحاجة ولهذا أتى بأفعل التفضيل.
وقوله(حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) دل
على وجوب ذلك لأن الحق هو الثابت وقد جعله الله من موجبات التقوى.
واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه
الآية منسوخة بآية المواريث وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين
مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل والأحسن في هذا أنه يقال أن هذه الوصية
للوالدين والأقربين مجمله ردها الله -تعالى- إلى العرف الجاري، ثم إن الله -تعالى-
قدر للوالدين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آية المواريث بعد أن كان
مجملاً.
إلى أن قال-رحمه الله-:
ويبقى الحكم فيمن لم يرثوا من
الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما من حجب شخص أو وصف فإن الإنسان مأمور بالوصية
لهؤلاء وهم أحق الناس ببره.
وهذا القول تتفق عليه الأمة ويحصل به
الجمع بين القولين المتقدمين لأن كلاً من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظاً واختلف
المورد.
فهذا الجمع يحصل الاتفاق بين الآيات
فإن أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ الذي لم يدل عليه دليل صحيح( ) فالصحيح
وجوب الوصية للأقارب غير الوارثين.
(2) الوصية المستحبة:-
ونعني بها الوصية المسنونة وهي التي
كان فيها الموصي ذا مال وكذا ورثته أغنياء وكذا أقاربه لا حاجة لهم بالمال فهنا
يستحب الوصية بما يراه الموصي نفعاً له بعد موته.
(3) الوصية المكروهة:-
وتكون هذه الوصية إذا كان مال الموصي
قليلاً وورثته محتاجون لأنه في هذه الحالة ضيق على الورثة ولذا قال رسول الله-صلى
الله عليه وسلم-لسعد-رضي الله عنه-((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة
يتكففون الناس))(
).
(4)الوصية المحرمة:-
ونعني بها مالا تجوز ويأثم صاحبها وهي
نوعان:-
الأول:-ما زاد على الثلث لورود النهي
عنه في حديث سعد رضى الله عنه المتقدم
( ).
الثاني:-إذا كانت لوارث.
فإن هذا معصية لله ورسوله-صلى الله
عليه وسلم-.
قال-تعالى-بعد ذكر آيات
المواريث:(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ
نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)
( ).
وقال-صلى الله عليه وسلم-((لا وصية
لوارث)) ( ).
(5) الوصية المباحة:
وهي ماعدا ذلك من الوصايا المتقدمة
كأن يكون الموصي ماله قليل وورثته غير محتاجين أو ماله كثير جداً وورثته محتاجون
فهنا تباح الوصية.
حكم تنفيذ الوصية:
يغفل كثير ممن أوصي إليهم عن حكم
تنفيذ ما أسند إليهم في الوصية وأحياناً لايبالون بها وهذا خطأ فحكم تنفيذ الوصية
واجب يأثم الموصى إليه بعدم تنفيذها أو تأخيرها إن كانت محددة بوقت فعلى من كان
وصياً على شيء أن ينتبه لهذا الحكم.
متى يشرع تنفيذها:
يشرع تنفيذ الوصية إذا مات الموصي فإن
كانت هذه الوصية حالّة بمعنى أنها في أمر يكون بعد موته مباشرة فهنا يجب في الحال
تنفيذها كأن يكون أوصى بعدم ارتكاب مخالفات شرعية عند موته فهنا يجب على الوصي
القيام بما أوصي به وإن كانت في أمور مالية فهنا يشرع تنفيذها أيضاً بعد موت
الموصي وعلى حسب ما تقتضيه الحاجة.
الإضرار بالوصية:
الإضرار بالوصية يكون من قبل الموصي
ويكون من قبل الموصى إليه.
فالإضرار بها بأن يوصي بأكثر من الثلث
أو يوصي لغير الوارثين مع كونهم محتاجين وهذا على نحو ما ذكرناه في أحكام الوصية.
ومن الإضرار بها أيضاً تفضيل بعض
الورثة على بعض أو إخراج المال مضارة بالورثة ونحوه أما الإضرار بالوصية من قبل
الموصى إليه فيكون بإهمالها وعدم القيام بحقها أو يتصرف فيها بما ليس فيه مصلحتها
بل فيه إفساد لها أو نقص منها ونحوه فهذا إضرار بالوصية.
