أَدَبِ الْمُتَعَلِّمِ
وَسَأَذْكُرُ طَرَفًا مِمَّا يَتَأَدَّبُ بِهِ
الْمُتَعَلِّمُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ الْعَالِمُ. اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُتَعَلِّمِ
تَمَلُّقًا وَتَذَلُّلاً فَإِنْ اسْتَعْمَلَهُمَا غَنِمَ، وَإِنْ تَرَكَهُمَا
حُرِمَ؛ لِأَنَّ التَّمَلُّقَ لِلْعَالِمِ يُظْهِرُ مَكْنُونَ عَمَلِهِ،
وَالتَّذَلُّلَ لَهُ سَبَبٌ لِإِدَامَةِ صَبْرِهِ. وَبِإِظْهَارِ مَكْنُونِهِ تَكُونُ
الْفَائِدَةُ وَبِاسْتِدَامَةِ صَبْرِهِ يَكُونُ الاكْثَارُ.
وَقَدْ رَوَى مُعَاذٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَيْسَ مِنْ أَخْلاَقِ الْمُؤْمِنِ الْمَلَقُ الا فِي
طَلَبِ الْعِلْمِ}.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله
عنهما: ذَلَلْت طَالِبًا فَعَزَزْت مَطْلُوبًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ لَمْ
يَحْتَمِلْ ذُلَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَدًا.
وَقَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْفُرْسِ؛ إذَا قَعَدْت، وَأَنْتَ صَغِيرٌ حَيْثُ
تُحِبُّ قَعَدْت، وَأَنْتَ كَبِيرٌ حَيْثُ لاَ تُحِبُّ. ثُمَّ لِيَعْرِفَ لَهُ
فَضْلَ عِلْمِهِ وَلِيَشْكُرَ لَهُ جَمِيلَ فِعْلِهِ فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رضي
الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ وَقَّرَ
عَالِمًا فَقَدْ وَقَّرَ رَبَّهُ}.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله
عنه: لاَ يَعْرِفُ فَضْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ الا أَهْلُ الْفَضْلِ. وَقَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ: إنَّ الْمُعَلِّمَ
وَالطَّبِيبَ كِلاَهُمَا لاَ يَنْصَحَانِ إذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا فَاصْبِرْ
لِدَائِك إنْ أَهَنْت طَبِيبَهُ وَاصْبِرْ لِجَهْلِك إنْ جَفَوْت مُعَلِّمَا وَلاَ
يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ عُلُوُّ مَنْزِلَتِهِ إنْ كَانَتْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ
خَامِلاً؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ بِعِلْمِهِمْ قَدْ اسْتَحَقُّوا التَّعْظِيمَ لاَ
بِالْقُدْرَةِ وَالْمَالِ.
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ
أَهْلِ الادَبِ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ:
لاَ تَحْقِرَنَّ
عَالِمًا وَإِنْ خَلِقَتْ***
أَثْوَابُهُ فِي عُيُونِ رَامِقِهِ
وَانْظُرْ إلَيْهِ
بِعَيْنِ ذِي أَدَبٍ***
مُهَذَّبِ الرَّأْيِ فِي طَرَائِقِهِ
فَالْمِسْكُ بَيِّنًا تَرَاهُ مُمْتَهَنًا ***بِفِهْرِ عَطَّارِهِ
وَسَاحِقِهِ
حَتَّى تَرَاهُ فِي
عَارِضَيْ مَلِكٍ ***وَمَوْضِعُ التَّاجِ مِنْ مَفَارِقِهِ
وَلْيَكُنْ
مُقْتَدِيًا بِهِمْ فِي أَخْلاَقِهِمْ، مُتَشَبِّهًا بِهِمْ فِي جَمِيعِ
أَفْعَالِهِمْ؛ لِيَصِيرَ لَهَا آلِفًا، وَعَلَيْهَا نَاشِئًا، وَلِمَا خَالَفَهَا
مُجَانِبًا. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {خِيَارُ شُبَّانِكُمْ
الْمُتَشَبِّهُونَ بِشُيُوخِكُمْ وَشِرَارُ شُيُوخِكُمْ الْمُتَشَبِّهُونَ
بِشُبَّانِكُمْ}. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: {مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ}.
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ
أَهْلِ الادَبِ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ: الْعَالِمُ الْعَاقِلُ ابْنُ
نَفْسِهِ أَغْنَاهُ جِنْسُ عِلْمِهِ عَنْ جِنْسِهِ كُنْ ابْنَ مَنْ شِئْت وَكُنْ
مُؤَدَّبًا فَإِنَّمَا الْمَرْءُ بِفَضْلِ كَيْسِهِ وَلَيْسَ مَنْ تُكْرِمُهُ
لِغَيْرِهِ مِثْلَ الَّذِي تُكْرِمُهُ لِنَفْسِهِ وَلْيَحْذَرْ الْمُتَعَلِّمُ
الْبَسْطَ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَإِنْ آنَسَهُ، وَالادْلاَلَ عَلَيْهِ وَإِنْ
تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ.
قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَنْ أَذَلُّ
النَّاسِ ؟ فَقَالَ: عَالِمٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ جَاهِلٍ.
{وَكَلَّمَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم جَارِيَةٌ مِنْ السَّبْيِ فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنْتِ ؟ فَقَالَتْ: بِنْتُ
الرَّجُلِ الْجَوَادِ حَاتِمٍ. فَقَالَ
صلى الله عليه وسلم: ارْحَمُوا عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ، ارْحَمُوا غَنِيًّا
افْتَقَرَ، ارْحَمُوا عَالِمًا ضَاعَ بَيْنَ الْجُهَّالِ}. وَلاَ يُظْهِرُ لَهُ
الاسْتِكْفَاءَ مِنْهُ وَالاسْتِغْنَاءَ عَنْهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ كُفْرًا
لِنِعْمَتِهِ، وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ. وَرُبَّمَا وَجَدَ بَعْضُ
الْمُتَعَلِّمِينَ قُوَّةً فِي نَفْسِهِ لِجَوْدَةِ ذَكَائِهِ وَحِدَةِ خَاطِرِهِ،
فَقَصَدَ مَنْ يُعَلِّمُهُ بِالاعْنَاتِ لَهُ وَالاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ إزْرَاءً
بِهِ وَتَبْكِيتًا لَهُ، فَيَكُونُ كَمَنْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْمَثَلُ السَّائِرُ
لِأَبِي الْبَطْحَاءِ: أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ فَلَمَّا اشْتَدَّ
سَاعِدُهُ رَمَانِي وَهَذِهِ مِنْ مَصَائِبِ الْعُلَمَاءِ وَانْعِكَاسِ
حُظُوظِهِمْ أَنْ يَصِيرُوا عِنْدَ مَنْ يُعَلِّمُوهُ مُسْتَجْهَلِينَ، وَعِنْدَ
مَنْ قَدَّمُوهُ مُسْتَرْذَلِينَ.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
وَإِنَّ عَنَاءً أَنْ تُعَلِّمَ جَاهِلاً ***فَيَحْسَبُ أَهْلاً
أَنَّهُ مِنْك أَعْلَمُ
مَتَى يَبْلُغُ
الْبُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ ***إذَا كُنْت تَبْنِيهِ وَغَيْرُك يَهْدِمُ
مَتَى يَنْتَهِي عَنْ
سَيِّئٍ مَنْ أَتَى بِهِ***
إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَلَيْهِ تَنَدُّمُ
وَقَدْ رَجَّحَ كَثِيرُ
مِنْ الْحُكَمَاءِ حَقَّ الْعَالِمِ عَلَى حَقِّ الْوَالِدِ حَتَّى قَالَ
بَعْضُهُمْ: يَا فَاخِرًا لِلسَّفَاهِ بِالسَّلَفِ وَتَارِكًا لِلْعَلاَءِ
وَالشَّرَفِ آبَاءُ أَجْسَادِنَا هُمْ سَبَبٌ لاَنْ جُعِلْنَا عَرَائِضَ التَّلَفِ
مَنْ عَلَّمَ النَّاسَ كَانَ خَيْرَ أَبٍ ذَاكَ أَبُو الرُّوحِ لاَ أَبُو
النُّطَفِ وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَبْعَثَهُ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ
لَهُ عَلَى قَبُولِ الشُّبْهَةِ مِنْهُ، وَلاَ يَدْعُوهُ تَرْكُ الاعْنَاتِ لَهُ
عَلَى التَّقْلِيدِ فِيمَا أَخَذَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلاَ بَعْضُ
الاتْبَاعِ فِي عَالِمِهِمْ حَتَّى يَرَوْا أَنَّ قَوْلَهُ دَلِيلٌ، وَإِنْ لَمْ
يَسْتَدِلَّ، وَأَنَّ اعْتِقَادَهُ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجَّ، فَيُفْضِي
بِهِمْ الامْرُ إلَى التَّسْلِيمِ لَهُ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ فَلاَ يَبْعُدُ أَنْ
تَبْطُلَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ إنْ انْفَرَدَتْ أَوْ يَخْرُجَ أَهْلُهَا مِنْ
عِدَادِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا شَارَكَتْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لاَ يَرَى لَهُمْ مَنْ
يَأْخُذُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَرَوْنَهُ لِمَنْ أَخَذُوا عَنْهُ فَيُطَالِبُهُمْ
بِمَا قَصَّرُوا فِيهِ فَيَضْعُفُوا عَنْ إبَانَتِهِ، وَيَعْجِزُوا عَنْ
نُصْرَتِهِ، فَيَذْهَبُوا ضَائِعِينَ
وَيَصِيرُوا عَجَزَةً مَضْعُوفِينَ.
