غلام نازوك وكتاب العطف
حدثني
أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، بن يعقوب بن إسحاق ابن البهلول التنوخي، عن أبي
الحسين بن البواب المقرىء، قال: كان يصحبنا على القرآن، رجل مستور صالح، يكنى أبا
أحمد، وكان يكتب كتب العطف للناس، فحدثني يوماً، قال: بقيت يوماً بلا شيء، وأنا
جالس في دكاني، وقد دعوت الله أن يسهل قوتي، فما استتممت الدعاء، حتى فتح باب
دكاني غلام أمرد، حسن الوجه جداًن فسلم علي وجلس.
فقلت
له: ما حاجتك ? فقال: أنا عبد مملوك، وقد طردني مولاي، وغضب علي، وقال: انصرف عني
إلى حيث شئت، وما أعددت لنفسي من أطرحها عليه في مثل هذا الوقت، ولا أعرف من
أقصده، وقد بقيت متحيراً في أمري، وقيل لي إنك تكتب كتب العطف، فاكتب لي كتاباً.
فكتبت
له الكتاب الذي كنت أكتبه، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين
إلى آخر السورة، والمعوذتين، وسورة الإخلاص، وآية الكرسي، ولو أنزلنا هذا القرآن
على جبل، لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية اللّه، وتلك الأمثال نضربنا للنّاس،
لعلّهم يتفكّرون... إلى آخر السورة، وكتبت آيات العطف، وهي: لو أنفقت ما في الأرض جميعاً،
ما ألّفت بين قلوبهم، ولكن اللّه ألّف بينهم... الآية، ومن آياته أنه خلق لكم من
أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودّة ورحمة إلى آخر الآية، واذكروا
نعمة اللّه عليكم، إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً...
إلى آخر الآية.
وقلت
له: خذ هذه الرقعة، فشدها على عضدك الأيمن، ولا تعلقها عليك إلا وأنت طاهر.
فأخذها
وقام وهو يبكي، وطرح بين يدي ديناراً عيناً، فداخلتني له رحمة، فصليت ركعتين،
ودعوت له أن ينفعه الله بالكتاب، ويرد عليه قلب مولاه، وجلست.
فما
مضت إلا ساعتان، وإذا بأبي الجود، خليفة عجيب، غلام نازوك، وكان خليفته على
الشرطة، قد جاءني، فقال لي: أجب الأمير نازوك، فارتعت.
فقال:
لا بأس عليك، وأركبني بغلاًن وجاء بي إلى دار نازوك، فتركني في الدهليز ودخل.
فلما
كان بعد ساعة، أدخلت، فإذا نازوك جالس في دست عظيم، وبين يديه الغلمان قياماً
سماطين، نحو ثلثمائة غلام وأكثر، وكاتبه الحسين جالس بين يديه، ورجل آخر لا أعرفه.
فارتعت،
وأوهيت لأقبل الأرض، فقال: مه، عافاك الله، لا تفعل، هذا من سنن الجبارين، وما
نريد نحن هذا، اجلس يا شيخ، ولا تخف، فجلست.
فقال
لي: جاءك اليوم غلام أمرد، فكتبت له كتاباً للعطف ? قلت: نعم.
قال:
اصدقني عما جرى بينكما، حرفاً، حرفاً.
فأعدته
عليه، حتى لم أدع كلمة، وتلوت عليه الآيات التي كتبتها.
فلما
بلغت إلى قول الغلام: أنا عبد مملوك، وما أعددت لنفسي من أقصده في هذه الحال، ولا
أعرف أحداً ألجأ إليه، وقد طردني مولاي، بكيت لما تداخلني من رحمة له، وأريته
الدينار الذي أعطانيه، فدمعت عينا نازوك وتجلد، واستوفى الحديث.
وقال:
قم يا شيخ، بارك الله عليك، ومهما عرضت لك من حاجة، أو لجار لك، أو صديق، فسلنا
إياها، فإنا نقضيها، وأكثر عندنا وانبسط في هذه الدار، فإنك غير محجوب عنها، فدعوت
له وخرجت.
فلما
صرت خرج باب المجلس، إذا بغلام قد أعطاني قرطاساً فيه ثلثمائة درهم، فأخذته وخرجت.
فلما
صرت في الدهليز، إذا بالفتى، فعدل بي إلى موضع وأجلسني.
فقلت:
ما خبرك ? فقال: أنا غلام الأمير، وكان قد طردني، وغضب علي، فلما أن جئتك، واحتبست
عندك، طلبني، فرجعت مع رسله.
فقال
لي: أين كنت ? فصدقته الحديث، فلم يصدقني، وأمر بإحضارك، فلما اتفقنا في الحديث،
وخرجت الساعة، أحضرني، وقال: يا بني، أنت الساعة من أجل غلماني عندي، وأمكنهم من
قلبي، وأخصهم بي، إذ كنت لما غضبت عليك ما غيرك ذلك عن محبتي، والرغبة في خدمتي،
وطلب الحيل في الرجوع إلي وانكشف لي أنك ما أعددت لنفسك- بعد الله- سواي، ولا عرفت
وجهاً تلجأ إليه في الدنيا غيري، فما ترى بعد هذا إلا كل ما تحب، وسأعلي منزلتك،
وأبلغ بك أعلى مراتب نظرائك، ولعل الله سبحانه استجاب فيك دعاء هذا الرجل الصالح،
ونفعك بالآيات، فبأي شيء كافأت الرجل ?.
فقلت:
ما أعطيته غير ذلك الدينار.
فقال:
سبحان الله، قم إلى الخزانة، فخذ منها ما تريد، وأعطه.
فأخذت
منها هذا القرطاس، وجئتك به، فخذه، وأعطاني أيضاً خمسمائة درهم، وقال لي: الزمني،
فإني أحسن إليك.
فجئته
بعد مديدة، فإذا هو قائد جليل، وقد بلغ به نازوك تلك المنزلة، فوصلني بصلة جليلة،
وصار لي عدةً على الدهر وذخيرة.
-----------------------
المصدر : كتاب الفرج بعد الشدة - التنوخي