بسم الله الرحمن الرحيم
لا يجوز الاختلاف في أمر المنافقين لظهور طبيعتهم
لا يجوز الاختلاف في أمر المنافقين لظهور طبيعتهم
فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 730)
« فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا؟ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً. فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ..
إننا نجد في النصوص استنكارا لانقسام المؤمنين فئتين في أمر المنافقين وتعجبا من اتخاذهم هذا الموقف وشدة وحسما في التوجيه إلى تصور الموقف على حقيقته ، وفي التعامل مع أولئك المنافقين كذلك.
وكل ذلك يشي بخطر التميع في الصف المسلم حينذاك - وفي كل موقف مماثل - التميع في النظرة إلى النفاق والمنافقين لأن فيها تميعا كذلك في الشعور بحقيقة هذا الدين. ذلك أن قول جماعة من المؤمنين : «سبحان اللّه! - أو كما قالوا - أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم ، نستحل دماءهم وأموالهم؟» .. وتصورهم للأمر على هذا النحو ، من أنه كلام مثل ما يتكلم المسلمون! مع أن شواهد الحال كلها وقول هؤلاء المنافقين : «إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس» .. وشهادة الفئة الأخرى من المؤمنين وقولهم : «يظاهرون عدوكم» .. تصورهم للأمر على هذا النحو فيه تمييع كبير لحقيقة الإيمان ، في ظروف تستدعي الوضوح الكامل ، والحسم القاطع. فإن كلمة تقال باللسان مع عمل واقعي في مساعدة عدو المسلمين الظاهرين ، لا تكون إلا نفاقا. ولا موضع هنا للتسامح أو للإغضاء. لأنه تمييع للتصور ذاته ..
وهذا هو الخطر الذي يواجهه النص القرآني بالعجب والاستنكار والتشديد البين.
ولم يكن الحال كذلك في الإغضاء عن منافقي المدينة. فقد كان التصور واضحا .. هؤلاء منافقون .. ولكن هناك خطة مقررة للتعامل معهم. هي أخذهم بظاهرهم والإغضاء إلى حين.
وهذا أمر آخر غير أن ينافح جماعة من المسلمين عن المنافقين. لأنهم قالوا كلاما كالذي يقوله المسلمون.
وأدّوا بألسنتهم شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه. بينما هم يظاهرون أعداء المسلمين! من أجل هذا التميع في فهم فئة من المسلمين ، ومن أجل ذلك الاختلاف في شأن المنافقين في الصف المسلم ،كان هذا الاستنكار الشديد في مطلع الآية .. ثم تبعه الإيضاح الإلهي لحقيقة موقف هؤلاء المنافقين :
«وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا» ..
ما لكم فئتين في شأن المنافقين. واللّه أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم؟ وهي شهادة من اللّه حاسمة في أمرهم. بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء.
ثم استنكار آخر : «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟» ..
ولعله كان في قول الفريق .. المتسامح!! .. ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا ، ويتركوا اللجلجة! فاستنكر اللّه هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم اللّه في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم.
«وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» ..
فإنما يضل اللّه الضالين. أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة. وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية بما بعدوا عنها ، وسلكوا غير طريقها ونبذوا العون والهدى ، وتنكروا لمعالم الطريق! ثم يخطو السياق خطوة أخرى في كشف موقف المنافقين .. إنهم لم يضلوا أنفسهم فحسب ولم يستحقوا أن يوقعهم اللّه في الضلالة بسعيهم ونيتهم فحسب .. إنما هم كذلك يبتغون إضلال المؤمنين :
«وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» ..
إنهم قد كفروا .. على الرغم من أنهم تكلموا بما تكلم به المسلمون ، ونطقوا بالشهادتين نطقا يكذبه العمل في مظاهرة أعداء المسلمين .. وهم لا يريدون أن يقفوا عند هذا الحد. فالذي يكفر لا يستريح لوجود الإيمان في الأرض ووجود المؤمنين. ولا بد له من عمل وسعي ، ولا بد له من جهد وكيد لرد المسلمين إلى الكفر.
ليكونوا كلهم سواء.