وَلَقَدْ رَأَيْت
مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ رَجُلاً يُنَاظِرُ فِي مَجْلِسِ حَفْلٍ وَقَدْ اسْتَدَلَّ
عَلَيْهِ الْخَصْمُ بِدَلاَلَةٍ صَحِيحَةٍ فَكَانَ جَوَابُهُ عَنْهَا أَنْ قَالَ:
إنَّ هَذِهِ دَلاَلَةٌ فَاسِدَةٌ، وَجْهُ فَسَادِهَا أَنَّ شَيْخِي لَمْ
يَذْكُرْهَا وَمَا لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ لاَ خَيْرَ فِيهِ. فَأَمْسَكَ عَنْهُ
الْمُسْتَدِلُّ تَعَجُّبًا؛ وَلِأَنَّ شَيْخَهُ كَانَ مُحْتَشِمًا. وَقَدْ حَضَرَتْ
طَائِفَةٌ يَرَوْنَ فِيهِ مِثْلَ مَا رَأَى هَذَا الْجَاهِلُ، ثُمَّ أَقْبَلَ
الْمُسْتَدِلُّ عَلَيَّ وَقَالَ لِي: وَاَللَّهِ لَقَدْ أَفْحَمَنِي بِجَهْلِهِ
وَصَارَ سَائِرُ النَّاسِ الْمُبَرَّئِينَ مِنْ هَذِهِ الْجَهَالَةِ مَا بَيْنَ
مُسْتَهْزِئٍ وَمُتَعَجِّبٍ، وَمُسْتَعِيذٍ بِاَللَّهِ مِنْ جَهْلٍ مُغْرِبٍ.
فَهَلْ رَأَيْت كَذَلِكَ عَالِمًا أَوْغَلَ فِي الْجَهْلِ، وَأَدَلَّ عَلَى
قِلَّةِ الْعَقْلِ. وَإِذَا كَانَ الْمُتَعَلِّمُ مُعْتَدِلَ الرَّأْيِ فِيمَنْ
يَأْخُذُ عَنْهُ، مُتَوَسِّطَ الاعْتِقَادِ مِمَّنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، حَتَّى
لاَ يَحْمِلَهُ الاعْنَاتُ عَلَى اعْتِرَاضِ الْمُبَكِّتِينَ، وَلاَ يَبْعَثُهُ
الْغُلُوُّ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُقَلَّدِينَ، بَرِئَ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ
الْمَذَمَّتَيْنِ، وَسَلِمَ الْعَالِمُ مِنْ الْجِهَتَيْنِ. وَلَيْسَ كَثْرَةُ
السُّؤَالِ فِيمَا الْتَبَسَ إعْنَاتًا، وَلاَ قَبُولُ مَا صَحَّ فِي النَّفْسِ
تَقْلِيدًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْعِلْمُ خَزَائِنُ وَمِفْتَاحُهُ السُّؤَالُ فَاسْأَلُوا -
رَحِمَكُمْ اللَّهُ - فَإِنَّمَا يُؤْجَرُ فِي الْعِلْمِ ثَلاَثَةٌ: الْقَائِلُ
وَالْمُسْتَمِعُ وَالاخِذُ}. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: {هَلاَ سَأَلُوا إذَا
لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ}. فَأَمَرَ بِالسُّؤَالِ
وَحَثَّ عَلَيْهِ، وَنَهَى آخَرِينَ عَنْ السُّؤَالِ وَزَجَرَ عَنْهُ، فَقَالَ صلى
الله عليه وسلم: {أَنْهَاكُمْ عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ
وَإِضَاعَةِ الْمَالِ}. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: {إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ
السُّؤَالِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ}. وَلَيْسَ
هَذَا مُخَالِفًا لِلْأَوَّلِ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالسُّؤَالِ مَنْ قَصَدَ بِهِ
عِلْمَ مَا جَهِلَ، وَنَهَى عَنْهُ مَنْ قَصَدَ بِهِ إعْنَاتَ مَا سَمِعَ، وَإِذَا
كَانَ السُّؤَالُ فِي مَوْضِعِهِ أَزَالَ الشُّكُوكَ وَنَفَى الشُّبْهَةَ.
وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: بِمَ نِلْت هَذَا الْعِلْمَ ؟ قَالَ: بِلِسَانٍ سَئُولٍ
وَقَلْبٍ عُقُولٍ. وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ}.
