حكم سب الصحابة
شيخ الإسلام ابن تيمية
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في " الصارم المسلول على شاتم الرسول " :
فاما من سب ازواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال القاضي ابو يعلى : ( من قذف عائشة بما براها الله منه كفر بلا خلاف ) ، وقد حكى الاجماع على هذا غير واحد ، وصرح غير واحد من الائمة بهذا الحكم .
فروي عن مالك : ( من سب ابا بكر جلد ومن سب عائشة قتل ) ، قيل له : لم ؟ قال : ( من رماها فقد خالف القران ، ولان الله تعالى قال : { يعظكم الله ان تعودوا لمثله ابدا كنتم مؤمنين } ) .
وقال ابو بكر بن زياد النيسابوري : سمعت القاسم بن محمد يقول لاسماعيل بن اسحاق : ( اتى المأمون بالرقة برجلين شتم احدهما فاطمة وفي عائشة ، فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الاخر ، فقال اسماعيل : ما حكمهما الا ان يقتلا ، لان الذي شتم عائشة رد القران ) ، وعلى هذا مضت سيرة اهل الفقه والعلم من اهل البيت وغيرهم .
قال ابو السائب القاضي : ( كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد - الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين الف دينار الى مدينة السلام يفرق على سائر ولد الصحابة - وكان بحضرته رجل ذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة ، فقال : يا غلام اضرب عنقه ! ، فقال له العلويون : هذا رجل من شيعتنا ، فقال : معاذ الله هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات اولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم } فان كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث فهو كافر فاضربوا عنقه ، فضربوا عنقه وانا حاضر ) [رواه اللالكائي].
وروي عن محمد بن زيد اخي الحسن بن زيد انه قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء فقام اليه بعمود فضرب به دماغه فقتله ، فقيل له : هذا من شيعتنا ومن يتولانا ، فقال : ( هذا سمى جدي قرنان ومن مسمي جدي قرنان استحق القتل ) فقتله .
واما من سب غير عائشة من ازواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان :
احدهما : انه كساب غيرهن من الصحابة على ما سيأتي.
والثاني : وهو الاصح ، ان من قذف واحدة من امهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها ، وقد تقدم معنى ذلك عن ابن عباس ، وذلك لان هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واذى له اعظم من اذاه بنكاحهن بعده ، وقد تقدم التنبيه على ذلك فيما مضى عند الكلام على قوله : { ان الذين يؤذون الله ورسوله } الاية ، والامر فيه ظاهر .
فصل :
فاما من سب احدا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - من اهل بيته وغيرهم - فقد اطلق الامام احمد انه يضرب ضربا نكالا ، وتوقف عن كفره وقتله .
قال ابو طالب : ( سألت احمد عمن شتم اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: القتل اجبن عنه ولكن اضربه ضربا نكالا ) .
وقال عبد الله : ( سألت ابي عمن شتم رجلا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ارى ان يضرب . قلت له : حد؟ فلم يقف على الحد الا انه قال : يضرب ، وقال : ما اراه على الاسلام ) .
وقال : ( سالت ابي من الرافضة؟ فقال : الذين يشتمون او يسبون ابا بكر وعمر رضي الله عنهما ) .
وقال في الرسالة التي رواها ابو العباس احمد بن يعقوب الاصطخري وغيره : وخير الامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابو بكر ، وعمر بعد ابي بكر ، وعثمان بعد عمر ، وعلي بعد عثمان ، ووقف قوم على عثمان ، وهم خلفاء راشدون مهديون . ثم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الاربعة خير الناس ، لا يجوز لاحد ان يذكر شيئا من مساويهم ، ولا يطعن على احد منهم بعيب ولا نقص ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ، ليس له ان يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه ، فان تاب قبل منه ، وان ثبت اعاد عليه العقوبة وخلده الحبس حتى يموت او يراجع .
وحكى الامام احمد هذا عمن ادركه من اهل العلم وحكاه الكرماني عنه وعن اسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم وقال الميموني : سمعت احمد يقول : ما لهم ولمعاوية نسأل الله العافية . وقال لي : يا ابا الحسن اذا رأيت احدا يذكر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على الاسلام .