ضوابط وأحكام
عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
المملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
فهرس الموضوعات
المقدمة
تعريف الوصية
دليل مشروعية الوصية
الحكمة من مشروعيتها
حكم الوصية
1)الوصية الواجبة
2)الوصية المستحبة
3)الوصية المكروهة
4)الوصية المحرمة
5)الوصية المباحة
حكم تنفيذ الوصية
متى يشرع تنفيذ الوصية
الإضرار بالوصية
أركان الوصية
الشروط المعتبرة فيه
تنبيهات في الموصي
التنبيه الأول
التنبيه الثاني
الركن الثاني:-الموصى له
المراد به
الشروط المعتبرة فيه
التنبيه على هذا الركن
الركن الثالث:-الموصى به
تعريفه
الشروط المعتبرة في الموصى به
الركن الرابع:-الموصى إليه
تعريفه / الشروط المعتبرة فيه
التنبيه على هذا الركن
التنبيه الأول
التنبيه الثاني
التنبيه الثالث
مبطلات الوصية
الأمور المعتبرة في إثبات الوصية
أولاً:-الكتابة
ثانياً:-الإشهاد
الشروط المعتبرة في شاهدي الوصية
حكم الرجوع في الوصية
المسائل العامة في الوصية
المسألة الأولى:-في حكم الوصية للوارث
المسألة الثانية:-إذا أسقط عن من يرثه
ديناً أو أوصى بقضاء ما عليه من ديون
المسألة الثالثة:-الوصية لابن البنت
هل تصح
المسألة الرابعة:-إن أوصى لغير وارث
بأكثر من الثلث.
المسألة الخامسة:-إن أوصى لغير وارث
بأكثر من الثلث فأجاز الورثة قبل الموت ثم رجعوا بعد موته.
المسألة السادسة إذا مات الموصى له
قبل موت الموصي فما الحكم.
المسألة السابعة:-أيهما أفضل الوصية
بالثلث أم الأقل منه
المسألة الثامنة:-من كان في ذمته شيء
لزوجته فأوصى بذلك.
المسألة التاسعة:-من أوصى لأولاده
بسهام مختلفة وأشهد على ذلك.
المسألة العاشرة:-طريقة كتابة الوصية
المسألة الحادية عشرة من توفي وعليه
دين لمن تنتقل التركة.
المسألة الثانية عشرة:-إذا توفي الوصي
هل
يشرع إقامة غيره.
المسألة الثالثة عشرة:-في استثمار
أموال الوصايا وضوابطها الشرعية.
الضابط الأول
الضابط الثاني
الضابط الثالث
الضابط الرابع
بعض الأمور المتعلقة بهذه المسألة:-
الأمر الأول
الأمر الثاني
الأمر الثالث
الأمر الرابع
المسألة الرابعة عشرة: حكم زكاة
الموصى به
المسألة الخامسة عشرة: حكم الوصية
بتعيين من يصلي عليه إذا مات.
بعض الأمور المتعلقة بهذه المسألة:-
الأمر الأول: إذا كان الوصي فاسقاً.
الأمر الثاني:الأحق بالصلاة على الوصي
بالمسجد
المسألة السادسة عشرة: حكم المال المستفاد
للوصية قبل الموت وبعد تحديد الوصية.
المسألة السابعة عشرة: في الوصية
المطلقة والوصية المقيدة.
المسألة الثامنة عشرة: إذا أوصى
الرجلين فمن الأحق بها.
المسألة التاسعة عشرة: في حكم الوصية
بالنكاح
المسألة العشرون: هل يحق للموصي تزويج
ولد الموصي قبل بلوغه.
المسألة الحادية والعشرون: حكم نظر
الحاكم أو القاضي في الأوصياء.
المسألة الثانية والعشرون: في حكم
شهادة الوصي على الموصي عليهم أو شهادته لهم.
المسألة الثالثة والعشرون: حكم مال من
أُحيل إلى التقاعد ثم مات.
