بسم الله الرحمن الرحيم
فضائل الصلاة
من كتاب : مختصر منهاج القاصدين - إبن قدامة المقدسيفضائل الصلاة
وأما الصلاة فإنها عماد الدين وغرة الطاعات. وقد ورد فى فضائل الصلاة أخبار كثيرة مشهورة، ومن أحسن آدابها الخشوع.
وقد روى عن عثمان رضى الله عنه ، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : “ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله “.
وله فى حديث أيضا عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “ من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه “.
وكان ابن الزبير رضى الله عنهما إذا قام فى الصلاة كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع حائط، وصلى يوماً فى الحِجْر(7) فجاء حجر قذافة (8) فذهب ببعض ثوبه فما انفتل.
وقال ميمون بن مهران : ما رأيت مسلم ين يسار ملتفتاً فى صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفى المسجد يصلى فما التفت، وكان أهل بيته إذا دخل المنزل سكتوا، فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا.
وكان على بن الحسن رضى الله عنهما إذا توضأ اصفر لونه ، فقيل له : ما هذا الذى يعتادك عند الوضوء ؟ فقال: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم ؟
وأعلم: أن للصلاة أركانا وواجبات وسنناً، وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب، فان الصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال ، ومع عدم حضور القلب لا يحصل المقصود بالأذكار والمناجاة، لأن النطق إذا لم يُعِربُ عما فى الضمير كان بمنزلة الهذيان ، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال، لأنه إذا كان المقصود من القيام الخدمة، ومن الركوع والسجود الذل والتعظيم، ولم يكن القلب حاضراً، لم يحصل المقصود، فان الفعل متى خرج عن مقصوده بقى صورة لا اعتبار بها ، قال الله تعالى: { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } [الحج : 37] والمقصود أن الواصل إلى الله سبحانه وتعالى هو الوصف الذى استولى على القلب حتى حمل على امتثال الأوامر المطلوبة، فلا بد من حضور القلب فى الصلاة، ولكن سامح الشارع فى غفلة تطرأ لأن حضور القلب فى أولها ينسحب حكمه على باقيها.
والمعاني التي تتم بها حياة الصلاة كثيرة.
المعنى الأول:
حضور القلب كما ذكرنا ، ومعناه أن يفرغ القلب من غير ما هو ملابس له ، وسبب ذلك الهمة، فإنه متى أهمك أمر حضر قلبك ضرورة فلا علاج لإحضاره إلا صرف الهمة إلى الصلاة، وانصراف الهمة يقوى ويضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا، فمتى رأيت قلبك لا يحضر فى الصلاة، فاعلم أن سببه ضعف الإيمان، فاجتهد فى تقويته.
والمعنى الثاني:
التفهم لمعنى الكلام فإنه أمر وراء حضور القلب، لأنه ربما كان القلب حاضراً مع اللفظ دون المعنى ، فينبغي صرف الذهن إلى إدراك المعنى بدفع الخواطر الشاغلة وقطع موادها، فان المواد إذا لم تنقطع لم تنصرف الخواطر عنها.
والمواد، إما ظاهرة: وهى ما يشغل السمع والبصر، وإما باطنة : وهو أشد كمن تشعبت به الهموم فى أودية الدنيا، فإنه لا ينحصر فكره فى فن واحد، ولم يغنه غض البصر، لأن ما وقع فى القلب كاف فى الاشتغال به.
وعلاج ذلك إن كان من المواد الظاهرة، بقطع ما يشغل السمع والبصر، وهو القرب من القبلة، والنظر إلى موضع سجوده ، والاحتراز فى الصلاة من المواضع المنقوشة، وأن لا يترك عنده ما يشغل حسه ، فإن النبى صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى فى أبجانية (9) لها أعلام نزعها وقال : “ إنها ألهتني آنفا عن صلاتي.
وإن كان من المواد الباطنة، فطريق علاجه أن يرد النفس قهراً إلى ما يقرأ فى الصلاة ويشغلها به عن غيره، ويستعد لذلك قبل الدخول فى الصلاة، بأن يقضى أشغاله، ويجتهد فى تفريغ قلبه ويجدد على نفسه ذكر الآخرة وخطر القيام بين يدي الله عز وجل وهول المطلع ، فان لم تسكن الأفكار بذلك ، فليعلم أنه إنما يتفكر فيما أهمه واشتهاه ، فليترك تلك الشهوات وليقطع تكل العلائق.