فقد نص رضي الله عنه على جواب تعزيره واستتابة حتى يرجع بالجلد ، وان لم ينته حبس حتى يموت او يراجع . وقال : ما اراه على الاسلام واتهمه على الاسلام . وقال : اجبن عن قتله .
وقال اسحاق بن راهويه : ( من شتم اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس ) .
وهذا قول كثير اصحابنا ، منهم ابن ابي موسى قال : ( ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج ، ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة الا ان يتوب ويظهر توبته ) ، وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الاحول وغيرهما من التابعين .
قال الحارث بن عتبة : ( ان عمر بن عبد العزيز اتى برجل سب عثمان فقال : " ما حملك على ان سببته ؟ " قال : " ابغضه " قال : " وان ابغضت رجلا سببته " ، قال : فامر به فجلد ثلاثين سوطا ) .
وقال ابراهيم بن ميسرة : ( ما رايت عمر بن عبد العزيز ضرب انسانا قط الا انسانا شتم معاوية فضربه اسواطا ) ، رواهما اللالكائي ، وقد تقدم انه كتب في رجل سبه لا يقتل الا من سب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن اجلده فوق راسه اسواطا ولولا اني رجوت ان ذلك خير له لم افعل .
وروى الامام احمد حدثنا ابو معاوية حدثنا عاصم الاحول قال : ( اتيت برجل قد سب عثمان ، قال فضربته عشرة اسواط ، قال ثم عاد لما قال فضربته عشرة اخرى ، قال فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطا ) ، وهذا هو المشهور من مذهب مالك ، قال مالك : ( من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، ومن شتم اصحابه ادب ) .
وقال عبد الملك بن حبيب : ( من غلا من الشيعة الى بغض عثمان والبراءة منه ادب ادبا شديدا ، ومن زاد الى بغض ابي بكر وعمر فالعقوبة عليه اشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل الا في سب النبي صلى الله عليه وسلم ) .
وقال ابن المنذر : ( لا اعلم احدا يوجب قتل من سب من بعد النبي صلى الله عليه وسلم) .
وقال القاضي ابو يعلى : ( الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة ان كان مستحلا لذلك كفر وان لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر سواء كفرهم او طعن في دينهم مع اسلامهم ) .
وقد قطع طائفة من الفقهاء من اهل الكوفة و غيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة ، قال محمد بن يوسف الفريابي - وسئل عمن شتم ابا بكر - قال : ( كافر ) قيل : فيصلى عليه ؟ قال : ( لا ) ، وسأله كيف يصنع به وهو يقول لا اله الا الله ، قال : ( لا تمسوه بايديكم ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته ) .
وقال احمد بن يونس : ( لو ان يهوديا ذبح شاة ، وذبح رافضي ، لأكلت ذبيحة اليهودي ولم اكل ذبيحة الرافضي لانه مرتد عن الاسلام ) .
وكذلك قال ابو بكر بن هانيء : ( لا تؤكل ذبيحة الروافض والقدرية ، كما لا تؤكل ذبيحة المرتد ، مع انه تؤكل ذبيحة الكتابي لان هؤلاء يقامون مقام المرتد واهل الذمة يقرون على دينهم وتؤخذ منهم الجزية ) . وكذلك قال عبد الله بن ادريس من اعيان ائمة الكوفة : ( ليس لرافضي شفعه لانه لا شفعة الا لمسلم ) .
وقال فضيل بن مرزوق سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة : ( والله ان قتلك لقربة الى الله ، وما امتنع من ذلك الا بالجوار ) . وفي رواية قال : رحمك الله قد عرفت انما تقول هذا تمزح . قال : ( لا والله ما هو بالمزح ، ولكنه الجد ) . قال وسمعته يقول: ( لئن امكننا الله منكم لنقطعن ايديكم وارجلكم ) .
وصرح جماعات من اصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة ، الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم .
