فصل في الأوراد وفضلها وتوزيع العبادات على مقادير الأوقات
من كتاب : مختصر منهاج القاصدين - إبن قدامة المقدسي
أعلم: أنه إذا حصلت المعرفة لله سبحانه والتصديق بوعده، والعلم بقصر العمر، وجب ترك التقصير في هذا العمر القصير، والنفس متى وقفت على فن واحد حصل لها ملل، فمن التلطف نقلها من فن إلى فن، وقد قال الله تعالى: {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا* ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلا} [الإنسان: 25-26]، فهذا ونحوه مما ذكر من الآيات في ذلك يدل على أن الطريق إلى الله تعالى مراقبة الأوقات وعمارتها بالأوراد على الدوام، وقال الله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهارخلفه لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} [الفرقان: 62]، أي يخلف أحدهما الآخر ليتدارك في أحدهما ما فات في الآخر.
بيان عدد أوراد الليل والنهار وترتيبها
أوراد النهار سبعة، وأوراد الليل ستة، فلنذكر فضيلة كل ورد ووظيفته وما يتعلق به. الورد الأول من أوراد النهار: ما بين طلوع الفجر الثانى إلى طلوع الشمس، وهو وقت شريف، وقد أقسم الله تعالى به فقال: {والصبح إذا تنفس} [التكوير: 18].
فينبغي للمريد إذا انتبه من النوم أن يذكر الله سبحانه وتعالى فيقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور". روى ذلك عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم من أفراد البخاري.
وفى أفراد مسلم، من حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمسى قال: "أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر".وإذا أصبح قال ذلك أيضاً: "أصبحنا وأصبح الملك لله...." إلى آخره، ويقول: "بسم الله الذى لا يضر مع اسمه شئ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" ثلاث مرات، "رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً".فإذا صلى الفجر قال وهو ثان رجله قبل أن يتكلم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شئ قدير" عشر مرات.
ويذكر سيد الاستغفار: "اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك،وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى، فاغفر لى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
ويقول: "أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً((أي: مائلاً من جميع الأديان إلى الإسلام)) " مسلماً، وما كان من المشركين". ويدعو "اللهم أصلح لى ديني الذى هو عصمة أمري، وأصلح دنياي التي فيها ماشى، وأصلح لى آخرتى التي فيها معادى، واجعل الحياة زيادة لى في كل خير، واجعل الموت راحة لى من كل شر".ويدعو بدعاء أبى الدرداء: "اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، أعلم أن الله على كل شئ قدير، وأن الله قد أحاط بكل شئ علماً. اللهم إني أعوذ بك من شر نفسى، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربى على صراط مستقيم"
فهذه الأدعية لا يستغني المريد عن حفظها. وينبغى له قبل خروجه إلى صلاة الفجر أن يصلى السنة في منزله ثم يخرج متوجهاً إلى المسجد ويقول: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، فإني لم أخرج أشراً ((أي: بطراً)) ولا بطراً، ولا رياء ولا سمعة،خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ".فإذا دخل المسجد فليقل ما روى مسلم في "صحيحه" أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبى صلى الله عليه وآله وسلم ثم ليقل: اللهم افتح لى أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: " اللهم إني أسألك من فضلك"، ثم يطلب الصف الأول منتظراً للجماعة داعيا بنحو ما تقدم من الأذكار والأدعية. فإذا صلى الفجر استحب أن يمكث في مكانه إلى طلوع الشمس.
فقد روى أنس رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة" ((رواه الترمذى، قال: حديث حسن)). وليكن وظائف وقته أربعاً: الدعاء، الذكر، والقراءة، والفكر. وليأت بما أمكنه، وليتفكر في قطع القواطع، وشغل الشواغل عن الخير ليؤدى وظائف يومه، وليتفكر في نعم الله تعالى ليتوفر شكره.
الورد الثانى: ما بين طلوع الشمس إلى الضحى، وذلك بمضي ثلاث ساعات من النهار، إذا فرض النهار اثنتي عشرة ساعة، وهو الربع، وهذا وقت شريف، وفيه وظيفتان: أحدهما: صلاة الضحى .
والثاني: القيلولة، فإنها مما تعين على قيام الليل، كما يعين السحور على صيام النهار، فإن نام فليجتهد في الانتباه قبل الزوال بقدر الاستعداد للصلاة قبل دخول الوقت.
واعلم: أن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة، فالاعتدال أن ينام من ذلك الثلث، وهو ثمان ساعات، فمن نام أقل من ذلك لم يأمن اضطراب بدنه، ومن نام أكثر من ذلك كثر كسله، فذا نام أكثر من ذلك فت الليل فلا وجه لنومه في النهار، بل من نقص منه استوفى ما نقص في النهار.
الورد الرابع: ما بين الزوال إلى الفراغ من صلاة الظهر، وهو أقصر أوراد النهار وأفضلها، فينبغي له بى هذا الوقت إذا أذن المؤذن أن يجيبه بمثل قوله، ثم يقوم فيصلى أربع ركعات، ويستحب أن يطيلهن، فإن أبواب السماء تفتح حينئذ، ثم يصلى الظهر وسنتها ، ثم يتطوع بعدها بأربع.
الورد الخامس: ما بعد ذلك إلى العصر، فيستحب له في هذا الوقت الاشتغال بالذكر، والصلاة، وفنون الخير، ومن أفضل الأعمال انتظار الصلاة بعد الصلاة.
الورد السادس: إذا دخل وقت العصر إلى أن تصفر الشمس، وليس في هذا الوقت صلاة سوى أربع ركعات بين الأذانين، ثم فرض العصر، ثم يتشاغل بالأقسام الأربعة التي سبق ذكرها في الورد الأول، والأفضل فيه تلاوة القرآن والتدبر والتفهم.
الورد السابع: من اصفرار الشمس إلى أن تغرب، وهو وقت شريف. قال الحسن البصري رحمه الله : كانوا أشد تعظيماً للعشي من أول النهار، فيستحب في هذا الوقت التسبيح والاستغفار خاصة.
وبالمغرب تنتهي أوراد النهار فينبغي أن يلاحظ العبد أحواله ويحاسب نفسه، فقد انقضت من طريقه مرحلة. وليعلم أن العمر أيام تنقضي جملتها بانقضاء آحادها.
قال الحسن: يا ابن آدم، إنما أنت أيام، إذا مضى يومك مضى بعضك. وليتفكر هل ساوى يومه أمسه، فإن رأى أنه قد توفر على الخير في نهاره، فليشكر الله سبحانه وتعالى على التوفيق، فإن تكن الأخرى، فليتب وليعزم على تلافى ما سبق من التفريط في الليل، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وليشكر الله تعالى على صحة جسمه، وبقاء بقية من عمره يمكن فيها استدراك التقصير، وقد كان جماعة من السلف يستحبون أن لا ينقضي يوم إلا عن صدقة، ويجتهدون فيما أمكن من كل خير.