واعلم: أن العلة متى تمكنت لا ينفعها إلا الدواء القوى، والعلة إذا قويت جاذبت المصلى وجاذبها إلى أن تنقضي الصلاة فى المجاذبة، ومثل ذلك كمثل رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره، وكانت أصوات العصافير تشوش عليه وفى يده خشبة يطيرها بها، فما يستقر فكره حتى تعود العصافير فيشتغل بها، فقيل له : هذا شئ لا ينقطع ، فإن أردت الخلاص فاقطع الشجرة، فكذلك شجرة الشهوة إذا علت وتفرقت أغصانها انجذبت أليها الأفكار كانجذاب العصافير إلى الأشجار والذباب إلى الأقذار ، فذهب العمر النفيس فى دفع ما لا يندفع ، وسبب هذه الشهوات التي توجب هذه الأفكار حب الدنيا.
قيل لعامر بن عبد قيس رحمه الله : هل تحدثك نفسك بشيء من أمور الدنيا فى الصلاة ؟ فقال: لأن تختلف الأسنة في أحبُّ إلي من أجد هذا.
واعلم: أن قطع حب الدنيا من القلب أمر صعب وزواله بالكلية عزيز، فليقع الاجتهاد فى الممكن منه ، والله الموفق والمعين.
وذلك يتولد من شيئين : معرفة جلال الله تعالى وعظمته،ومعرفة حقارة النفس وأنها مستعبدة، فيتولد من المعرفتين: الاستكانة ، والخشوع.
ومن ذلك الرجاء : فانه زائد على الخوف ، فكم من معظم ملكاً يهابه لخوف سطوته كما يرجو بره.
والمصلى ينبغي أن يكون راجياً بصلاته الثواب، كما يخاف من تقصيره العقاب.
وينبغى للمصلى أن يحضر قلبه عند كل شئ من الصلاة، فإذا سمع نداء المؤذن فليمثل النداء للقيامة ويشمر للاجابة، ولينظر ماذا يجيب، وبأي بدن يحضر. وإذا ستر عورته فليعلم أن المراد من ذلك تغطية فضائح بدنه عن الخلق ، فليذكر عورات باطنه وفضائح سره التي لا يطلع عليها إلا الخالق ، وليس لها عنه ساتر ، وأنها يكفرها الندم، والحياء، والخوف.
وإذا استقبل القبلة فقد صرف وجهه عن الجهات إلى جهة بيت الله تعالى، فصرف قلبه إلى الله تعالى أولى من ذلك ، فكما أنه لا يتوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها، كذلك القلب لا ينصرف إلى الله تعالى إلا بالانصراف عما سواه.إذا كبرت أيها المصلى، فلا يكذبن قلبك لسانك، لأنه إذا كان فى قلبك أكبر من الله تعالى قد كذبت ، فاحذر أن يكون الهوى عندك أكبر بدليل إيثارك موافقته على طاعة الله تعالى. فإذا استعذت، فاعلم أن الاستعاذة هي لجأ الى لله سبحانه، فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغواً ، وتفهم معنى ما تتلو، وأحضر التفهم بقلبك عند قولك: {الحمد لله رب العالمين}، واستحضر لطفه عند قولك : {الرحمن الرحيم}، وعظمته عند قولك : {مالك يوم الدين } , وكذلك فى جميع ما تتلو.
وقد روينا عن زرارة بن أبى أوفى رضى الله عنه أنه قرأ فى صلاته : { فإذا نقر فى الناقور} [المدثر:8] فخر ميتاً، وما ذاك إلا لأنه صور تلك الحال فأثرت عنده التلف.
واستشعر فى ركوعك التواضع ، وفى سجودك الذل، لأنك وضعت النفس موضعها، ورددت الفرع إلى أصله بالسجود على التراب الذى خلقت منه وتفهم منه معنى الأذكار بالدوق.
واعلم: أن أداء الصلاة بهذه الشروط الباطنة سبب لجلاء القلب من الصدأ ، وحصول الأنوار فيه التي بها تتلمح عظمى المعبود، وتطلع على أسراره وما يعقلها إلا العالمون.
فأما من هو قائم بصورة الصلاة دون معانيها، فانه لا يطلع على شئ من ذلك بل ينكر وجوده.