وقال ابو بكر عبد العزيز في المقنع : ( واما الرافضي فان كان يسب فقد كفر فلا يزوج ) .
ولفض بعضهم وهو الذي نصره القاضي ابو يعلى انه ان سبهم سبا يقدح في دينهم او عدالتهم كفر بذلك ، وان كان سبا لا يقدح مثل ان يسب ابا احدهم او يسبه سبا يقصد به غيظه ونحو ذلك لم يكفر .
قال احمد - في رواية ابي طالب - في الرجل يشتم عثمان : ( هذه زندقة ) ، وقال - في رواية المروذي - : ( من شتم ابا بكر وعمر وعائشة ما اراه على الاسلام ) ، وقال - في رواية حنبل - : ( من شتم رجلا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما اراه على الاسلام ) .
قال القاضي ابو يعلى : ( فقد اطلق القول فيه انه يكفر بسبه لاحد من الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وابي طالب عن قتله ، وكمال الحد وايجاب التعزير يقتضي انه لم يحكم بكفره ) .
قال : ( فيحتمل ان يحمل قوله ما اراه على الاسلام اذا استحل سبهم بانه يكفر بلا خلاف ، ويحمل اسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه ، كمن ياتي المعاصي ) .
قال : ( ويحتمل ان يحمل قوله ما اراه على الاسلام على سب يطعن في عدالتهم، نحو قوله ظلموا وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم واخذوا الامر بغير حق ، ويحمل قوله في اسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله كان فيهم قلة علم وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة وكان فيهم شح ومحبة للدنيا ونحو ذلك ) .
قال : ( ويحتمل ان يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان احداهما يكفر والثانية يفسق ، وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره حكوا في تكفيرهم روايتين ) .
قال القاضي : ( ومن قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف ) .
ونحن نرتب الكلام في فصلين احدهما في حكم سبهم مطلقا والثاني في تفصيل احكام السب :
اما الاول : فسب اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب والسنة .
اما الاول :
فلأن الله سبحانه يقول : { ولا يغتب بعضكم بعضا } وادنى احوال الساب لهم ان يكون مغتابا ، وقال تعالى : { ويل لكل همزة لمزة } والطاعن عليهم همزة لمزة ، وقال : { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } وهم صدور المؤمنين فانهم هم المواجهون بالخطاب في قوله تعالى : { يا ايها الذين امنوا } حيث ذكرت ولم يكتسبوا ما يوجب اذاهم ، لان الله سبحانه رضي عنهم رضى مطلقا بقوله تعالى : { والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبوعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } فرضي عن السابقين من غير اشتراط احسان ولم يرض عن التابعين الا ان يتبعوهم باحسان ، وقال تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين اذا يبايعونك تحت الشجرة } والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى الا عن عبد علم انه يوافقه على موجبات الرضى ، ومن رضى الله عنه لم يسخط عليه ابدا ، وقوله تعالى : { اذ يبايعونك } سواء كانت ظرفا محضا او ظرفا فيها معنى التعليل فان ذلك ظرف لتعلق الرضى بهم فانه يسمى رضى ايضا كما في تعلق العلم والمشيئة والقدرة وغير ذلك من صفات الله سبحانه وقيل بل الظرف يتعلق بنفس الرضى وانه يرضى عن المؤمن بعد ان يطعيه ويسخط عن الكافر بعد ان يعصيه ويحب من اتبع الرسول بعد اتباعه له وكذلك امثال هذا ، وهذا قول جمهور السلف واهل الحديث وكثير من اهل الكلام ، وهو الاظهر ، وعلى هذا فقد بين في مواضع اخر ان هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من اهل الثواب في الاخرة ، يموتون على الايمان الذي به يستحقون ذلك كما في قوله تعالى : { والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري تحتها الانهار خالدين فيها ابدا ذلك الفوز العظيم } .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : (( لا يدخل النار احد بايع تحت الشجرة )) .
وايضا فكل من اخبر الله أنه رضي عنه عنه فانه من اهل الجنة ، وان كان رضاه عنه بعد ايمانه وعمله الصالح ، فانه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح عليه ، فلو علم انه يتعقب ذلك ما يسخط الرب لم يكن من اهل ذلك .