المسألة الرابعة والعشرون:هل يحق لمن
حضر مريضاً في مرض الموت أن يقول له أوص بمالك.
المسألة الخامسة والعشرون: في حكم
جواز جعل المرأة وصياً.
المسألة السادسة والعشرون: إذا تنازل
الورثة للميت عن حقهم
المسألة السابعة والعشرون: إذا أوصى
الموصي بأن ماله له ولعياله وعيال عياله
المسألة الثامنة والعشرون: إذا أوصى
لشخص ثم أوصى لآخر ومن دون ذكر هذا الشخص
المسألة التاسعة والعشرون: إذا أوصى
الموصي لشخص وأولاده محتاجون
المسألة الثلاثون: إذا قال الموصي
للموصى له تصرف في مالي كيف شئت
المسألة الحادية والثلاثون: من مات
ولم يوصي
المسألة الثانية والثلاثون: فيما إذا
أوصى بأمر مبتدع فأين يصرف ماله.
المسألة الثالثة والثلاثون: إذا أوصى
بمنع بعض أولاده من الإرث.
المسألة الرابعة والثلاثون: إذا أوصى
بذبح شاة إذا مات.
المسألة الخامسة والثلاثون: في ذكر
بعض الوجوه التي تصرف بها الوصية.
المسألة السادسة والثلاثون: في
قوله-تعالى-:((من بعد وصية يوصي بها أو دين)).
المسألة السابعة والثلاثون: إذا أوصى
بأن يحج عنه.
المسألة الثامنة والثلاثون: إذا أوصى
بسهم ولم يعين هذا السهم.
المسألة التاسعة والثلاثون: هل يؤجر
الوصي إذا قبل الوصية
.
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا
هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ).آل عمران آية (102).
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً
كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تساءلون بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).النساء آية (1)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً) الأحزاب آية (70)
أما بعد:-
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي
هدي محمد-صلى الله عليه وسلم-
وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة
وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وما قل وكفى خير مما كثر وألهى وإنما توعدون
لآت وما أنتم بمعجزين.
إن من محاسن شريعتنا أن شرعت لأهلها
ما ينفعهم ديناً ودنياً ليس هذا حال كونهم أحياء بل شرعت لهم ما ينفعهم بعد موتهم
حرصاً منها على إيصال النفع الذي به يصلون إلى أرفع الدرجات فإذا كانت صحيفة العبد
تطوى بعد موته فإن هناك من لم تطو صحائف أعمالهم بعد موتهم بل هناك حسنات ترصد
وتكتب لهم بعد موتهم وهذا من فضل الله -سبحانه وتعالى-.
وإن من أعظم ما شرعته هذه الشريعة
الغراء لأتباعها الوصية فقد حثت عليها ورغبت فيها وحينما شرعت ذلك حذرت من الغلو
فيها والإضرار بها بل بينت أن خير الأمور أوسطها فمن حاد عن الوسط فهو على خطر عظيم.
ولما كانت الوصية لها دورها الفعال في
حياة الناس ويكثر السؤال عنها وعن بعض المسائل المتعلقة بها جعلت هذه الرسالة
القليلة الحجم لكي يستفاد منها وقد كانت بدايتها خطبة جمعة ألقيتها في جامع )
العذل ( عبد الله بن مسعود في عام 1420هـ وألح علي بعض من حضروا الخطبة بنشرها على
شكل مطوية لكنني فضلت أن أضيف إليها لتكون رسالة صغيرة لعل الله أن ينفع بها
كاتبها وقارئها كما أسأله سبحانه أن يعظم الأجر لصاحب الاقتراح الذي دفعني
لإخراجها فكان سبباً لبث العلم ونشره في المجتمع وقد بحثت مسائل ذات أهمية بالغة
في الوصية منها:
تعريف الوصية – أدلة مشروعيتها –
الحكمة من تشريعها – حكمها – حكم تنفيذها – الإضرار في الوصية.
أركان الوصية:-
الركن الأول:-الموصي.
الركن الثاني:-الموصى له.
الركن الثالث:-الموصى به.
الركن الرابع:-الموصى إليه.