هذا هو الإيضاح الأول لحقيقة موقف أولئك المنافقين .. وهو يحمل البيان الذي يرفع التميع في تصور الإيمان ويقيمه على أساس واضح من القول والعمل متطابقين. وإلا فلا عبرة بكلمات اللسان ، وحولها هذه القرائن التي تشهد بالكذب والنفاق :
والقرآن يلمس مشاعر المؤمنين لمسة قوية مفزعة لهم ، وهو يقول لهم : «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» ..فقد كانوا حديثي عهد بتذوق حلاوة الإيمان بعد مرارة الكفر. وبالنقلة الضخمة التي يجدونها في أنفسهم ، بين مشاعرهم ومستواهم ومجتمعهم في الجاهلية .. ثم في الإسلام. وكان الفرق واضحا بارزا في مشاعرهم وفي واقعهم ، تكفي الإشارة إليه لاستثارة عداوتهم كلها لمن يريد أن يردهم إلى ذلك السفح الهابط - سفح الجاهلية - الذي التقطهم منه الإسلام فسار بهم صعدا في المرتقى الصاعد ، نحو القمة السامقة.
ومن ثم يتكىء المنهج القرآني على هذه الحقيقة فيوجه إليهم الأمر في لحظة التوفز والتحفز والانتباه للخطر البشع الفظيع الذي يتهددهم من قبل هؤلاء : «فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ..
ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم .. أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة - وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضا - وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها. كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته.
كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة ، أو روابط الدم والقرابة. أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة ، أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة .. إنما تقوم الأمة على العقيدة وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة.
ومن ثم فلا ولاية بين المسلمين في دار الإسلام ، وبين غيرهم ممن هم في دار الحرب .. ودار الحرب هي يومئذ مكة موطن المهاجرين الأول .. لا ولاية حتى يهاجر أولئك الذين يتكلمون بكلمة الإسلام وينضموا إلى المجتمع المسلم - أي إلى الأمة المسلمة - حيث تكون هجرتهم للّه وفي سبيل اللّه. من أجل عقيدتهم ، لا من أجل أي هدف آخر ولإقامة المجتمع المسلم الذي يعيش بالمنهج الإسلامي لا لأي غرض آخر .. بهذه النصاعة.
وبهذا الحسم. وبهذا التحديد الذي لا يقبل أن تختلط به شوائب أخرى ، أو مصالح أخرى ، أو أهداف أخرى ..
فإن هم فعلوا. فتركوا أهلهم ووطنهم ومصالحهم .. في دار الحرب .. وهاجروا إلى دار الإسلام ، ليعيشوا بالنظام الإسلامي ، المنبثق من العقيدة الإسلامية ، القائم على الشريعة الإسلامية .. إن هم فعلوا هذا فهم أعضاء في المجتمع المسلم ، مواطنون في الأمة المسلمة. وإن لم يفعلوا وأبوا الهجرة ، فلا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال :
«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ (أي أسرى) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً».
وهذا الحكم - كما قلنا - هو الذي يرجح عندنا ، أنهم لم يكونوا هم منافقي المدينة. إذ قد اتبعت مع منافقي المدينة سياسة أخرى.
إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له فلا يكرههم أبدا على اعتناق عقيدته. ولهم - حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته - أن يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام. في غير ما دعوة للمسلمين ولا طعن في الدين. فقد ورد في القرآن من استنكار مثل هذا الطعن من أهل الكتاب ما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام لا يدع غير المعتنقين له ممن يعيشون في ظله يطعنون فيه ويموهون حقائقه ويلبسون الحق بالباطل كما تقول بعض الآراء المائعة في زماننا هذا! وحسب الإسلام أنه لا يكرههم على اعتناق عقيدته. وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام.
إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهارا نهارا في العقيدة .. ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال. لا يتسامح مع من يقولون : إنهم يوحدون اللّه ويشهدون أن لا إله إلا اللّه. ثم يعترفون لغير اللّه بخاصية من خصائص الألوهية ، كالحاكمية والتشريع للناس فيصم أهل الكتاب بأنهم مشركون ، لأنهم اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه والمسيح ابن مريم .. لا لأنهم عبدوهم. ولكن لأنهم أحلوا لهم الحلال ، وحرموا عليهم الحرام فاتبعوهم! ولا يتسامح هذا التسامح في وصف جماعة من المنافقين بأنهم مؤمنون. لأنهم شهدوا أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا رسول اللّه. ثم بقوا في دار الكفر ، يناصرون أعداء المسلمين!
ذلك أن التسامح هنا ليس تسامحا. إنما هو تميع. والإسلام عقيدة التسامح. ولكنه ليس عقيدة «التميع».
إنه تصور جاد. ونظام جاد. والجد لا ينافي التسامح. ولكنه ينافي التميع.
===============