وهذا كما في قوله تعالى : { يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } ولانه سبحانه وتعالى قال : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم انه بهم رءوف رحيم } ، وقال سبحانه وتعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } ، وقال تعالى : { محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا . . .الآية } ، وقال تعالى : { كنتم خير امة اخرجت للناس } ، { وكذلك جعلناكم امة وسطا } وهم اول من وجه بهذا الخطاب فهم مرادون بلا ريب ، وقال سبحانه وتعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولاتجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا انك رءوف رحيم } فجعل سبحانه ما افاء الله على رسوله من اهل القرى للمهاجرين والانصار والذين جاءوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين الله ان لايجعل في قلوبهم غلا لهم ، فعلم ان الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغل لهم امر يحبه الله ويرضاه ويثني على فاعله ، كما انه قد امر بذلك رسوله في قوله تعالى : { فاعلم انه لا اله الا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ، وقال تعالى : { فاعف عنهم واستغفر لهم } ومحبة الشيء كراهة لضده فيكون الله سبحانه وتعالى يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة ، وهذا معنى قوله عائشة رضي الله عنها : ( امروا بالاستغفار لاصحاب محمد فسبوهم ) [ رواه مسلم ] .
وعن مجاهد عن ابن عباس قال : ( لا تسبوا اصحاب محمد فان الله قد امرنا بالاستغفار لهم وقد علم انهم سيقتتلون ) [ رواه الامام احمد ] .
وعن سعد بن ابي وقاص قال : ( الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما انتم كائنون عليه ان تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت - قال : ثم قرأ - : { للفقراء المهاجرين - الى قوله - ورضوانا } فهؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت ، { والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم - الى قوله - ولو كان بهم خصاصة } قال : هؤلاء الانصار وهذه منزلة قد مضت ، ثم قرا : { والذين جاءوا من بعدهم - الى قوله - رحيم } قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة ، فاحسن ما انتم كائنون عليه ان تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ) ، يقول ان تستغفروا لهم .
ولان من حاز سبه لعينه او لعنته لم يجز الاستغفار له ، كما لا يجوز الاستغفار للمشركين لقوله تعالى : { ما كان للنبي والذين امنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم انهم اصحاب الجحيم } . وكما لا يجوز ان يستغفر لجنس العاصين مسمين باسم المعصية لان ذلك لا سبيل اليه .
ولانه شرع لنا ان نسأل الله ان لايجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ، والسب باللسان اعظم من الغل الذي لاسب معه ، ولو كان الغل عليهم والسب لهم جائزا لم يشرع لنا ان نسأله ترك مالا يضر فعله .
ولانه وصف مستحقي الفيء بهذه الصفة ، كما وصف السابقين بالهجرة والنصرة ، فعلم ان ذلك صفة لهم وشرط فيهم ، ولو كان السب جائزا لم يشترط في استحقاق الفيء ترك امر جائز كما لايشترط ترك سائر المباحات ، بل لو لم يكن الاستغفار لهم واجبا لم يكن شرطا في استحقاق الفيء لان استحقاق الفيىء لا يشترط فيه ما ليس بواجب ، بل هذا دليل على ان الاستغفار لهم داخل في عقد الدين واصله .
واما السنة :
ففي الصحيحين عن الاعمش عن ابي صالح عن ابي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تسبوا اصحابي فوالذي نفسي بيده لو ان احدكم انفق مثل احد ذهبا ما ادرك مد احدهم ولانصيفه )) .
وفي رواية لمسلم - واستشهد بها البخاري - قال : كان بين خالد ابن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء ، فسبه خالد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تسبوا اصحابي فان احدكم لو انفق مثل احد ذهبا ما ادرك مد احدهم ولا نصيفه )) .
وفي رواية للبرقاني في صحيحه: (( لا تسبوا اصحابي دعوا لي اصحابي فان احدكم لو انفق كل يوم مثل احد ذهبا ما ادرك مد احدهم ولا نصيفه )) .