مبطلات الوصية،الأمور المعتبرة في
إثبات الوصية،حكم الرجوع في الوصية.
المسائل الهامة في الوصية ومن هذه
المسائل:-
مسألة في طريقة كتابة الوصية-مسألة في
حكم الزكاة في المال الموصى به-مسألة في استثمار أموال الوصايا وضوابطه
الشرعية-حكم المال المستفاد بعد تعيين الوصية.
وهناك مسائل أخرى هامة في موضوعها
أسأل الله-تعالى-بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما
ينفعنا وأن يجعل ما تعلمناه حجة لنا لا علينا إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
والمرجو والمؤمل ممن قرأ هذه الرسالة
ألا يحرمنا من ملاحظاته واقتراحاته وله مني الدعاء والمثوبة والأجر من رب العالمين
إن شاء الله-تعالى-.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين.
تعريفها:
في اللغة:-مأخوذة من وصيت الشيء إذا
وصلته سميت بذلك لأنها وصل لما كان في الحياة بعد الموت(
).
أما في الشرع:-فقد اختلفت عبارات
الفقهاء فيها:-
فقال بعض العلماء / الوصية هي هبة
الإنسان غيره عيناً أو ديناً أو منفعة على أن يملك الموصى له الهبة بعد الموت( ).
أو بعبارة أخرى:-هي التبرع بالمال بعد
الموت.
وهناك أقوال أخرى في تعريفها وإن كانت
كلها تؤدي إلى معنى واحد هذا المعنى يتمثل في كونها((تمليك مضاف إلى ما بعد الموت
بطريقة التبرع))
( ).
ومن هذا التعريف يتبين لنا الفرق بين
الوصية والهبة.
فالتمليك المستفاد من الهبة يثبت في
الحال أما التمليك المستفاد من الوصية فلا يثبت إلا بعد الموت.
ومن الفروق بين الهبة والوصية أن
الهبة لا تكون إلا بالعين.والوصية تكون بالعين وبالدين وبالمنفعة.
دليل مشروعية الوصية:-
جاءت نصوص الكتاب والسنة على مشروعية
الوصية وعلى مشروعيتها انعقد إجماع الأمة:-
أما دليل الكتاب:-
فقول الله تعالى-(كتِبَ عليكم إذا حضر
أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين) ( ).
وقوله-تعالى-(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ)(
).
وقال أيضاً ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ
الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ
) ( ).
أما دليل مشروعيتها من السنة:-
ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر-رضي
الله عنهما-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-((ما حق امرئ مسلم له شئ يوصى
فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده قال ابن عمر: ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت
رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول ذلك إلا وعندي وصيتي))
( ).
أما عن الإجماع فقد نقل ابن قدامة في
المغني الإجماع على جواز الوصية حيث قال.((وأجمع العلماء في جميع ال**ار والأعصار
على جواز الوصية))
( ).
تمهيد:
مما ينبغي التنبيه عليه أن
الله-تعالى-حينما تعبدنا بما أمرنا به فقد يبين لنا الحكمة من هذا الأمر أو هذا
النهي وهذا موجود في كتاب الله-تعالى-كثير وقد لا يبين الحكمة في بعض الأوامر أو
في بعض المنهيات لكن ليس معنى ذلك أننا نتوقف في فعل ما أمرنا به لعدم بيان الحكمة
بل نقوم بفعله وإن لم تظهر لنا الحكمة من تشريعه.
ولما كانت الوصية من هذا النوع الأخير
التي لم تأت نصوص الكتاب والسنة في بيان الحكمة من تشريعها أحببت أن أنبه على هذا
الجانب فلو لم تظهر للبعض الحكمة من تشريعها فإن التشريع لها باقٍ مع العلم بأنه
من نظر بعين البصيرة والفقه في الوصية وجد الكثير من جوانب الحكمة في تشريعها.
فمن هذه الجوانب:-
(1) قال الله-تعالى-عن يعقوب عليه السلام:-
(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ
قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ
آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
البقرة آية (133).
