بسم الله الرحمن الرحيم
المنافقون من طبيعتهم اتخاذ الكفار أولياء
المنافقون من طبيعتهم اتخاذ الكفار أولياء
فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 784)
طريق المنافقين - كما سبق - هو اتخاذهم الكفار أولياء من دون المؤمنين. ويحذرهم بطش اللّه ونقمته ، كما يصور لهم مصير المنافقين في الآخرة. وهو مصير مفزع رعيب ، مهين كذلك ذليل : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا ، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ. فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» ..إنها العودة إلى نداء الذين آمنوا ، بالصفة التي تفرقهم وتميزهم ممن حولهم. والتي بها يتميز منهجهم وسلوكهم وواقعهم. والتي بها يستجيبون للنداء كذلك ويطيعون التوجيهات.
نداء لهم بهذه الصفة أن يحذروا سلوك طريق المنافقين ، ويحذروا أن يتولوا الكفار من دون المؤمنين ..
وهو نداء لا بد كانت هناك حاجة إليه في المجتمع المسلم يومذاك. حيث كانت الصلات ما تزال قائمة في المجتمع بين بعض المسلمين واليهود في المدينة وبين بعض المسلمين وقرابتهم في قريش - ولو من الناحية النفسية - ونقول «بعض المسلمين» لأن هناك البعض الآخر الذي فصم كل علاقاته بالمجتمع الجاهلي - حتى مع الآباء والأنباء - وجعل العقيدة وحدها هي آصرة التجمع ووشيجة الرحم كما علمهم اللّه.
وذلك البعض هو الذي كانت الحاجة قائمة لتنبيهه إلى أن هذا هو طريق النفاق والمنافقين - بعد تصوير النفاق والمنافقين تلك الصور الزرية المنفرة البغيضة - وتحذيره من التعرض لغضب اللّه وبطشه ونقمته :
«أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟» ولا يفرق قلب المؤمن ويرتجف أكثر من فرقه وارتجافه من التعرض لبطش اللّه ونقمته .. ومن ثم جاء التعبير في صورة الاستفهام .. ومجرد التلويح بالاستفهام يكفي في خطاب قلوب المؤمنين! وطرقة أخرى عالية على هذه القلوب. غير موجهة إليها مباشرة. ولكن عن طريق التلويح .. طرقة تقرر المصير الرعيب المفزع المهين للمنافقين :
«إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً».
في الدرك الأسفل .. إنه مصير يتفق مع ثقلة الأرض التي تلصقهم بالتراب ، فلا ينطلقون ولا يرتفعون.
ثقلة المطامع والرغائب ، والحرص والحذر ، والضعف والخور! الثقلة التي تهبط بهم إلى موالاة الكافرين ومداراة المؤمنين. والوقوف في الحياة ذلك الموقف المهين : «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ. لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» ..
فهم كانوا في الحياة الدنيا يزاولون تهيئة أنفسهم وإعدادها لذلك المصير المهين «فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» ..
بلا أعوان هنالك ولا أنصار .. وهم كانوا يوالون الكفار في الدنيا ، فأنى ينصرهم الكفار؟
ثم يفتح لهم - بعد هذا المشهد المفزع - باب النجاة .. باب التوبة لمن أراد النجاة :
«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا ، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ. فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» ..
وفي مواضع أخرى كان يكتفي بأن يقول : «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» .. فالتوبة والإصلاح يتضمنان الاعتصام باللّه ، وإخلاص الدين للّه. ولكنه هنا ينص على الاعتصام باللّه ، وإخلاص الدين للّه. لأنه يواجه نفوسا تذبذبت ، ونافقت ، وتولت غير اللّه. فناسب أن ينص عند ذكر التوبة والإصلاح ، على التجرد للّه ، والاعتصام به وحده وخلاص هذه النفوس من تلك المشاعر المذبذبة ، وتلك الأخلاق المخلخلة .. ليكون في الاعتصام باللّه وحده قوة وتماسك ، وفي الإخلاص للّه وحده خلوص وتجرد ..
بذلك تخف تلك الثقلة التي تهبط بالمنافقين في الحياة الدنيا إلى اللصوق بالأرض ، وتهبط بهم في الحياة الآخرة إلى الدرك الأسفل من النار.