شيخ الإسلام ابن تيمية
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في " الصارم المسلول على شاتم الرسول " :
فاما من سب ازواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال القاضي ابو يعلى : ( من قذف عائشة بما براها الله منه كفر بلا خلاف ) ، وقد حكى الاجماع على هذا غير واحد ، وصرح غير واحد من الائمة بهذا الحكم .
فروي عن مالك : ( من سب ابا بكر جلد ومن سب عائشة قتل ) ، قيل له : لم ؟ قال : ( من رماها فقد خالف القران ، ولان الله تعالى قال : { يعظكم الله ان تعودوا لمثله ابدا كنتم مؤمنين } ) .
وقال ابو بكر بن زياد النيسابوري : سمعت القاسم بن محمد يقول لاسماعيل بن اسحاق : ( اتى المأمون بالرقة برجلين شتم احدهما فاطمة وفي عائشة ، فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الاخر ، فقال اسماعيل : ما حكمهما الا ان يقتلا ، لان الذي شتم عائشة رد القران ) ، وعلى هذا مضت سيرة اهل الفقه والعلم من اهل البيت وغيرهم .
قال ابو السائب القاضي : ( كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد - الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين الف دينار الى مدينة السلام يفرق على سائر ولد الصحابة - وكان بحضرته رجل ذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة ، فقال : يا غلام اضرب عنقه ! ، فقال له العلويون : هذا رجل من شيعتنا ، فقال : معاذ الله هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات اولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم } فان كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث فهو كافر فاضربوا عنقه ، فضربوا عنقه وانا حاضر ) [رواه اللالكائي].
وروي عن محمد بن زيد اخي الحسن بن زيد انه قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء فقام اليه بعمود فضرب به دماغه فقتله ، فقيل له : هذا من شيعتنا ومن يتولانا ، فقال : ( هذا سمى جدي قرنان ومن مسمي جدي قرنان استحق القتل ) فقتله .
واما من سب غير عائشة من ازواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان :
احدهما : انه كساب غيرهن من الصحابة على ما سيأتي.
والثاني : وهو الاصح ، ان من قذف واحدة من امهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها ، وقد تقدم معنى ذلك عن ابن عباس ، وذلك لان هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واذى له اعظم من اذاه بنكاحهن بعده ، وقد تقدم التنبيه على ذلك فيما مضى عند الكلام على قوله : { ان الذين يؤذون الله ورسوله } الاية ، والامر فيه ظاهر .
فصل :
فاما من سب احدا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - من اهل بيته وغيرهم - فقد اطلق الامام احمد انه يضرب ضربا نكالا ، وتوقف عن كفره وقتله .
قال ابو طالب : ( سألت احمد عمن شتم اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: القتل اجبن عنه ولكن اضربه ضربا نكالا ) .
وقال عبد الله : ( سألت ابي عمن شتم رجلا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ارى ان يضرب . قلت له : حد؟ فلم يقف على الحد الا انه قال : يضرب ، وقال : ما اراه على الاسلام ) .
وقال : ( سالت ابي من الرافضة؟ فقال : الذين يشتمون او يسبون ابا بكر وعمر رضي الله عنهما ) .
وقال في الرسالة التي رواها ابو العباس احمد بن يعقوب الاصطخري وغيره : وخير الامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابو بكر ، وعمر بعد ابي بكر ، وعثمان بعد عمر ، وعلي بعد عثمان ، ووقف قوم على عثمان ، وهم خلفاء راشدون مهديون . ثم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الاربعة خير الناس ، لا يجوز لاحد ان يذكر شيئا من مساويهم ، ولا يطعن على احد منهم بعيب ولا نقص ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ، ليس له ان يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه ، فان تاب قبل منه ، وان ثبت اعاد عليه العقوبة وخلده الحبس حتى يموت او يراجع .
وحكى الامام احمد هذا عمن ادركه من اهل العلم وحكاه الكرماني عنه وعن اسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم وقال الميموني : سمعت احمد يقول : ما لهم ولمعاوية نسأل الله العافية . وقال لي : يا ابا الحسن اذا رأيت احدا يذكر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على الاسلام .