فهذه وصية من يعقوب لأبنائه بالتمسك
بعبادة الله وحده لا شريك له فهذه وصية جامعة للموصي والموصى إليه بل هي من أنفع
الوصايا على الإطلاق وللأسف غفل الكثير عن هذه الوصية ونظروا لما هو دونها في
النفع فهي وصية الأولين والآخرين لأبنائهم وأتباعهم بل هي وصية رب العالمين لعباده
فمما ينبغي التفطن له أن يوصي أحدنا
أولاده إذا حضرته الوفاة بما وصى به يعقوب أولاده لكي يثبتوا عليه حتى يلقوا ربهم
سبحانه و-تعالى-.
(2) ومن الحكمة في تشريعها أنها تبرأ بها ذمة الموصي مما يحدث بعد موته
وبخاصة إذا كان في أماكن يكثر فيها الجهل بعقيدة التوحيد فالموصي يوصي أولاده مثلاً
وكذا أقاربه ببراءته من الحالقة والشاقة واللاطمة وكذا براءته من دعوى الجاهلية
الممقوتة فإذا وصى الموصي بعدم شق الجيوب ولطم الخدود وحلق الرؤوس وغيرها من
الأمور المنهية شرعاً فإنه ينجو من عذاب القبر فإن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال((إن
الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)) والمراد بالبكاء هنا هو المصحوب بما ذكرناه آنفاً
فإذا وصى بعدم هذه الأشياء وبراءته منها نجا بلا شك من عذاب القبر.
(3) ومن حكمها أنها عمل ينتفع به الميت بعد موته فلو أن أحد
الموصين أوصى بعمل خيري دائم النفع فهذا بلا شك ينتفع به الميت فهو رصيد دائم يزيد
له في حسناته بعد مماته.
قال-صلى الله عليه وسلم-((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم
ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)).
(4) ومن حكمها أنها أبرأ للذمة وعدم انشغالها بالديون التي على
الموصي وفيها الحفاظ على مال الدائن وبراءة ذمة المدين وبهذا تظهر الحكمة بأن حقوق
الآدميين محفوظة حتى وإن مات من عليه الدين
.
(5) ومن حكمها أنها حماية للأموال ورعاية للقصر فلو أن رجلاً مات
وترك ثروة مالية للورثة وبين هؤلاء الورثة قُصّر لا يحسنون التصرف في أموالهم وقد
أوصى هذا الرجل بأن يكون زيد من الناس وصياً على أولاده فإن هذا الوصي يقوم مقام
والدهم فيحافظ على هؤلاء القصر ويحافظ على أموالهم.
(6) ثم إنها صدقة تصدق الله بها على الموصي بعد وفاته فينبغي إذا
كان صاحب مال ألا يحرم نفسه من الخير.
حكم الوصية:
يدور حكم الوصية بين الإيجاب
والاستحباب والكراهة والتحريم.
(1) الوصية الواجبة:-
تجب الوصية إذا كان على الإنسان دين
لا بينة به أي أنه يكون مديناً ولا أحد يعلم إلا الله والموصي وصاحب الدين هنا تجب
الوصية لأن وفاء الدين واجب ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وكذا تجب الوصية للأقربين الذين ليس
لهم حق في الإرث وكانوا فقراء والموصي غني فهنا تجب عليه الوصية لهؤلاء الأقارب.
دليل ذلك قوله-تعالى-((كتب عليكم إذا
حضر أحدكم الموت إن ترك خيراًُ الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على
المتقين)) ( ).
قال العلامة ابن سعدي-رحمه
الله-تعالى-في تفسيره لهذه الآية:-
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ) أي فرض الله عليكم يا معشر المؤمنين (إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ) أي أسبابه كالمرض المشرف على الهلاك وحضور أسباب المهالك
وكان قد(تَرَكَ خَيْراً) وهو المال الكثير عرفاً فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب
الناس إليه بالمعروف على قدر حاله من غير سرف ولا اقتصار على الأبعد دون الأقرب بل
يرتبهم على القرب والحاجة ولهذا أتى بأفعل التفضيل.
وقوله(حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) دل
على وجوب ذلك لأن الحق هو الثابت وقد جعله الله من موجبات التقوى.
واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه
الآية منسوخة بآية المواريث وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين
مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل والأحسن في هذا أنه يقال أن هذه الوصية
للوالدين والأقربين مجمله ردها الله -تعالى- إلى العرف الجاري، ثم إن الله -تعالى-
قدر للوالدين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آية المواريث بعد أن كان
مجملاً.
إلى أن قال-رحمه الله-:
ويبقى الحكم فيمن لم يرثوا من
الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما من حجب شخص أو وصف فإن الإنسان مأمور بالوصية
لهؤلاء وهم أحق الناس ببره.
وهذا القول تتفق عليه الأمة ويحصل به
الجمع بين القولين المتقدمين لأن كلاً من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظاً واختلف
المورد.
فهذا الجمع يحصل الاتفاق بين الآيات
فإن أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ الذي لم يدل عليه دليل صحيح( ) فالصحيح
وجوب الوصية للأقارب غير الوارثين.
(2) الوصية المستحبة:-
ونعني بها الوصية المسنونة وهي التي
كان فيها الموصي ذا مال وكذا ورثته أغنياء وكذا أقاربه لا حاجة لهم بالمال فهنا
يستحب الوصية بما يراه الموصي نفعاً له بعد موته.
(3) الوصية المكروهة:-
وتكون هذه الوصية إذا كان مال الموصي
قليلاً وورثته محتاجون لأنه في هذه الحالة ضيق على الورثة ولذا قال رسول الله-صلى
الله عليه وسلم-لسعد-رضي الله عنه-((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة
يتكففون الناس))(
).
(4)الوصية المحرمة:-
ونعني بها مالا تجوز ويأثم صاحبها وهي
نوعان:-
الأول:-ما زاد على الثلث لورود النهي
عنه في حديث سعد رضى الله عنه المتقدم
( ).
الثاني:-إذا كانت لوارث.
فإن هذا معصية لله ورسوله-صلى الله
عليه وسلم-.
قال-تعالى-بعد ذكر آيات
المواريث:(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ
نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)
( ).
وقال-صلى الله عليه وسلم-((لا وصية
لوارث)) ( ).
(5) الوصية المباحة:
وهي ماعدا ذلك من الوصايا المتقدمة
كأن يكون الموصي ماله قليل وورثته غير محتاجين أو ماله كثير جداً وورثته محتاجون
فهنا تباح الوصية.
حكم تنفيذ الوصية:
يغفل كثير ممن أوصي إليهم عن حكم
تنفيذ ما أسند إليهم في الوصية وأحياناً لايبالون بها وهذا خطأ فحكم تنفيذ الوصية
واجب يأثم الموصى إليه بعدم تنفيذها أو تأخيرها إن كانت محددة بوقت فعلى من كان
وصياً على شيء أن ينتبه لهذا الحكم.
متى يشرع تنفيذها:
يشرع تنفيذ الوصية إذا مات الموصي فإن
كانت هذه الوصية حالّة بمعنى أنها في أمر يكون بعد موته مباشرة فهنا يجب في الحال
تنفيذها كأن يكون أوصى بعدم ارتكاب مخالفات شرعية عند موته فهنا يجب على الوصي
القيام بما أوصي به وإن كانت في أمور مالية فهنا يشرع تنفيذها أيضاً بعد موت
الموصي وعلى حسب ما تقتضيه الحاجة.
الإضرار بالوصية:
الإضرار بالوصية يكون من قبل الموصي
ويكون من قبل الموصى إليه.
فالإضرار بها بأن يوصي بأكثر من الثلث
أو يوصي لغير الوارثين مع كونهم محتاجين وهذا على نحو ما ذكرناه في أحكام الوصية.
ومن الإضرار بها أيضاً تفضيل بعض
الورثة على بعض أو إخراج المال مضارة بالورثة ونحوه أما الإضرار بالوصية من قبل
الموصى إليه فيكون بإهمالها وعدم القيام بحقها أو يتصرف فيها بما ليس فيه مصلحتها
بل فيه إفساد لها أو نقص منها ونحوه فهذا إضرار بالوصية.