وَأَنْشَدَ
الْمُبَرِّدُ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْغَنَوِيِّ: فَسَلْ الْفَقِيهَ تَكُنْ
فَقِيهًا مِثْلَهُ لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ بِغَيْرِ تَدَبُّرِ وَإِذَا تَعَسَّرَتْ
الامُورُ فَأَرْجِهَا وَعَلَيْك بِالامْرِ الَّذِي لَمْ يَعْسِرِ وَلْيَأْخُذْ الْمُتَعَلِّمُ حَظَّهُ مِمَّنْ
وَجَدَ طُلْبَتَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَبِيهٍ وَخَامِلٍ، وَلاَ يَطْلُبُ الصِّيتَ
وَحُسْنَ الذِّكْرِ بِاتِّبَاعِ أَهْلِ الْمَنَازِلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا كَانَ
النَّفْعُ بِغَيْرِهِمْ أَعَمَّ، الا أَنْ يَسْتَوِيَ النَّفْعَانِ فَيَكُونُ
الاخْذُ عَمَّنْ اُشْتُهِرَ ذِكْرُهُ وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ
الانْتِسَابَ إلَيْهِ أَجْمَلُ وَالاخْذَ عَنْهُ أَشْهَرُ.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
إذَا أَنْتَ لَمْ يُشْهِرْك عِلْمُك ***لَمْ تَجِدْ
لِعِلْمِك مَخْلُوقًا مِنْ النَّاسِ يَقْبَلُهْ
وَإِنْ صَانَك
الْعِلْمُ الَّذِي قَدْ حَمَلْته***
أَتَاك لَهُ مَنْ يَجْتَنِيهِ وَيَحْمِلُهْ
وَإِذَا قَرُبَ مِنْك
الْعِلْمُ فَلاَ تَطْلُبُ مَا بَعُدَ، وَإِذَا سَهُلَ مِنْ وَجْهٍ فَلاَ تَطْلُبُ
مَا صَعُبَ. وَإِذَا حَمِدْتَ مَنْ خَبَّرْتَهُ فَلاَ تَطْلُبُ مَنْ لَمْ
تَخْتَبِرْهُ، فَإِنَّ الْعُدُولَ عَنْ الْقَرِيبِ إلَى الْبَعِيدِ عَنَاءٌ،
وَتَرْكَ الاسْهَلِ بِالاصْعَبِ بَلاَءٌ، وَالانْتِقَالَ مِنْ الْمَخْبُورِ إلَى
غَيْرِهِ خَطَرٌ.
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي
الله عنه: عُقْبَى الاخْرَقِ مَضَرَّةٌ، وَالْمُتَعَسِّفُ لاَ تَدُومُ لَهُ
مَسَرَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْقَصْدُ أَسْهَلُ مِنْ التَّعَسُّفِ،
وَالْكَفُّ أَوْدَعُ مِنْ التَّكَلُّفِ. وَرُبَّمَا تَتْبَعُ نَفْسُ الانْسَانِ
مَنْ بَعُدَ عَنْهُ اسْتِهَانَةً بِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ، وَطَلَبَ مَا صَعُبَ
احْتِقَارًا لِمَا سَهُلَ عَلَيْهِ، وَانْتَقَلَ إلَى مَنْ لَمْ يُخْبِرْهُ
مَلَلاً لِمَنْ خَبَرَهُ، فَلاَ يُدْرِكْ مَحْبُوبًا وَلاَ يَظْفَرْ بِطَائِلٍ.
وَقَدْ قَالَتْ
الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا: الْعَالِمُ كَالْكَعْبَةِ يَأْتِيهَا الْبُعَدَاءُ،
وَيَزْهَدُ فِيهَا الْقُرَبَاءُ.
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ شُيُوخِنَا لِمَسِيحِ بْنِ
حَاتِمٍ: لاَ تَرَى عَالِمًا يَحِلُّ بِقَوْمٍ فَيُحِلُّوهُ غَيْرَ دَارِ
الْهَوَانِ قَلَّ مَا تُوجَدُ السَّلاَمَةُ وَالصِّحَّةُ مَجْمُوعَتَيْنِ فِي
إنْسَانِ فَإِذَا حَلَّتَا مَكَانًا سَحِيقًا فَهُمَا فِي النُّفُوسِ
مَعْشُوقَتَانِ هَذِهِ مَكَّةُ الْمَنِيعَةُ بَيْتُ اللَّهِ يَسْعَى لِحَجِّهَا
الثَّقَلاَنِ وَيُرَى أَزْهَدُ الْبَرِيَّةِ فِي الْحَجِّ لَهَا أَهْلَهَا
لِقُرْبِ الْمَكَانِ.
من كتاب :
أدب الدنيا والدين - تأليف علي بن محمد بن حبيب الماوردي