فقد نص رضي الله عنه على جواب تعزيره واستتابة حتى يرجع بالجلد ، وان لم ينته حبس حتى يموت او يراجع . وقال : ما اراه على الاسلام واتهمه على الاسلام . وقال : اجبن عن قتله .
وقال اسحاق بن راهويه : ( من شتم اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس ) .
وهذا قول كثير اصحابنا ، منهم ابن ابي موسى قال : ( ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج ، ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة الا ان يتوب ويظهر توبته ) ، وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الاحول وغيرهما من التابعين .
قال الحارث بن عتبة : ( ان عمر بن عبد العزيز اتى برجل سب عثمان فقال : " ما حملك على ان سببته ؟ " قال : " ابغضه " قال : " وان ابغضت رجلا سببته " ، قال : فامر به فجلد ثلاثين سوطا ) .
وقال ابراهيم بن ميسرة : ( ما رايت عمر بن عبد العزيز ضرب انسانا قط الا انسانا شتم معاوية فضربه اسواطا ) ، رواهما اللالكائي ، وقد تقدم انه كتب في رجل سبه لا يقتل الا من سب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن اجلده فوق راسه اسواطا ولولا اني رجوت ان ذلك خير له لم افعل .
وروى الامام احمد حدثنا ابو معاوية حدثنا عاصم الاحول قال : ( اتيت برجل قد سب عثمان ، قال فضربته عشرة اسواط ، قال ثم عاد لما قال فضربته عشرة اخرى ، قال فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطا ) ، وهذا هو المشهور من مذهب مالك ، قال مالك : ( من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، ومن شتم اصحابه ادب ) .
وقال عبد الملك بن حبيب : ( من غلا من الشيعة الى بغض عثمان والبراءة منه ادب ادبا شديدا ، ومن زاد الى بغض ابي بكر وعمر فالعقوبة عليه اشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل الا في سب النبي صلى الله عليه وسلم ) .
وقال ابن المنذر : ( لا اعلم احدا يوجب قتل من سب من بعد النبي صلى الله عليه وسلم) .
وقال القاضي ابو يعلى : ( الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة ان كان مستحلا لذلك كفر وان لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر سواء كفرهم او طعن في دينهم مع اسلامهم ) .
وقد قطع طائفة من الفقهاء من اهل الكوفة و غيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة ، قال محمد بن يوسف الفريابي - وسئل عمن شتم ابا بكر - قال : ( كافر ) قيل : فيصلى عليه ؟ قال : ( لا ) ، وسأله كيف يصنع به وهو يقول لا اله الا الله ، قال : ( لا تمسوه بايديكم ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته ) .
وقال احمد بن يونس : ( لو ان يهوديا ذبح شاة ، وذبح رافضي ، لأكلت ذبيحة اليهودي ولم اكل ذبيحة الرافضي لانه مرتد عن الاسلام ) .
وكذلك قال ابو بكر بن هانيء : ( لا تؤكل ذبيحة الروافض والقدرية ، كما لا تؤكل ذبيحة المرتد ، مع انه تؤكل ذبيحة الكتابي لان هؤلاء يقامون مقام المرتد واهل الذمة يقرون على دينهم وتؤخذ منهم الجزية ) . وكذلك قال عبد الله بن ادريس من اعيان ائمة الكوفة : ( ليس لرافضي شفعه لانه لا شفعة الا لمسلم ) .
وقال فضيل بن مرزوق سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة : ( والله ان قتلك لقربة الى الله ، وما امتنع من ذلك الا بالجوار ) . وفي رواية قال : رحمك الله قد عرفت انما تقول هذا تمزح . قال : ( لا والله ما هو بالمزح ، ولكنه الجد ) . قال وسمعته يقول: ( لئن امكننا الله منكم لنقطعن ايديكم وارجلكم ) .
وصرح جماعات من اصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة ، الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم .
وقال ابو بكر عبد العزيز في المقنع : ( واما الرافضي فان كان يسب فقد كفر فلا يزوج ) .