وبذلك يرتفع التائبون منهم إلى مصاف المؤمنين المعتزين بعزة اللّه وحده. المستعلين بالإيمان. المنطلقين من ثقلة الأرض بقوة الإيمان .. وجزاء المؤمنين - ومن معهم - معروف : «وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً».
وبهذه اللمسات المنوعة ، يكشف حقيقة المنافقين في المجتمع المسلم ، ويقلل من شأنهم وينبه المؤمنين إلى مزالق النفاق ، ويحذرهم مصيره. ويفتح باب التوبة للمنافقين ليحاول من فيه منهم خير ، أن يخلص نفسه ، وينضم إلى الصف المسلم في صدق وفي حرارة وفي إخلاص ..
وأخيرا تجيء تلك اللمسة العجيبة ، الموحية المؤثرة العميقة .. أخيرا بعد ذكر العقاب المفزع ، والأجر العظيم .. لتشعر قلوب البشر أن اللّه في غنى عن عذاب العباد. فما به - سبحانه - من نقمة ذاتية عليهم يصب عليهم من أجلها العذاب. وما به - سبحانه - من حاجة لإظهار سلطانه وقوته عن هذا الطريق. وما به - سبحانه - من رغبة ذاتية في عذاب الناس. كما تحفل أساطير الوثنية كلها بمثل هذه التصورات .. وإنما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر للّه .. مع تحبيبهم في الإيمان والشكر للّه. وهو الذي يشكر صالح العمل ويعلم خبايا النفوس :
«ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ - إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ؟ - وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» ..
نعم! ما يفعل اللّه بعذابكم - إن شكرتم وآمنتم؟ إن عذابه لجزاء على الجحود والكفران وتهديد لعله يقود إلى الشكر والإيمان .. إنها ليست شهوة التعذيب ، ولا رغبة التنكيل ولا التذاذ الآلام ، ولا إظهار البطش والسلطان .. تعالى اللّه عن ذلك كله علوا كبيرا .. فمتى اتقيتم بالشكر والإيمان فهنالك الغفران والرضوان.
وهناك شكر اللّه - سبحانه - لعبده. وعلمه - سبحانه - بعبده ..
وشكر اللّه - سبحانه - للعبد ، يلمس القلب لمسة رفيقة عميقة .. إنه معلوم أن الشكر من اللّه - سبحانه - معناه الرضى ، ومعناه ما يلازم الرضى من الثواب .. ولكن التعبير بأن اللّه - سبحانه - شاكر .. تعبير عميق الإيحاء! وإذا كان الخالق المنشئ ، المنعم المتفضل ، الغني عن العالمين .. يشكر لعباده صلاحهم وإيمانهم وشكرهم وامتنانهم .. وهو غني عنهم وعن إيمانهم وعن شكرهم وامتنانهم .. إذا كان الخالق المنشئ ، المنعم المتفضل ، الغني عن العالمين يشكر .. فماذا ينبغي للعباد المخلوقين المحدثين المغمورين بنعمة اللّه .. تجاه الخالق الرازق المنعم المتفضل الكريم؟! ألا إنها اللمسة الرفيقة العميقة التي ينتفض لها القلب ويخجل ويستجيب.
ألا إنها الإشارة المنيرة إلى معالم الطريق .. الطريق إلى اللّه الواهب المنعم ، الشاكر العليم
وبعد .. فهذا جزء واحد ، من ثلاثين جزءا ، من هذا القرآن .. يضم جناحيه على مثل هذا الحشد العجيب من عمليات البناء والترميم والتنظيف والتقويم. وينشئ في عالم النفس ، وفي واقع المجتمع ، وفي نظام الحياة ، ذلك البناء الضخم المنسق العريض. ويعلن مولد الإنسان الجديد الذي لا تعرف له البشرية من قبل ولا من بعد مثيلا ولا شبيها ، في مثاليته وواقعيته. وفي نظافته وتطهره ، مع مزاولة نشاطه الإنساني في شتى الميادين .. هذا الإنسان الذي التقطة المنهج الرباني من سفح الجاهلية ، ودرج به في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة. في يسر. وفي رفق وفي لين ..
===============