ولفض بعضهم وهو الذي نصره القاضي ابو يعلى انه ان سبهم سبا يقدح في دينهم او عدالتهم كفر بذلك ، وان كان سبا لا يقدح مثل ان يسب ابا احدهم او يسبه سبا يقصد به غيظه ونحو ذلك لم يكفر .
قال احمد - في رواية ابي طالب - في الرجل يشتم عثمان : ( هذه زندقة ) ، وقال - في رواية المروذي - : ( من شتم ابا بكر وعمر وعائشة ما اراه على الاسلام ) ، وقال - في رواية حنبل - : ( من شتم رجلا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما اراه على الاسلام ) .
قال القاضي ابو يعلى : ( فقد اطلق القول فيه انه يكفر بسبه لاحد من الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وابي طالب عن قتله ، وكمال الحد وايجاب التعزير يقتضي انه لم يحكم بكفره ) .
قال : ( فيحتمل ان يحمل قوله ما اراه على الاسلام اذا استحل سبهم بانه يكفر بلا خلاف ، ويحمل اسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه ، كمن ياتي المعاصي ) .
قال : ( ويحتمل ان يحمل قوله ما اراه على الاسلام على سب يطعن في عدالتهم، نحو قوله ظلموا وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم واخذوا الامر بغير حق ، ويحمل قوله في اسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله كان فيهم قلة علم وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة وكان فيهم شح ومحبة للدنيا ونحو ذلك ) .
قال : ( ويحتمل ان يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان احداهما يكفر والثانية يفسق ، وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره حكوا في تكفيرهم روايتين ) .
قال القاضي : ( ومن قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف ) .
ونحن نرتب الكلام في فصلين احدهما في حكم سبهم مطلقا والثاني في تفصيل احكام السب :
اما الاول : فسب اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب والسنة .
اما الاول :
فلأن الله سبحانه يقول : { ولا يغتب بعضكم بعضا } وادنى احوال الساب لهم ان يكون مغتابا ، وقال تعالى : { ويل لكل همزة لمزة } والطاعن عليهم همزة لمزة ، وقال : { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } وهم صدور المؤمنين فانهم هم المواجهون بالخطاب في قوله تعالى : { يا ايها الذين امنوا } حيث ذكرت ولم يكتسبوا ما يوجب اذاهم ، لان الله سبحانه رضي عنهم رضى مطلقا بقوله تعالى : { والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبوعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } فرضي عن السابقين من غير اشتراط احسان ولم يرض عن التابعين الا ان يتبعوهم باحسان ، وقال تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين اذا يبايعونك تحت الشجرة } والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى الا عن عبد علم انه يوافقه على موجبات الرضى ، ومن رضى الله عنه لم يسخط عليه ابدا ، وقوله تعالى : { اذ يبايعونك } سواء كانت ظرفا محضا او ظرفا فيها معنى التعليل فان ذلك ظرف لتعلق الرضى بهم فانه يسمى رضى ايضا كما في تعلق العلم والمشيئة والقدرة وغير ذلك من صفات الله سبحانه وقيل بل الظرف يتعلق بنفس الرضى وانه يرضى عن المؤمن بعد ان يطعيه ويسخط عن الكافر بعد ان يعصيه ويحب من اتبع الرسول بعد اتباعه له وكذلك امثال هذا ، وهذا قول جمهور السلف واهل الحديث وكثير من اهل الكلام ، وهو الاظهر ، وعلى هذا فقد بين في مواضع اخر ان هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من اهل الثواب في الاخرة ، يموتون على الايمان الذي به يستحقون ذلك كما في قوله تعالى : { والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري تحتها الانهار خالدين فيها ابدا ذلك الفوز العظيم } .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : (( لا يدخل النار احد بايع تحت الشجرة )) .
وايضا فكل من اخبر الله أنه رضي عنه عنه فانه من اهل الجنة ، وان كان رضاه عنه بعد ايمانه وعمله الصالح ، فانه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح عليه ، فلو علم انه يتعقب ذلك ما يسخط الرب لم يكن من اهل ذلك .
وهذا كما في قوله تعالى : { يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } ولانه سبحانه وتعالى قال : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم انه بهم رءوف رحيم } ، وقال سبحانه وتعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } ، وقال تعالى : { محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا . . .الآية } ، وقال تعالى : { كنتم خير امة اخرجت للناس } ، { وكذلك جعلناكم امة وسطا } وهم اول من وجه بهذا الخطاب فهم مرادون بلا ريب ، وقال سبحانه وتعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولاتجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا انك رءوف رحيم } فجعل سبحانه ما افاء الله على رسوله من اهل القرى للمهاجرين والانصار والذين جاءوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين الله ان لايجعل في قلوبهم غلا لهم ، فعلم ان الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغل لهم امر يحبه الله ويرضاه ويثني على فاعله ، كما انه قد امر بذلك رسوله في قوله تعالى : { فاعلم انه لا اله الا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ، وقال تعالى : { فاعف عنهم واستغفر لهم } ومحبة الشيء كراهة لضده فيكون الله سبحانه وتعالى يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة ، وهذا معنى قوله عائشة رضي الله عنها : ( امروا بالاستغفار لاصحاب محمد فسبوهم ) [ رواه مسلم ] .
وعن مجاهد عن ابن عباس قال : ( لا تسبوا اصحاب محمد فان الله قد امرنا بالاستغفار لهم وقد علم انهم سيقتتلون ) [ رواه الامام احمد ] .
وعن سعد بن ابي وقاص قال : ( الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما انتم كائنون عليه ان تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت - قال : ثم قرأ - : { للفقراء المهاجرين - الى قوله - ورضوانا } فهؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت ، { والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم - الى قوله - ولو كان بهم خصاصة } قال : هؤلاء الانصار وهذه منزلة قد مضت ، ثم قرا : { والذين جاءوا من بعدهم - الى قوله - رحيم } قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة ، فاحسن ما انتم كائنون عليه ان تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ) ، يقول ان تستغفروا لهم .
ولان من حاز سبه لعينه او لعنته لم يجز الاستغفار له ، كما لا يجوز الاستغفار للمشركين لقوله تعالى : { ما كان للنبي والذين امنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم انهم اصحاب الجحيم } . وكما لا يجوز ان يستغفر لجنس العاصين مسمين باسم المعصية لان ذلك لا سبيل اليه .
ولانه شرع لنا ان نسأل الله ان لايجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ، والسب باللسان اعظم من الغل الذي لاسب معه ، ولو كان الغل عليهم والسب لهم جائزا لم يشرع لنا ان نسأله ترك مالا يضر فعله .
ولانه وصف مستحقي الفيء بهذه الصفة ، كما وصف السابقين بالهجرة والنصرة ، فعلم ان ذلك صفة لهم وشرط فيهم ، ولو كان السب جائزا لم يشترط في استحقاق الفيء ترك امر جائز كما لايشترط ترك سائر المباحات ، بل لو لم يكن الاستغفار لهم واجبا لم يكن شرطا في استحقاق الفيء لان استحقاق الفيىء لا يشترط فيه ما ليس بواجب ، بل هذا دليل على ان الاستغفار لهم داخل في عقد الدين واصله .
واما السنة :
ففي الصحيحين عن الاعمش عن ابي صالح عن ابي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تسبوا اصحابي فوالذي نفسي بيده لو ان احدكم انفق مثل احد ذهبا ما ادرك مد احدهم ولانصيفه )) .
وفي رواية لمسلم - واستشهد بها البخاري - قال : كان بين خالد ابن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء ، فسبه خالد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تسبوا اصحابي فان احدكم لو انفق مثل احد ذهبا ما ادرك مد احدهم ولا نصيفه )) .
وفي رواية للبرقاني في صحيحه: (( لا تسبوا اصحابي دعوا لي اصحابي فان احدكم لو انفق كل يوم مثل احد ذهبا ما ادرك مد احدهم ولا نصيفه )) .